بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-061-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٨

يمكن أن يقال : إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بعده عن سيده بتجريه عليه (١) ، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة ، فكما أنه يوجب البعد عنه ، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، فانه وإن لم يكن باختياره (٢) إلا أنه بسوء سريرته وخبث باطنه ،

______________________________________________________

لان الالتزام بعقاب المتجري على نفس الفعل المتجرى به أو بعدم العقاب على المتجرى اصلا هو اهون من هذا الالتزام.

وحيث كان مبنى هذه التعليقة مقصورا على توضيح ما افاده دون النقض والابرام لذا اعرضنا عن التعرض لما يمكن ان يرد عليه نقضا وحلا.

(١) هذا هو الجواب الثاني وحاصله : ان العقاب انما يقبح على ما لا بالاختيار فيما كان ذلك راجعا الى المولى او الى شخص آخر ، بان يقهر المولى عبده ويقسره على الفعل ، او يقهره ويقسره عليه شخص آخر ، مثلا ان يغل يديه ويفتح فمه ويوجر الخمر في فمه.

واما اذا كان عدم الاختيار في العبد راجعا الى نفس العبد فلا مانع من صحة عقابه وان كان لا اختيار له ، لان مرجع عدم اختياره الى نفسه لا الى غيره ، وعدم صحة عقاب غير المختار انما هو فيما اذا كان لا اختياره راجعا الى غيره ، والمقام من قبيل الثاني ، فان عدم اختيارية ارادة العبد ترجع الى نفسه لا الى غيره ، فان سببها سوء سريرته وخبث باطنه ونقصانه واستعداده ذاتا بحسب هذا النقصان لجرأته على مولاه.

(٢) يحتمل ان يكون مراده من هذه العبارة هو ان العقاب انما هو على التجري على المولى سواء في المصادفة والمخالفة لعصيان في مقام اصابة القاطع في قطعه او في صورة عدم اصابته في قطعه ، فان تجري العبد وهتكه لمولاه وطغيانه عليه في كليهما على حد سواء ، ففي صورة الاصابة انما يستحق العقاب على تجريه وفي صورة الخطأ ايضا يستحق العقاب على تجريه ، ولا خصوصية للمصادفة وعدم المصادفة.

٤١

بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانا ، وإذا انتهى الامر إليه يرتفع الاشكال وينقطع السؤال بلم فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات.

وبذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان؟ والمطيع والمؤمن الاطاعة والايمان؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا؟ والانسان لم يكون ناطقا؟

وبالجملة : تفاوت أفراد الانسان في القرب منه ـ جل شأنه وعظمت كبرياؤه ـ والبعد عنه ، سبب لاختلافها في استحقاق الجنة ودرجاتها ، والنار ودركاتها ، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها ، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيا ، والذاتي لا يعلل (١).

______________________________________________________

ويحتمل ان يكون مراده منها ان القوم يلتزمون بصحة عقاب العاصي ، ولا فرق بين العاصي والمتجري الا بالمصادفة وعدم المصادفة ، وهي ليست من الامور الاختيارية ، وان كان سيأتي منه ما ينافي هذا الاحتمال ، لصدق عنوان المخالفة على العاصي دون المتجري لا لعنوان المصادفة لان المخالفة اختيارية وان لم تكن المصادفة كذلك.

(١) هذا تصريح منه (قدس‌سره) بصحة العقاب على ما لا بالاختيار اذا انتهى الى سوء السريرة ، ولا بد من التأمل فيه وفي ما بعده من عبارته (قدس‌سره) فانه بظاهره مناف لضروريات مذهب الامامية.

لا يخفى ان المصنف انما التزم بان العقاب يصح ان يكون على ما لا بالاختيار ، لتنزله عن الجواب الاول وهو ان الارادة وان كانت غير اختيارية إلّا ان بعض مقدماتها اختيارية كالجزم والعزم ، واذا كان لغير الاختياري مقدمات اختيارية صح العقاب عليه كوضع السم في الطعام ، فان الموت المتسبب عن اكل السم وان لم يكن من افعال الواضع للسم بالمباشرة فهو غير اختياري له ، ولكن لما كان وضع السم من الامور الاختيارية للواضع وهو مقدمة يترتب عليها استعمال السم القاتل صح

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

العقاب للواضع للسم على موت المستعمل للسم ، لان مقدمة الموت بالسم اختيارية للواضع.

والمصنف بعد تنزله عن هذا الجواب والتزامه بصحة العقاب على الارادة وان كانت غير اختيارية دون الفعل المتجرى به التزم بصحة العقاب على ما لا بالاختيار وانه من لوازم البعد عن المولى ، والبعد عن المولى من لوازم خبث السريرة ، وخبث السريرة ذاتي والذاتي لا يعلل ، وهذا مخالف بظاهره لما هو من ضروريات مذهب الامامية من انه لا عقاب على ما لا بالاختيار ، ولا يصح العقاب عند الامامية الا على الفعل الاختياري ولا ينبغي الالتزام بذلك ، بل يمكن الالتزام بالعقاب على نفس الفعل المتجرى به دون الارادة كما التزم به جماعة من المحققين.

وما اورده المصنف عليهم يمكن الجواب عنه فان ما اورده عليهم يتلخص في ايرادات ثلاثة :

الاول : ان الواقع انما يتغير عن حكمه الواقعي للعنوان الثانوي وينحصر في امرين انطباق عنوان الظلم عليه او طروء مفسدة عليه بواسطة عنوان ثانوي ، وليس في المقام الا عنوان كونه مقطوعا به ، والقطع بقبح شيء ليس بقبيح واقعا لا يصيره قبيحا ولا يوجب ايضا طروء مفسدة عليه.

الثاني : ان عنوان كونه مقطوعا به مغفول عنه غالبا ، والفعل الاختياري الذي يصح العقاب عليه لا بد وان يكون ملتفتا اليه ، لان غير الملتفت اليه ليس باختياري.

الثالث : ان بعض انواع التجري لا يكون فيه فعل اختياري صادر من المتجري ، كمن شرب مائعا لانه قطع بكونه خمرا وكان في الواقع ماء ، لان شرب الخمر الذي قصده المتجري لم يقع منه ، وشرب الماء الذي صدر منه لم يكن مقصودا له ، ولا بد في الفعل الاختياري ان يكون مقصودا للفاعل ، والقائل بالعقاب على الفعل المتجري به لا يفرق بين انواع التجري.

٤٣

ان قلت : على هذا فلا فائدة في بعث الرسل وانزال الكتب والوعظ والانذار.

قلت : ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته لتكمل به نفسه ويخلص مع ربه انسه ما كنا لنهتدي لو لا ان هدانا الله ، قال الله تبارك وتعالى : فذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين ، وليكون حجة على من

______________________________________________________

والجواب عن الايرادين الاولين : ان العنوان المنطبق على الفعل المتجرى به الموجب لصحة العقاب عليه ليس هو عنوان كونه مقطوعا به ، بل هو لان ما اتى به مصداق عنوان الهتك والطغيان على المولى ، ومن الواضح ان المتجري قد اتى بالفعل مع التفاته الى ان فعله هتك لحرمة المولى وطغيان عليه ، فينطبق على فعله عنوان الظلم الموجب لصحة العقاب على نفس الفعل ، وليس هذا العنوان مغفولا عنه بل هو ملتفت اليه دائما ، وبهذا يرتفع الايرادان الاول والثاني ، لانهما انما يردان حيث يكون العنوان عنوان كونه مقطوعا به.

والجواب عن الثالث : انه قد صدر من المتجري فعل اختياري لوضوح انه قد صدر منه شرب باختياره ، غاية الامر انه اخطأ في تطبيق عنوانه والخطأ في التطبيق لا يرفع الاختيارية ، لان اختيارية الفعل هي كون الفاعل يحرك عضلاته نحو الفعل باختياره لا بقسر قاسر يقسره على الفعل ولا ان يكون فاعلا بالطبع كحركة الجسم النامي في نموه ، ومن الواضح ان فعل المتجري لم يكن لقسر قاسر وليست حركة طبيعية له ، فلا بد وان تكون حركة اختيارية.

ولو تنزلنا فقلنا ان هذا النوع من فعل المتجري من الافعال القسرية غير الاختيارية ، فالالتزام بالتفصيل في فعل المتجري وعدم العقاب على هذا النوع من التجري اهون من الالتزام بما ينافي ما هو من ضروريات مذهب الامامية ولا بد من تأويل ما دلالته من الآيات والروايات على ذلك.

٤٤

ساءت سريرته وخبثت طينته ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة كيلا يكون للناس على الله حجة بل كان له حجة بالغة.

ولا يخفى أن في الآيات والروايات ، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الاطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة (١) ،

______________________________________________________

(١) اما الآيات فمثل قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١) وقوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(٢) وقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(٣) فان ظاهر هذه الآيات وامثالها هي المؤاخذة على ما لا بالاختيار ، فان المحاسبة على ما في النفس والسؤال عما في الفؤاد والمؤاخذة بما كسبت القلوب كل ذلك على امر غير اختياري ، لان ما في النفس وما في الفؤاد وما في القلوب من غير الاختياري.

والجواب عنه : اولا ان ظواهر القرآن الكريم لا يمكن الأخذ بها مع قيام البرهان على ما لا يوافق ظواهرها ، فان مثل (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(٤) ومثل قوله عزوجل : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ)(٥) لا بد من تأويله بكون مجيئه تبارك وتعالى لا بد وان يكون غير مجيء الملك الذي هو من صفات ما له الجسم ، وكذلك يداه فانه لا بد من تأويله لئلا يستلزم تجسيما عليه تبارك وتعالى عن ذلك.

وثانيا : انه يمكن ان يكون المراد من المحاسبة على ما في النفس والسؤال عن ما في الفؤاد والمؤاخذة على ما كسبت القلوب هي محاسبة النفس والفؤاد والقلب على العقد والجزم ، والبناء على ما ينافي ما قام البرهان على بطلانه ودعت الرسل الى التكذيب به كالعقائد الفاسدة والاحتمالات الباطلة.

ومن الواضح ان عقد القلب على العقائد الفاسدة من الامور الاختيارية ، وعلى هذا فلا ربط له بالارادة المحركة للعضلات في المتجري.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٤.

(٢) الاسراء : ٣٦.

(٣) البقرة : ٢٢٥.

(٤) الفجر : ٢٢.

(٥) المائدة : ٦٤.

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

واما الروايات فهي مثل ما ورد ان نية الكافر شر من عمله ، ومضمون ما ورد من التعليل لخلود اهل النار بان عزمهم على الاستمرار في الكفر لو كانوا من المخلدين في الدنيا ، فان نية الكافر وعزمه ليس من الافعال الخارجية وهما من الافعال النفسية ومن الامور غير الاختيارية له.

والجواب عنه : اما عن الرواية الاولى ، فأولا : ان المدعى في المقام هو كون الارادة التي هي الجزء الاخير من العلة هي مصداق التجري ومعنون الهتك والطغيان دون الفعل المتجرى به ، وليس المراد من نية الكافر التي هي شر من عمله هي الارادة ، لوضوح انه بناء على ما ذكره المصنف يكون المراد من العمل الذي هو شر ايضا ولكنه دون النية هو الارادة في مورد التجري ، لما بينه من عدم الاستحقاق للعقاب على نفس الفعل في مورد التجري ، ومن المتسالم عليه عند الكل ان ما عدا الارادة من مقدماتها لا عقاب عليها فلا تكون هذه الرواية شاهدا على خصوص ما هو المدعى في المقام ، ويشترك الطرفان في لزوم تأويل هذه الرواية.

ويمكن ان يكون السبب لكون نية الكافر شرا من عمله ان عمل الكافر في فعل المحرمات لا يختلف عن عمل الفاسق في فعلها بما هي من الاعمال ، فان الكافر ـ مثلا ـ لا يصلي والفاسق لا يصلي ، والكافر لا يزكي ولا يحج والفاسق ايضا لا يزكي ولا يحج ، فكلاهما على حد سواء من ناحية تركهما لما هو الواجب ، وكذلك في فعل المحرم ، فان الكافر يشرب الخمر والفاسق يشربها ايضا ، فشرب الخمر بما هو شرب خمر قد حصل من الكافر والفاسق على حد سواء ، ولكن الكافر يترك الواجبات ويفعل المحرمات مستحلا لها بانيا على انها ليست بواجبات ولا محرمات ، بخلاف الفاسق فانه يفعلها مع بنائه على انه قد عصى الله فيها وترك ما هو واجب عليه وفعل ما هو محرم عليه ، وبسبب هذين البناءين اختلف الكافر والعاصي ، واتضح ان السبب في كون فعل الكافر محققا لكفره دون فعل العاصي انما هو لاجل بنائه في فعله على الاستحلال وهو الذي جعل فعله محققا لكفره عملا ، فلذا كان بناؤه ونيته اشد

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إثما من عمله الذي يشترك فيه مع العاصي ، فنية الكافر انما كانت شرا من عمله لانها هي التي جعلت عمله من محققات كفره ، واما نفس عمله بما هو عمل ليس له بذاته هذا الاقتضاء.

وهناك اجوبة اخرى عن هذه الرواية تركناها مراعاة لعدم التطويل ، فلتطلب من محالها ..

ولا يخفى انه مما ذكرنا ظهر الجواب عن اشكال آخر في الرواية ، وهو انه لو سلمنا صحة العقاب على النية فلما ذا كان عقابها اشد من عقابه على العمل ، لوضوح ان شدة الشر تستلزم شدة العقاب ، والرواية قد دلت على ان النية شر من العمل ، فلا بد وان يكون عقابها اشد من عقاب العمل ، فانك قد عرفت ان شرية النية من العمل انما هو العمل بسببها صار مصداقا ومحققا للكفر ، فالعقاب على العمل الذي به تحقق الكفر لا على النية ، ولكن حيث كان السبب فيه هي النية لذا كانت شرا من نفس العمل بما هو عمل.

واما الرواية الثانية ، فحاصله : انه ايضا ليس المراد من العزم المستوجب للخلود هو الارادة ، لوضوح انه لم يخلد في الدنيا حتى تكون له ارادة خالدة بخلوده ، وانما كان له بناء على انه لو خلد في الدنيا لاستمر كفره وطغيانه ، فلا بد من تأويل هذه الرواية المنافية لقيام الاجماع والنصوص وبناء العقلاء على عدم العقاب على مقدمات الارادة.

ويمكن ان يقال في تأويلها : ان المراد من كون بناء الكافر على الاستمرار على الكفر موجبا لخلوده في النار هو الكناية عن ان الكافر اذا مات على الكفر بانيا عليه فقد مات على صحيفة مظلمة سوداء خالية عن أي نور يربطه بالله ، فخلوده في النار لا لعدم الاقتضاء من ناحية نور رحمة الله ، بل لعدم القابلية من ناحية الكافر فان أفقه لا قابلية له لان يكون مطلقا لنور الرحمة ومحلا للتفضل والتكرم من قدس الفضل واللطف ، فنية الكافر وبناؤه على الاستمرار على الكفر والطغيان منعه عن ان

٤٧

ومعه لا حاجة إلى ما استدل على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله : إنه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار ، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره ، مع بطلانه وفساده (١) ، إذ للخصم أن يقول بأن استحقاق

______________________________________________________

يكون محلا لفيض الرحمة واللطف ، فلذا كان خلوده في النار مسببا عن ذلك البناء الذي هو السبب في ختم صحيفته مقطوعة الربط عنه تبارك وتعالى ، بخلاف العاصي المقترف للذنب بسبب شهوته وهو مؤمن ومعترف بان هناك دارا وحشرا يستحق العاصي فيها العقاب على ذنوبه ، فانه لا بد وان لا تنقطع العصمة بينه وبين الله ، ومن الضروري ان يكون دائما خائفا من ذلك اليوم الذي يقف فيه للحساب بين يديه ، فلا تكون مختومة بسواد لا ألق فيه وظلام لا نور فيه ، فهو محل للفضل والرحمة ، فلا يعقل ان يخلد في العقاب بعد ان كان فضل الله ورحمته تام الاقتضاء وافق العاصي قابل لانبثاق ذلك النور ، نسأله تعالت عظمته وغلبت قدرته ورحمته ان لا يحرمنا من لطفه وفضله وهو ارحم الراحمين.

وانما تعرضنا لخصوص ما ذكرنا من الآيات والروايات مع ان هناك روايات وآيات أخر لذكرها بالخصوص في بعض حواشي الكتاب.

وعلى كل فبعد قيام الاجماع مؤيدا بكثير من الآيات والروايات ايضا وبناء العقلاء على عدم الاستحقاق في مقدمات الارادة فلا بد من تأويل ما دل على خلاف ذلك.

(١) لا يخفى ان المنفصلة الآتية التي استدل بها على عقاب المتجري نتيجتها ثبوت العقاب على الفعل المتجرى به دون الارادة والعزم كما هو رأي المصنف ، فالمستدل بها وان وافق المصنف في استحقاق المتجري للعقاب ، لكنه خالفه في كونه على نفس الفعل المتجرى به دون الارادة.

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى كل فقد استدل على عقاب المتجري بهذه المنفصلة المشتملة على شقوق اربعة ، وبعد بطلان ثلاثة منها يتعين الشق المدعى وهو استحقاق المتجري للعقاب كالعاصي المصيب في قطعه.

وبيانها ان نفرض ان هناك شخصين وما يعين قطع كل منهما بخمرية مائع منهما فشرب كل منهما المائع الذي قطع بخمريته فصادف احدهما بقطعه الواقع وكان ما شربه خمرا واقعا ، وأخطأ الآخر في قطعه فكان ما شربه ماء ، فلا يخلو الحال بالنسبة اليهما عن شقوق اربعة :

لانهما اما ان لا يصح عقابهما معا.

او يصح عقابهما معا وهو المدعى.

او يصح عقاب المتجري وهو المخالف للواقع في قطعه دون المرتكب للحرام وهو المصيب في قطعه.

او انه انما يصح عقاب المصيب في قطعه دون المتجري الذي خالف قطعه الواقع ، كما يدعيه المنكر لاستحقاق المتجري للعقاب.

ولا يخفى انه لا سبيل للاول وهو عدم صحة عقابهما معا لتظافر العقل والنقل على استحقاق المرتكب للحرام وهو المصيب في قطعه لطغيانه على مولاه وهتكه لحرمته ، وارتكابه ما هو المنهي عنه المبغوض للمولى واقعا.

ومنه يظهر : انه لا سبيل الى الشق الثالث بالاولوية وهو عقاب المتجري دون المصيب.

ويبقى الشق الثاني وهو عقابهما معا وهو المدعى ، والشق الرابع وهو عقاب خصوص المصيب دون المتجري باطل فيتعين الشق الثاني وبطلان الرابع ، بان نقول ان استحقاق المصيب في قطعه دون المتجري لازمه اناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار وهو باطل ، وما يستلزم الباطل باطل ايضا وهو استحقاق خصوص المصيب دون المتجري.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيحه : ان المتجري والمصيب متساويان في جميع ما صدر منهما بالاختيار ، فان المصيب قاطع والمتجري قاطع ايضا ، والمصيب اقدم على ارتكاب ما علم بانه منهي عنه ومبغوض لمولاه والمتجري مثله ايضا ، وان كلا منهما قد شرب باختياره ما اعتقد بكونه خمرا حراما ، ولا فرق بينهما الا في كون احدهما صادف في قطعه الواقع والآخر وهو المتجري لم يصادف قطعه الواقع ، ومن الواضح ان المصادفة وعدم المصادفة مما ليست تحت اختيارهما معا ، لوضوح ان مطابقة ما شربه لكونه خمرا في الواقع ليست معلولة لقطعه بكونه خمرا ، اذ لو كان قطعه علة لذلك لما تحقق مصداق للتجري اصلا ، ومن الواضح ان شربه بما هو شرب ليس علة لخمرية الخمر في الواقع ، كما ان عدم المطابقة للواقع في فعل المتجري ايضا ليست باختياره وهو واضح جدا ، لبداهة انه كان معتقدا المطابقة لا لعدم المطابقة ، فالمصادفة وعدم المصادفة لا يعقل ان تكون هي السبب في الاستحقاق وعدم الاستحقاق بعد ما عرفت من كونهما امرين غير اختياريين بالنسبة اليهما معا.

وبعد ما ظهر ان المصيب والمتجري متساويان في كل ما صدر منهما بالاختيار ، والفرق بينهما انما هو في الخارج عن اختيارهما وهو المصادفة وعدمها.

يتبين ان القول بالتفصيل في استحقاق خصوص المصيب للعقاب دون المتجري لازمه اناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، فان المصيب لا يختلف عن المتجري الا في كون ما قطع به صادف الواقع ولم يصادفه فعل المتجري ، فتخصيص استحقاق العقاب بخصوص المصيب دون المتجري مرجعه الى اناطة استحقاق العقوبة في المصيب بما هو خارج عن اختياره ، وهو بديهي البطلان ، لعدم امكان استحقاق اناطة العقوبة بما لا بالاختيار ، فما يستلزم هذا اللازم الباطل وهو القول بالتفصيل باستحقاق خصوص المصيب للعقاب دون المتجري باطل ايضا ، وبعد بطلان هذا الشق كالشقين السابقين يتعين الشق الثاني وهو استحقاقهما معا للعقاب.

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد تعرض المصنف في عبارته التي اشار فيها الى هذا الاستدلال لخصوص شق التفصيل دون الشقين السابقين ، وهو عدم عقابهما معا وعقاب خصوص المتجري دون المصيب ، لوضوح بطلانهما ، وهذه عبارته التي اشار بها الى هذا الاستدلال «انه لولاه» أي ان الامر يكون مرجعه لو لا استحقاق المتجري للعقاب بان نقول بعدم استحقاقه له «مع استحقاق العاصي له» أي للعقاب دون المتجري الى ما «يلزم» منه «اناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار» لما هو واضح «من» كون «مصادفة قطعه» من الامور «الخارجة عن تحت قدرته واختياره مع بطلانه وفساده» أي مع بطلان وفساد اناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار.

ولا يخفى ايضا ان نتيجة هذا الاستدلال بهذه المنفصلة هو كون العقاب في المتجري على الفعل المتجرى به للتصريح بكونهما متساويين في جميع ما صدر منهما بالاختيار ، وهو الفعل الذي صدر من كل منهما باختياره وهو شرب المائع ، غايته انه كان في المصيب شرب خمر وفي المتجري شرب ماء ، ولهذه الجهة تعرض المصنف لرده :

اولا : بما اشار اليه بقوله : «ومعه لا حاجة الى ما استدل الى آخره» وحاصله : ان الاستدلال الصحيح على استحقاق المتجري للعقاب وانه لا فرق بينه وبين العاصي ما ذكرناه من تساويهما فيما به الطغيان والظلم للمولى وهو الإرادة دون الفعل ، لما اورده عليه من انحصار العنوان الثانوي بكونه مقطوعا به ، وقد تقدم منه الايراد عليه ، ومع تمامية ما ذكرناه من الاستدلال على عقابهما معا على العزم والإرادة دون الفعل المتجرى به لا حاجة الى هذا الاستدلال الذي لازمه كون عقابهما على الفعل في العاصي وعلى الفعل المتجرى به في المتجرى.

٥١

العاصي دونه ، إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه ، وهو مخالفته عن عمد واختيار ، وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا ، ولو بلا اختيار (١) ،

______________________________________________________

(١) هذا هو الرد الثاني لهذا الاستدلال ، وحاصله : انه للقائل بالتفصيل ان يقول ان العاصي والمتجري لم يتساويا في جميع ما صدر منهما بالاختيار ، وانه لا فرق بينهما الا في المصادفة وعدم المصادفة وهي غير اختيارية ، بل هناك امر اختياري صدر من العاصي ولم يصدر من المتجري وهو المخالفة عن عمد ، فان المخالفة عن عمد قد صدرت من العاصي باختياره ، فانه قد قصد المخالفة لمولاه متعمدا ، وقد وقعت منه هذه المخالفة ، ولم تقع هذه المخالفة عن عمد من المتجري ، لوضوح انه لم يصادف الواقع فلم تقع المخالفة منه وان كان قد قصدها ، وليس العقاب منوطا بعنوان المصادفة الذي هو غير اختياري ، بل هو منوط بعنوان المخالفة من عمد الذي هذا العنوان متحقق في العاصي دون المتجري.

نعم المصادفة غير الاختيارية صارت سببا لتحقق العنوان الاختياري المقصود للفاعل في فعله ، ولا مانع من ان يكون هناك امر غير اختياري محققا لما هو المقصود بالاختيار وهو موجود في ساير الامور الاختيارية ، فان القاصد لقتل شخص وازهاق نفسه ربما تتوسط بين ما يعده القاتل لازهاق نفس المقتول وبين الازهاق كثير من الامور غير الاختيارية ، كمثل ان تصيب الآلة ـ مثلا ـ مقتلا منه وان ينزف دمه او انه ربما لا تصيب الآلة مقتلا ولكن كان المضروب محتاجا الى طبيب ولم يحصل الطبيب ، وامثال هذه الاشياء ، فان كونها غير اختيارية للقاتل لا تمنع من صدق كونه قاصدا للقتل والازهاق وقد فعله واستند اليه عن عمد واختيار ، فالمصادفة وان لم تكن باختيار العاصي إلّا انه قد تحقق منه العنوان المقصود له بالاختيار وهو المخالفة للمولى عن عمد ، وان صارت المصادفة سببا لتحققه.

وعلى كل فقد كان هناك شيء لم يتساو فيه العاصي والمتجري ، وهو امر اختياري قد صدر من العاصي ولم يصدر من المتجري ، وان كان عدم صدوره من

٥٢

بل عدم صدور فعل منه في بعض افراده بالاختيار ، كما في التجري بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام ، كما إذا قطع مثلا بأن مائعا خمر ، مع أنه لم يكن بالخمر (١) ، فيحتاج إلى إثبات أن

______________________________________________________

المتجري لا يرجع الى اختياره ، إلّا ان صدوره من العاصي كان بالاختيار وهو المخالفة عن عمد ، وهذا هو المناط لاستحقاق العقاب في العاصي دون المتجري ، لانه شرب الخمر المنهي عن شربها ولم يشربها المتجري وان قصد شربها ، والى هذا اشار بقوله : «اذ للخصم ان يقول» بعدم مساواة العاصي والمتجري مما هو مناط استحقاق العقاب مع كونه من الامور الاختيارية وهو المخالفة عن عمد ولذلك كان له ان يقول «بان استحقاق العاصي دونه» أي دون المتجري «انما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه» أي في العاصي «وهو مخالفته عن عمد واختيار وعدم تحققه» أي وعدم تحقق هذا السبب وهو المخالفة عن عمد «فيه» أي في المتجري «لعدم مخالفته اصلا ولو بلا اختيار» أي ولو كان عدم مخالفته مسببة عن عدم اختياره لفرض كونه كان قاصدا للمخالفة ، وحيث لم يصادف في قطعه لم تحصل منه المخالفة ، فعدم حصولها منه كان امرا غير اختياري له ، إلّا انه على كل حال لم تصدر منه مخالفة عن عمد التي هي المناط في استحقاق العقاب.

(١) حاصله ، ان المتجري تارة : يتجرى في الحكم بان يعتقد ـ مثلا ـ ان التصوير حرام فيفعله وينكشف كونه مكروها لا محرما ، فيكون قد صدر منه فعل بالاختيار وهو التصوير إلّا انه لم يكن ما صدر منه حراما واقعا ، فالمتجري هنا فاعل مختار فيما فعله وهو التصوير ، غايته انه كان يعتقد ان ما فعله باختياره حرام فانكشف خطأه ، وان ما فعله بالاختيار لم يكن حراما واقعا.

واخرى : يتجرى في الموضوع بان يعتقد ان هذا المائع خمر فيشربه ، فان الحكم وهو كون الخمر حراما ما لم يقع خطأ فيه ، وانما وقع الخطأ في موضوع هذا الحكم وهو الخمر ، فلم يكن ما شربه خمرا ، والمتجري في الموضوع لم يصدر منه فعل

٥٣

المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية ، كما عرفت بما لا مزيد عليه (١).

______________________________________________________

اختياري اصلا لان ما شربه لم يكن شرب خمر الذي هو العنوان المقصود للفاعل ، وشرب الماء وان صدر منه إلّا انه لم يكن مقصودا منه ، والفعل الاختياري هو الصادر من الفاعل بعنوانه مقصودا له وملتفتا اليه ، وشرب الماء لم يكن مقصودا له ولا ملتفتا اليه ، فما قصده في فعله لم يقع منه ، وما فعله لم يكن مقصودا منه ، فلم يصدر من المتجري في الموضوع فعل بالاختيار اصلا ، والى هذا اشار بقوله : «بل عدم صدور فعل منه في بعض افراده بالاختيار» وهو المتجري في الموضوع وذلك «كما في المتجري بارتكاب ما قطع انه من مصاديق الحرام كما اذا قطع مثلا بان مائعا خمر» فشربه «مع انه لم يكن بالخمر» فشرب الخمر لم يقع وشرب الماء غير مقصود ولا ملتفت اليه فلم يقع من المتجري هنا فعل اختياري اصلا.

(١) مراده (قدس‌سره) : انه لو كان الاستدلال على عقاب المتجري بالمنفصلة المذكورة التي لازمها كون العقاب في التجري على الفعل المتجري به ، لكان لازمه التفصيل في المتجري بين المتجري في الحكم والمتجري في الموضوع ، لوضوح عدم صحة العقاب على الافعال غير الاختيارية ، والمتجري في الموضوع لم يصدر منه فعل اختياري ، فالقول بعقاب المتجري مطلقا سواء كان في الحكم او في الموضوع لا بد له من اقامة دليل آخر غير المنفصلة لاثبات ذلك ، بحيث يكون مؤدى ذلك الدليل هو ان المخالفة الاعتقادية مطلقا كالمخالفة الواقعية ، والى هذا اشار بقوله : «فيحتاج» أي القائل بعقاب المتجري مطلقا «الى اثبات ان المخالفة الاعتقادية» المتحققة في مطلق التجري هي «سبب» للعقاب «ك» المخالفة «الواقعية».

وحيث ان المصنف قد اقام الدليل على عقابه مطلقا لكون مصداق الهتك والطغيان عنده هي الارادة والعزم الموجودة في المخالفة الاعتقادية والمخالفة الواقعية على حد سواء ، لذلك قال (قدس‌سره) : «كما عرفت بما لا مزيد عليه» فالمنفصلة

٥٤

ثم لا يذهب عليك : إنه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة ، وهو هتك واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم ، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة ، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

المذكورة لا تصلح دليلا لا مكان الخدشة فيها بوجود الفرق بين العاصي والمتجري ، ولكونها لا تصلح ايضا لاثبات العقاب لمطلق المتجري.

(١) لا يخفى ان صاحب الفصول التزم في المعصية الحقيقية بتداخل العقابين فيها ، والسبب في هذا الالتزام هو كون الموجب لاستحقاق العقاب عنده امرين : التجري ، والمخالفة العمدية ، وقد عرفت في اول هذه المسألة ان التجري ـ حقيقة ـ هو اظهار هتك المولى والطغيان عليه ، وهذا موجود في العاصي المصيب في قطعه وفي المخطئ في قطعه ، ولكن التعبير الاصطلاحي قد خصصه بخصوص المخطئ في قطعه ، فاذا كان التجري بما هو تجر حقيقة لا اصطلاحا موجبا لاستحقاق العقاب ، والمخالفة العمدية ايضا موجبا آخر لاستحقاق العقاب لانها فعل ما هو مبغوض المولى ، وان منطبق التجري هو الفعل المتجرى به دون العزم والارادة ، فلازم هذه الامور كون فعل العاصي منطبقا للعنوانين الذي كان كل واحد منهما موجبا لاستحقاق العقاب ، وحيث كان من المتسالم عليه ان العاصي له عقاب واحد فمن اللازم الالتزام بتداخل العقابين في العاصي المرتكب للمعصية الحقيقية لكون فعله منطبقا للتجري وللمخالفة العمدية ، فلذا التزم بتداخل العقابين في المعصية الحقيقية.

والمصنف حيث يرى ان المتجري والعاصي على حد سواء في استحقاق العقاب وليس له إلّا منشأ واحد وهو هتك حرمة المولى والطغيان عليه ...

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لذلك اورد على صاحب الفصول اولا : بانه لا وجه للالتزام بتداخل العقابين في المعصية الحقيقية ، بعد ان لم يكن فيها ما يوجب استحقاق العقاب الا منشأ واحد ، وهو هتك حرمة المولى والطغيان عليه ، وليست المخالفة العمدية بما هي مخالفة عمدية مما توجب استحقاق العقاب ، فليس هناك منشآن للعقاب حتى نضطر الى الالتزام بالتداخل ، والى هذا اشار بقوله : «ثم لا يذهب عليك انه ليس في المعصية الحقيقية الا منشأ واحد لاستحقاق العقاب» وذلك المنشأ الواحد هو هتك حرمة المولى والطغيان عليه ، ولذا قال (قدس‌سره) : «وهو هتك واحد فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم مع ضرورة ان المعصية الواحدة لا توجب الا عقوبة واحدة».

وحيث لم تكن المخالفة العمدية مما يوجب استحقاق العقاب وانما الموجب له هو الهتك والطغيان ، وليس في المعصية الحقيقية الا هتك واحد وطغيان واحد ، فلذا لم يكن فيها الا عقاب واحد ، فهي معصية واحدة ولها عقوبة واحدة ، اذ لا يعقل مع وحدة السبب حقيقة تعدد المسبب حقيقة ، مع ان تعدد العقاب مع وحدة السبب من الظلم الممتنع على الشارع الذي فعله محض العدل واللطف ، وعلى غيره من المولي الملتزمين بما بنى عليه العقلاء في امورهم ، ولا يصح عند العقلاء عقاب بلا سبب.

وثانيا : بانه لو كانت المعصية الحقيقية منطبقا لعنوانين كان كل واحد منهما موجبا لاستحقاق العقاب ، فلا وجه للالتزام بالتداخل بعد تحقق منشأيه ، فان مراد صاحب الفصول من التداخل في المعصية الحقيقية ان كان الالتزام بعقاب واحد شديد فيها ، دون العقاب في المتجري المخطئ في قطعه فان عقابه اخف من عقاب العاصي فهذا ليس من التداخل الحقيقي ، فان وحدة العقاب مع شدته ليس من التداخل الحقيقي.

وان كان مراده من التداخل هو التداخل الحقيقي كالحكم على القاتل المرتد بقتل واحد فهذا انما هو حيث لا يمكن التعدد ، لوضوح عدم امكان قتل الحي مرتين ، والعاصي ليس كذلك لامكان عقابه بعقابين ، فاذا كان ما فعله موجبا لاستحقاق

٥٦

ولا منشأ لتوهمه ، إلا بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الإن عن وحدة السبب (١).

______________________________________________________

عقابين فلا وجه للالتزام بتداخل عقابه حقيقة ، والى هذا اشار بقوله : «كما لا وجه لتداخلهما» أي العقابين «على تقدير استحقاقهما» فيما لو كانت المعصية الحقيقية مما توجب استحقاق عقابين.

(١) لا يخفى ان الذي دعا صاحب الفصول الى الالتزام بتداخل العقابين في المعصية الواحدة الحقيقة هو شهادة الوجدان عند عامة المتشرعة والعقلاء ، ان من شرب الخمر المنهي عنها مرة واحدة لا يستحق إلّا عقوبة واحدة ، وحيث يرى ان فيها مناطين لاستحقاق العقاب التزم بتداخل العقابين.

ولكنما كان عليه ان يكشف من هذا التسالم بشهادة الوجدان ان ليس في المعصية الواحدة الحقيقية الا استحقاق واحد لعقوبة واحدة ، لضرورة كشف المسبب الواحد الشخصي عن سبب واحد شخصي ، لما برهن عليه في محله ان المعلول الواحد الشخصي يستلزم عقلا وحدة العلة الواحدة الشخصية ، لمحالية صدور الكثير من الواحد الشخصي ، ومحالية تحقق المعلول من دون علة.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ولا منشأ لتوهمه» من الالتزام بتداخل العقابين «إلّا بداهة ان ليس في معصية واحدة الا عقوبة واحدة» بشهادة الوجدان وتسالم المتشرعة والعقلاء ان ليس لمن شرب خمرا مرة واحدة الا عقوبة واحدة ، ولازم هذا الكشف ان ليس هناك لاستحقاق العقاب الا مناط واحد ، وليس لازم ذلك الالتزام بتداخل العقاب ، لما عرفت من ان المعلول الواحد يكشف إنا عن سبب واحد ، ولذا قال : «مع الغفلة عن ان وحدة المسبب تكشف بنحو الإن» وهو كشف المعلول عن العلة ، في قبال الكشف اللمي وهو كشف العلة عن المعلول.

٥٧

الأمر الثالث : إنه قد عرفت أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب ، يوجب عقلا استحقاق المدح والثواب ، أو الذم والعقاب ، من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب (١) ، وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف

______________________________________________________

وعلى كل فمقامنا من الكشف الإنّي ، وهو كشف المسبب الواحد المعلول عن وحدة العلة ، فلازم العقوبة الواحدة هو الكشف إنا «عن وحدة السبب» فليس في المعصية الحقيقية الواحدة الا مناط واحد لاستحقاق عقوبة واحدة.

(١) هذا الامر الثالث لبيان ان القطع قد يكون طريقا محضا لثبوت الحكم المرتب على موضوعه كالحرمة المترتبة على نفس الخمر ، فالحرمة حكم كلي موضوعها نفس الخمر من دون دخالة للقطع الا في كونه طريقا محضا في فعلية هذه الحرمة بفعلية موضوعها وهو الخمر ، فان اصاب القطع كان هذا التكليف منجزا واقعا وان اخطأ كان منجزا بنظر القاطع لا واقعا ، وعلى الاول تترتب الاطاعة والعصيان واقعا بالامتثال وعدم الامتثال ، وعلى الثاني يترتب الانقياد والتجري اصطلاحا كما مر مفصلا ، والى هذا اشار بقوله : «انه قد عرفت ان القطع بالتكليف اخطأ او اصاب يوجب عقلا استحقاق المدح والثواب» في الاطاعة والانقياد «او الذم والعقاب» في العصيان والتجري ، لكن هذا حكم للقطع الطريقي المحض المتعلق بحكم مترتب على موضوعه الخاص من دون دخالة للقطع ، والى هذا اشار بقوله : «من دون ان يؤخذ شرعا في خطاب» كما انه سيتضح في القسم الثاني من امكان اخذ القطع موضوعا لحكم شرعي فلا يكون طريقا محضا.

لا يقال : ان القطع في باب الاطاعة والانقياد والعصيان والتجري هو موضوع لاستحقاق العقاب والثواب.

فانه يقال : موضوعية القطع الطريقي لحكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب لا ينافي كونه طريقا محضا لثبوت الحكم المترتب على موضوع من الموضوعات ، كالحرمة المترتبة على الخمر ، والوجوب المترتب على الصلاة.

٥٨

متعلقه ، لا يماثله ولا يضاده ، كما إذا ورد مثلا في الخطاب أنه إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق بكذا (١) تارة بنحو يكون تمام

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان التقسيم ابتداء في اخذ القطع موضوعا للحكم انه تارة : يؤخذ موضوعا في الحكم نفسه ، او في حكم مثل حكمه ، او ضده ، وسيأتي التعرّض لهذا في الامر الرابع.

واخرى : يؤخذ القطع بشيء موضوعا لحكم آخر ، وهو على ثلاثة اقسام :

الاول : ان يكون القطع بموضوع ذي حكم موضوعا لحكم آخر ، مثلا كأخذ القطع بملكية زيد لشيء موضوعا في وجوب الشهادة له في مورد المخاصمة ، او كالقطع باتيان الركعتين الأوليين تماما في الرباعية موضوعا للبناء على الاكثر في الشك بين الاثنين والثلاث او بين الثلاث والاربع.

الثاني : ان يكون القطع بموضوع لا حكم له موضوعا لحكم آخر ، كما لو نذر انه اذا تيقن بحياة شخص كان مسافرا مثلا ان يتصدق ، ولا منافاة لهذا لما يقال من انه لا تخلو واقعة عن حكم ، فان المراد منها هي الأفعال التي تكون من الشخص في الخارج فانها لا تخلو ، اما ان تكون واجبة أو محرمة او مستحبة او مكروهة او مباحة ، لا أن كل شيء ولو كان موضوعا من الموضوعات الخارجية ، فلا بد وان يكون ذا حكم بما هو موضوع خارجي ، وحياة زيد بما هي حياة زيد موضوع لا حكم له.

الثالث : ما هو المشار اليه في المتن ، وهو ان يكون القطع بحكم موضوعا لحكم آخر ، كما لو كان القطع بوجوب شيء موضوعا لوجوب التصدق بشيء ، كما لو نذر ذلك ، وهو مراده من قوله (قده) : «وقد يؤخذ» أي القطع «في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه» أي يخالف متعلق القطع ، ومراده من قوله يخالف متعلقه هو ان تكون النسبة بين القطع بالوجوب ووجوب التصدق نسبة الخلافين ، فانهما يجتمعان اذ لا مانع من اجتماع القطع بوجوب شيء مع وجوب التصدق ، بخلاف اخذ القطع بالحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم او موضوعا لحكم مماثل للحكم المتعلق به القطع ،

٥٩

الموضوع ، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا ولو أخطأ موجبا لذلك ، وأخرى بنحو يكون جزؤه وقيده ، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا له ، وفي كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه ، وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به (١) ، وذلك لان

______________________________________________________

ككون القطع بوجوب شيء موضوعا لوجوبه ايضا ، او اخذ القطع بحكم موضوعا لحكم يضاد ذلك الحكم كاخذ القطع بوجوب شيء موضوعا لحرمة ذلك الشيء ، فان البحث عن هذه الثلاثة ياتي في الامر الرابع كما اشير اليه اولا ، ولم يشر المصنف هنا الى اخذه في موضوع حكم نفسه ، بل اشار الى اخذه في حكم مماثل له او مضاد له بقوله : «لا يماثله ولا يضاده» فان اخذ القطع بوجوب شيء ـ مثلا ـ موضوعا لوجوبه ايضا من اجتماع المثلين ، واخذ القطع بوجوب شيء موضوعا لحرمة ذلك الشيء من اجتماع الضدين ، واما اخذ القطع بوجوب شيء موضوعا لوجوب التصدق فهو يخالفه ، ولا مانع من اجتماع الخلافين كالحلاوة والحموضة ، وليس هو كاجتماع المثلين كبياضين او سوادين في جسم خاص محدود بحيث يكون ذلك الجسم المحدود بحدّيه من مبدئه الى منتهاه ذا بياضين بجميعه ، او ذا سوادين بجميعه ، او كاجتماع الضدين ككون ذلك الجسم المحدود بحدّيه بجميعه ابيض واسود.

وقد اشار الى مثال اخذ القطع بحكم موضوعا لحكم آخر له معه نسبة الخلاف فلا مانع من اجتماعهما بقوله : «كما اذا ورد مثلا في الخطاب انه اذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق بكذا» او كان هذا المضمون متعلقا لنذر ، كما اذا نذر ناذر يرغب في كون صلاة الجمعة واجبة انه اذا قطع بوجوب صلاة الجمعة يتصدق بكذا.

(١) لا يخفى ان القطع بحكم الموضوع المأخوذ موضوعا لحكم آخر على اقسام اربعة ، اشار اليها في المتن : لانه تارة يكون تمام الموضوع بمعنى ان يكون انكشاف خطأه لا يمنع من صحة ما ترتب عليه ، كجملة الامور الاحرازية الذي كان احرازها شرطا

٦٠