الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

نشأ زيد الشهيد في بيوت النبوة والإمامة وتعاهده أبوه علي بن الحسين بالرعاية والتربية فتأثر بسلوكه وانطبعت في نفسه خصائص الورع والزهد والتقوى والتحرج في الدين ، وبعد وفاة أبيه لازم أخاه الإمام الباقر (عليه‌السلام) صبيا ثم شابا يافعا فكان من البدهي أن يكون لهذه الصحبة أثر عظيم في سلوكه وتكوين شخصيته (١).

وقد أخلص الإمام زيد في العبادة والإنابة إلى الله ، فكان من أبرز المتقين في عصره ، يقول عاصم بن عبيد العامري : رأيته وهو شاب في المدينة يذكر الله فيغشى عليه ، حتى يقول القائل ما يرجع إلى الدنيا (٢)

وكان يعرف عند أهل المدينة بحليف القرآن ، وقد ترك السجود أثره في وجهه لكثرة صلاته طوال الليل (٣).

فكان بذلك من عداد كبار العابدين في التاريخ العربي الإسلامي.

أما علمه فقد كان زيد من علماء عصره البارزين في الحديث والفقه والتفسير ، وخير ما نستدل به على قولنا هذا هو ما شهد به الإمام الباقر (عليه‌السلام) نفسه لزيد بالعلم والإيمان أبان حياته ، فقد روي أن جابر بن يزيد الجعفي سأل الإمام الباقر (عليه‌السلام) عن زيد فأجابه : سألتني عن رجل مليء إيمانا وعلما من أطراف شعره إلى قدمه (٤) وفي رواية أخرى قال : إنّ زيدا أعطى من العلم بسطة (٥) وقد تحدث زيد بن علي عن سعة علومه ومعارفه حينما أعد نفسه للثورة على الحكم الأموي فقال : والله ما خرجت ولا قمت مقامي هذا ، حتى قرأت القرآن وأتقنت الفرائض وأحكمت السنة والآداب ، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل ، وفهمت الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد لها منه ولا غنى عنه وإني لعلى بينة من ربي (٦).

__________________

(١) حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ١ / ٦٣ وما بعدها.

(٢) مقاتل الطالبيين ، أبي الفرج الأصفهاني ، ١٢٨.

(٣) الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي ، ٣٢٨+ مقاتل الطالبيين ، أبي الفرج الأصفهاني ، ١٢٨.

(٤) مقدمة مسند الإمام زيد ، ٨.

(٥) المصدر نفسه ، ٧.

(٦) الخطط والآثار ، المقريزي ، ٢ / ٤٤٠+ حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ١ / ٦٤.

٤١

وقد كان زيد من أعلام الفقهاء وكبار رواة الحديث وقد أخذ علومه من أبيه الإمام زيد العابدين وأخيه الإمام الباقر (عليه‌السلام) وغذياه بأنواعها وأخذ عنهما الأصول والفروع ، وقد أكد ذلك الشيخ محمد أبو زهرة في معرض ردّه على من قال بأن زيدا تتلمذ لواصل بن عطاء المعتزلي (١).

وكان الإمام الباقر (عليه‌السلام) يجل أخاه زيدا ويكبره ، ويحمل له في نفسه أعمق الود وخالص الحب لأنه توسم فيه أن يكون من أفذاذ العلماء وكبرائهم ، وكان هذا الإكبار يتجلى بصور عديدة حفظها لنا المؤرخون والرواة وإليك بعضا منها :

ـ روي أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قال له : لقد أنجبت أم ولدتك يا زيد ، اللهم اشدد أزري بزيد (٢).

ـ روى سدير الصيرفي قال : كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) فجاء زيد بن علي وهو عرق فقال له أبو جعفر : اذهب فديتك ، فادخل بيتك وانزع ثيابك ، وصب عليك الماء ثم تعال فحدثني ، ففعل ثم جاء زيد فجعل يقول : قلت كذا ، وقال كذا ، حتى رؤي البشر في وجه أبي جعفر (عليه‌السلام) وضرب على كتف زيد ، ثم قال : هذا سيد بني هاشم فإذا دعاكم فأجيبوه وإذا استنصركم فانصروه (٣).

بينت هذه الرواية مدى اهتمام الإمام الباقر (عليه‌السلام) بأخيه زيد ورعايته له بكل حنو وعطف واحترام ، ومن جهة أخرى تحمل في طياتها دعوة الإمام الباقر (عليه‌السلام) إلى نصرته والذب عنه والحكم بمشروعية ثورته.

قال الشيخ المفيد : وكان زيد بن علي بن الحسين (عليهم‌السلام) عين إخوته بعد أبي جعفر (عليه‌السلام) وأفضلهم وكان عابدا ورعا فقيها سخيا شجاعا ، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويطلب بثارات الحسين (عليه‌السلام) ... وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة وكان عمره يومئذ اثنتين وأربعين سنة (٤).

__________________

(١) ظ : الإمام زيد ، محمد أبو زهرة ، ٢٢٥+ حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ١ / ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) عمدة الطالب ، ابن عنبة الأصغر ، ٢ / ١٢٧+ غاية الاختصار ، ابن زهرة ، ٣٠.

(٣) غاية الاختصار ، ابن زهرة ، ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٤) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٠+ كشف الغمة ، الأربلي ، ٢ / ٣٤٠.

٤٢

ومما يجدر الإشارة إليه أن بعض المؤرخين الكبار ذكر أن زيدا شاور أخاه الإمام أبا جعفر الباقر (عليه‌السلام) في الخروج إلى العراق لإعلان الثورة على الأمويين ، فأشار عليه الإمام بأن لا يركن لأهل الكوفة لسابقة الغدر فيهم فأبى زيد إلا ما عزم عليه من المطالبة بالحق ، فقال له الإمام الباقر : أخاف أن تكون غدا المصلوب بكناسة الكوفة ، وودعه أبو جعفر وأعلمه أنهما لا يلتقيان (١).

وهذا الكلام غير صحيح تاريخيا لأنه ثبت فيما تقدم أن وفاة الإمام الباقر (عليه‌السلام) على أرجح الأقوال كانت سنة أربع عشرة ومائة واستشهد زيد على أصح الروايات سنة اثنتين وعشرين ومائة ، أما إذا أريد من هذا الكلام أنه كان يحدث نفسه بالثورة أيام حياة الإمام الباقر (عليه‌السلام) فان هذا لا يستبعد أبدا ومهما يكن من أمر فان تفاصيل تلك الثورة وحيثياتها ليس لها علاقة بموضوع رسالتنا فمن أراد الاطلاع عليها فليراجعها في مظانها.

الحسين الأصغر

هو الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم‌السلام) يكنى أبا عبد الله (٢) ، تابعي ، مدني (٣) ، أمه أم ولد (٤).

كان من مفاخر الأسرة الهاشمية ، وكان من العلماء البارزين في عصره ، روى حديثا كثيرا عن أبيه ، وعمته فاطمة بنت الحسين وأخيه الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) (٥) ، وكان حليما وقورا تمثلت فيه هيبة المتقين الصالحين.

ووصفه الإمام الباقر (عليه‌السلام) فيما تقدم بقوله : وأما الحسين فحليم يمشي على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. وكان ورعا ، تقيا شديد الخوف من الله تعالى يقول سعيد صاحب الحسين بن صالح : لم أر أحدا أخوف

__________________

(١) مروج الذهب ، المسعودي ، ٣ / ١٣٩+ تاريخ ابن الأثير ، ٤ / ٢١٧.

(٢) الرجال ، الطوسي ، ٥٤+ معجم رجال الحديث ، الخوئي ، ٤ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٩.

(٤) عمدة الطالب ، ابن عنبة الأصغر ، ٢ / ٢٩.

(٥) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢٤+ الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٠+ كشف الغمة ، الأربلي ، ٢ / ٣٤٢+ غاية الاختصار ، ابن زهرة ، ١٥٢.

٤٣

من الله من الحسين بن صالح حتى قدمت المدينة فرأيت الحسين بن علي بن الحسين فلم أر أشد خوفا منه كأنما أدخل النار ثم أخرج منها من شدّة خوفه (١).

وروى أحمد بن عيسى عن أبيه قال : كنت أرى الحسين بن علي يدعو فكنت أقول : لا يضع يده حتى يستجاب له في الخلق جميعا (٢).

فكان كأبيه في إقباله على الله ، وزهده في الحياة الدنيا ، وتحرجه في الدين ، توفي (رحمه‌الله) في المدينة المنورة سنة سبع وخمسين ومائة للهجرة ودفن بالبقيع عن عمر يناهز الرابعة والسبعين مجاورا لأبيه زين العابدين وأخيه الإمام الباقر (٣).

عبد الله الباهر

هو عبد الله بن علي بن الحسين بن أبي طالب (٤) ، وهو أخو الإمام الباقر (عليه‌السلام) لأمه وأبيه وهو من مفاخر أبناء الهاشميين في علمه وورعه وتقواه ، لقب بالباهر لجماله وحسنه يقول المؤرخون : إنه ما جلس مجلسا إلا بهر جماله ، وما رآه أحد إلا هابه وأكبره (٥).

كان من العلماء البارزين فقد عنى بتربيته أبوه الإمام زين العابدين فغذاه بعلومه وفضله وتأثر بأخيه الإمام الباقر ، يقول الشيخ المفيد : إنه كان من فقهاء أهل البيت وروى عن آبائه عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أخبارا كثيرة ، وحدث الناس وحملوا عنه الآثار (٦).

ويقول ابن حجر العسقلاني : روى مرسلا عن جده علي بن أبي طالب وعن جده لأمه الحسن بن علي وروى عنه عمارة بن غزية وموسى بن عقبة وعيسى بن دينار ويزيد بن أبي زياد ، وذكره ابن حبان في الثقاة وصحح الترمذي حديثه والحاكم (٧).

__________________

(١) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٢+ معجم رجال الحديث ، الخوئي ، ٦ / ٤٤.

(٢) عمدة الطالب ، ابن عنبة الأصغر ، ٢ / ٢٩.

(٣) ظ : معجم رجال الحديث ، الخوئي ، ٦ / ٤٤.

(٤) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢٤+ كشف الغمة ، الأربلي ، ٢ / ٣٤٠+ الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٠.

(٥) عمدة الطالب ، ابن عنبة الأصغر ، ٢ / ٢٧.

(٦) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٠.

(٧) تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٥ / ٣٢٤.

٤٤

تولى عبد الله الباهر بالنيابة عن إخوانه صدقات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصدقات الإمام أمير المؤمنين وتوزيع وارداتهما (١). توفي وله من العمر سبع وخمسون سنة (٢). ولم تعين لنا المصادر تاريخ وفاته والمكان الذي دفن فيه.

عمر الاشرف

هو عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (٣) ، وأمه هي أم ولد أولدت لعلي بن الحسين عمرا وزيدا وعليا ، وكان يكنى أبا علي ، وقيل أبا جعفر (٤) ، وقال الشيخ الطوسي : يكنى أبا حفص (٥) ، لقب بالأشرف تمييزا له من عم أبيه عمر الأطرف ، وذلك لما ناله من شرف وفضيلة بالنسبة لولادة جده الحسين بن علي بن أبي طالب من سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء خلافا لعمر الأطرف فانه نال الشرف من طرف أبيه الإمام علي ، يقول الخوئي : أقول : وهو أشرف من الأطرف بحسبه وفضله وورعه أيضا (٦).

قال الشيخ المفيد : وكان عمر بن علي بن الحسين فاضلا ، جليلا وولي صدقات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصدقات أمير المؤمنين وكان ورعا ، سخيا ، فعن الحسين بن زيد قال : رأيت عمي عمر بن علي بن الحسين يشترط على من ابتاع صدقات عليّ أن يثلم في الحائط كذا وكذا ثلمة ولا يمنع من دخله ليأكل منه (٧).

علي

هو علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم‌السلام) وهو آخر إخوان الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) وقد ذكره صاحب عمدة الطالب فقط وذكر إنه توفي

__________________

(١) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٠.

(٢) الرجال ، الطوسي ، ٤٤٩+ معجم رجال الحديث ، الخوئي ، ٢ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٣) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢٥+ غاية الاختصار ، ابن زهرة ، ١٣٠.

(٤) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٠.

(٥) الرجال ، الطوسي ، ٣٤٢.

(٦) معجم رجال الحديث ، الخوئي ، ١٣ / ٥٤.

(٧) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٠.

٤٥

بينبع (١) ودفن بها وله من العمر ثلاثون سنة (٢). غير أنني لم أجد له ترجمة تذكر في حدود ما اطلعت عليه من المصادر. وبه ينتهي البحث عن إخوة الإمام الباقر.

خامسا : أبناؤه

كان أبناء الإمام الباقر (عليه‌السلام) خير من يجسد تربية الأب ورعايته قولا وفعلا ، لأن الإمام رباهم على مكارم الأخلاق وغرس في نفوسهم قيمه ومثله العليا المتمثلة بتقوى الله تبارك وتعالى فكانوا امتدادا مشرفا لذاته التي طبقت الدنيا أخبارها ومآثرها وكانوا من مفاخر أبناء المسلمين في هديهم وصلاحهم وابتعادهم عن دنس الحياة الدنيا وادرانها ، وذريته من الذكور هم :

ـ إبراهيم وعبيد الله : وأمهما أم حكيم بنت أسيد بن المغيرة بن الاخنس الثقفي ، توفيا في حياة أبيهما (٣) ، ولم أعثر على معلومات عنهما.

ـ الإمام جعفر بن محمد الصادق (ت : ١٤٨ ه‍) ، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) (٤) ، وهو سيد ولد أبيه ، ووصيه والإمام القائم من بعده ـ عند الشيعة الإمامية ـ لأنه سادس أئمتهم الاثني عشر ، والكلام عليه يستدعي التطويل والاستفاضة فقد ألف العلماء المعاصرون مؤلفات خاصة عن حياته وأثره في العلوم فمن أراد الاطلاع فليراجع مصادر ترجمته (٥).

__________________

(١) ينبع : يقع عن يمين رضوى لمن كان منحدرا من المدينة إلى البحر ، وهي لبني الحسن فيها عيون عذاب غزيرة ، وقال بعضهم : إنه حصن به نخيل ، وماء وزروع ، وبها وقوف للإمام علي يتولاه ولده. ظ : معجم البلدان ، ياقوت الحموي ، ٥ / ٤٥٠.

(٢) شذرات الذهب ، ابن العماد الحنبلي ، ١ / ٢٢٠+ دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ، محسن الأمين ، ٢١ / ٧٣.

(٣) مخطوطة الدر النظيم ، ابن حاتم ، رقم الورقة ١٩+ مخطوطة مرآة الزمان ، سبط ابن الجوزي ، ج ٥ / الورقة ٧٩+ أعلام الورى ، الطبرسي ، ٢٧٠+ الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢٠+ الإرشاد ، الشيخ المفيد ٣٠٣.

(٤) تهذيب الكمال ، المزي ، ٧٥+ الكافي ، الكليني ، ١ / ٤٧٢+ دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ، محسن الأمين ، ٢١ / ٧١.

(٥) راجع في ترجمته : تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٢ / ١٠٣+ شذرات الذهب ، ابن العماد ، ١ / ٢٢٠+ وفيات الأعيان ، ابن خلكان ، ١ / ٢٩١+ اللباب ابن الأثير ، ٢ / ٤٤+ النجوم الزاهرة ، ابن تغرى بردى ، ١ / ٨+ العبر ، الذهبي ، ١ / ٢٠٩+ العفو والاقتدار ، العبدي ، ٢ / ٥٦٨+ جعفر بن محمد الصادق ، عبد العزيز السيد الأهل ، ٤٠+ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، ١ / ٤١٢ ـ ٤٣٣.

٤٦

ـ عبد الله بن محمد الباقر ، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وهو أخ الإمام الصادق لأمه وأبيه (١).

قام أبوه بتربيته وعنى في تأديبه فكان من أفاضل العلويين وأنبههم غير إننا لم نقف على ترجمته في المصادر سوى وقوفنا عن كيفية موته فقال المؤرخون : إنه دخل عليه رجل من بني أمية فأوجس منه عبد الله خيفة وقال له : لا تقتلني أكن لله عليك عينا ، وأكن لك على الله عونا (٢). فلم يأبه بذلك هذا الأموي وأجبره على تناول السم ، فلما سقي تقطعت أمعاؤه ولم يلبث إلا قليلا حتى فارق الحياة (٣).

ـ علي بن محمد الباقر : عاش في كنف أبيه ، وتربى على هديه وسلوكه فنشأ مثالا للفضل والعلم ، ولم تنقل لنا المصادر التي بأيدينا شيئا غير أنه لقب بالطاهر لطهارة نفسه وعظيم شأنه وقال العلماء : مشهد الطاهر يقع في قرية من أعمال الخالص قريبة من بغداد وظهر فيها قبر قديم عليه صخرة مكتوب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ضريح الطاهر علي بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقد انقطع باقي الصخرة فبنى عليه قبة من لبن ثم عمّره شيخ من الكتّاب يقال له علي بن نعيم كان يتولى كتاب الديوان الخالص ، فزوقه وزخرفه ، وعلّق فيه قناديل من الصفر ، وبنى حوله رحبة واسعة وصار من المشاهد التي تزار (٤). وهو آخر أبناء الإمام الباقر.

وما أهمل أصحاب التراجم والسير ذكر أحوال أبناء الإمام الباقر (عليه‌السلام) عن عمد وقصد بل لأنهم قد انشغلوا بتسجيل مآثر ولده الإمام جعفر الصادق (عليه‌السلام) وعلومه لأنهم عدوّه من حسنات الإمام الباقر (عليه‌السلام) التي أحسن بها على المسلمين والإنسانية جمعاء.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢٠+ الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٣.

(٢) معنى قوله : وأكن لك على الله عونا : أي أكن لك شفيعا عند الله ، ظ : حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ١ / ٩٢.

(٣) غاية الاختصار ، ابن زهرة ، ٦٤+ سفينة البحار ، عباس القمي ، ١ / ٣٠٩+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ٢٠٢+ ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري ، ٥٢.

(٤) غاية الاختصار ، ابن زهرة ، ٦٣+ الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٣٠٣+ حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ١ / ٩٣.

٤٧

وأما السيدات من بنات الإمام الباقر (عليه‌السلام) فهن : السيدة زينب وأمها أم ولد ، والسيدة أم سلمة وأمها أم ولد أيضا (١) ، وقيل أن بناته هن زينب الكبرى وزينب الصغرى وأم كلثوم (٢). إلا أن الراجح بين العلماء هو القول الأول لقول أغلب العلماء.

وقد نقل أن ابنته أم سلمة مرض أحد ولدها فهرعت إلى الإمام فزعة فأمرها أن تصعد فوق سطح البيت وتصلي ركعتين وتدعو بهذا الدعاء : اللهم إنك وهبته لي ، ولم يكن شيئا ، اللهم وإني أستوهبكه فاعرنيه ، ففعلت ذلك فعافاه الله (٣).

وأخيرا انتهى البحث عن أسرة الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) ، وكان فيه من الإيجاز ما لم يخل به أو يجعله فاقدا لمعلومة ما والذي دعانا لهذا الإيجاز هو ما قلناه في المقدمة هو أن بعض الباحثين قد استوفوا حياته الشخصية فلا نزيد على ما كتبوه في ذلك بل نكتفي بما تقدم.

المبحث الرابع

صفاته وتكامل شخصيته

* المطلب الأول : صفته في خلقه ولباسه :

أولا : صفته في خلقه

ذكر بعض المترجمين للإمام الباقر (عليه‌السلام) أوصافه الجسدية والخلقية ، غير أنها لم تكن بالكافية في بابها مما اضطرنا إلى ذكر نصوص أخرى عن لباسه من جبة وعمامة وغير ذلك لكي نستطيع أن نقرب صورة الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام)

__________________

(١) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٢٣٠+ مخطوطة مرآة الزمان ، سبط ابن الجوزي ، ٥ / الورقة ٨٧.

(٢) صفوة الصفوة ، ٢ / ٦٢+ الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٢٩٨.

(٣) سفينة البحار ، عباس القمي ، ١ / ٣٠٩+ بصائر الدرجات ، ابن الصفار ، ٩٢.

٤٨

من الأذهان قدر المستطاع لما فيه من فائدة لا تخفى في مجال الحديث عن معظم أو كل الجوانب والتفصيلات في حياة هذا الإمام ، والذي ظفرنا به في بطون أمهات المصادر التي استقصيناها بحثا عن شذرات مضيئة في حياته ـ هو نصان فقط :

الأول : إنه (عليه‌السلام) كان ربع القامة ، رقيق البشرة ، جعد الشعر ، أسمر ، له خال على خده ، وخال آخر على جسده ، ضامر الكشح ، حسن الصوت ، مطرق الرأس (١).

الثاني : إنه كان أسمرا معتدلا (٢).

ونستطيع أن نستخرج وصفا خلقيا آخر للإمام ولكنه إجمالي من خلال المحاورة التي كانت بينه وبين محمد بن المنكدر والتي قال قبلها ابن المنكدر ما نصه (... وكان رجلا بادنا ...) (٣) غير أن هذا كان في أخريات أيامه ، وإذا ما ربطنا بين صفته وأحد ألقابه استطعنا أن نضع صورة تقريبية للإمام الباقر (عليه‌السلام) وهي أنه لقب بالشبيه (٤) للشبه الكبير الذي بينه وبين جده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وقد يرد أنه إنما شبه بصفاته الأخلاقية وليس الخلقية ، هذا صحيح ، ولكن أيا كان الأمر فإنه يشبه جده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في كلتا الصفتين أو هو قريب من أن يكون يشبهه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكان على جبهة الإمام الباقر (عليه‌السلام) وأنفه أثر السجود ، وذكر ابن سعد بسنده عن هارون بن عبد الله بن الوليد المعيصي قال : رأيت محمد بن علي على جبهته وأنفه أثر السجود وليس بالكثير (٥). وروي عن ثوير بن فاختة أنه قال : قال أبو جعفر : يا أبا الجهم بما تخضب؟ قلت : بالحناء والكثم قال : هذا خضابنا أهل البيت (٦) ، وهناك نصوص بمضمونه (٧).

__________________

(١) المناقب : ابن شهرآشوب ، ٢ / ٣٦+ أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ١ / ٤ / ٤٧١.

(٢) أخبار الدول ، الذهبي ، ١١١+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٣+ نور الأبصار ، الشبلنجي الشافعي ، ١٣١.

(٣) أعلام الورى ، الطبرسي ، ٢٦٩.

(٤) مخطوطة الدر النظيم ، ابن حاتم ، ورقة ١٨٥+ دلائل الإمامة ، ابن رستم الطبري ، ٩٤

(٥) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢١.

(٦) المصدر نفسه والصفحة.

(٧) ظ : المصدر نفسه والصفحة.

٤٩

ثانيا : صفته في لباسه

كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) يفضل اللون الأصفر في لباسه تيمنا بما ذكره القرآن الكريم عن هذا اللون ، فقد روي عنه أنه قال انتعل بنعال أصفر ، لأنه سينظر إليك بسرور ما دمت منتعلة لقوله تعالى : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)(١)(٢). وروى أبو نعيم الأصفهاني بسنده عن عبد الله بن يحيى قال : رأيت على أبي جعفر محمد بن علي إزارا أصفر (٣).

وكان (عليه‌السلام) لا يرى بأسا في العلم بالثوب الذي لا يخرجه عن حد التواضع والخشونة فقد روي أنه كان يلبس الخز المعصفر ويقول : لا بأس بالإصبع أو الإصبعين من العلم بالبريسم على الثوب (٤). وسئل يوما عن ملبسه برواية جابر الجعفي عنه قال : إنا آل محمد نلبس الخز (٥) والمعصفر (٦) والممصر (٧) واليمنة (٨). وفي رواية أخرى عن جابر عنه قال : إنا آل محمد نلبس الخز واليمنة والمعصفرات والممصرات (٩) وروي عن إسرائيل عن عبد الأعلى قال : إنه رأى محمد بن علي يرسل عمامته خلفه (١٠). هذه بعض أوصاف الإمام الباقر (عليه‌السلام) حول خلقه ولباسه والتي بحثنا عنها جاهدين في كتب التراجم والسير فكانت اقل مما نتصور ولكنها أفضل بكثير من عدم العثور على شيء في شأن هذه الأوصاف.

__________________

(١) البقرة / ٦٩.

(٢) الكافي ، الكليني ، ٢ / ٢٦+ تفسير نور الثقلين ، العرويس الحويزي ، ١ / ٧٦.

(٣) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ٢٨١.

(٤) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢١+ مخطوطة مرآة الزمان ، سبط ابن الجوزي ، ٥ / الورقة / ٧٩.

(٥) الخز : معروف من الثياب ، مشتق منه ، عربي صحيح ، وهو من الجواهر الموصوف بها والجمع خزوز. ظ : لسان العرب ، ١٥ / ٣٤٥.

(٦) المعصفر : العصفر نبات سلافته الجريال وهي معربة ، والعصفر هذا الذي يصبغ به ، منه ريفي ومنه بري ، وكلاهما نبت بأرض العرب ، وقد عصفرت الثوب فتعصفر ، ظ : لسان العرب ، مادة عصفرة ، ١٥ / ٣٤٧.

(٧) الممصر : ثوب ممصر : مصبوغ بالطين الأحمر. لسان العرب ، مادة مصر ، ١٥ / ٤٠٦.

(٨) اليمنة : ضرب من برود اليمن : قال : واليمنة المعصب. ظ : لسان العرب ، مادة يمن.

(٩) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢١+ الكافي ، الكليني ، ٢ / ٢٠٦+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٢ / ٢٦٣.

(١٠) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ٣٢١.

٥٠

* المطلب الثاني : صفاته في عبادته وسماته في أخلاقه :

أولا : عبادته في صلاته ومناجاته وحجه

كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) من أئمة المتقين وكبار العابدين في زمانه ، عرف الله تبارك وتعالى معرفة استوعبت نفسه وسيطرت على أعماق وجدانه فكان من أبرز العارفين ، أقبل على ربه بقلب منيب وأخلص في طاعته أعظم ما يكون الإخلاص ، متوجها في سرائه وضرائه إلى بارئه (عزوجل) ، متوكلا عليه في كل أعماله ، شأنه في ذلك شأن كل من أخلص لعبادة ربه وأظهر خالص وده وحبه لله تعالى لا تشوبه شائبة من طمع في جاه أو مال ، وكيف لا يكون كذلك وهو ابن علي بن الحسين الذي عدّ من أعاظم الزهاد والعباد حتى لقب بزين العابدين ، الذي كانت كل ذرة من جسده تنطق بتوحيد الله وتنزيهه وتسبيحه وتقديسه ، وقد تربى الإمام الباقر (عليه‌السلام) في حجر هذا العابد الزاهد فكان نتاجا من نوع خاص ، فقد روى المؤرخون : أن الإمام أبا جعفر الباقر (عليه‌السلام) كان إذا أقبل على الصلاة أو وقف يصلي ارتعدت فرائصه واصفر لونه (١). من خشيته لله تعالى وتعظيمه له وتلك هي ميزة العارف لما تكشف له من قدرة الباري (عزوجل) وقوته من جانب ، ومن جانب آخر إمعانا منه في إظهار شكره لله تعالى خالق الأكوان ومبدعها ومنظم الحياة وموهبها ، فكانت عبادة الإمام الباقر (عليه‌السلام) هي عبادة المتقين والمنيبين في أروع صورها وأنقاها ، وكانت الصلاة هي خير ما يترجم الإمام بها تلك العبادة والإنابة.

فقد روى المؤرخون : أن الإمام أبا جعفر الباقر (عليه‌السلام) كان يصلي مائة وخمسين ركعة في اليوم والليلة (٢) لا تشغله عنها مشاغل الحياة ، ولا الشئون العامة من الاهتمام بأمور المسلمين ومن إلقائه لدروسه في المسجد النبوي الشريف

__________________

(١) مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٤٤+ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيثمي ، ١٢٣.

(٢) تذكرة الخواص ، ابن الجوزي ، ١٩٠+ تاريخ ابن الوردي ، ١ / ٥٤٨+ تذكرة الحفاظ ، الذهبي ، ١ / ١٢٥+ حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٢+ تاريخ الإسلام ، الذهبي ، ٢ / ٣٠٠.

٥١

على طلابه وتلامذته ولا الشئون الخاصة التي كان يديرها الإمام بنفسه ، لأنه كان يكد على عياله ويباشر أعماله بيديه وبالرغم من ذلك كله فقد أثر عنه أيضا أدعية غاية في إظهار العبودية لله سبحانه وتعالى والافتقار إليه وخاصة تلك التي كان يدعو بها الإمام أثناء سجوده ، ومن المعروف للجميع أن العبد أقرب ما يكون إلى ربه أثناء سجوده ، فكان (عليه‌السلام) في سجوده ينقطع عن الدنيا وما فيها وينشغل بقلبه وعقله بمناجاته لربه مظهرا له كامل الانقطاع والإخلاص فقد ورد عنه في هذا المجال أدعية كثيرة كلها تظهر مدى انقطاعه لله ومدى خضوعه وتقواه إلا أننا سنختار بعض النماذج منها للاستدلال على ما قلناه :

ـ روي بسند صحيح عن اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله الصادق (عليه‌السلام) قال : كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتى يأتي ، فإذا أوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي ، وقد أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعد ما هدأ الناس ، فإذا هو في المسجد ساجد وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول : سبحانك اللهم أنت ربي حقا حقا ، سجدت لك يا ربي تعبدا ورقا ، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي .. اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم (١)

ـ وروي أيضا بسند صحيح عن أبي عبيده الحذاء في دعاء الإمام الباقر (عليه‌السلام) أثناء سجوده في إحدى صلواته الرباعية قال : سمعت أبا جعفر يقول وهو ساجد : أسألك بحق حبيبك محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا بدلت سيئاتي حسنات وحاسبني حسابا يسيرا. في السجدة الأولى ، ثم قال في السجدة الثانية : أسألك بحق حبيبك محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا ما كفيتني مؤنة الدنيا ، وكل هول دون الجنة ، ثم قال في السجدة الثالثة : أسألك بحق حبيبك محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما أدخلتني الجنة ، وجعلتني من سكانها ، ولما نجيتني من سفعات النار برحمتك ، وصلى الله على محمد وآله (٢).

__________________

(١) الكافي ، الكليني ، ٣ / ٣٢٣.

(٢) الكافي : الكليني ، ٣ / ٣٢٣.

٥٢

ويمكن أن نستفيد من هذه الأدعية في سجود الإمام الباقر (عليه‌السلام) أنه يتضرع إلى الله تعالى بشفاعة جده المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وأنه كان لا يقتصر على دعاء واحد بل ينوع بأدعيته وإن كان العمل العبادي واحدا وما ذاك إلا توضيح منه لشدة تعلقه بالله وعظيم إنابته إليه.

وأما الحديث عن أدعيته أثناء قنوته في صلواته فقد كانت تستلهم ما في القرآن الكريم من تعابير بلاغية ، فأثرت عنه مجموعة لا بأس بها من هذه الأدعية لعلمه أن أفضل العبادة الدعاء فقد روي عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) قوله في شأن الدعاء : ... ما من شيء أحب إلى الله (عزوجل) من أن يسأل وما يدفع القضاء إلا الدعاء (١).

بهذه العقلية التعبدية كان ينظر الإمام الباقر (عليه‌السلام) لمفهوم الدعاء وإليك بعض النماذج من أدعيته المباركة :

ـ يقول الإمام الباقر : اللهم إن عدوي قد استسن في غلوائه واستمر في عدوانه ، وأمن بما شمله من الحلم عاقبة جرأته عليك ، وتمرد في مباينتك ، ولك اللهم لحظات سخط بياتا وهم نائمون ، ونهارا وهم غافلون ، وجهرة وهم يلعبون ، وبغتة وهم ساهون ، وإن الخناق قد اشتد ، والوفاق قد احتد ، والقلوب قد محيت والعقول قد تنكرت والصبر قد أودى وكادت تنقطع حبائله ، فإنك لبالمرصاد من الظالم ومشاهدة الكاظم ، لا يعجلك فوت درك ، ولا يعجزك احتجاز محتجز ، وإنما مهل استثباتا ، حجتك على الأحوال البالغة الدامغة ، وبعبيدك ضعف البشرية وعجز الإنسانية ولك سلطان الإلهية وملك البرية ، وبطشة الأنات ، وعقوبة التأبيد ... (٢).

يتبين من هذا الدعاء أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قد سلم أمره لله تعالى وشكا إليه قلة حيلته في مضايقة بعض الناس له مع إظهاره للحلم والأناة والصبر على البلاء وقد كان همه ما يشغل المسلمين دون الدعاء لنفسه مبينا بعض الجوانب السلبية في

__________________

(١) صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٣+ حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٨+ المشرع الروي ، الشلي ، ١ / ٣٧+ كشف الغمة ، الأربلي ، ٢ / ٣٢٩.

(٢) مهج الدعوات ، ابن طاوس ، ٥١.

٥٣

ابتعاد الناس عن الله وانغماس بعضهم في ملاذ الحياة الدنيا طالبا من الله تعالى هدايتهم ، وكذلك وضح الإمام في هذا الدعاء بعض الأمور السياسية آنذاك.

وإليك لونا آخر من أدعية الإمام يتوجه به إلى الله تعالى خاضعا ، خاشعا ، طالبا لغفرانه ، راجيا قبول توبته.

ـ فيقول : اللهم يا صريخ المكروبين ويا مجيب دعوة المضطرين ، يا كشف الكرب العظيم ، يا أرحم الراحمين اكشف كربي وهمي فإنه لا يكشف الكرب إلا أنت فقد تعرف حالي وحاجتي وفقري وفاقتي فاكفني ما أهمني وما غمني من أمر الدنيا والآخرة بجودك وكرمك ، اللهم بنورك اهتديت وبفضلك استغنيت وفي نعمتك أصبحت وأمسيت وذنوبي بين يديك أستغفرك وأتوب إليك ، اللهم إني أسألك من حلمك لجهلي ومن فضلك لفاقتي ومن مغفرتك لخطاياي ، اللهم إني أسألك الصبر عند البلاء والشكر عند الرجاء ، اللهم اجعلني أخشاك إلى يوم ألقاك ، حتى كأنني أراك ، اللهم أوزعني أن أذكرك كي لا أنساك ليلا ولا نهارا ولا صباحا ولا مساء آمين يا رب العالمين (١).

ـ ويقول في دعاء آخر : اللهم إني عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، مجزل في فضلك وعطائك ، اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني ، وذهاب همي ، اللهم إني أسألك يا أكبر من كل كبير ، يا من لا شريك له ولا وزير ، يا خالق الشمس والقمر المنير ، يا عصمة الخائفين وجار المستجيرين ويا مغيث المظلوم الحقير ويا رازق الطفل الصغير ويا مغني البائس الفقير ، يا جابر العظم الكسير ، يا مطلق المكبل الأسير ، يا قاصم كل جبار عنيد اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا ويسرا وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب إنك سميع الدعاء يا ذا الجلال والإكرام (٢).

__________________

(١) مهج الدعوات ، ابن طاوس ، ٥٢.

(٢) المصدر نفسه والصفحة.

٥٤

وكان الإمام الباقر (عليه‌السلام) يردد بين أصحابه وتلامذته عبارة تنم عن مدى تعلقه بمحبة الله سبحانه وتعالى وانقطاعه إليه ، فقد روي أنه قال : إذا بلغ الرجل أربعين سنة نادى مناد من السماء : دنا الرحيل فأعد زادا (١).

وما الزاد الذي أراده الإمام غير تقوى الله والابتعاد عن نواهيه والامتثال لأوامره ، فخير الزاد التقوى.

وكان كثيرا ما يناجي ربه في جوف الليل ويتضرع إليه مظهرا أرقى معاني العبودية لله تعالى ، فقد روى عنه ابنه الإمام جعفر الصادق (عليه‌السلام) قال : كان أبي يتضرع لله سبحانه وتعالى في جوف الليل ويقول في تضرعه : أمرتني فلم أأتمر ، وزجرتني فلم أنزجر ، ها أنا ذا عبدك بين يديك ولا أعتذر (٢).

وما هذه المناجاة إلا صورة رفيعة من صور الاعتذار والإنابة لأن الاعتراف بالتقصير إزاء نعم الله سبحانه وتعالى ما هو إلا اعتراف بذنب ثم لتوبة عنده (عزوجل).

أما عن حجه فإنني لم أظفر ـ في حدود ما اطلعت عليه ـ سوى على ثلاثة نصوص ، اثنان منها بينت بعض محاورات الإمام الباقر (عليه‌السلام) مع هشام بن عبد الملك (٣) ، والآخر مع بعض الحجاج الذين يستغلون فرصة وجود الإمام للسؤال والاستفسار (٤) ، والنص الثالث هو الوحيد الذي أعطانا بعض الجوانب مع حج الإمام الباقر (عليه‌السلام) ونراه يكفي ليوضح لنا مدى انقطاعه لله مظهرا أثار الخشوع والطاعة عليه ، فقد روي عن أفلح مولاه قال : خرجت مع محمد بن علي حاجا فلما دخل المسجد الحرام نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته ، فقلت : بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفقت بنفسك قليلا ، فلم يعن به الإمام وراح

__________________

(١) ربيع الأبرار ، الزمخشري ، ٢ / ٤٢٥.

(٢) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٢+ صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٣+ نور الأبصار ، الشبلنجي الشافعي ، ١٣٠.

(٣) ظ : مخطوطة الدر النظيم ، ابن حاتم ، الورقة ١٨٥+ المشرع الروي ، الشلي ، ٢ / ٣٣٨+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٦.

(٤) البداية والنهاية ، أبي الفداء الدمشقي ، ٩ / ٣١١+ دلائل الإمامة ، ابن رستم الطبري ، ١٠٤+ الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٦.

٥٥

يقول له : ويحك يا أفلح لم لا أرفع صوتي بالبكاء لعل الله ينظر إلي برحمة فأفوز بها عنده غدا ، قال : ثم طاف بالبيت ثم جاء حتى ركع عند المقام فرفع رأسه من سجوده فإذا موضع سجوده مبتل من دموع عينيه (١).

بهذا النص توضح لدينا أنه (عليه‌السلام) كان غاية في الورع والتقوى وشدة الخشية لله تعالى حتى كأن ذنوب العالم ـ حاشا لله ـ قد ركبت ظهره وأثقلت كاهله لجرمه وجريرته ولكنه التأدب مع الله سبحانه وتعالى وزيادة الإيمان به والمعرفة له لأن العبد كلما أصبح قريبا منه تبارك وتعالى ازداد وجلا وخشية وتضرعا من جهة وإنه أراد أن يؤدب طلابه وتلامذته ومريديه والمسلمين جميعا ويعلمهم كيفية الوقوف بين يدي الباري (عزوجل) من جهة أخرى ، فكان بذلك نبراسا وهاجا يضيء ظلمة القلوب والجوارح.

أما عن ذكره لله سبحانه وتعالى فيقول مؤرخو سيرته إنه كان دائم الذكر لله ، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته فكان يمشي ويذكر الله ، ويحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكره سبحانه ، وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس كما كان يأمرهم بقراءة القرآن ، ومن لا يقرأ منهم أمره بذكر الله (٢).

ثانيا : سماته في أخلاقه وسجاياه

تميز الإمام الباقر (عليه‌السلام) بصفات أهلته بأن يكون موئل العلماء ومقصد الناس جميعا في كل طبقاتهم وشرائعهم ومعتقداتهم ، وهذه الصفات أكثر ما كانت تدور عليه هي تلك الأخلاق الرفيعة التي سمت به عن كل ما يشوب شخصيته المتميزة فكان يعدّ بحق من أجل الناس قدرا بشهادة العلماء والفضلاء من أقرانه ومعاصريه وكذلك ممن جاء بعدهم ويمكن أن نحصر تلك الصفات إجمالا بما يأتي :

__________________

(١) ظ : مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٤٤+ مخطوطة مرآة الزمان ، سبط ابن الجوزي ، ج ٥ / الورقة ٧٩+ صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٣+ نور الأبصار ، الشبلنجي الشافعي ، ١٣٠.

(٢) أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ١ / ٤ / ٤٧١.

٥٦

١ ـ ذكاؤه المبكر :

كان الإمام أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) منذ حداثته متميزا بالنبوغ والذكاء مشهورا به بين العلماء ، فقد روى بعض المؤرخين أن الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري على شيخوخته ـ كان في بعض الأحيان ـ يختلف إلى مجلسه ويسمع منه وقد بهر جابر من سعة علوم الإمام ومعارفه وطفق يقول : يا باقر لقد أوتيت الحكم صبيا (١).

وقد عرف بقايا الصحابة ما يتمتع به منذ نعومة أظافره من العلم والفضل من العلم والفضل فكانوا يرشدون المسلمين إليه ، على الرغم من صغر سنه ليبينوا لهم فضل أهل البيت ، فقد روي أن رجلا سأل عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) عن مسألة فقال للرجل : اذهب إلى ذلك الغلام ـ وأشار إلى الإمام الباقر (عليه‌السلام) ـ فاسأله ، وأعلمني بما يجيبك فبادر نحوه وسأله فأجاب الإمام الباقر (عليه‌السلام) عن مسألته وخف الرجل إلى ابن عمر فأخبره بجواب الإمام وراح ابن عمر يبدي إعجابه بالإمام قائلا : إنهم أهل بيت مفهمون (٢).

وروى المؤرخون أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) كان عمره تسع سنين ، وقد سئل عن بعض أدق المسائل فأجاب عنها بكل تمكن ، وإذا ينمّ ذلك عن شيء فإنما ينمّ عن ذكائه المبكر الذي تميز به ، وقد روى الإمام الباقر (عليه‌السلام) عن جابر وابن عمر وغيرهما مما ذكر في محله من هذه الرسالة.

٢ ـ هيبته في القلوب ووقاره

وبدت على ملامح الإمام الباقر (عليه‌السلام) هيبة العلماء والفضلاء ووقارهم ، فما جلس معه أحد إلا هابه وأكبره لما كان يتسم به من الصفات التي أهلته لذلك ، فقد روي عن أبي حمزة الثمالي في خبر قال فيه : لما كانت السنة التي حج فيها أبو جعفر محمد بن علي ولقيه

__________________

(١) علل الشرائع ، الشيخ الصدوق ، ٢٣٤+ حياة الإمام الباقر ، باقر القرشي ، ١ / ٢٧.

(٢) المناقب ، ابن شهرآشوب ، ٤ / ١٤٧.

٥٧

هشام بن عبد الملك ، أقبل الناس ينثالون على الإمام ليسألوه عن أمور دينهم ، وكان عكرمة البربري (١) من الحجاج فلما رآه قال : من هذا الذي عليه سيماء زهرة العلم ، لأجربنه. فلما مثل بين يديه ارتعدت فرائصه وأسقط ، في يده وقال : يا بن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره فما أدركني ما أدركني آنفا ، فأجابه الإمام بما يطيب خاطره ويخفف من روعه وارتباكه (٢).

وكذلك ما جرى بينه وبين قتادة بن دعامة فقيه أهل البصرة عند ما تشرف في مقابلته على ما رواه العلماء (٣).

وروى عبد الله بن عطاء المكي فقال : ما رأيت العلماء قط أصغر منهم عند أبي جعفر (٤).

فهذه الرواية توضح لنا جانبا آخر من جوانب هيبة الإمام ووقاره ، ومما رواه أكثر المؤرخين أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) لم ير ضاحكا وإذا ضحك كان يقول اللهم لا تمقتني (٥).

باعتبار أن الضحك وكثرته مما ينافي الوقار وسمو الشخصية فكان الإمام مبتعدا عنه متجنبا له منشغلا بذكر الله عما سواه.

__________________

(١) عكرمة بن عبد الله البربري المدني ، أبو عبد الله ، مولى عبد الله بن عباس ، تابعي ، كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي ، طاف البلدان ، وروى عنه زهاء ثلاثمائة رجل ، منهم أكثر من سبعين تابعي ، وذهب إلى نجدة الحروري فأقام عنده ستة أشهر ثم كان يحدث برأي نجدة ، وخرج إلى بلاد المغرب فأخذ عنه أهلها رأي (الصفرية) وعاد إلى المدينة فطلبه أميرها فتغيب عنه حتى مات سنة (١٠٥ ه‍) وكانت وفاته بالمدينة هو وكثير عزة في يوم واحد ، فقيل ، مات أعلم الناس وأشعر الناس ، وكانت ولادته سنة (٢٥ ه‍) ، انظر مصادر ترجمته في : وفيات الأعيان ، ابن خلكان ، ١ / ٣١٩+ تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٧ / ٢٦٣+ حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ٣٢٦+ ميزان الاعتدال ، الذهبي ، ٢ / ٢٥٨+ المعارف ، ابن قتيبة ، ٢٠١.

(٢) إثبات الهداة ، الحر العاملي ، ٥ / ١٧٦.

(٣) الكافي ، الكليني ، ٤ / ١٢٦+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ١٧١.

(٤) حلية الأولياء الأصفهاني ، ٣ / ١٨٦+ عيون الأخبار ، ابن قتيبة ، ١٤+ تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٢ / ١٣٣+ شذرات الذهب ، ابن العماد ، ١ / ١٤٥.

(٥) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٩+ صفوة الصفوة ، ٢ / ٦٢.

٥٨

٣ ـ حلمه وصبره

أما الحلم فقد كان من أهم صفاته التي تميز بها ، فقد أجمع المؤرخون أنه لم يسئ إلى من ظلمه واعتدى عليه قط وإنما كان على العكس من ذلك فهو يقابل المسيء بالصفح والإحسان والظالم له بالإغداق عليه من بره ومعروفه ، وروى المؤرخون صورا كثيرة من عظيم حلمه وصبره نذكر منها :

ـ أن رجلا كتابيا هاجم الإمام الباقر (عليه‌السلام) واعتدى عليه ، وخاطبه بمر القول وأفحشه قائلا له : أنت بقر ، فلطف به الإمام وقابله ببسمات فياضة بالبشر قائلا له : لا ، أنا باقر ، فراح الكتابي يهاجم الإمام قائلا : أنت ابن الطباخة ، فتبسم الإمام ولم يثره هذا الاعتداء وقال له : ذاك حرفتها! ولم ينته الكتابي عن غيه بل تمادى فيه إلى أقصى حد ، وراح يهاجم الإمام ثانية قائلا : أنت ابن السوداء ، الزنجية ، البذية! ـ وما أفحشه من قول ـ ولم يغضب الإمام من هذا ولم يستفزه بل قابله باللطف قائلا : إن كنت صدقت غفر الله لها ، وإن كنت كذبت غفر الله لك. وبهت الكتابي وبهر من معالي أخلاق الإمام التي هي أخلاق الأصفياء والمخلصين لله تعالى فأعلن إسلامه (١) ورجع إلى الحق وترك الباطل.

وأترك هذه الصورة بدون تعليق أو إبداء رأي لتتحدث عن نفسها وترسم في ذهن القارئ المنهج الذي سار عليه الإمام الباقر (عليه‌السلام) في حياته وفي معاملته لأهل الذمة والمسلمين جميعا.

ـ ومن تلك الصور الرائعة المدهشة من حلمه : أن شاميا كان يختلف إلى مجلسه في المسجد النبوي الشريف ، ويستمع إلى محاضراته ودروسه وقد أعجب بها أشد الإعجاب ، فاقبل يوما يشتد نحو الإمام الباقر (عليه‌السلام) وقال له : يا محمد ، إنما أغشى مجلسك لا حبا مني إليك ولا أقول إن أحدا أبغض إلي منكم أهل البيت وأعلم أن طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم ـ هكذا كان يتوهم ـ ولكني أراك رجلا فصيحا ، لك أدب وحسن لفظ فإنما أختلف إليك

__________________

(١) المناقب ، ابن شهرآشوب ، ٤ / ١٤٢+ أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ١ / ٤ / ٥٠٤+ حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ١ / ١٢٠ ـ ١٢١.

٥٩

لحسن أدبك ، فنظر إليه الإمام بعطف وحنان وأخذ يغدق عليه من برّه ومعروفه حتى استقام الرجل وتبين له الحق فتبدلت حالته من البغض إلى الولاء وظل ملازما للإمام حتى حضرته الوفاة فأوصى أن يصلي عليه الإمام الباقر (عليه‌السلام) (١).

حاكى الإمام بهذه الأخلاق الرفيعة جده الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي استطاع بخلقه العظيم أن يؤلف بين القلوب ويوحد بين المشاعر ويجمع الناس على كلمة التوحيد مصداقا لقوله تعالى (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(٢).

وأما الصبر فقد كان من الصفات الذاتية للإمام الباقر ، فقد صبر على مكاره الدهر ونوائب الأيام ، وصبر على تجرع الخطوب التي تعجز عنها أمة ، فقد رأى جده الحسين الشهيد وما صنع به وبأفراد عائلته يوم كان صبيا صغيرا ، فكان الصبر رائده لم تنل من عزيمته خطوب الأيام ومحنها ، وقد سجل المؤرخون الصور الكثيرة من صبره وتحمله نذكر منها :

ـ روى المؤرخون عن عظيم صبره : أنه كان جالسا مع أصحابه إذ سمع صيحة عالية في داره ، وأسرع إليه بعض مواليه فأسره فقال الإمام : الحمد لله على ما أعطى وله ما أخذ ، انههم عن البكاء ، وخذوا في جهازه ، واطلبوا السكينة ، وقولوا لتلك الجارية لا ضير عليك أنت حرة لوجه الله لما تداخلك من الروع ... ورجع إلى حديثه ، فتهيب القوم سؤاله ، ثم أقبل غلامه فقال له : قد جهزناه ، فأمر أصحابه بالقيام معه للصلاة على ولده ودفنه ، واخبر أصحابه بشأنه فقال لهم : إنه قد سقط من جارية كانت تحمله فمات (٣).

بهذه الأخلاق تشرفت الإنسانية لما تحمله في داخلها من الديمومة والخلود على الرغم من فناء الحضارات وتدهور الأمم ، فإن التعامل مع هذه المفردات الخلقية يكسبها قيما ترتفع بها إلى مصافي الخلود والبقاء.

__________________

(١) الأمالي ، الشيخ الصدوق ، ٧٢+ بحار الأنوار ، محمد باقر المجلسي ، ١١ / ٦٦+ حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ١ / ١٢١.

(٢) آل عمران / ١٥٩.

(٣) مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٥٢+ عيون الأخبار ، ابن قتيبة ، ٣ / ٥٧.

٦٠