الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

وإن أسرع الخير ثوابا البر ، وأسرع الشر عقوبة البغي ، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه ، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه ، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه (١).

قال الرازي في تفسير هذه الآية : أي : لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة ، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها (٢).

وقال القرطبي : أي : وباله عائد عليكم ، وتم الكلام ، وروى سفيان بن عيينة أنه قال : أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا ، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا (٣).

وقال ابن كثير : أي : إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم (٤).

ومن المفسرين المحدثين قال سيد قطب في تفسيره لهذه الآية : سواء كان بغيا على النفس خاصة ، بإيرادها موارد التهلكة ، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية ، أو كان بغيا على الناس فالناس نفس واحدة ، على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة (٥).

واقرب هذه الأقوال إلى قول الإمام الباقر (عليه‌السلام) (وأسرع الشر عقوبة البغي) هو ما نقله القرطبي عن سفيان بن عيينة في تعجيل عقوبة البغي في الحياة الدنيا ، فأراد سبحانه وتعالى في هذه الآية أن يقول للناس ـ والله أعلم ـ أنا اقرب إليكم وإلى أعمالكم منكم فما تعملونه من عمل تريدون به أن تبغوا علينا وتمكروا بنا فإنما توجد بتقديرنا وتجري بأيدينا فكيف يمكنكم أن تبغوا بها علينا؟ بل هي بغي منكم على أنفسكم فإنها تبعدكم منا وتكتب آثامها في صحائف أعمالكم ، فبغيكم على أنفسكم وهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به أياما قليلة ثم نعاجلكم بالعقوبة على أعمالكم من حيث لا تشعرون.

__________________

(١) الدر المنثور ، السيوطي ، ٣ / ٣٠٤+ حلية الأولياء ، أبو نعيم الأصفهاني ، ٣ / ١٨٢.

(٢) التفسير الكبير ، الرازي ، ١٧ / ٧٢.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٨ / ٣٢٦.

(٤) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٣ / ٤٩٥.

(٥) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ١١ / ٦٨.

٤٠١

والجدير بالذكر أن الذي أثر عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) من وصايا تربوية وأخلاقية تصلح أن تكون منهجا أخلاقيا فريدا ، كثيرة جدا ، وكم هائل استفاد منها كثير ممن صنف في علم الأخلاق من علماء الأمة ، غير إنني التزمت بالمنهج الذي اتبعته في تقصي روايات الإمام الباقر (عليه‌السلام) في التفسير حصرا فبعد الاستقراء لم أستطع أن أظفر بأكثر مما ظفرت به من هذه الروايات التفسيرية المتعلقة بالجانب التربوي والأخلاقي ، عرضتها مقارنا ، ومرجحا ، فإن فاتني منها شيئ فذاك نقص لحق بالإنسان من أمد بعيد.

* * *

٤٠٢

الفصل الخامس

قيمة تفسيره وخصائصه

وأثره في غيره

ويتضمن :

* المبحث الأول : قيمة تفسيره ومكانته

* المبحث الثاني : خصائص تفسيره وسماته

* المبحث الثالث : مقارنة آرائه بآراء غيره وانفراداته

* المبحث الرابع : أثره في غيره

٤٠٣
٤٠٤

المبحث الأول

قيمة تفسيره ومكانته

تبين من خلال ما تقدم من فصول بهذه الرسالة أن للإمام الباقر (عليه‌السلام) آثارا وأقوالا لا يستهان بها بل شكلت ثروة تفسيرية قيمة ، ولم يكن هذا القول اعتباطا أو تخمينا ، وإنما استطعنا البرهنة عليه من خلال عرضنا للروايات التفسيرية المنقولة عنه من جهة ومن حيث ما اجتمع في تفسيره من الخصائص ما يؤهله لأن يصبح مرجعا في تفسير كتاب الله ، ومن الصفات ما يجعل لآرائه وأقواله من قيمة بين أقوال غيره من العلماء من جهة أخرى ، وسنعرض فيما يأتي لأهم تلك الخصائص والصفات التي يمكن أن تكون عوامل مهمة جدا في جعل تفسيره تفسيرا معتمدا عليه بين المفسرين.

أولا : عنايته بكتاب الله وتشدده في تفسيره

كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) أحد المقرئين لكتاب الله وأجاد في قراءته فأصبح يعلمه الناس ، بل شارك في وضع بعض الضوابط لقراءة القرآن الكريم ، فكان يوصي بتلاوته بالصوت الحسن لأنه ينفذ إلى أعماق القلب والوجدان ، وكان هو من أحسن الناس صوتا بقراءته (١).

ومن تلك الضوابط الفنية التي شارك الإمام الباقر (عليه‌السلام) في وضعها لتلاوة القرآن الكريم هو الترجيع بقراءته فقد روى أبو بصير قال : قلت لأبي جعفر إذا قرأت القرآن فرفعت صوتي جاءني الشيطان فقال : إنما ترائي بهذا أهلك والناس ، فقال الإمام : يا أبا محمد اقرأ قراءة بين القراءتين ، تسمع أهلك ، ورجّع بالقرآن صوتك فإن الله يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعا (٢)

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، الخوئي ، ٢٥+ أصول الكافي ، الكليني ، ٢ / ٣٦.

(٢) المصدر نفسه ، ٢١٠+ الوافي ، الفيض الكاشاني ، ٣ / ٢٧٤.

٤٠٥

وكان الإمام ملما بأسباب النزول ، محيطا بأقوال المتقدمين من الصحابة والتابعين في معرفة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، متحريا لما نقل عنهم في تفسير القرآن الكريم ، فالإحاطة بهذه الأمور تكشف للمفسر معاني القرآن الكريم ومقاصده ، وتوصله إلى المعنى المراد لأن معرفة ضوابط التفسير وتطبيقها هي مما يجعل النص التفسيري مقبولا لدى المفسرين.

وقد تشدد الإمام الباقر (عليه‌السلام) في تفسير القرآن الكريم حيث اعتبر التفسير المعتمد على الرأي والاستحسانات العقلية تفسيرا بعيدا عن المعنى المراد وقد يؤدي بصاحبه إلى الهلكة ، فلذلك نهى عنه فقد دخل عليه قتادة بن دعامة فقال له الإمام : أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة : هكذا يزعمون. قال الإمام : بلغني أنك تفسر القرآن ، قال قتادة نعم.

فأنكر عليه الإمام ذلك قائلا : يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به (١).

وعند تحليل هذا النص يتبين أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قد حصر معرفة تفسير القرآن الكريم بالآخذ ممن خوطب به القرآن وهم : النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والصحابة رضوان الله عليهم الذين شهدوا التنزيل ، فهم يعرفون المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ وليس عند غيرهم معرفة بذلك.

ثانيا : اهتمامه بالاستعمالات المجازية في القرآن ومعرفة معانيه

كان الاستعمال المجازي شائعا في كلام العرب ، ذائعا في كثير من جوانب الاستعمال كالإسناد المجازي والمجاز في اللفظة والعبارة ، ومنه أيضا الكنايات التي قيل إنها ابلغ من التصريح ويعتبر ذلك من لطائف هذه اللغة ومحاسنها.

وجاء في القرآن الكريم الكثير من الآيات المتضمنة للاستعمال المجازي ، وقد شارك الإمام الباقر (عليه‌السلام) في إيضاحه وبيانه ، فمما ورد في القرآن الكريم قوله

__________________

(١) أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ٢ / ٤ / ١٠ ـ ١١+ سيرة الأئمة ، هاشم معروف الحسني ، ٢١٢ ـ ٢١٣.

٤٠٦

تعالى : (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ)(١) ، فإنّ المعروف من اليد هو العضو المخصوص ، ويستحيل ذلك على الله تعالى لاستلزامه التجسيم وهو مما يمتنع عقلا على الله تعالى ، فقد سأل محمد بن مسلم الإمام أبا جعفر الباقر (عليه‌السلام) فأجابه : اليد في كلام العرب القوة والنعمة ، قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ)(٢) وقال تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ...)(٣) أي بقوة ، وقال تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(٤) ، ويقال لفلان عندي أيادي كثيرة أي : فواضل وإحسان ، وله عندي يد بيضاء أي نعمة (٥).

ومعنى هذا أن اليد لم تستعمل هنا في معناها المعروف المخصوص وإنما استعملت في غيره أما مجازا أو حقيقة بناء على إنها مشتركة اشتراكا لفظيا في هذه المعاني التي وضحها الإمام.

ولم يكن الإمام ليكتفي بهذا كله دون معرفة ما يعنيه القرآن الكريم ويقصده ، بل كان ولوعا بفهمه ومعرفة معانيه ، ولهذا كان يحذر من الذين يرددون ألفاظه بدون فهم ومعرفة لمعانيه ، فيكتب في رسالته إلى بعض أصحابه معرضا وذاما للذين يؤولون آياته حسب أهوائهم قال فيها : وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية (٦).

والرعاية هنا هي معرفة ما يقتضيه الخطاب ويستدعيه البيان ، فلا أثر عنده لكثرة قراءة القرآن الكريم وتلاوته دون التدبر في معانيه ومعرفة مراميه ، ومما يؤكد اهتمامه بمعرفة المعاني القرآنية هو ورود ذلك الكم الهائل من الروايات التفسيرية المنقولة عنه.

__________________

(١) ص / ٧٥.

(٢) ص / ١٧.

(٣) الذاريات / ٤٧.

(٤) المجادلة / ٢٢.

(٥) التوحيد ، الشيخ الصدوق ، ٣٢+ ناسخ التواريخ ، محمد تقي الكاشاني ، ١ / ٤٣٤.

(٦) الوافي ، الفيض الكاشاني ، ٣ / ٢٧٥.

٤٠٧

ثالثا : قدرته وقابليته على استنباط المعاني للآيات

وهب الله سبحانه وتعالى الإمام الباقر (عليه‌السلام) قدرة فائقة وقابلية واسعة في فهم كتاب الله ، وهذا مما لا ييسره سبحانه وتعالى لكل أحد بل هي موهبة منه ، وبها يبرز من يبرز من الرجال ، ويكون له مقام بين العلماء ، وقد اتضح ذلك من خلال ما قدمنا عنه في معرض الحديث عن مصادره في التفسير وبينا كيف يستنبط المعاني ويربط بين الآيات ويجمع الآيات التي تخص موضوعا بعينه بما يمثل تفسيرا موضوعيا للقرآن الكريم ، ويجيب سائليه على ما أشكل فيها ، وأحيانا يرفع التعارض الذي قد يحصل فيما بينها موضحا لهم لما اجمل منها ، موجها لأنظار المسلمين للتدبر فيها ، متخذا لبعض منها موعظة أخلاقية وإرشادا تربويا حتى فيما يتعلق بالقصص القرآني منها ، وما كان ذلك إلّا حصيلة الفهم الثاقب والرأي السديد من جهة ، وأخذه للعلم وتفسير القرآن الكريم عن آبائه الكرام من جهة أخرى مما فتح أمامه آفاق العلم فأشرقت في روحه أنواره وتجلت في قلبه صوره ، ساعد ذلك كله ذهن متوقد وذكاء بارع.

هذه أهم الأسباب التي أضفت مكانة مرموقة لأقواله وآرائه عند العلماء ، وقد زاد تفسيره قيمة أمر آخر هو :

ـ ترجيح المفسرين لآرائه أحيانا واعتمادهم عليها.

فقد كانت آراؤه وأقواله أحيانا مرجحة عند المفسرين ، وأحيانا أخرى يقدمونها على آراء غيره ، وهذا الترجيح لا يكون اعتباطا إنما هو ناتج من سير الإمام الباقر (عليه‌السلام) على وفق القواعد والضوابط العامة التي اتفق المفسرون على الاعتماد عليها في تفسير القرآن الكريم وبالتالي ترجيح أو اعتماد آراء وأقوال من يسير عليها ، وسنذكر بعض الأمثلة عند التكلم على أقواله وآرائه المعارضة لغيره والتي انفرد بها.

ومن الجدير بالذكر إنني وجدت من خلال تتبعي لآرائه وأقواله في التفسير أن هناك بعض من المفسرين ينقلون أقواله بدون أن ينسبوها إليه ، وفي بعض الأحيان ينسبوها إلى ال (قيل) دون التصريح باسمه ، واغلب الظن أن تلك الآراء والأقوال

٤٠٨

كانت تصل إليهم بدون نسبة إليه فيرجحون بعضها ويميلون إليها ، أو إنها تصل إليهم وفي طريقها بعض الرجال الضعفاء فيربئون بتصانيفهم عن تسجيل هذا السند الضعيف مما يجبرهم على عدم نسبته إلى الإمام أو ينسبونها إلى ال (قيل) ، وقد كان ذلك واضحا من خلال ما عرضناه من آراء وأقوال في كثير من المواضع في هذه الرسالة لأقوال الصحابة والتابعين مقارنة مع آراء الإمام وأقواله.

المبحث الثاني

خصائص تفسيره وسماته

كان في تفسير الإمام الباقر (عليه‌السلام) بعض الظواهر البارزة التي أضفت عليه ميزة واضحة ، قد ينفرد بها وقد يشاركه فيها غيره من المفسرين ، وليس لنا القول أن هذه من خصائص تفسيره وحده بل هي تشكل ملامح عامة يسير عليها جملة من المفسرين ، ولكنها برزت بشكل واضح بتفسيره مما أعطته قيمته وإن كان متأثرا بتفسير سابقيه ، وهذه بعض تلك الخصائص والسمات :

أولا : تفسير القرآن بالقرآن

كان من خصائص تفسير الإمام الباقر (عليه‌السلام) اعتماده على القرآن الكريم نفسه في بيان ما يشكل فهمه منه ، وهو بذلك جدير ، لعنايته الشديدة واهتمامه البالغ بالقرآن الكريم حفظا وقراءة وتفسيرا ، فكان يؤكد على جمع الآيات القرآنية إلى نظائرها وضم بعضها إلى بعض حتى يتوصل إلى فهم دقيق للمراد القرآني ، مراعيا في ذلك التصور القرآني للموضوع الواحد المراد توضيحه بعد ضم المعاني القرآنية المشتملة على أفراد الموضوع الواحد بعضها إلى بعض ، وقد تقدمت أمثلة ذلك في حديثنا عن تفسيره القرآن بالقرآن.

ولئن كان لغيره من المفسرين ، من صحابة وتابعين ، إسهام في هذا ، فإنّ الإمام الباقر (عليه‌السلام) كان واحدا من جملة الذين اتخذوا هذا المنهج عمادا في تفسيره.

٤٠٩

ثانيا : اهتمامه بالكلمة المفردة والسياق العام

يمكن أن نقسم مفسري الصحابة والتابعين في الاهتمام بالكلمة المفردة والسياق العام إلى فريقين : فأبي بن كعب رضي الله عنه وتلامذته انصب اهتمامه على المعنى العام للآية أو الآيات وسياق الكلمات ، وقل اهتمامهم بالكلمة المفردة ، وذلك لأن الكلمة المفردة غالبا ما يكون تفسيرها من قبيل المعرفة اللغوية للكلمة.

والفريق الثاني يمثله ابن عباس رضي الله عنه وتلامذته ، فقد كان اهتمامهم منصبا على الكلمة المفردة لأن الناس بحاجة إلى بيان الألفاظ اللغوية المفردة لأنها تساعد كثيرا على فهم الآية أو الآيات (١).

وقد اتخذ الإمام الباقر (عليه‌السلام) محلا وسطا بين هذين الفريقين ، فنراه أحيانا يعطي المعنى اللغوي لبعض مفردات الآية ليسهل على الذي يسمع تفسيرها أن يفهمها ، وتبين ذلك من خلال كلامنا على رجوعه إلى اللغة في التفسير ، وأحيانا أخرى يعطي دلالة الآية العامة أو يبين وجه ارتباط الآيات بعضها لبعض ، أو يستخرج من الآيات معنى أو يستنبط منها حكما.

وذلك ما عرف عنه من ملاحظة السياق وتفسير القرآن بالقرآن مما هو ظاهر جدا في تفسيره ومما كون خصيصة واضحة في آرائه وأقواله.

والجدير بالذكر ، أن بعض الباحثين ذكر أن أول مدرسة اهتمت بالسياق الجملي أو العام هي مدرسة عبد الرحمن بن زيد بن اسلم (ت : ١٨٢ ه‍) (٢) ، في حين إننا وجدنا أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قد سبقه بأكثر من نصف قرن وقد اهتم اهتماما بالغا به ، وقبلهما الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه.

ومهما يكن من أمر ، فان الإمام الباقر (عليه‌السلام) قد جمع بين الطريقتين ، ومزج بين المنهجين ، وذلك حسب ما يمليه عليه درسه في التفسير أو نوع السؤال الذي يوجه إليه.

__________________

(١) ظ : أبي بن كعب ومكانته بين مفسري الصحابة ، مشعان العيساوي ، رسالة دكتوراه ، ٤٢٨ ، مضروبة على الآلة الكاتبة ، ١٩٩٢ م

(٢) ظ : خصائص مدرسة ابن زيد ، أحمد الجنابي ، ٢٤.

٤١٠

ثالثا : خلو تفسيره من الروايات الإسرائيلية

وقف الإمام الباقر (عليه‌السلام) من أخبار وروايات بني إسرائيل الموقف الذي تعلمه من آبائه الذين تعلموه على يد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأقواله حين قال : إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم (١) ، وقال : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (٢). وليس مثل الإمام الباقر (عليه‌السلام) إذا سمع الناس تحدث عن أهل الكتاب بقاصر ـ حاشا لله ـ عن تمييز الخبيث من الطيب وعن الرد والتوجيه لأنه كثيرا ما كان يصحح ويوجه ما ورد عن أهل الكتاب ، وإن جاء من ذلك شيء من تفسيره فهو أما ضعيف السند ، وأما من وضع الرواة والقصاص ، لأن الإمام الباقر كان يترفع في تفسيره من ذكر شيء من روايات أهل الكتاب ، وقد كانت هذه السمة واضحة من خلال ما عرضنا من جهوده في القصة القرآنية.

رابعا : تعرضه للأمور الغيبية وآيات العقائد

فقد تناول في تفسيره عدد غير قليل من الآيات التي تتعلق بالقضايا الغيبية مثل قضية بدء الخلق ، واخذ الميثاق ، واليوم الآخر ، وعدد آخر من الآيات لا يستهان به تناول فيها تفسير آيات التوحيد ونفي الصفات ، وما يتعلق بالنبوة والوحي وأقسامه فقدم فيها جهدا علميا رفيعا في الكشف عن مفاصلها المعرفية من خلال مشاركته في التفريق بين النبي والرسول ، وأقواله في علم الأنبياء وعصمتهم وغير ذلك ، وتفسيره أيضا للآيات المتعلقة بالإمامة والشفاعة.

كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) في ذلك كله موجها لأنظار الأمة الإسلامية إلى محاولات بعض الفرق الضالة ، المضلة ، التغلغل بين المسلمين ونشر أفكارها فيهم ، فكون الإمام الباقر وغيره من علماء هذه الأمة الأبرار سدا منيعا وخندقا مدافعا عن عقيدة الإسلام كدين وكمنهج لحياة افضل.

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٦ / ٢٥.

(٢) صحيح البخاري ، ٤ / ٣٢٨+ تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ١ / ٤.

٤١١

خامسا : اهتمامه الشديد في تفسير آيات الأحكام

عند ما اتسعت الرقعة الإسلامية ، وطالت الفترة الزمنية بين الناس وبين انقطاع الوحي ، وظهرت وقائع وأحداث في العالم الإسلامي حتمت على علماء الأمة أن يولوا آيات الأحكام الكثير من عنايتهم واهتمامهم ، كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) واحدا من أولئك الأعلام الذي تصدوا لتفسير آيات الأحكام واستنباط ما يمكن استنباطه منها ، من حكم شرعي يعالج موضوعا فقهيا معينا أو فتوى فقهية تضع حلا لمشكلة وقعت أو حادثة نزلت ، فكانت أبواب الفقه الإسلامي جميعا تكاد لا تخلو من رأي أو قول للإمام الباقر (عليه‌السلام) يشارك فيه باستجلاء الحكم المستفاد من تلك الآيات ، وشكلت آراؤه تلك ثروة فقهية أغنت الفقه الإسلامي وشاركت في حل الكثير من معضلات الأنام.

وقد صار بذلك تفسيره متسما بطابع فقهي مميز ، جعل العلماء يعدون الإمام الباقر (عليه‌السلام) من فقهاء التابعين البارزين في المدينة المنورة ، وقد وضحنا ذلك في كلامنا على جهوده في تفسير آيات الأحكام.

المبحث الثالث

مقارنة آرائه مع آراء غيره وانفراداته

كانت آراء الإمام الباقر (عليه‌السلام) في فهم بعض الآيات القرآنية مخالفة لآراء غيره من مفسري الصحابة والتابعين أو موافقة لها ، فلذلك سنضرب بعض الأمثلة التي قصدنا فيها إعطاء صورة واضحة عن مدى التوافق والاختلاف بينه وبين غيره في الكشف عن مراد بعض الآيات لنظهر مدى أصالة تفسيره من جهة والمصدر الذي كان يستقي الإمام منه تلك الآراء والأقوال وهم آباؤه الطاهرون والصحابة الكرام من جهة أخرى ، مما جعل بعض المفسرين أن يرجحوا ويوافقوا تلك الأقوال المأثورة عنه في التفسير ، ولم يكن ترجيحهم ذلك تخمينيا ، وإنما جاء لاعتمادهم على قواعد الترجيح وأصوله.

٤١٢

وسيكون تمثيلنا لبعض آرائه التي خالف أو وافق فيها غيره ، وكذلك لآرائه التي لم يرد فيها قول من مفسري الصحابة أو التابعين على السواء.

أولا : الآراء التي خالف فيها غيره ، وهي كثيرة منها

١ ـ في قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...)(١).

فقد اختلف في المراد بالناس هنا الذين كانوا أمة واحدة ثم اختلفوا بعد ذلك ، وما هو الأمر الذي كانوا عليه؟

ـ قال ابن عباس رضي الله عنه : إن الناس كانوا بين نوح وآدم عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا.

ـ ذهب أبي بن كعب رضي الله عنه إلى : أن المراد بالناس : بنو آدم حين أخرجهم الله نسا من ظهر آدم أي : كانوا على الفطرة.

ـ ذهب الطبري إلى جواز القولين وإمكان الوقتين ، لأنه لا دلالة من القرآن ، ولا من السنة في تعيين أحد الوقتين ، ولكنه صوب أن يكون هذا الذي كانوا عليه هو الدين الحق كما هو رأي أبي (٢).

وفي المجمع عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) إنه قال : كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا معتدين ولا ضلالا فبعث الله النبيين (٣).

معنى ذلك : أنه كانوا على سذاجة الفطرة لا مهتدين بالهداية التشريعية ، ولا ضلالا بضلالة الكفر لعدم إتمام الحجة بالرسل وعدم حدوثها بعد ، فلما بعث الله الرسل وأتم الحجة بهم اختلفوا وتفرقوا.

٢ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٤).

__________________

(١) البقرة / ٢١٣.

(٢) جامع البيان ، الطبري ، ٢ / ٣٣٤+ المحرر الوجيز ، ابن عطية ، ٢ / ١٥١+ تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير الدمشقي ، ١ / ٣٤٤.

(٣) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٠٧.

(٤) البقرة / ١٢٦.

٤١٣

اختلف في قائل هذا القول : هل هو من كلام إبراهيم الخليل (عليه‌السلام) حيث سأل ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام؟ أم هو من كلام الله تعالى عناية ولطفا؟.

ذهب ابن عباس رضي الله عنه : إنه من كلام إبراهيم الخليل (عليه‌السلام) وكان يقرأ (فأمتعه) بفتح الهمزة وسكون الميم ثم (اضطره) بوصل الآلف وفتح الراء.

وذهب الإمام الباقر (عليه‌السلام) إلى أنه من كلام الرب تعالى ذكره (١) ، واختاره الطبري وصوبه غير أنه أخرجه عن أبي بن كعب (٢).

فيكون المعنى على هذا القول : إن الله تبارك وتعالى يترك من كفر وأصر على كفره يتمتع من الدنيا أمدا قليلا ثم يساق إلى عذاب النار وبئس المرجع والمأوى ، وإن متاع الدنيا وإن بلغ ما بلغ فإنه زائل وقليل في مقابل عذاب الآخرة ، وقد وقعت هذه الجملة في القرآن الكريم في موردين كلاهما مقرونان بالتشديد والتهويل أحدهما الآية أعلاه ، والثاني في قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)(٣).

وهذا الاضطرار إنما حصل باختيارهم العقائد الفاسدة والأعمال السيئة.

٣ ـ قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ)(٤).

اختلف في تبديل الأرض على أي صورة يكون؟

ذهب الإمام علي وابن عباس وانس : إنها تبدل أرضا من فضة.

وذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن الأرض في الدنيا تبدل فتصير أرضا بيضاء كالفضة.

__________________

(١) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٧٩+ البرهان في تفسير القرآن ، السيد هاشم البحراني ، ١ / ١٧٦.

(٢) جامع البيان ، الطبري ، ١ / ٥٤٤ ـ ٥٤٥+ الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٢ / ١١٩+ تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، الدمشقي ، ١ / ٢٣٩+ روح المعاني ، الآلوسي ، ١ / ٣٣٢.

(٣) لقمان / ٢٣ ـ ٢٤.

(٤) إبراهيم / ٤٨.

٤١٤

وقال أبي بن كعب : تبدل الأرض بغيرها ، وتصير السموات جنانا والبحر نارا (١).

وعن زرارة بن أعين قال : سألت أبا جعفر الباقر (عليه‌السلام) عن هذه الآية ، فأجاب : تبدل الأرض خبزة نقية يأكل الناس منها حتى يفرغوا من الحساب ، قال الله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ)(٢) ، (٣).

ورجح الطبري : إن الأرض تبدل بغيرها والسموات ، أما شكل ذلك التبديل فلا يعرف لأنه لا خبر في ذلك عندنا ، وإن الأولى ما دل عليه ظاهر التنزيل مطلقا (٤). وهو ما يؤيده أيضا العقل والمنطق السليم.

٤ ـ في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(٥)

اختلف في معنى (الكرسي) على أقوال :

ـ ذهب ابن عباس إلى : أنه علم الله تعالى.

ـ ونقل عن أبي موسى الاشعري أنه من قبيل موضع القدمين.

ـ وذهب الحسن البصري إلى : أنه العرش نفسه (٦).

ـ وعن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قال : أي : أنه وسع السموات والأرض (٧).

قال الطبري : ولكل من هذه الأقوال وجه ، ثم مال إلى قول ابن عباس والإمام الباقر (عليه‌السلام) من أن الكرسي هو العلم فقال : ويؤيده ظاهر القرآن لقوله :

(وَلا يَؤُدُهُ) أي لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به فأصل الكرسي العلم ، واثبت ذلك بالشواهد الشعرية في معنى الكرسي (٨).

__________________

(١) جامع البيان ، الطبري ، ١٣ / ٢٥٤.

(٢) الأنبياء / ٨.

(٣) تفسير القرآن ، علي بن إبراهيم القمي ، ٢ / ٣٢٣+ تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ٢٣٧+ الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٩ / ٣٨٢.

(٤) جامع البيان ، الطبري ، ١٣ / ٢٥٤.

(٥) البقرة / ٢٥٥.

(٦) جامع البيان ، الطبري ، ٣ / ٧.

(٧) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٦٢.

(٨) جامع البيان ، الطبري ، ٣ / ٧ ـ ٨.

٤١٥

وقد أشبعت هذه المسألة بحثا في مكان آخر في هذه الرسالة بيّنت خلاله أقوال جملة من المفسرين وآرائهم في معنى الكرسي وصوبنا قول الإمام الباقر (عليه‌السلام) هناك وقول ابن عباس.

٥ ـ في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(١). اختلف في معنى الآية على أقوال :

ـ عن ابن عباس ومجاهد والثوري : إلا ما أريد به وجهه (٢).

ـ وفي رواية عن مجاهد إنه : علم العلماء إذا أريد به وجه الله (٣).

ـ وعن غير واحد : إلا هو (٤) ، أي : ذاته المقدسة.

ـ عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) : يعني : كل شيء هالك إلا دينه (٥).

ويؤيد ما ذهب إليه الإمام الباقر (عليه‌السلام) قوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٦) وكذلك قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)(٧) وقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)(٨).

وإن الحتميات التاريخية ليس لها سبيل إلا الطريق الاعتقادي ، وإلا فإنّ العلم لا يخبر عن المستقبل إلا عن طريق التنبؤ ، لكن الطريق الاعتقادي كالقرآن الكريم الذي قام الدليل العقلي على أنه من عند الله العليم بمخلوقاته علما أزليا ، سرمديا ، يخبرنا بهلاك كل الأفكار والأديان في آخر الزمان إلا ما أريد به وجهه تعالى ، وقد دلت الآيات الكريمة على أنه لن ينال رضا الله تبارك وتعالى إلا من آمن بالإسلام وعمل بالأركان ولذلك يؤسس قول الإمام الباقر (عليه‌السلام) لبنة في نظرية شمولية للحتميات التاريخية المستفادة من القرآن الكريم.

__________________

(١) القصص / ٨٨.

(٢) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٦ / ٢٥٢+ مدارك التنزيل ، النسفي ، ٣ / ٢٤٩.

(٣) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير الدمشقي ، ٥ / ٣٠٦.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٣ / ٣٢٢.

(٥) تفسير القرآن ، علي بن إبراهيم القمي ، ٢ / ٨٧+ التبيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي ، ٧ / ١٦٥.

(٦) التوبة / ٣٣.

(٧) آل عمران / ١٩.

(٨) آل عمران / ٨٥.

٤١٦

وقد نقلنا في مكان آخر أقوال اكثر المفسرين وتصويباتهم في تفسير هذه الآية ورجحنا هناك قول الإمام الباقر (عليه‌السلام) لما يعضده من آيات قرآنية يفيد ظاهرها المعنى الذي ذهب إليه.

ثانيا : الآراء التي انفرد بها في تفسيره عن غيره

هناك بعض الآيات التي قد فسرها الإمام الباقر (عليه‌السلام) ، ولم نجد لغيره من صحابة وتابعين قولا فيها ، وقد يوافقه بعض المفسرين أو يخالفه ، وهذه بعض الأمثلة :

١ ـ في قوله تعالى : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)(١).

سئل الإمام الباقر (عليه‌السلام) : أكان عيسى بن مريم حجة لله على أهل زمانه؟ فأجاب : كان يومئذ نبيا حجة لله غير مرسل أما تسمع لقوله تعالى حين قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) قيل : فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال : كان عيسى (عليه‌السلام) في تلك الحال آية للناس ورحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها ، وكان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ، ثم صمت ولن يتكلم حتى مضت له سنتان وكان زكريا الحجة لله تعالى بعد صمت عيسى بسنتين ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير أما تسمع قوله (عزوجل) (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(٢) ، فلما بلغ عيسى (عليه‌السلام) سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة حين أوحى الله إليه ، فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين (٣).

لم ينقل عن غير الإمام الباقر (عليه‌السلام) هذا التفصيل في تفسير الآية وفي توضيح هذه المسألة ، عدا ما ذهب إليه سفيان الثوري فقال : معنى الآية يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا إذا بلغت (٤) ، وعن عكرمة قال : معنى الآية

__________________

(١) مريم / ٣٠.

(٢) مريم / ١٢.

(٣) الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) تفسير القرآن الكريم ، سفيان الثوري ، ١٤٣.

٤١٧

قضى فيما قضى أن أكون كذلك (١) ، وقد رجح ابن الجوزي قول سفيان وعكرمة (٢).

غير أن القرطبي اختار قول الإمام الباقر (عليه‌السلام) في أن تكلم عيسى في المهد أنه رحمة لأمه مريم وحجة على الناس فإن كان كذلك فقد خلص إلى تأييده ، وإن كان خلاف هذا اعتبر الثاني هو الصحيح (٣).

٢ ـ في قوله تعالى : (... وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا ...)(٤).

اختلف فيها على أقوال :

ـ عن ابن عباس يقول : ورحمة من عندنا ، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد : لا يقدر عليها غيرنا ، وزاد قتادة : رحم الله بها زكريا.

ـ وقال مجاهد : وتعطفا من ربه عليه.

ـ وقال عكرمة في رواية أخرى : محبة عليه.

ـ وقال ابن زيد : أما الحنان فالمحبة (٥).

ـ ونقل عن الطبري قوله : بسنده عن عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا والله ما أدري ما حنانا (٦).

وعن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قال : معناه تحنن الله عليه كان إذا قال يا رب ، قال الله : لبيك يا يحيى (٧).

وقال ابن كثير : والظاهر من السياق أن قوله (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) معطوف على قوله (آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة وجعلناه ذا حنان وزكاة ، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل (٨).

__________________

(١) الدر المنثور ، السيوطي ، ٤ / ٢٧٠.

(٢) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٥ / ٢٢٨.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١١ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٤) مريم / ١٣.

(٥) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ١٢ / ١١٣.

(٦) ظ : المصدر نفسه والصفحة.

(٧) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٦ / ٥٠٦.

(٨) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير الدمشقي ، ٣ / ١١٣.

٤١٨

ويكون بهذا قد انفرد الإمام الباقر (عليه‌السلام) في تفسير هذه الآية عن غيره من مفسري الصحابة والتابعين.

٣ ـ وانفرد الإمام الباقر (عليه‌السلام) بإضافة صنف رابع لخلق الله تعالى ، حينما فسر قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١) فقال الإمام الباقر (عليه‌السلام) : ومنهم من يمشي على اكثر من ذلك (٢). استفاد الإمام في إضافة ما يمشي على اكثر من أربع من قوله تعالى (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) التي أفادت العموم ولم تختص بخلق معين ، ولم نجد في حدود ما اطلعنا عليه على تفسير بهذه الإضافة لغير الإمام الباقر (عليه‌السلام) من مفسري الصحابة والتابعين.

٤ ـ في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ...)(٣).

الخطاب في الآية للنبي محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتدخل فيه أمته من بعده (٤) ، قال ابن عباس هو أمر بجهاد الكفار بالسيف (٥). أما المنافقين فقد اختلف في معنى جهادهم على أقوال :

ـ فالمأثور عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قال : أنه أمر بجهاد الكفار ، والمنافقين بإلزامهم الفرائض (٦).

ـ نقل عن ابن عباس : بأن المراد بجهاد المنافقين باللسان أي : بإقامة الحجة عليهم والوعظ لهم ، اختاره الجبائي.

ـ ونقل عن الحسن وقتادة : أن جهاد المنافقين هو بإقامة الحدود عليهم (٧).

__________________

(١) النور / ٤٥.

(٢) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٧ / ١٤٨+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ١٧٥.

(٣) التوبة / ٧٣.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٨ / ٢٠٤.

(٥) المصدر نفسه والصفحة.

(٦) كنز العرفان في فقه القرآن ، المقداد السيوري ، ٢ / ٣٠.

(٧) الجامع لأحكام القرآن القرطبي ، ٨ / ٢٠٤.

٤١٩

وبينا فيما سبق أن المفسرين قد صوبوا رأي الإمام الباقر (عليه‌السلام) ، إذ إلزام المنافقين بالفرائض هو المطلوب لأن التعامل معهم عمدته الظاهر ، ورجحناه أيضا لما فيه من بعد نظر وإصابة ، وهو يعد من انفراداته في التفسير ولعل في هذا القدر من الأمثلة كفاية في بيان مقارنة آرائه وبيان قوتها ومدى اعتماد المفسرين عليها وترجيحهم لها ، وإلا فان معظم ما نقل عنه من أقوال وآراء فسر فيها مثلا آيات الأحكام يعد مما انفرد به الإمام الباقر (عليه‌السلام) في التفسير ، أكان موافقا لآراء من جاء بعده أم مخالفا ، وقد عقدت فصلا مستقلا لجهوده في تفسير آيات الأحكام فيما تقدم.

المبحث الرابع

أثره في غيره

عرف الإمام الباقر (عليه‌السلام) بسعة علومه ومعارفه ، وذاع صيته بين التابعين وشاع أمره بين الناس ، فاقبل بعض المعاصرين له عليه ، يروون عنه ويأخذون من علمه ، ويستفتونه فيما يحدث بينهم من قضايا ومسائل تحتاج إلى وضع حل أو إصدار فتوى عجز عنها الكثيرون ، فرحل إليه طلاب العلم من الأمصار الإسلامية واخذوا عنه علما غزيرا ، وكان من جملة ما اخذوا تفسير القرآن الكريم فقد كانوا يسألونه عن بعض الآيات الكريمة التي غمض عليهم معناها أو أشكل عليهم فهمها ، أو يسمعونه يفسر آية أو يشرح كلمة من كتاب الله ، وقد انتشر هؤلاء التلاميذ فيما بعد في الأمصار الإسلامية ، بعد ما تحملوا عنه تفسير كتاب الله الذي علموه للناس ونشروه بينهم حتى عرف بعضهم به وصار من أئمة التفسير.

عاش الإمام الباقر (عليه‌السلام) في المدينة المنورة ، فلم يخرج منها ، وكان يعقد مجالسه العلمية في مسجدها يستفتيه الناس في مسائلهم ، ويسألونه عن تفسير القرآن الكريم.

وكان في المدينة المنورة والكوفة اتجاهان في تفسير كتاب الله :

٤٢٠