الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

القول : بأنها أول قضية كبرى اختلف المسلمون حولها بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) ، فإن الذي يتفق عليه المسلمون أن محبة أهل البيت مما ثبت في الدين بالضرورة ، وأن فضلهم وعلمهم وإخلاصهم للإسلام والمسلمين مما لا يشك فيه أحد وعلى هذا القدر من التفضيل يجتمع المسلمون في العالم الإسلامي سلفهم وخلفهم ، ولعل هذا القدر يكفي في توحيد مشاعرهم إزاء تلك الشريحة الطاهرة المطهرة من الرجس بنص الكتاب تكفي قاعدة للتوحد وتقاوم كل بدعة للاختلاف.

أما ما اختلف المسلمون فيه من موضوع وجوب إمامتهم فإن الاستقراء التاريخي يجرنا إلى يقين لا يتطرق إليه شك أنهم لم يحص عليهم حادث واحد أنهم ظلموا أحدا بل كانوا كلهم عطاء في حين شهدت مراحل التاريخ الإسلامي مظالم كثيرة وواضحة ومع ذلك فإن الذي يميل إليه الباحث القول : إن وجوب إمامتهم من أصول المذهب وليس من أصول الدين وعليه لا يكفر القائل بها ولا يكفر المخالف لها.

أما عصمتهم فإن الباحث وهو يصرف النظر عما سيق إليها من أدلة عقلية ونقلية يرى أن الاختلاف فيها لا يشكل خندقا فاصلا بين المؤمنين بها وبين المتحفظين عليها ، ذلك لأن جمهور المسلمين يرون أن ما صح عنهم صحيح علاوة على أن تتبع سيرتهم الشخصية يكشف عن استقامة مثالية تقترب من مفهوم حفظهم بعناية الله تعالى عن ارتكاب الذنوب ، وأيا كان فإن هذين المبحثين أي إمامتهم وعصمتهم من مباحث الكلام ، وقد أفاض فيه المتكلمون ولا نداخلهم هنا إلا بالقدر الذي تطلبه البحث ضرورة.

المبحث الرابع

المعاد

المعاد في اللغة : مأخوذ من العود والعود ، الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه (٢) ، وفي الاصطلاح : هو الرجوع إلى الوجود بعد الفناء ، أو رجوع أجزاء

__________________

(١) مقالات الإسلاميين ، الأشعري ، ١ / ٣٩.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن ، الراغب الأصفهاني ، ٣٥١.

٣٢١

البدن إلى الاجتماع بعد التفرق وإلى الحياة بعد الموت والأرواح إلى الأبدان المفارقة (١).

والمعاد أمر أجمعت الشرائع السماوية على تأكيد إثباته ، لأن فيه إشعارا للإنسان بالمسئولية الدائمة عن كل تصرفاته وإعلامه بأن كل ما يفعله في حياته الدنيا سوف يلقاه في الآخرة لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٢)(٣). فالمسلمون يعدون الاعتقاد في ثبوته ركنا من أركان الإيمان ويكفر من لا يؤمن به بالاجماع (٤) ، بينما أنكره الدهريون والملاحدة فقط (٥).

واختلف المثبتون للمعاد في كيفيته فمنهم من قال أنه جسماني (٦) ، وذهب بعض الفلاسفة الضالين المضلين المنسلخين من الشخصية الإسلامية إلى إنكار الحشر الجسدي فهو عندهم روحاني فقط (٧) ، ومنهم ـ وهم أكثر علماء المسلمين ـ قد أثبتوا أن المعاد جسماني وروحاني معا واستدلوا بأدلة قاطعة وحجج قارعة دحظت نظرية بعض الفلاسفة الموسومة بالسخف والافتراء وليس هنا محلها (٨).

وقد فصل القرآن الكريم والحديث الشريف في إثبات المعاد جملة وتفصيلا ، وفي الحديث عما يتصل ، وقد ورد في ذلك من الآيات عدد كبير لا سيما وأن القرآن اتخذه وسيلة من وسائل الهداية والارشاد ، ولذلك ورد أن مجموعة من رواة الإمام الباقر سألوه عن معاني بعض هذه الآيات فأجابهم اعتقادا منهم أن موضوع المعاد من الأمور التي تثبت بالنقل طالما ثبت أن هذا النقل متواتر من عند الخبير اللطيف ، لذلك نلاحظ هنا أنّ تلك الروايات التفسيرية المنقولة بواسطتهم عن الإمام الباقر لم تتجاوز العشر روايات حصرا ، ومن تلك الآيات المفسرة فيما يروى من جهة رواة الإمام الباقر بعض النماذج منها :

__________________

(١) جامع العلوم ، الأحمد فكري ، ٢٩٣.

(٢) الزلزلة / ٧ ـ ٨.

(٣) ظ : التفسير الكبير ، الرازي ، ٣٢ / ٦١+ التبيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي ، ١٠ / ٣٩٤.

(٤) أصول الدين الإسلامي ، الخطيب البغدادي ، ٢٣٢+ رسالة أضحوية ، ابن سينا ، ٤٠.

(٥) المصدر نفسه والصفحة+ كشف المراد ، العلامة الحلي ، ٢٥١.

(٦) رسالة أضحوية ، ابن سينا ، ٣٨.

(٧) تهافت الفلاسفة ، النزالي ، ٢٨٢+ التفسير الكبير ، الرازي ، ٢١ / ٤٥+ المواقف ، الايجي ، ٨ / ٢٨٩.

(٨) ظ : الاعتقادات ، الشيخ الصدوق ، ٧٥+ المواقف ، الايجي ، ٨ / ٢٩٧.

٣٢٢

أولا : في تفسير قوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ)(١) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر قال : فذلك يوم القيامة وهو اليوم الموعود (٢).

فسر الإمام الباقر هذه الآية الكريمة إذا استرشد بنص قرآني آخر وهو قوله تعالى : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ)(٣) باليوم الموعود وهو يوم القيامة.

ومال ابن الجوزي إلى قول الإمام فقال : بأن الخلق يحشرون فيه ويشهده البر والفاجر وأهل السماء والأرض (٤) ، وقال النسفي : بأن الناس لا ينفكون منه يجمعون للحساب والثواب والعقاب (٥).

قال القرطبي : والجمع الحشر ، أي يحشرون لذلك اليوم (٦) ، وقال ابن كثير : أي أولهم وآخرهم (٧) ، إذن فقد وافقت أقوال المفسرين قول الإمام الباقر ورأيه في تفسير هذه الآية الكريمة وهي تفيد القول بثبوت المعاد ووجوبه.

ونود أن نذكر هنا بأن الإمام الباقر حاول كغيره من مفسري الصحابة والتابعين إرساء قواعد منهج تفسير القرآن بالقرآن وتأصيل طرقه.

ثانيا : عن صالح بن ميثم قال : سألت أبا جعفر الباقر عن معنى (طَوْعاً وَكَرْهاً) في قوله تعالى : (... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)(٨) قال الإمام : بهذه الآية : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ)(٩)(١٠).

__________________

(١) هود / ١٠٣.

(٢) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ١٥٩+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ١ / ٨١٣.

(٣) البروج / ٢.

(٤) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٤ / ١٥٧.

(٥) مدارك التنزيل ، النسفي ، ١ / ٢٠٤.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٩ / ٩٦.

(٧) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٣ / ٥٧٧.

(٨) آل عمران / ٨٣.

(٩) النحل / ٣٨ ـ ٣٩.

(١٠) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ٢٥٩+ تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٣٩٨.

٣٢٣

قال ابن الجوزي : في معنى الطوع والكره ستة أقوال : أحدها : إن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعا وكرها ، رواه مجاهد عن ابن عباس والأعمش عن مجاهد وبه قال السدي.

والثاني : أن المؤمن يسجد طائعا والكافر يسجد ضلة وهو كاره ، عن ابن عباس وليث عن مجاهد.

والثالث : أن الكل أقروا له بأنه الخالق ، وإن أشرك بعضهم فاقراره بذلك حجة عليه في إشراكه ، هذا قول أبي العالية ورواه منصور عن مجاهد.

والرابع : أن المسلم أسلم طائعا والكافر أسلم مخافة السيف ، قول الحسن.

والخامس : أن المؤمن أسلم طائعا والكافر أسلم حين رأى بأس الله ، قول قتادة.

والسادس : انقاد كلهم له ، عن الشعبي (١).

ولم يرجح ابن الجوزي واحدا من هذه الأقوال ، ويمكننا القول أن الرأي الثالث يطابق ولو من وجه رأي الإمام الباقر أو هو قريب منه ، فإنه ـ أي الإمام الباقر ـ فسّرها بالرجوع إلى آية أخرى وهي قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) وما ذاك إلا قسم المشركين فإنهم أقروا بخالقهم ولكنهم أنكروا البعث والمعاد ولسوف يريهم الله تبارك وتعالى كذب دعواهم يوم يبعثهم والخلائق أجمعين ، وبه تتضح معاني الانقياد لله تعالى بأحسن صورها.

ويؤيد صدق ما ذهبنا إليه ، تفسير قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) في الآية المتقدمة والتي قال عنها ابن الجوزي : فيها قولان ، وذكر الثاني بعد ذكر سبب نزول هذه الآية فقال : أنهم المشركون ، يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين به (٢).

__________________

(١) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ١ / ٤١٧.

(٢) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٤ / ٤٤٧.

٣٢٤

وأيد ذلك القرطبي في قوله : ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات (١) ، وهذا ما مال إليه ابن كثير أيضا (٢).

واستدل بعض المفسرين لتفسير الآية المتقدمة بغير ما استدل به الإمام الباقر من أن المشركين يقسمون بالله ويعظمونه ثم ينكرون البعث ، بل ذهبوا إلى الاستدلال بمسألة الخلق ، فمثلا قال سفيان الثوري عن مجاهد : هي كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(٣)(٤).

ومن هذا يتبين من انفراد الإمام الباقر في تفسيره لهذه الآية حيث أنه فسرها بآيتين من سورة أخرى ، في الوقت نفسه فيها التنكيل بالقائلين بانكار البعث والمعاد فلم يكن انفراده في اختياره لتلك الآيتين للاستدلال فقط ، لأن ذلك كان بمقدور غيره من المفسرين أيضا بل أنه اختارهما ليبين ضعف ما ذهب إليه الدهرية وبطلانه الذين حاولوا التشويش على عقائد المسلمين في عصر الإمام الباقر ، فهو قد شارك في الرد عليهم والوقوف بوجه أفكارهم شأنه شأن علماء الأمة الكرام في عصره والعصور التي تلته.

ثالثا : وفي تسجيل موقف من مواقف يوم القيامة وما يدور به من أحداث ، أكد الإمام الباقر على أن المعاد والبعث يكون روحيا وجسميا معا ، فقد روى عبد الله بن عطاء المكي قال : سألت أبا جعفر الباقر عن قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)(٥) فقال الإمام : ينادي مناد يوم القيامة يسمعه الخلائق أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم فيود سائر الخلق أنهم كانوا مسلمين (٦).

ذكر ابن الجوزي اختلاف المفسرين في متى يقع هذا من الكفار على قولين ، أحدهما : أنه في الآخرة على أربعة أقوال : أحدها : أن الله يخرج أهل القبلة من النار بعد أن يسمع مناقشة الكفار لهم في جهنم فيود الذين كفروا أنهم كانوا

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٠ / ١٠٥.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٤ / ٤٩٥.

(٣) الزخرف / ٨٧.

(٤) تفسير القرآن الكريم ، سفيان الثوري ، ٣٧+ جامع البيان ، الطبري ، ٣ / ٢٢١+ الدر المنثور ، السيوطي ، ٢ / ٤٨.

(٥) الحجر / ٢.

(٦) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ٢٣٩+ تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٣٢٥.

٣٢٥

مسلمين ، وهو قول ابن عباس في رواية وأنس ومجاهد وعطاء وأبي العالية وإبراهيم النخعي ، واستدل لهذا الرأي بحديث مروي عن أبي موسى الأشعري وصوبه ، ثم أورد الأقوال الأخرى.

الثاني : أنه في الدنيا ، عن الضحاك (١).

وأخرج القرطبي في حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أن ناسا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكون ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون : ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم ، فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار ، ثم قرأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ، ونقل عن الحسن قوله : إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة ومأواهم في النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين (٢).

يتبين من هذا أن الإمام الباقر قد استنار بالحديث النبوي الشريف في تفسيره لهذه الآية التي عالجت موقفا أخرويا من قضايا يوم القيامة وأن لم يصرح بذلك وهو ما صوبه جمع من المفسرين (٣).

وبهذا القدر نكتفي في إعطاء صورة واضحة عن جهد الإمام الباقر الملموس في توضيح بعض المسائل المتعلقة بجوانب معينة من أصل المعاد.

المبحث الخامس

الشفاعة

الشفاعة لغة : هي الوسيلة والطلب ، وعرفا : سؤال الخير للغير ، وهي مشتقة من الشفع وهو ضد الوتر ، فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له (٤).

__________________

(١) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٤ / ٣٨٠ ـ ٣٨١.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٠ / ٢.

(٣) ظ : تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٤ / ١٥١ ـ ١٥٣+ مدارك التنزيل ، النسفي ، ٢ / ٢٦٨+ التسهيل لعلوم التنزيل ، ابن جزي ، ٢ / ١٤٣ ـ ١٤٤+ روح المعاني ، الآلوسي ، ١٤ / ٣ ـ ٧+ تفسير المراغي ، ١٤ / ٤ ـ ٥.

(٤) لوامع الأنوار البهية ، الأسفرايني ، ٢ / ٢٠٤.

٣٢٦

والشفاعة من المسائل المهمة المتعلقة بالمعاد والتي من خلالها يعول المذنبون من المكلفين على إسقاط بعض العقوبات الأخروية عنهم بوساطة الأنبياء والرسل ومن تبعهم من الأئمة والأولياء ـ على رأي البعض ـ أو لرفع الدرجات للصالحين منهم كذلك.

وهي قسمان : مثبتة ومنفية : والمثبتة هي التي أثبتها الله لأهل الاخلاص ، ولها شرطان : أحدها : إذن الله للشافع ورضاه لقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(١) ومن يأذن له الرحمن لا بد أن تكون له وجاهة يستنزل بها رحمة الله تعالى وإحسانه ، والثاني : أن يكون المشفوع له من المؤمنين المذنبين.

أما الشفاعة المنفية وهي التي تطلب من غير الله تعالى أو بغير إذنه أو لأهل الشرك فقد نفتها الآيات الكريمة من مثل قوله تعالى : (... فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)(٢).

وقد اتفق علماء الأمة على حصول شفاعة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٣) ، إلا أنهم اختلفوا في جواز استحقاق أهل الكبائر لها قبل التوبة فالأشعرية والإمامية والمرجئة قالت بحصول شفاعة النبي لهم (٤) ، بينما أنكرتها المعتزلة والخوارج (٥).

الشفاعة في القرآن الكريم

دلّت على الشفاعة آيات كثيرة منطوقا ومفهوما ، نفيا وإثباتا في الدنيا والآخرة وهي على أقسام :

الأول : الآيات التي تدل على انحصار الشفاعة في الله واختصاصها به (عزوجل) قال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

__________________

(١) طه / ١٠٩.

(٢) المدثر / ٤٨.

(٣) المواقف الايجي ، ٨ / ٣١٢+ شرح العقيدة الطحاوية ، ١٩١ ـ ١٩٨+ الاقتصاد ، الشيخ الطوسي ، ٢٠٦.

(٤) الابانة ، الأشعري ، ٩٨+ الفصل ، ابن حزم ، ٤ / ٦٣+ التفسير الكبير ، الرازي ، ٢١ / ٢٥٣+ أوائل المقالات ، الشيخ المفيد ، ٥٥٢+ كشف المراد ، العلامة الحلي ، ٢٦٢.

(٥) أصول الدين الإسلامي ، الخطيب البغدادي ، ٢٤٤+ الفصل ، ابن حزم ، ٤ / ٦٣.

٣٢٧

ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١) وقال تعالى : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ)(٢).

الثاني : ما تدل على التعميم وثبوتها لغيره (عزوجل) بإذنه ورضاه ، وهي كثيرة منها :

١ ـ قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(٣).

٢ ـ قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى)(٤).

٣ ـ قوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)(٥).

٤ ـ قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(٦).

٥ ـ قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)(٧).

الثالث : ما تدل على ثبوت الشفاعة في الدنيا ، قال تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً)(٨) فإن سياقها يدل على أنها في الدنيا.

الرابع : ما تدل على نفس الشفاعة أما مطلقا أو في يوم القيامة أو عن طائفة خاصة ، ومنها :

١ ـ قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ)(٩).

٢ ـ قوله تعالى : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(١٠).

__________________

(١) الزمر / ٤٤.

(٢) الأنعام / ٧٠.

(٣) البقرة / ٢٥٥.

(٤) الأنبياء / ٢٨.

(٥) مريم / ٨٧.

(٦) طه / ١٠٩.

(٧) النجم / ٢٦.

(٨) النساء / ٨٥.

(٩) طه / ١٠٩.

(١٠) البقرة / ٢٥٤.

٣٢٨

٣ ـ قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١).

٤ ـ قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(٢) ، والمراد من الظالمين الكافرين بقرينة قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وهذه الآيات المتقدمة تفيد بمجموعها أن الشفاعة ثابتة لله تعالى أصالة وتكون لغيره تعالى بإذنه ورضاه ، وهي لا تكون في يوم القيامة إلا لمن ارتضاه الله تعالى وأذن له بالشفاعة ، فتحمل الآيات النافية لها أما على الشفاعة التي يقترحها العباد على الله تعالى أو على وقت دون وقت.

الشفاعة في السنة الشريفة

وردت أخبار وأحاديث متواترة بين المسلمين في الشفاعة وأنها المقام المحمود الذي وعد الله به نبينا الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يوم القيامة منها :

١ ـ في صحيح مسلم عن أنس عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت وأن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد (٣).

٢ ـ أخرج الدارمي في سننه عن صالح بن عطاء عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : أنا قائد المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر (٤).

٣ ـ أخرج البخاري عن أنس عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : إن لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي (٥).

__________________

(١) الزخرف / ٨٦.

(٢) غافر / ١٨.

(٣) صحيح مسلم ، ١ / ١٣٠+ ظ : مسند الإمام أحمد ، شرح أحمد محمد شاكر ، ١ / ١٤ ـ ١٥.

(٤) سنن الدارمي ، ١ / ٢٧+ سنن ابن ماجة ، كتاب الزهد ، ٢ / ١٤٤٠.

(٥) صحيح البخاري ، ٨ / ٦٧+ صحيح مسلم ، ١ / ١٣١+ سنن الدارمي ، ٢ / ٣٢٨+ سنن ابن ماجة ، ٢ / ١٤٤٠.

٣٢٩

٤ ـ وروى الدارمي عن أبي بن كعب أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر (١).

٥ ـ أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، ونصرت بالرعب ، وأحل لي المغنم ، وأعطيت جوامع الكلم ، وأعطيت الشفاعة (٢).

وإلى غير ذلك من الروايات المتواترة بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأما في ثبوت الشفاعة لغيره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فقد دلت عليها آيات كثيرة كما تقدم ، وكذلك أحاديث نبوية شريفة في امكان شفاعة باقي الأنبياء والرسل والعلماء والشهداء والمؤمنين وإليك بعض تلك الأحاديث :

١ ـ أخرج الترمذي وأحمد عن رسول الله أنه قال : وأن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس ... وإن الرجل ليشفع للقبيلة ... وإن الرجل ليشفع للعصبة ... وإن الرجل ليشفع للثلاثة حتى يدخل الجنة (٣).

٢ ـ أخرج أبو داود عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنه قال : يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته (٤).

٣ ـ عن عثمان بن عفان قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يشفع يوم القيامة ثلاثة :

الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء (٥). ولعل الترتيب هنا محمول على ترتب مقامهم عند الله (عزوجل).

والجدير بالذكر أن آل البيت الذين عرفوا بإخلاصهم وولائهم واستشهاد بعضهم في سبيل الله وعلمهم وانقطاعهم إليه تبارك وتعالى فإن لهم مقام الشفاعة في الآخرة والنصوص في ذلك متواترة عند المسلمين وقد وردت أربع

__________________

(١) سنن الدارمي ، ١ / ٢٦ ـ ٢٧+ سنن ابن ماجة ، ٢ / ١٤٤٣.

(٢) صحيح البخاري ، ١ / ٩١ ـ ٩٢ مطابع الشعب ، صحيح مسلم بشرح النووي ، ٥ / ٣.

(٣) سنن الترمذي ، ٩ / ٢٦٩+ مسند أحمد ، ٣ / ٢١٣.

(٤) سنن أبي داود ، كتاب الجهاد ، ٣٩٥.

(٥) سنن ابن ماجة ، كتاب الزهد ، ٢ / ١٤٤٣ رقم الحديث ٤٣١٣.

٣٣٠

روايات تفسيرية فقط عن الإمام الباقر في صدد مبحث الشفاعة تناول بعضها إثباتها لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولغيره من الشفعاء ومن شروط تحققها ، وإليك تلك الروايات :

أولا : في تفسير قوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)(١) ، عن أبي عباس المكي عن أبي جعفر الباقر قال : أنه ما من أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يوم القيامة ، وللرسول الشفاعة لأمته ولنا الشفاعة (٢).

قال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية : لا تنفع شفاعة ملك ولا نبي حتى يؤذن لهم في الشفاعة (٣) ، وقال القرطبي أي شفاعة الملائكة وغيرهم (٤).

وقال النسفي : أي : إذن الله له يعني : إلا من وقع الأذن للشفيع لأجله (٥) ، ومال ابن كثير إلى القول : أنه لا يجترئ أحد أن يشفع عنه تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة واستدل بما ذكرنا من آيات وبما ثبت من حديث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٦) ، وذهب إلى هذا القول أيضا الآلوسي في تفسيره (٧).

يتبين من خلال هذا العرض لأقوال العلماء في تفسير هذه الآية ـ بما فيهم قول الإمام الباقر ـ أنهم قد انقسموا إلى قسمين كان أكثرهم مع قول الإمام أن هذه الآية بصدد تبيين الشافع ، وأنه لا يستطيع أحد من الأنبياء أو غيرهم أن يكون شافعا إلا بإذنه هذا من جهة وأن الإمام الباقر أثبت في تفسيره لهذا النص القرآني شفاعة النبي وشفاعة آل البيت من جهة أخرى ، وقد انفرد الإمام هنا بإثباتها لآل البيت.

__________________

(١) سبأ / ٢٣.

(٢) تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٢٠٢+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ٣٨٠+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ٩ / ٢٠.

(٣) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٦ / ٤٥١.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٤ / ٢٩٦٥.

(٥) مدارك التنزيل ، النسفي ، ٣ / ٣٢٤.

(٦) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٥ / ٥٤٩.

(٧) روح المعاني ، الآلوسي ، ٢٢ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٣٣١

ثانيا : في تفسير قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(١) ، روى القمي والعياشي بأسانيد صحيحة عن الإمام الباقر أنه قال : المقام المحمود هو الشفاعة (٢).

أورد ابن الجوزي قولين في تفسير هذه الآية. أحدهما : الشفاعة للناس يوم القيامة. قاله ابن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وجابر بن عبد الله ، والحسن. الثاني : يجلسه على العرش يوم القيامة ، رواه الضحاك عن ابن عباس وليث عن مجاهد (٣).

وأيد القرطبي القول الأول واستدل عليه بما أخرجه البخاري عن ابن عمر ومسلم عن أنس والترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من أن المقام المحمود هو الشفاعة (٤).

ونقل ابن كثير قول الطبري وأيده بقوله : قال أكثر أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقومه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يوم القيامة للشفاعة للناس (٥) ، وأخرج جملة من الأحاديث المروية بطرق مختلفة عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٦) ، تقدم ذكر أكثرها في أول هذا المبحث.

وبهذا يكون الإمام الباقر في تفسيره للمقام المحمود بأنه الشفاعة واحدا من جملة جمهور الصحابة والتابعين الذين فسروا الآية بهذا المعنى ، ويكون أيضا أنه إذا وجد حديثا مرويا عن جده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في تفسير آية أو معنى قرآني لا يتعدى إلى غيره تأكيدا منه على الرجوع إليهما في تفسير القرآن الكريم.

ثالثا : ونقل الطبرسي في تفسير قوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ)(٧) قول

__________________

(١) الإسراء / ٧٩.

(٢) تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٤٤٤+ تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ٣١٤.

(٣) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٥ / ٧٦.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٠ / ٣٠٩.

(٥) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٤ / ٢٣٥.

(٦) المصدر نفسه ، ٤ / ٢٣٥ ـ ٢٣٩.

(٧) الشعراء / ١٠٠.

٣٣٢

الإمام الباقر : أن المؤمن ليشفع لجاره فيقول : يا رب جاري كان يكف عني الأذى فيشفع فيه (١).

رابعا : وفي تفسير قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(٢) نقل ابن كثير عن الإمام الباقر قوله : يعني الشفاعة (٣).

قال ابن الجوزي في تفسيره لهذه الآية عن علي والحسن : هو الشفاعة في أمته حتى يرضى ، وساق سبب نزولها عن ابن عباس فقال : عرض على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما يفتح على أمته كفرا كفرا ، فسر بذلك ، فأنزل الله (عزوجل) (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(٤)(٥).

وقد خلص القرطبي إلى القول بأنها الشفاعة بعد أن أورد بقية الأقوال ونسب هذا التفسير للإمام علي ، واحتج بما ورد من أحاديث في الشفاعة (٦).

يتبين من خلال ما تقدم من أقوال في تفسير هذه الآية أن الإمام الباقر قد أخذ تفسيرها عن آبائه عن جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وقد نقل هذا التفسير وأيده جملة من المفسرين كما تقدم.

وبعد أن انتهيت من الكشف عن جهود الإمام الباقر في تفسير آيات العقائد ، تجدر الإشارة هنا ـ وهذه ظاهرة مستقاة من المصادر ـ أن جمهور العلماء يرون فيما نسب للإمام الباقر لا سيما ما يختلفون فيه أنه مكذوب عليه بل ويلجأ أصحاب مصنفات علم الرجال إلى تضعيف معظم رواة الإمام بينما يعتقد بعض الإمامية أن كل ما ورد عنه بقضه وقضيضه صحيح ، وأخال أن كلا الموقفين بحاجة إلى مراجعة ونقد لا يزج الانتماء فيه.

__________________

(١) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٧ / ١٩٥+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ٨ / ٥٩.

(٢) الضحى / ٥.

(٣) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٧ / ٣١٥.

(٤) الضحى / ٤ ـ ٥.

(٥) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٩ / ١٥٨ ، وفي سبب نزولها انظر : المستدرك ، الحاكم ، ٢ / ٥٢٦+ مجمع الزوائد ، الهيثمي ، ٧ / ١٣٩+ جامع البيان ، الطبري ، ٣٠ / ٢٣٢+ أسباب النزول ، الواحدي ، ٣٣٨+ الدر المنثور ، السيوطي ، ٦ / ٣٦١.

(٦) الجامع للأحكام ، القرطبي ، ٢٠ / ٩٥ ـ ٩٦.

٣٣٣

إن علاج هذين الموقفين في الرؤى المعاصرة يكمن في نظرة موضوعية علمية تنزع إلى التوفيق وتبتعد عن التفريق وتشد على المتفق عليه وتسوغ المختلف فيه لأن للإسلام عظمة لا يتناسب معها أن يفهم فهما واحدا ، إذن فلتتسع الصدور إلى الاتجاهات المتعددة ضمن نطاق المشروعية العامة وليكن أن الدراسة الموضوعية ستكشف الكثير من نقاط التوافق وستجلي الدوافع عما أدخل بوصفه نقاط افتراق.

إن هذا الموقف يجعل الباحث متحفظا على ما ذهب إليه بعض المعاصرين في قوله : إن طابع التشيع غلب على رواية الحديث عن الإمام الباقر ، لأن عصره عصر اكتمال التشيع من جهة اكتمال عقائده (١).

وهذا غير صحيح ، لما وجدنا في أكثر الروايات المنقولة عن الإمام الباقر في هذا الفصل أنها لم تخرج عن الاطار العام للمفهوم الشمولي للإسلام وعقائده ، سوى بعض الروايات في مبحث الإمامة والتي أشرنا في نهايته إلى مبرراته في ما رواه الإمام بشأنها ، وما عدا ذلك فهو يتوافق في تفسيره للآيات محل البحث مع باقي المفسرين من صحابة وتابعين وعلماء.

* * *

__________________

(١) نظرية الإمامة عند الاثني عشرية ، د. محمود صبحي ، ٩٢.

٣٣٤

الفصل الثّالث

جهوده وأثرها في تفسير

آيات الأحكام

ويتضمن :

* المبحث الأول : العبادات

* المبحث الثاني : المعاملات

* المبحث الثالث : الحدود والجنايات والقضاء

٣٣٥
٣٣٦

تمهيد

أن جوهر حركة الفكر الإسلامي يكمن في علمي الفقه وأصوله ، ذلك لأنّ الإسلام نظام متكامل مبني على أصول مستنبطة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن أعمال الصحابة رضوان الله عليهم وفهمهم للكتاب والسنة ومن فهم المسلمين التابعين وتابعيهم ممن كانوا أهلا لفهم نصوص الكتاب والسنة وأعمال الصحابة ، ولقد بنيت على تلك الأصول القوانين العلمية التي تعرف بعلم الفقه ، وهو علم أنجز فيه المسلمون ثروة علمية لم يعرفها المتشرعون في قديم ولا في حديث (١).

وقد امتازت آيات الأحكام بأنها تشكل الأصول التشريعية الرئيسة التي قام عليها الفقه الإسلامي برمته ، وقد افرد لها العلماء مجموعة من المدونات عرفت فيما بعد بتفاسير آيات الأحكام ، وتعد الأحكام العملية ما تنظم أحكام علاقة الإنسان بربه من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها وقد أحصى البعض آياتها فكانت (١٤٠) آية (٢) ، أما أحكام المعاملات فقد كان ما يخص الأحوال الشخصية بما يقرب من (٧٠) آية وذات العدد بالنسبة للأحكام المدينة ، وأحصيت آيات أحكام الجنايات فكانت نحو (٣٠) آية ، أما المرافعات والقضاء وملحقاته فقد كانت (١٣) آية ، وفي الأحكام الدستورية (١٠) آيات ، وفي الأحكام الدولية (٢٥) آية ، أما الأحكام المالية والاقتصادية فقد بلغت عشر آيات (٣).

وبالتتبع وجد الباحث أن حشدا كبيرا من الروايات المنقولة عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) أفادت بمجموعها رأيا تفسيريا في آيات الأحكام ، محددة الأحكام المستفادة منها والتي جعلها فقهاء الإمامية أدلة مستفادة لمداركهم الشرعية في استنباط الأحكام ، وإطلاق الفتوى ، وقد شكلت تلك الروايات التفسيرية

__________________

(١) عبد الله بن مسعود ، د. عبده الراجحي ، ٨٦.

(٢) أصول الدين الإسلامي ، د. قحطان الدوري ، ٣٥٧.

(٣) ظ : علم أصول الفقه ، عبد الوهاب خلاف ، ٣٣ ـ ٣٥+ الإسلام عقيدة وشريعة ، الشيخ محمود شلتوت ، ٥٠٠ ـ ١٠٢.

٣٣٧

مجموعة ضخمة من الفتاوى والتي عرفت فيما بعد بفقه آل البيت ، وتجاوز عددها ـ خلال البحث والاستقراء ـ اكثر من نصف مجموعة الروايات التفسيرية المنقولة عن الإمام الباقر جملة فقد بلغت مع المكرر ما يقرب من (٦٨٠) رواية ، وكانت تلك الروايات المتعلقة بتفسير آيات الأحكام والمأثورة عن الإمام الباقر تتوزع على جميع أبواب الفقه الإسلامي من عبادات ومعاملات ، فلا يكاد يخلو باب من أبوابه الموزعة عليها الآيات من رأي تفسيري له ، فلو درست جميعا ـ بشكل منفرد ـ مقارنة مع آراء غيره من تابعين وعلماء لشكلت بحثا أكاديميا رصينا مستقلا.

فلذلك سنتعرف هنا على بعض تلك الروايات المجتزئة من ذلك الكم الهائل من الروايات مقارنين تلك الأقوال بآراء غيره من العلماء ومرجحين في بعض الأحيان بقدر ما يتطلبه هذا البحث ضرورة.

المبحث الأول

العبادات

* المطلب الأول : الطهارة :

هي لغة : النزاهة ، وعرفت : بأنها ما يستباح بها الدخول في الصلاة ، وهي تطلق على إزالة الخبث والحدث ، وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) مجموعة من الروايات منها :

أولا : في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(١). في معنى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) عدة أقوال ذكرها القرطبي بإسهاب ، إلا أنه ركز على قولين رئيسين الأول : لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة ، قال به

__________________

(١) الواقعة / ٧٧ ـ ٧٩.

٣٣٨

سعيد بن جبير ، الثاني : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من الأحداث والنجاسات ، قال به قتادة وغيره (١).

وذكر الطبرسي : إنه لا يمسه إلا المطهرون من الاخباث والجنايات ، وهو المروي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) (٢).

وهو مذهب الشافعي ومالك ، وزاد الشافعي حتى الحاشية (٣).

وعن أبي حنيفة روايتان ، الأولى : إنه يمسه المحدث ، والثانية : إنه يمس ظاهره وما لا مكتوب فيه ، وأما الكتاب فلا يمسه (٤). وحكي عن داود الظاهري وغيره الجواز (٥).

أذن لإخلاف بين العلماء في المنع من مس المصحف على غير وضوء إلا ما شذّ من رأي الظاهري ، وعليه فإن الجملة في مبناها خبري وفي مرادها إنشائي وهو النهي عن مسه ، وليس المقصود نفي المس وإلا لزم الكذب ، لأن المصحف يمسه من ليس بمطهر.

ثانيا : في قوله تعالى : (... وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ...)(٦).

لإخلاف بين الفقهاء من حيث الجملة في وجوب مسح الرأس ، وإنما اختلفوا في المقدار الواجب مسحه من الرأس على مذهبين :

المذهب الأول : أن الواجب ما يطلق عليه اسم المسح قل الممسوح أو كثر ، وهو قول الشافعي والإمامية والظاهرية (٧).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٧ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٢) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٩ / ٢٢٦+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١ / ٢٧٠+ كنز العرفان في فقه القرآن ، المقداد السيوري ، ١ / ٣٥.

(٣) رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ، الدمشقي ، ١٣.

(٤) أحكام القرآن ، الجصاص ، ٣ / ٥١١+ أحكام القرآن ، ابن العربي ، ٢ / ٢٣٢+ الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٧ / ٢٢٦.

(٥) رحمة الأمة ، الدمشقي / ١٣.

(٦) المائدة / ٦.

(٧) المجموع شرح المهذب ، النووي ، ١ / ٤٤٠+ مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ، السيد العاملي ، ١ / ٢٤٧+ المحلى ، ابن حزم الظاهري ، ١ / ٤٠+ ظ : مسائل في الفقه المقارن ، أستاذنا الدكتور هاشم جميل ، ق ١ / ٨٤.

٣٣٩

المذهب الثاني : الواجب مسح مقدار الناصية والناصية تقدر بربع الرأس وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي ، وهي رواية عن أحمد وبه قال مالك وإليه ذهب أكثر الزيدية (١). وقد استدل كل مذهب إلى ما ذهب إليه بأدلة أكثرها فيه نظر ، غير إننا نلتزم هنا بالمنهج الذي اتبعناه من ذكر الرواية التفسيرية المنقولة عن الإمام الباقر للآية القرآنية فقط دون التعرض إلى أدلة غيره لان ذلك يخرج البحث عما قدر له ، وأيا كان الأمر فاختلاف الفقهاء جاء من اختلافهم من دلالة الباء والتي أوصلها ابن العربي إلى أحد عشر قولا (٢).

نقل عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) أنه قال : يجزي اقل ما يقع عليه اسم المسح (٣) ، وبه قال الشافعي (٤).

وروى زرارة بن أعين أنه سأل الإمام الباقر (عليه‌السلام) عن وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأجراه له متمثلا في كل مرحلة ببعض آية الوضوء (٥) ، وقد سئل عن الكعبين فقال : هما المفصل دون العظم (٦).

وروى زرارة أيضا أنه قال للإمام الباقر : إلا تخبرني من أين علمت وقلت أن المسح ببعض الرأس؟ فضحك الإمام ثم قال : يا زرارة قاله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ونزل به الكتاب ، لأن الله يقول (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا أن الوجه ينبغي كله أن يغسل ثم قال (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فعرفنا أن اليد لا تغسل كلها ، ثم فصل بين الكلامين وقال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء (٧).

__________________

(١) فتح القدير ، ابن الهمام ، ١ / ١٠+ المغني ، ابن قدامة ، ١ / ١١١+ مواهب الجليل في شرح مختصر خليل ، الحطاب ، ١ / ٢٠٢.

(٢) ظ : أحكام القرآن ، ابن العربي ، ١ / ٢٣٥.

(٣) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢+ كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ١ / ١٩.

(٤) رحمة الأمة ، الدمشقي ، ١٥.

(٥) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥+ التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١ / ١٦+ الاستبصار ، الشيخ الطوسي ، ١ / ٣٠+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ١ / ١٨ ـ ١٩.

(٦) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١ / ٢٩٠ ـ ٢٩١.

(٧) من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ١ / ٣٠+ علل الشرائع ، الصدوق ، ١٠٣+ فروع الكافي ، الكليني ، ١ / ١٠+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١ / ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٣٤٠