الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

على ملك الروم فبعث إليه يهدده بأن ينقش على دنانيره شتم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فعظم هذا الأمر على عبد الملك فجمع إليه كبار المسلمين واستشارهم ، فأشار عليه روح بن زنباع (١) فقال : عليك بالباقر (عليه‌السلام) من أهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فقال : صدقت ، ولكنه ارتج الرأي فيه ، وكتب إلى عامله بالمدينة أن أشخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكرما ، ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف لنفقته وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه وحبس عبد الملك رسول ملك الروم إلى موافاة محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) ، فلما وافاه أخبره الخبر ، فقال له محمد الباقر (عليه‌السلام) : لا يعظم عليك ، فإنه ليس بشيء من جهتين : إحداهما : أن الله (عزوجل) لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والثاني : وجود الحيلة فيه. فقال عبد الملك : وما هي؟ قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) : ادع هذه الساعة صناعا فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير ، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، أحدهما : في وجه الدرهم أو الدينار والآخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه ، والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير. وأخذ الإمام الباقر (عليه‌السلام) يحدد له أوزانها كل على حدة ، ففعل ذلك عبد الملك من فوره وبعث نقوده إلى جميع البلدان الإسلامية ، وتقدم إلى الناس في التعامل بها ـ بإشارة من الإمام الباقر (عليه‌السلام) أيضا ـ وهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وأن تبطل تلك وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكة الإسلامية ، وكان ذلك كله سنة (٧٦ ه‍) (٢).

__________________

(١) هو روح بن زنباع بن سلامة الجذامي ، أبو زرعة ، كان أحد ولاة فلسطين أيام يزيد بن معاوية ، كان سيد اليمانية في الشام وقائدها وخطيبها ، قيل له صحبة وكان عبد الملك بن مروان يقول فيه : جمع روح طاعة أهل الشام ، ودهاء أهل العراق ، وفقه أهل الحجاز. انظر مصادر ترجمته : الإصابة العسقلاني ، ٢ / ٢١٦+ البيان والتبيين ، الجاحظ ، ١ / ٣٤٦+ تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ٥ / ٣٣٧+ البداية والنهاية ، ابن كثير الدمشقي ، ٩ / ٥٤.

(٢) المحاسن والمساوئ ، إبراهيم بن محمد البيهقي ، ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٦+ حياة الحيوان الدميري ، ٢ / ٥٥+ شذور العقود ، المقريزي ، ٧.

١٠١

الرواية الثانية :

ذكر ابن كثير الدمشقي : أن عبد الملك بن مروان استقدم مرة الإمام زين العابدين علي بن الحسين واستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة وطراز القراطيس (١).

الرواية الثالثة :

ذكر ابن الأثير أن الذي استشاره عبد الملك بن مروان هو خالد بن يزيد بن معاوية فأشار عليه بتحريم دنانير الروم وضرب سكة للناس فيها ذكر الله تعالى (٢)

القول الراجح : لعل من الواضح جدا أن القول الراجح هو الرواية الأولى والتي قام فيها الإمام أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) باسمى خدمة للعالم الإسلامي بتحريره للنقد العربي الإسلامي من التبعية إلى الإمبراطورية فقد جعله الإمام مستقلا بنفسه يحمل الشعار الإسلامي وقطع الصلة بينه وبين الروم ، وما رجحنا ذلك إلا للأسباب الآتية :

١ ـ إن الرواية الثانية لم تذكر تفاصيل دقيقة عن هذه القضية الخطيرة وجاءت بدون سند يذكر ، علاوة على أنها سكتت عن جواب الإمام زين العابدين ولم تذكر شيئا سلبا أو إيجابا.

٢ ـ تتبعت المصادر التاريخية والرجالية عن حياة الإمام زين العابدين ، فلم أظفر بما ورد في الرواية الثانية بشيء عن هذه القضية ولو تلميحا ، وليس من المعقول أن تغفل كل تلك المصادر ما ذكره ابن كثير الدمشقي وانفرد فيه.

٣ ـ لعل ابن كثير الدمشقي قد نقل هذه الرواية ـ أقصد الثانية ـ عن مصدر آخر لم يصل إلينا.

٤ ـ أما الرواية الثالثة ، فقد تفرد ابن الأثير بذكرها ، وتقدم أيضا عند ترجمة خالد بن يزيد ما يضعف هذا القول خصوصا إذا ما علمنا أن تلك المصادر لم تشر إلى ما أشار إليه ابن الأثير.

__________________

(١) البداية والنهاية : ابن كثير الدمشقي ، ٩ / ١٠٤.

(٢) الكامل في التاريخ ، ابن الأثير ، ٤ / ٥٣.

١٠٢

٥ ـ ويقوّي ما رجحناه ما تقدم من أن جملة من العلماء قد قالوا به ، القدامى منهم والمحدثين (١).

غير أن هناك تساؤلا قد يثار هو : أن الرواية التي رجّحناها والتي بينت بأن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قد شارك في تحرير النقد العربي تنص على أن تاريخ ذلك التحرير يعود لسنة (٧٦ ه‍) والباقر (عليه‌السلام) يوم ذاك كان في العشرين من عمره على ما أثبتناه في ولادته ، وأن والده الإمام زين العابدين لا يزال حيا وعاش إلى سنة (٩٥ ه‍) وذلك بعد وفاة عبد الملك بن مروان بتسع سنين ، فعلى هذا المبنى يكون من غير الجائز أن يرسل عبد الملك في طلب الإمام الباقر (عليه‌السلام) ويترك أباه الذي كان معروفا في الأوساط العلمية آنذاك.

نقول : ما المانع من ذلك إذ ليس ببعيد أن يكون الإمام الباقر (عليه‌السلام) معروفا في الأوساط العلمية كأبيه أيضا ، ولعلم عبد الملك بتعذر سفر والده زين العابدين من جهة أخرى ، ولأن المؤهلات العلمية لا تقاس عادة بالسنين خاصة بالنسبة لتلك الشريحة الطاهرة من آل بيت الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما يبدو ذلك من خلال تتبع تاريخهم ومآثرهم الخالدة.

وعلى أية حال ، فالإمام الباقر (عليه‌السلام) كان من أعلم أهل زمانه وسيد الهاشميين وأفضلهم في عصره ، ولم يكن ليحيا حياة العزلة أو ينضم في زاوية الخمول بل كانت له شهرة ، ولمدرسته العلمية أثر في توجيه الفكر تخرج منها جملة من أعلام هذه الأمة ، فكانوا بحق مفخرة الزمن ... فتلك ومضة سريعة ، أردنا من خلالها أن نلمح ولو بشكل خاطف عن بعض ما جادت به قريحة هذا الإمام الجليل من علوم ومعارف ، لأن الوقوف على الكل يتطلب توسعا أيما توسع ، لم يبخل بها على تلامذته ورواته بل على المسلمين جميعا. فكان بحق خير عالم ، وخير داعية ، لم يأل جهدا كلما سنحت له الفرصة وأمكن له الظرف في سبيل نشر تعاليم الإسلام وبسط علومه ، فسلام عليه يوم ولد ، ويوم مات ، ويوم يبعث حيا.

__________________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ، جرجي زيدان ، ١ / ١١١ ـ ١١٢+ أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ٢ / ٤ / ١٣ ـ ١٤+ سيرة الأئمة ، هاشم معروف الحسني ، ٢٢١ ـ ٢٢٣+ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر ، ٢ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩+ حياة الإمام الباقر ، باقر شريف القرشي ، ٢ / ٣٦ ـ ٣٩ وانظر مصادره.

١٠٣

المبحث الثالث

مناظراته وأجوبته

لم يكن دور الإمام الباقر (عليه‌السلام) مقتصرا على الفقه وأصوله ، والحديث وقواعده ، وتفسير القرآن وعلومه ، بل كان يناظر أصول الدين الإسلامي ويحاول تركيزها في النفوس حتى لا تتعرض لما أثير في ذلك العصر من الجدل والنزاع في أصول العقائد ، فقد كان عصره من أدق العصور الإسلامية وأكثرها حساسية ، فقد نشأت فيه الكثير من الفرق الإسلامية التي كانت من أخطر الظواهر الفكرية والاجتماعية في ذلك العصر.

فكانت وفود العلماء تقصده إلى المدينة المنورة وهي ما زالت المركز الإسلامي الأول ، يأخذون عنه الأحكام ، وكان علما يشار إليه بالبنان في إرشاد الناس وتحذيرهم من الزيغ والضلال ويرجعون إليه في معضلات المسائل ، فيحل لهم عقالها ويوضح لهم ما أشكل عليهم فهمه من أحكام الدين ، وقد تنوعت أجوبة الإمام الباقر (عليه‌السلام) ومناظراته بتنوع الوافدين عليه ، فقد وفد عليه قادة بعض الفرق الإسلامية مثل الخوارج والمعتزلة وكذلك بعض الفقهاء والمفسرين والعلماء أمثال قتادة بن دعامة وطاوس اليماني وبعض الزهاد ، فكل واحد من هؤلاء قد أخذ من الإمام الباقر (عليه‌السلام) مبتغاه ، إن كان سائلا على سبيل الاستفسار والاستفهام ، أو على سبيل الاختبار والإفحام ، وإليك بعض تلك الأجوبة والمناظرات :

أولا : مناظراته وأجوبته مع بعض المفسرين والفقهاء والعلماء

المناظرة الأولى : مع طاوس اليماني (ت ١٠٦ ه‍) (١)

جاء في رواية أبي بصير : أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) جلس يوما في الحرم ، معه جماعة من أصحابه فأقبل طاوس اليماني في جماعة من الناس ، وقال لأبي جعفر : أتأذن لي

__________________

(١) هو أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان الخولاني ، الهمداني ، اليماني ـ أحد أئمة العلماء ـ ومن رواة الستة ، وثّقه ابن معين وأبو زرعة والعجلي ، وذكره ابن حبان في الثقاة .. وقال : كان من عباد أهل اليمن وفقهائهم ومن سادات التابعين ، مات بمكة سنة (١٠٦ ه‍) انظر مصادر ترجمته : الطبقات الكبرى لابن سعد ، ٥ / ٣٦١+ الجمع للقيسراني ٢٣٥+ الأنساب للسمعاني ، ١٣٧+ طبقات المدلسين للعسقلاني ٥ (١) ص ٧٧.

١٠٤

في السؤال؟ فقال الإمام : قد أذنت لك ، فسل عما تريد. قال طاوس : أخبرني متى هلك ثلث الناس؟ قال الإمام : لعلك وهمت يا شيخ وأردت أن تقول ربع الناس ، فقال طاوس : نعم لقد أردت ذلك يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال الإمام : لقد هلك ربع الناس يوم قتل قابيل هابيل ، ذلك أنه لم يكن على وجه الأرض غير آدم وحواء وقابيل وهابيل ، فهلك ربعهم بموت هابيل. فقال طاوس : فأيهما كان أبا للناس القاتل أو المقتول؟ فقال الإمام : لا هذا ولا ذاك ، بل شيت بن آدم. فقال طاوس : فلم سمي آدم آدم؟ قال الإمام : لأن طينته رفعت من أديم الأرض السفلي. فقال طاوس لم سميت زوجته حواء؟ فقال الإمام : لأنها خلقت من ضلع حي. قال طاوس : فلم سمي إبليس بهذا الاسم؟ قال الإمام : لأنه أبلس من رحمة الله (عزوجل) فلا يرجوها. قال طاوس : فلم سمي الجن جنا؟ قال الإمام : لأنهم استجنوا فلم يروا. قال طاوس : فأخبرني عن أول كذبة كذبت من صاحبها؟ قال الإمام : كذبة إبليس حين (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١).

قال طاوس : فأخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحق وكانوا كاذبين؟ قال الإمام : المنافقون حين قالوا لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نشهد إنك لرسول الله ، فأنزل الله (عزوجل) (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(٢). قال طاوس : فأخبرني عن طائر طار مرة ولم يطر قبلها ولا بعدها ، ذكره الله (عزوجل) في القرآن ما هو؟ قال الإمام : طور سيناء ، أطاره الله (عزوجل) على بني إسرائيل حين أظلهم بجناح منه ، فيه ألوان العذاب ، حتى قبلوا التوراة وذلك قوله (عزوجل) (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ...)(٣). قال طاوس : فأخبرني عن رسول بعثه الله تعالى ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ، ذكره الله تعالى في كتابه؟ قال الإمام : هو الغراب ، حين بعثه الله (عزوجل) ليري

__________________

(١) ص / ٧٦.

(٢) المنافقون / ١.

(٣) الأعراف / ١٧١.

١٠٥

قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل حين قتله ، وذلك قول الله (عزوجل) (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ)(١).

قال طاوس : فأخبرني عمن أنذر قومه وهو ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ، قد ذكره الله في كتابه؟ فقال الإمام : هو النملة حين قالت (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٢).

قال طاوس : فأخبرني عمن كذب عليه ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة : ذكره الله (عزوجل) في كتابه؟ قال الإمام : الذئب ، الذي كذب عليه اخوة يوسف (عليه‌السلام). قال طاوس : فأخبرني عن شيء قليله حلال وكثيره حرام ، وذكره الله (عزوجل) في كتابه؟ قال الإمام : نهر طالوت ، قال الله (عزوجل) (.. إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)(٣). قال طاوس : فأخبرني عن صلاة فريضة تصلى بغير وضوء ، وعن صوم لا يحجز عن أكل وشرب؟ قال الإمام : أما الصلاة بغير وضوء فالصلاة على النبي وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام ، وأما الصوم فقد حكاه الله سبحانه وتعالى عن مريم (عليها‌السلام) بقوله (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)(٤) ، وبعد أن انتهى طاوس اليماني من مسائله لم يخف إعجابه وإكباره بالإمام الباقر (عليه‌السلام) ، وذلك بقوله (... اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(٥)(٦).

وقد رأينا في هذه المناظرة المنعقدة في الحرم أمام الناس أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) يجيب سائله بآيات من القرآن الكريم مستنطقا نصوصه ، لا يخرج في الجواب عن حدود كتاب الله تعالى ، وكانت تلك المسائل التي وجهها طاوس اليماني مما يعدّ

__________________

(١) المائدة / ٣١.

(٢) النمل / ١٨.

(٣) البقرة / ٢٤٩.

(٤) مريم / ٢٦.

(٥) الأنعام / ١٢٤.

(٦) الاحتجاج ، الطبرسي ، ٢ / ٦٤ ـ ٦٧+ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، ٢ / ٤٥٣+ سيرة الأئمة ، هاشم معروف الحسني ، ٢١٦.

١٠٦

من أدق المسائل لأن المجيب عليها يجب أن يكون لديه ذهنية متوقدة وبديهة حاضرة للشرط الذي وضعه من أن الإجابة يجب أن تكون من القرآن الكريم ، فكانت إجابات الإمام الباقر (عليه‌السلام) على وفق ذلك الشرط لعلمه الجم بآيات القرآن وسوره ومن ثم علمه بتفسير تلك الآيات وما تدل عليه من سياقها ، وقد سلّم طاوس على الرغم من علو منزلته بين العلماء بمكانة الإمام الباقر (عليه‌السلام) عند ما أظهر إكباره له واحترامه لأجوبته عن تلك المسائل التي دارت هذه المناظرة حولها.

المناظرة الثانية : مع الحسن البصري (ت ١١٠ ه‍) (١)

وفد الحسن البصري إلى المدينة المنورة فعرج على الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) وجرت بينهما مناظرة طويلة أفحم الإمام فيها الحسن البصري ، غير أن المصادر التي ذكرتها قد أهملت ذكر السنة التي التقيا فيها وأغلب الظن أن مثل هذه المناظرات التي جرت في المدينة المنورة هو أن هؤلاء الأعلام كانوا يؤدون مناسك الحج فيقصدون المدينة لزيارة قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيصادف أن يلتقوا بالإمام الباقر (عليه‌السلام) من جهة وأن المدينة المنورة في عصر الإمام الباقر (عليه‌السلام) كانت مركز الإشعاع الفكري الإسلامي الأصيل فكان يقصدها العلماء وطلاب العلم من مختلف الأمصار الإسلامية من جهة ثانية.

روي أن الحسن البصري دخل على الإمام الباقر (عليه‌السلام) فقال له : جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله ، فقال له الإمام ألست فقيه أهل البصرة؟ قال الحسن : قد يقال ذلك ، قال له الإمام : هل بالبصرة أحد تأخذ منه؟ قال الحسن : لا ، قال الإمام : فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟ قال الحسن : نعم ، قال له الإمام : لقد تقلدت عظيما من الأمر ، بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت أم

__________________

(١) هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري الفقيه ، الفاضل ، المشهور ، روى عن أنس وغيره ، وروى عنه حميد الطويل وخلائق. وثقه غير واحد من العلماء. قال ابن سعد : كان جامعا ، عالما ، رفيعا ، فقيها ، ثقة ، مأمونا ، عابدا ، ناسكا ، كثير العلم ، فصيحا ، جميلا ، وسيما. وقال العجلي ، تابعي ، ثقة ، ورجل صالح ، صاحب سنة. وذكره ابن حبان في الثقاة مات سنة (١١٠ ه‍). انظر بعض مصادر ترجمته : الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٧ / ١ / ١١٤+ التاريخ الكبير ، البخاري ، ١ / ٢ / ٨٧+ المعارف ، ابن قتيبة ، ١٩٥+ معرفة الحديث ، الحاكم النيسابوري ، ٢٠٠+ عمدة القاري ، العيني ، ١ / ٢٤٥ وغيرها.

١٠٧

يكذب عليك ، قال الحسن : ما هو؟ قال الإمام : زعموا أنك تقول أن الله خلق العباد ففوض إليهم أمورهم ، فاطرق الحسن برأسه إلى الأرض وحار في الجواب ، فبادره الإمام قائلا : أرأيت من قال له الله في كتابه إنك آمن هل عليه خوف بعد القول منه؟ قال الحسن : لا. قال له الإمام : إني أعرض عليك آية وأنهي إليك خطابا ، ولا أحسبك إلا وقد فسرته على غير وجهه ، فإن كنت فعلت ذلك فقد هلكت وأهلكت. قال الحسن : ما هو؟ قال الإمام : أرأيت حيث يقول الله (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ)(١).

بلغني أنك أفتيت الناس فقلت : هي مكة. قال الحسن البصري : بلى ، فأخذ الإمام يستدل على ما ذهب إليه في تفسير الآية بأنها غير ما قيل فيها حتى بهت الحسن البصري وحار في الجواب ولم ننقله هنا لطوله (٢) ، ثم نهاه عن القول بالتفويض وبين فساده بقوله : وإياك أن تقول بالتفويض فإن الله (عزوجل) لم يفوض الأمر إلى خلقه ، وهنا منه وضعفا ، ولا أجبرهم على معاصيه ظلما (٣).

المناظرة الثالثة : مع قتادة بن دعامة السدوسي (ت : ١١٨ ه‍) (٤)

روى الكليني وغيره بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال : كنت جالسا في مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذ أقبل رجل فسلم فقال : من أنت يا عبد الله؟ قلت رجل من أهل الكوفة ، فما حاجتك؟ قال : أتعرف أبا جعفر محمد بن علي؟ قلت : نعم ، فما حاجتك إليه؟ فقال لي : إذا رأيت أبا جعفر فأخبرني ، فما انقطع كلامه حتى أقبل أبو جعفر وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن

__________________

(١) سبأ / ١٨.

(٢) الاحتجاج ، الطبرسي ، ٢ / ٦٢ ـ ٦٣+ حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ٢ / ٨١ ـ ٨٢.

(٣) المصدر نفسه والصفحة ـ المصدر نفسه والصفحة.

(٤) هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز ، أبو الخطاب السدوسي ، البصري ، مفسر حافظ ، ضرير اكمه ، قيل انه احفظ أهل البصرة ، وكان مع علمه في الحديث رأسا في العربية ومفردات اللغة ، وايام العرب وكان يرى القدر ، ويدلس في الحديث ، مات بواسط في الطاعون سنة (١١٨ ه‍) ، وولد سنة (٦١ ه‍). انظر مصادر ترجمته : تذكرة الحافظ ، الذهبي ، ١ / ١١٥+ طبقات المدلسين ، العسقلاني ، ١٢+ ميزان الاعتدال ، الذهبي ، ٢ / ٣٤٥+ تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٨ / ٣٥١ ـ ٣٥٦.

١٠٨

مناسك الحج ، فمضى حتى جلس مجلسه وجلس الرجل قريبا منه ، جلست حيث أسمع الكلام ، وحوله عالم من الناس فلما قضى حوائجهم وانصرفوا ، التفت إلى الرجل قال له : من أنت؟ قال له : أنا قتادة بن دعامة البصري. فقال له الإمام أبو جعفر : أنت فقيه أهل البصرة؟ قال : نعم. فأمره الإمام أن يأخذ العلم ممن هو أعلم منه ، فسكت قتادة طويلا ثم قال : أصلحك الله ، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم واضطرب قدامك ، فقال له أبو جعفر : أتدرى أين أنت؟ أنت بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأنت ثم ونحن أولئك فقال له قتادة : صدقت والله ، جعلني الله فداك ، ما هي بيوت حجارة ولا طين ، فأخبرني عن الجبن؟ فتبسم أبو جعفر وقال : رجعت مسائلك إلى هذا. قال : ضلت عني. فقال الإمام لا بأس به فقال قتادة : إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت. قال الإمام : ليس بها بأس ، إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم ، إنما تخرج من بين فرث ودم ، ثم قال : وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة ، فهل تأكل البيضة؟ قال قتادة : لا ، ولا آمر بأكلها ، فقال له أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) : ولم؟ قال : لأنها من الميتة. قال له الإمام : فإن حضنت تلك البيضة وخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال قتادة : نعم ، فقال له الإمام : فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة. ثم قال : فكذلك الأنفحة مثل البيضة فاشتر من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلا أن يأتيك من يخبرك عنه (١).

بهذه الطريقة من السؤال والجواب العلميين أقنع الإمام الباقر (عليه‌السلام) سائله ، مقررا قاعدة أصولية مفادها (الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل على خلاف ذلك) ، وكان قتادة يستقبل ردود الإمام بروح علمية رصينة لعلمه المسبق بأن الإمام الباقر (عليه‌السلام) لا يصدر عن فراغ بل يصدر عن أوعية ملئت علما وفقها ،

__________________

(١) الكافي ، الكليني ، ٢ / ٧٦+ أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ٢ / ٤ / ١٠ ـ ١١+ سيرة الأئمة ، هاشم معروف الحسني ، ٢١٢ ـ ٢١٣.

١٠٩

فيسلم لقوله وقد استدرجه الإمام لهذه الحقيقة الفقهية الأخيرة بعد أن كان شاكا بها أو بمفهومها وقد وضّحها له وفهّمه إياها ، وكذلك هي مناظرات العلماء الأعلام على مر الزمن تحمل في طياتها الموضوعية والبحث العلمي الرصين.

المناظرة الرابعة : مع هشام بن عبد الملك (ت : ١٢٥ ه‍) (١)

كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) إذا دخل مكة المكرمة انثال عليه الناس يستفتون عن أهم مسائل الحلال والحرام ويستفتحون أبواب مشاكل العلوم ويغتنمون فرصة الاجتماع به ليزودهم بعلومه ، وإذا أقام بمكة عقدت له حلقة ينضم إليه طلاب العلم فروي أن هشام بن عبد الملك حج فنظر إلى اجتماع الناس حوله وحضور العلماء عنده فثقل عليه ذلك ، فأرسل رجلا من أصحابه وقال له : قل له يقول لك أمير المؤمنين : ما الذي يأكله الناس ويشربه في المحشر إلى أن يفصل الله بينهم يوم القيامة؟ فلما سأله الرجل ، قال له الإمام الباقر (عليه‌السلام) : يحشر الناس على مثل قرص النقى فيها أشجار وأنهار ، يأكلون ويشربون منها حتى يفرغوا من الحساب ، فقال هشام للرسول : اذهب إليه فقل له يقول : ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟ فقال الإمام الباقر (عليه‌السلام) : هم في النار أشغل ، ولم يشتغلوا على أن قالوا (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ)(٢).

فسكت هشام ولم يظفر بما أراد من سؤاله للإمام فإنه سؤال امتحان لا استفادة (٣).

وقد جرت بينهما مناظرة أخرى أيضا حينما أرسل إليه هشام ليأتيه إلى الشام وقد رواها الإمام الصادق لم نذكرها هنا لطولها (٤) ، فاكتفينا بهذه المناظرة.

__________________

(١) هو هشام بن عبد الملك بن مروان من خلفاء بني أمية في الشام ، ولد في دمشق سنة (٧١ ه‍) ، وبويع له بعد وفاة أخيه يزيد سنة (١٠٥ ه‍) وخرج عليه زيد بن علي (رضي الله عنه) بالكوفة فوجه إليه من قتله ، توفي سنة (١٢٥ ه‍) وكان أحول ، أخباره في كتب التاريخ عامة كالطبري وابن الأثير والمسعودي وغيرها.

(٢) الأعراف / ٥٠.

(٣) ظ : مخطوطة الدر النظيم ، ابن حاتم : الورقة ١٨٥+ مرآة الجنان ، اليافعي ، ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٤) ظ : تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي ، ١٩١+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٦+ المشرع الروي ، الشلي ، ١ / ٣٧.

١١٠

المناظرة الخامسة : مع محمد بن المنكدر (ت : ١٣٠ ه‍) (١)

روى الشيخ المفيد وغيره بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليه‌السلام) قال : إن محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرى مثل علي بن الحسين يدع خلفا لفضله وغزارة علمه وحلمه حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني ، خرجت يوما إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلا بادنا وهو متكئ على غلامين له. فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! والله لأعظنه فدنوت منه فسلمت عليه ، فسلم عليّ بنهر ، وقد تصبب عرقا. فقلت : أصلحك الله ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، ولو جاء الموت وأنت على هذه الحال.

فخلى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال : لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال ، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله أكف بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله ، فقلت : يرحمك الله ، أردت أن أعظك فوعظتني (٢).

ومعنى قوله (أردت أن أعظك فوعظتني) أن ابن المنكدر كان من كبار الزهاد ، وكان يصرف أوقاته في العبادة والتقوى ، فأراد أن يعظ الإمام الباقر (عليه‌السلام) بأنه لا ينبغي له أن يخرج في مثل ذلك الوقت في طلب الدنيا فأجابه بأن خروجه في طلب المعاش ليكف نفسه عن الناس من أفضل العبادات ، وكان هذا الكلام فيه موعظة لابن المنكدر بأن لا يترك الكسب مهما كان السبب وجيها في ذلك حتى ولو كان عبادة.

__________________

(١) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير ، المدني ، زاهد ، من رجال الحديث ، أدرك بعض الصحابة ، وروى عنهم قال عنه ابن عيينة : ابن المنكدر من معادن الصدق. انظر بعض مصادر ترجمته : تاريخ الإسلام ، الذهبي ، ٥ / ١٥٥ ـ ١٥٨+ تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٩ / ٤٧٣+ الأعلام ، الزركلي ، ٧ / ٣٣٣.

(٢) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٢+ أعلام الورى ، الطبرسي ، ٢٦٩+ كشف الغمة الأربلي ، ٢ / ٣٣٧+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٥+ تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٩ / ٢٥٢.

١١١

المناظرة السادسة : مع عبد الله بن نافع بن الأزرق (١)

جاء في الكافي بسنده : أن عبد الله بن نافع بن الأزرق كان يقول : لو أني علمت أن بين قطريها أحدا تبلغني إليه المطايا يخصمني أن عليا قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت إليه ، فقيل له : ولا ولده؟ فقال : أفي ولده عالم؟ فقيل له : هذا أول جهلك ، وهل يخلون من عالم في كل عصر؟ فقال : من عالمهم اليوم؟ قيل له : محمد بن علي بن الحسين بن علي ، فرحل إليه في جمع من أصحابه حتى أتى المدينة ، فاستأذن على أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) فقيل له : هذا عبد الله بن نافع ، فقال الإمام : وما يصنع بي وهو يبرئ مني ومن آبائي طرفي النهار. فقال له أبو بصير الكوفي ، جعلت فداك ، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحدا تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليا قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه ، فقال له الإمام أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) : أتراه جاءني مناظرا؟ قال : نعم ، فقال : يا غلام ، اخرج فحط رحله وقل له إذا كان الغد فأتنا ، فلما أصبح ابن نافع الأرزق غدا مع أصحابه ، وبعث أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم ، ثم خرج إلى الناس ، وأقبل عليهم فخطب ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم قال : الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته ، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة لعلي بن أبي طالب فليقم وليتحدث ، فقام الناس فسردوا تلك المناقب ، فقال عبد الله الأزرق : أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء ، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين ؛ حتى انتهوا إلى حديث خيبر :

لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله على يديه. فقال أبو جعفر : ما تقول في هذا الحديث؟ قال : هو حق لا شك فيه ، ولكن أحدث الكفر بعده! فقال له أبو جعفر : أخبرني عن الله (عزوجل) أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان ، أم لم يعلم ، فإن قلت لا ، كفرت. فقال : قد علم ، قال الإمام : فأحبه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن

__________________

(١) تنسب إلى أبيه الازارقة من الخوارج ، ظ : تاريخ الفرق الإسلامية ، على مصطفى الغرابي ، ٢٧٧.

١١٢

يعمل بمعصيته؟ فأجابه عبد الله الأزرق : على أن يعمل بطاعته فقال له أبو جعفر قم مخصوما ، فقام عبد الله الأزرق وهو يقول : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) و (... اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(٢)(٣).

لو قال عبد الله بن نافع بن الأزرق في هذه المناظرة إن الله لا يعلم ـ حاشا لله ـ فقد نسب إليه الجهل وإن قال بأنه يعلم ، فإذا لم يكونوا مستحقين للقتل يكون علي بن أبي طالب قد ارتكب خطأ كبيرا وظلما فاحشا بقتلهم ، فكيف أحبه الله وهو ظالم لعباده والله لا يحب الظالمين المجرمين ، ولا مفر له من الاعتراف باستحقاقهم للقتل ، فخرج هذا الخارجي وأصحابه من مجلس الإمام الباقر (عليه‌السلام) مخصومين مدحورين.

المناظرة السابعة : مع رجل من الخوارج

يروى أنه دخل عليه رجل من الخوارج ، فقال له : يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟ فقال الإمام : الله ، قال الرجل : أرأيته؟ قال الإمام : بلى ، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يعرف بالقياس ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالدلالات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلا هو. فخرج الرجل وهو يقول : (... اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(٤)(٥).

المناظرة الثامنة : مع عمرو بن عبيد (٦)

كان عمرو بن عبيد (ت : ١٤٢ ه‍) من شيوخ المعتزلة ومؤسسيها ، وقد حظي بإكبار الخليفة أبي جعفر المنصور له عند ما مر الأخير على قبره فرثاه بأبيات ودعا له (٧).

__________________

(١) البقرة / ١٨٧.

(٢) الانعام / ١٢٣.

(٣) روضة الكافي ، الكليني ، ٨ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠+ أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ٢ / ٤ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٤) الانعام / ١٢٤.

(٥) البدء والتاريخ ، المقدسي ، ١ / ٧٤+ التوحيد ، الشيخ الصدوق ، ٢٣٢+ الاحتجاج ، الطبرسي ، ٢ / ٥٤+ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر ، ٢ / ٤٥٣.

(٦) هو أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب ، كان أبوه من سبي سجستان ، شيخ المعتزلة ، وزعيمها الروحي. مات سنة (١٤٢ ه‍) وقيل غير ذلك. انظر بعض مصادر ترجمته : تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي ، ١٢ / ١٦٦+ وفيات الأعيان ، ابن خلكان ، ١ / ٥٣٥+ المعارف ، ابن قتيبة ، ٢١٢.

(٧) المنية والأمل ، ابن المرتضى ، ٢٤+ وفيات الأعيان ، ابن خلكان ، ١ / ٥٤٨.

١١٣

وقد التقى بالإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) وكان قد قصد امتحانه واختباره فوجه للإمام السؤال الآتي : جعلت فداك ، ما معنى قول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما). (١). قال الإمام الباقر (عليه‌السلام) : كانت السماء رتقا لا تنزل المطر وكانت الأرض رتقا لا تخرج النبات ، فأفحم عمرو ولم يطق جوابا فخرج من مجلس الإمام ثم عاد إليه وقال : جعلت فداك أخبرني عن قوله تعالى : (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى)(٢).

ما معنى غضب الله؟ قال الإمام : غضب الله عقابه ، ومن قال إن الله يغيره شيء فقد كفر (٣).

وأفاض الرازي في ذكر الأقوال في معنى الرتق والفتق فذكر ستة أقوال ، السادس هو قول الإمام الباقر (عليه‌السلام) في أعلاه وقال : وأكثر المفسرين اختاروا هذا القول واحتجوا على ترجيحه على سائر الأقوال بقوله تعالى عقيبة (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(٤).

وبعد ذلك ذكر الشبهات التي ترد على هذا التفسير وردّ تلك الشبهات وأضاف تفسيرا آخرا إلى ما اختاره هو من تفسير الإمام الباقر (عليه‌السلام) (٥).

فيكون جواب الإمام الباقر (عليه‌السلام) لعمرو بن عبيد في معنى الآية الأولى هو الراجح على بقية الأقوال مما جعله لا يطيق ردا لما تقدم به الإمام في تفسير الرتق والفتق في تلك الآية.

ثانيا : موقف الإمام الباقر (عليه‌السلام) من غلاة الشيعة

لم تجر بين الإمام الباقر (عليه‌السلام) وغلاة الشيعة أي مناظرة تذكر ، وكذلك لم يسجل لنا التاريخ أن واحدا من هؤلاء الغلاة قد التقى بالإمام الباقر (عليه‌السلام) غير إننا وجدنا من الأمانة العلمية أن نسجل هنا موقفه من هؤلاء.

__________________

(١) الانبياء / ٣٠.

(٢) طه / ٨١.

(٣) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٧+ كشف الغمة الأربلي ، ٢ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٦+ مطالب السئول ، ابن طلحة الشافعي ، ٨٠.

(٤) الأنبياء / ٣٠.

(٥) أسرار التنزيل وأنوار التأويل ، فخر الرازي ، ١٥٣ ـ ١٦٢.

١١٤

امتحن الإمام بجماعة من الخونة والمارقين الذين أخذوا يفتعلون الأحاديث على لسانه ويكذبون عليه ومن بينهم.

١ ـ بيان بن سمعان

التميمي (١) ، كان تبانا يتبن التبن بالكوفة (٢) ، ولا تعرف سنة ولادته ولا نشأته الأولى وثقافته ، ومن هم أشهر أتباعه ، وما هو دوره الفكري والاجتماعي والسياسي في الكوفة ، وتنسب إليه البيانية ، وهي فرقة تدعي أن الإله على صورة الإنسان وأن له أعضاء كأعضاء الإنسان وأنه يفنى كله إلا وجهه (٣).

وقد لاقى بيان مصرعه على يد خالد القسري ، وقتل مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد مع خمسة عشر رجلا من أصحابه وذلك (١١٩ ه‍) (٤).

ويذكر النوبختي أن سبب قتله هو ادعاؤه النبوة وكتابته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين يدعوه إلى نفسه ويقول له : أسلم ، تسلم ، وترتق في سلم ، وتنج وتغنم ، فإنك لا تدري أين يجعل الله النبوة والرسالة وما على الرسول إلا البلاغ ، وقد أعذر من أنذر ، فأمر الإمام أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) رسول بيان فأكل قرطاسه الذي جاء به وقتل بعد ذلك بيان وصلب (٥).

وهو كذاب مفتر على الله ورسوله ، طلب الإمام أبو جعفر وولده الإمام الصادق من الشيعة التبري منه لأنه كان يكذب على الأئمة (٦).

روى زرارة عن أبي جعفر انه قال : لعن الله بنانا أو بيانا وإنه (لعنه الله) كان يكذب على أبي ، أشهد أن أبي علي بن الحسين كان عبدا صالحا (٧).

__________________

(١) التبصير في الدين ، الأسفراييني ، ٣٥ ، ١١٩+ مقالات الإسلاميين ، الأشعري ، ١ / ٦٦+ الفرق بين الفرق ، البغدادي ، ١٤٥+ الفصل بين الملل ، الشهرستاني ، ٤ / ١٨٥+ ميزان الاعتدال ، الذهبي ، ١ / ٦٦+ لسان الميزان ، العسقلاني ، ٢ / ٦٩.

(٢) فرق الشيعة ، النوبختي ، ٥١+ المقالات والفرق ، عباس القمي ، ٣٣+ عيون الأخبار ، ابن قتيبة ، ٢ / ١٤٨.

(٣) الفرق بين الفرق ، البغدادي ، ١٤٥+ مقالات الإسلاميين ، الاشعري ، ١ / ٦٦.

(٤) تاريخ الأمم والرسل ، الطبري ، ٢ / ٦٢٠+ الفصل بين الملل والنحل ، الشهرستاني ، ٤ / ١٨٥+ الفرق بين الفرق ، البغدادي ، ١٤٦.

(٥) فرق الشيعة ، النوبختي ، ٥٠+ المقالات والفرق ، القمي ، ٣٣.

(٦) الرجال ، الكشي ، ٢٢٣+ حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ٢ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٧) معجم رجال الحديث ، الخوئي ، ٣ / ٣٦٤.

١١٥

٢ ـ حمزة البربري

حمزة بن عمارة البربري ، كان يكذب على الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) ، وقد أعلن الإمام براءته منه ، وكان حمزة زنديقا كافرا فمن كفره أنه نكح ابنته وأحل جميع المحارم وقال : من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا أثم عليه ، وادعى أشياء ما أنزل الله بها من سلطان ، فلعنه أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) وكذبه ، ثم إنه ادعى أن محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) أوصى إليه ، وأخذه خالد القسري مع خمسة عشر من أصحابه فشدهم في أطناب القصب ، وصب عليهم النفط في مسجد الكوفة ، وألهب فيهم النار ـ لعنهم الله جميعا ـ (١).

٣ ـ المغيرة بن سعيد العجلي (٢)

كان المغيرة بن سعيد صاحب بدع ومنكرات ، ومن بدعه :

ـ أنه كان يرى التجسيم فكان يقول : إن الله على صورة رجل ، على رأسه تاج ، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء واليه تنسب المغيرية (٣).

ـ كان مشعوذا ، وقد نقل ابن الأثير طرفا من شعوذته (٤).

ـ إنه كان ماهرا في دس الأخبار ووضعها في كتب أهل البيت ، فكان يدس الغلو في كتب الإمام محمد الباقر (عليه‌السلام) (٥).

وكان من الطبيعي أن يعلن الإمام أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) براءته من هذا الإنسان الكافر الذي لم يؤمن بالله وتجرد عن جميع القيم الإنسانية ، فقد روي أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) كان يقول : برئ الله ورسوله من المغيرة بن سعيد وبيان بن سمعان فإنهما كذبا علينا أهل البيت (٦).

__________________

(١) فرق الشيعة ، النوبختي ، ٢٥+ حياة الإمام الباقر ، القرشي ، ٢ / ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) انظر عن المغيرة بن سعيد : لسان الميزان ، العسقلاني ، ٦ / ٧٥+ فرق الشيعة ، النوبختي ، ٦٣+ الأعلاق النفيسة ، ابن رستة ، ٢١٨+ معرفة الرجال ، الكشي ، ١٤٦.

(٣) تاريخ ابن الأثير ، ٤ / ٢٣٠+ تاريخ الفرق الإسلامية ، الغرابي ، ٢٩٨.

(٤) فرق الشيعة ، النوبختي ، ٦٤+ تاريخ ابن الأثير ، ٤ / ٣٣٠.

(٥) عيون الأخبار ، ابن قتيبة ، ٢ / ١٥١+ معرفة الرجال ، الكشي ، ٢٢٤.

(٦) فرق الشيعة ، النوبختي ، ٦٤+ لسان الميزان ، العسقلاني ، ٦ / ٧٦.

١١٦

كما وأعلن الإمام أبو عبد الله الصادق نقمته وسخطه على المغيرة قائلا : لعن الله المغيرة بن سعيد ولعن الله يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق ، أن المغيرة كذب على أبي فسلبه الله الإيمان ، وإن قوما كذبوا علي ما لهم أذاقهم الله حر الحديد ، فو الله ما نحن إلا عبيد خلقنا واصطفانا ، ما نقدر على ضر ولا نفع ، إن رحمنا فبرحمته ، وإن عذبنا فبذنوبنا ، والله ما بنا على الله حجة ، ولا معنا من الله براءة ، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسئولون ما لهم لعنهم الله فلقد آذوا الله وآذوا رسول الله في قبره وأمير المؤمنين والحسن والحسين (١).

وترى مدى تأثر الإمام الباقر (عليه‌السلام) من هؤلاء الكذابين الغلاة الذين مرقوا من الدين وتلاعبوا في كتاب الله واتخذوا آياته هزوا.

وأخيرا رأينا أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) كان مقصد العلماء للسؤال وكشف الحقائق كعمرو بن عبيد وطاوس والحسن وغيرهم ، وقد ناظر أهل الفرق وخاصمهم وبين فساد آرائهم وسوء معتقداتهم ، وكان يزود الوافدين عليه بتعاليم قيمة ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة رائده في ذلك القربة لوجهه الكريم لتكون له باقيات صالحات عند مليك مقتدر.

المبحث الرابع

مكانته وأقوال العلماء فيه

لسنا من المغالين إذا قلنا إن الإمام أبا جعفر الباقر (عليه‌السلام) كان فريد عصره ، لا يدانيه أحد فيما اختص به من مميزات تقدم ذكرها أهلته لأن يكون مرجعا للعلماء ومقصدا لطلاب العلم ، فاحتل بذلك تلك المكانة المرموقة بين علماء عصره والعصور التي تلت ، فقد أجمع رجال الفكر والعلم على عظيم منزلته ومكانته ، والاعتراف له بالفضل والتفوق العلمي ، فاتفقت كلماتهم على أنه من

__________________

(١) فرق الشيعة ، النوبختي ، ٦٦+ معرفة الرجال ، الكشي ، ٢٢٥.

١١٧

أسمى الشخصيات العلمية التي عرفها العالم العربي والإسلامي آنذاك ، وإليك بعضا من كلماتهم تحمل في طياتها انطباعات أولئك العلماء الإجلاء عنه :

١ ـ قال محمد بن المنكدر (ت : ١٣٠ ه‍) : ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفا لفضله وغزارة علمه وحلمه حتى رأيت ابنه محمدا (١).

٢ ـ قال الإمام أبو عبد الله الصادق (ت : ١٤٨ ه‍) : حدثني أبي وكان خير محمدي يومئذ على وجه الأرض (٢).

٣ ـ قال سديف المكي (ت : ١٤٦ ه‍) : ما رأيت محمديا قط يعدله (٣).

٤ ـ قال هشام بن عبد الملك (ت : ١٢٥ ه‍) : يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيها مثلك (٤).

٥ ـ قال عبد الله بن عطاء المكي : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي لتواضعهم له ، ومعرفتهم بحقه وعلمه ، واقتباسهم منه ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة على جلالته وسنه وهو بين يديه يتعلم منه ، ويأخذ عنه ، كالصبي بين يدي معلمه (٥).

٦ ـ كان جابر بن يزيد الجعفي إذا حدث عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) يقول :

حدثني وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء (٦).

٧ ـ قال فيه عمر بن عبد العزيز (ت : ١٠١ ه‍) : إن أهل هذا البيت لا يخليهم الله من فضله (٧).

٨ ـ قال ابن سعد : كان ثقة كثير العلم والحديث (٨).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، العسقلاني ، ٩ / ٣٥٢+ الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٢.

(٢) البداية والنهاية ، ابن كثير الدمشقي ، ٩ / ٣٠٩.

(٣) الأمالي ، الشيخ الصدوق ، ٢٩٧.

(٤) مخطوطة الدر النظيم ، ابن حاتم ، الورقة ١٨٥.

(٥) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٦+ مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٤٣+ مرآة الجنان ، اليافعي ، ١ / ٢٤٨.

(٦) مناقب آل أبي طالب ، ابن شهرآشوب ، ٤ / ١٨٠.

(٧) مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٤٦+ تاريخ اليعقوبي ، ٢ / ٣٠٥.

(٨) الطبقات الكبرى ، ابن سعد ، ٥ / ١٣٨.

١١٨

٩ ـ قال أبو زرعة : إن أبا جعفر لمن أكبر العلماء (١).

١٠ ـ قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد (ت : ٤١٣ ه‍) : كان الباقر (عليه‌السلام) محمد بن علي بن الحسين من بين إخوته خليفة أبيه ووصيه ... وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد ، وكان أنبههم ذكرا ، وأجلّهم في العامة والخاصة ، وأعظمهم قدرا ، ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين من علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ، ما ظهر عن أبي جعفر ، وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ، ووجوه التابعين ، ورؤساء فقهاء المسلمين ، وصار بالفضل به علما لأهله (٢).

١١ ـ قال الحافظ أحمد بن عبد الله المعروف بأبي نعيم الأصفهاني (ت : ٤٣٠ ه‍) : ومنهم الحاضر الذاكر ، الخاشع الصابر ، أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) ، كان من سلالة النبوة ، وممن جمع حسب الدين والأبوة ، تكلم في العوارض والخطرات ، وسفح الدموع والعبرات ، ونهى عن المراء والخصومات (٣).

١٢ ـ قال أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ـ من علماء القرن السادس الهجري ـ : قد اشتهر الباقر (عليه‌السلام) في العالم لتبرزه على الخلق في العلم والزهد والشرف ما لم يؤثر عن أحد من أولاد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من علوم القرآن والآثار والسنن (٤).

١٣ ـ قال الشيخ العالم كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي (ت : ٦٥٤ ه‍) : هو باقر العلم وجامعه ، وشاهر علمه ورافعه ، ومتوافق دره وراصعه ، صفا قلبه ، وزكا عمله ، وطهرت نفسه ، وشرفت أخلاقه ، وعمرت بطاعة الله أوقاته ، ورسخت في مقام التقوى قدمه ، وظهرت عليه سيماء الازدلاف ، وطهارة الاجتباء (٥).

__________________

(١) أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ١ / ٤ / ٤٨٥.

(٢) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٣.

(٣) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٢.

(٤) أعلام الورى ، الطبرسي ، ٢٦٨.

(٥) مطالب السئول ، ابن طلحة الشافعي ، ٢ / ٥٠.

١١٩

١٤ ـ قال الحافظ أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي (ت : ٦٧٦ ه‍) : هو تابعي جليل ، وإمام بارع ، مجمع على جلالته ، معدود في فقهاء المدينة وأئمتهم .. وعد من روى عنه فقال : وخلائق آخرون من التابعين وكبار الأئمة ، وروى له البخاري ومسلم (١).

١٥ ـ قال أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد المعروف بابن خلكان (ت : ٦٨١ ه‍) : كان الباقر عالما ، سيدا كبيرا ، وإنما قيل له الباقر لأنه تبقر في العلم : أي توسع (٢).

١٦ ـ قال أبو عبد الله شمس الدين الذهبي (ت : ٧٤٨ ه‍) : كان الباقر سيد بني هاشم في زمانه ، اشتهر بالباقر من قولهم بقر العلم : يعني شقه فعلم أصله وخفيه (٣).

وقال أيضا : كان الباقر أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة ، وكان أهلا للخلافة (٤).

١٧ ـ قال تاج الدين بن محمد بن حمزة المعروف بنقيب حلب (ت : ٧٥٣ ه‍) : أبو جعفر ، باقر العلم هو أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين ، كان واسع العلم ، وافر الحلم ، روي عنه حديث كثير ، ونقل عنه علم جم (٥).

١٨ ـ قال الإمام أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي اليمني (ت : ٧٦٨ ه‍) : أبو جعفر الباقر محمد بن زيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضوان الله عليهم) ، أحد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية وهو والد جعفر الصادق ، لقب بالباقر (عليه‌السلام) لأنه بقر العلم أي شقه وتوسع فيه (٦).

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ، النووي ، ١ / ٨٧.

(٢) وفيات الأعيان ، ابن خلكان ، ٣ / ٣١٤.

(٣) تذكرة الحفاظ ، الذهبي ، ١ / ١٢٤.

(٤) سير أعلام النبلاء ، الذهبي ، ٤ / ٤٠٢.

(٥) غاية الاختصار : ابن حمزة ، ١٠٤.

(٦) مرآة الجنان ، اليافعي ، ١ / ٢٤٧.

١٢٠