الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

فَارْتَدَّ بَصِيراً)(١) وقال لهم : ما فعل بنيامين؟ قالوا : أخلفناه عند أخيه صالحا قال : فحمد الله يعقوب عند ذلك وسجد لربه سجدة الشكر ورجع إليه بصره وتقوم له ظهره ، وقال لولده : تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم ، فساروا إلى يوسف ومعهم يعقوب وخالة يوسف فأحثوا السير فرحا وسرورا.

ويختتم الإمام الباقر فصول هذه القصة القرآنية بالمحور الأخير منها قائلا : فساروا تسعة أيام إلى مصر ، فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبله فبكى ورفعه ورفع خالته على سرير الملك ، ثم دخل منزله فأدهن واكتحل ولبس ثياب العز والملك ثم خرج إليهم ، فلما رأوه سجدوا جميعا له إعظاما له وشكرا لله ، فعند ذلك قال : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ)(٢) ، قال الإمام الباقر : ولم يكن يوسف في تلك العشرين سنة يدهن ولا يكتحل ولا يتطيب ولا يضحك ولا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله ، وجمع بينه وبين يعقوب وأخوته (٣).

وبهذا يختتم الإمام الباقر فصول هذه القصة القرآنية الرائعة التي دس فيها أهل الكتاب الكثير من أخبارهم التي تشين بمكانة الأنبياء وتنقص من قدر نبوتهم ، فأراد الإمام الباقر أن يلفت نظر الناس إلى أن كلما قيل في قصة يوسف وأخوته كان من دس الإسرائيليين وكذلك فعل الإمام مع جميع القصص القرآني أو ما تناولته من قصص الأنبياء والأولين إذا ما علمنا أننا بعد أن استقصينا جميع الروايات التفسيرية وجدنا أنه تناول تقريبا قصص جميع الأنبياء والأقوام الوارد ذكرهم في القرآن الكريم ، رائده في ذلك كله القرآن نفسه فهو في بعض القصص يستنطق النص القرآني ، مستقرئا كل الآيات التي في السور المتفرقة جامعا لها

__________________

(١) يوسف / ٩٦.

(٢) يوسف / ١٠٠.

(٣) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ١٨١ ـ ١٨٣ ، ١٨٥ ـ ١٨٩ ، ١٩٠ ـ ١٩٣ ، ١٩٦ ـ ١٩٧+ تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٢٥٧ ، ٢٧١+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٢ / ١٩٦ ، ٥ / ١٩٣. وقد وردت رواية للإمام الباقر في حزن يعقوب في التفسير الكبير ، الرازي ، ١٨ ، ١٩٨+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٥ / ٢٦٤ ـ ٢٦٦.

٢٨١

تحت عنوان قصة قرآنية واحدة ، ومرة أخرى يستحضر أحاديث جده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأحاديث آبائه الكرام لتكتمل الصورة الفنية في فهم القصة القرآنية.

ونستطيع أن نخلص من خلال ما عرضنا من جهود واسهامات للإمام الباقر في سرد القصص القرآني وتحديثه لأصحابه والناس به ، رأينا فيها أنه لا في غالب الأحيان بل أكثرها لا يحمل النص القرآني أكثر مما يحتمل ، كما أنه لا يكثر من التفصيلات إلا لضرورة يقتضيها واقع الحال ، لأن كل هذا التكلف الذي وقع فيه بعض التابعين هو من أخبار الإسرائيليات وأخيلة اليهود الذي ائتمنهم الله على التوراة والانجيل فلم يحفظوا الأمانة حتى حرفوا الكلم عن مواضعه ، وكثرت في كتبهم الأقوال الفاسدة والدعاوى الفارغة على الله سبحانه وتعالى وأنبيائه وأصفيائه ، ووجدنا الإمام في سرده للقصة القرآنية ملتزما أشد الالتزام بالأدب النبوي ، وغير متكلف في السرد ، لأن الغاية من القصص في رأيه هي العبرة والعظة واستنتاج الدروس التي تتكفل في اغناء الجانب التربوي والأخلاقي وأثر ذلك كله على السلوك الإنساني.

* * *

٢٨٢

الفصل الثّاني

آراؤه وأثرها في التفسير

آيات العقائد

ويتضمن :

* المبحث الأول : التوحيد ونفي الصفات

* المبحث الثاني : النبوة والوحي

* المبحث الثالث : الإمامة

* المبحث الرابع : المعاد

* المبحث الخامس : الشفاعة

٢٨٣
٢٨٤

تمهيد

لا ريب في أن القرآن الكريم هو الكتاب المقدس الذي ثبت بالتواتر أنه خاتم الكتب السماوية ، الذي احتوى المضامين المركزية الثلاثة الآتية :

١ ـ المضمون العقائدي (أحكام العقائد) : وفيه الآيات الكريمة التي تحدد التصور الكوني للإسلام حول الحياة والكون والإنسان والخليقة والنبوة وملحقاتها من وحي وعصمة واليوم الآخر وهكذا ، أو الآيات التي تكون من بعض مضامينها هذه الحيثيات ، ومن هذه وتلك تشكل هذه الآيات مجموعة كبيرة من أي الذكر الحكيم.

٢ ـ المضمون التشريعي : وهي الآيات الكريمة التي تشكل الأسس والقواعد الكلية العامة للمنظومة القانونية الإسلامية في العبادات والمعاملات والأحكام الدستورية والدولية ، التي تنظم بمجموعها علاقة الفرد تارة مع ربه وأخرى مع نفسه وثالثة مع الآخرين ، وتنظم علاقته أيضا بالدولة ، وعلاقة الدولة بالأفراد والدول الأخرى وفق هذه القواعد الكلية التي ترك فيها المجال واسعا لفقهاء الأمة الإسلامية كل يستنبط الحكم الشرعي المتعلق بواحدة من هذه المسائل وفق مدركه الشرعي الذي أفاده من البحث والفحص ، ولا يشكل هذا المضمون آيات كثيرة من القرآن الكريم بكثرة المضمون الأول أو الذي يليه.

٣ ـ المضمون التربوي والأخلاقي : وهي الآيات القرآنية الكريمة التي تستهدف بناء الإنسان من الداخل وتكوين الذات الإنسانية المتلقية تلقيا حسنا وامتثاليا للأحكام الاعتقادية والتشريعية ، وزخر القرآن الكريم بمثل هذه الآيات وأخذت صورا شتى في التصوير القرآني للقضايا الأخلاقية المراد معالجتها ، فمرة يجعلها على شكل قصة يضمنها الكثير من الوصايا الأخلاقية ، ومرة أخرى تأخذ شكل فيض من المواعظ الابتدائية المشحونة بكثير من القيم التي من شأنها تهذيب النفس الإنسانية وبرمجة سلوكها وجعلها ترقى إلى أعلى مستوى أخلاقي ، وهذا ما حصل بالفعل بالنسبة للتغيير السلوكي الذي حصل لرجالات الأمة الإسلامية

٢٨٥

في الصدر الأول للإسلام وما يليه ، بحيث استطاع القرآن الكريم أن يرقى بهم إلى أعلى مستوى للسلوك الأخلاقي البناء الذي كان من الممكن الوصول إليه.

وقد كان للإمام الباقر حضور فعال في هذه المضامين الثلاثة ، إذ أثرت عنه جملة كبيرة جدا من الروايات في تفسير الآيات القرآنية المتضمنة لها ، وسنعرض لها كلا في مجاله ، في فصول ثلاثة.

وهذا الفصل في جهود الإمام في علم الكلام ، وهذا يتجلى بوضوح في تفسيره كما أثر عنه الآيات القرآنية المتعلقة بالله تعالى وجودا وصفة والمتعلقة بالمرسلين والإيمان بالبعث واليوم الآخر وغيرها ، وقد فسر كل ذلك بأسلوبه الخالي من التطرف والمبتعد عن التعسف فأضاف للعقول الإسلامية ثروة كبرى إذ استنار بآرائه جملة من العلماء.

والموسعات الإسلامية بحار نقلت ما يجمع على صحته ونقلت ما هو مختلف في صحته ، أعني ما أثر عن العلماء من عصر الصحابة رضي الله عنهم ، فقد جهدت جهدا في اصطفاء ما كان يبعد عن الشك بنسبته عن الإمام الباقر ، إذ ليس كل ما يؤثر يسطر ، بل منه ما يزول عليه الستار حتى لا تحدث فتنة بين العلماء الأبرار ، قال تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١) وقال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ)(٢).

المبحث الأول

في التوحيد ونفي الصفات

التوحيد هو أول تعاليم الدين الإسلامي ، وأول ما دعا إليه الأنبياء ، قال الله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)(٣) ومثل هذا ورد على لسان هود وصالح وشعيب (عليهم‌السلام) (٤).

__________________

(١) البقرة / ١٦٣.

(٢) المائدة / ٧٣.

(٣) الاعراف / ٥٩.

(٤) ظ : الأعراف / ٦٥ ، ٧٣ ، ٨٥.

٢٨٦

وهكذا فإن كل نبي كان منطلق دعوته من وجوب الاعتقاد بوجود الله تعالى ووحدانيته ، ولما كان التوحيد أساس العلوم الدينية ورأس المعارف اليقينية وجب على كل مكلف معرفة مسائله ورعاية دلائله.

وبسبب التوحيد كان الخلاف والصراع مع تيارات الملاحدة والمعطلة واليهود والنصارى وكل الفرق والتيارات الإسلامية التي قالت بالتشبيه أو الاتصال أو الحلول ، والقائلون بالتوحيد عند ما تناولوا هذا الأصل في مباحثهم تتبعوا المسائل التي تتصل به كافة ، ومن ثم جاءت أبحاثهم ازاءه شاملة ومحيطة بكل جوانبه (١).

وكان من أولى مباحثهم في هذا المجال معرفة الله تعالى لأنها أول الدين كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (٢) ، وهي المرتبة الأولى من مراتب معرفة التوحيد ، إلا أنهم قد اختلفوا فيها على آراء ، فذهب كثير من الإمامية ومعتزلة بغداد أنها اكتساب ، بينما خالف فيه معتزلة البصرة والمجبرة والحشوية من أصحاب الحديث (٣). وعلى الرغم من اتفاق متكلمي المسلمين على وجوب معرفة الله تعالى إلا أنهم قد اختلفوا في مدرك هذا الوجوب ، فالإمامية والمعتزلة والزيدية قالوا : أنه العقل (٤) ، أي من خلال العلم الحاصل بسبب النظر والاستدلال ، بينما قال الأشعرية : إنه السمع (٥).

وبعد ذلك ساقوا أدلة على وجود الله سبحانه وتعالى ، فالذين يقولون بمدرك الوجوب العقلي يرون أن العقل قد دل على أن أوضح سبل المعرفة وأقرب أساليب الدعوة إلى منطق العقل في إقامة الدليل على وجود الله هو القرآن الكريم ـ كمعجز وبرهان ـ ووافقهم في ذلك الأشعرية (٦) ، وبقية أهل السنة (٧).

__________________

(١) ظ : المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية ، د. محمد عمارة / ٤٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ١ / ٧٢.

(٣) أوائل المقالات ، الشيخ المفيد ، ٦٨.

(٤) ظ : الشافي ، المرتضى ، ٦١+ الاقتصاد ، الشيخ الطوسي ، ٤٢+ شرح الأصول الخمسة ، القاضي عبد الجبار ، ٨٨.

(٥) احقاق الحق ، العلامة الحلي ، ١ / ٣٨ ، ٤٠.

(٦) اللمع ، أبو الحسن الأشعري ، ١٧ ـ ١٩.

(٧) ظ : تفسير سورة الاخلاص ، ابن تيمية ، ٢٢ ـ ٢٣.

٢٨٧

ثم دليل الجوهر الفرد (١) ، وبعده دليل الحدوث الذي اعتمده معظم المتكلمين وخاصة الاشعرية (٢) ، ودليل آخر يسمى ببرهان التمانع وهو مزج بين البرهان العقلي القاطع على وجوده من خلال دليل الحدوث وبين ما ورد في القرآن الكريم من آيات تدل على وجوده تبارك وتعالى (٣).

إن التمازج غير القابل للفصل بين الدليل العقلي البرهاني وبين ما ورد في القرآن الكريم حافزا له وموجها لمساراته ومنبها لقدراته في الالتفات إلى المظاهر الكونية المتسقة ، جعل قضية الدليل النقلي صورة متطابقة تماما مع منتجات الدليل العقلي ، لكن الذي وقع فيه الخلاف ليس مفهوم التوحيد على اجماله إنما تفصيلات الصفات في أقسامها واختلافهم في كونها خارج الذات (٤) ، أو هي عين الذات (٥).

إن هذه الجزئيات بعد أن تخطت الإجمال لم تستند فقط إلى الدليل العقلي لأنها مجتمعة بعد أن آمنت بأن القرآن الكريم موحى به من عند الله تعالى ظلت تبحث في أسانيد آرائها في ثنايا النص القرآني مستفيدة من معنى أولي مباشر أو معنى ثانوي غير مباشر ، كما هو حال الخلاف في الرؤية المستفادة مما يوهم التعارض في قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(٦) وبين قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٧). إن تعدد المناهج في الجمع بين ما يوهم التعارض هو السبب في اختلاف علماء الأمة الإسلامية في المنتج الذي ساهم في إغناء الفكر العربي الإسلامي بتقديم رؤى متعددة للقضية الواحدة بعد أن جعل هذا المنتج العقل العربي الإسلامي عقلا منظما ذا منهجية قائمة على أسس متينة

__________________

(١) أصول الدين ، البغدادي ، ٣٦+ الفصل ، ابن حزم ، ٥ / ٩٢.

(٢) ظ : التمهيد ، الباقلاني ، ٤١ ـ ٤٤+ الارشاد ، الجويني ، ١٧ وما بعدها+ كشف المراد ، العلامة الحلي ، ١٧٢.

(٣) ظ : استحسان الخوض في علم الكلام ، الاشعري ، ١٨٩+ التمهيد ، الباقلاني ، ٢٥+ شرح العقائد النسفية ، التفتازاني ، ٧٩+ كنز الفوائد ، الكراجكي ، ١٨٢.

(٤) ظ : نهاية الاقدام ، الشهرستاني ، ١٨١.

(٥) الاقتصاد ، الشيخ الطوسي ، ٧٨+ كشف المراد ، العلامة الحلي ، ١٨١ ـ ١٨٢.

(٦) القيامة / ٢٣.

(٧) الشورى / ١١.

٢٨٨

في التفكير والانتاج ، وما قدمناه يعد نموذجا لما سنعرضه من آراء وجهود للإمام الباقر في مثل هذه المسائل من قضايا التوحيد في إطار الروايات التفسيرية الواردة عنه والتي سيتبين أثرها لاحقا على علماء الأمة الإسلامية ، والتي سنختار نماذج منها للاستدلال على تلك الآثار والاسهامات :

أولا : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١) فقد روى محمد بن يعقوب بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال : كاتبته ـ يقصد الإمام الباقر ـ : جعلني فداك ، نعبد الرحيم ، الواحد ، الأحد ، الصمد؟ قال أبو جعفر الباقر : من عبد الاسم دون المسمى بالأسماء فقد أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئا ، إن الأسماء صفات وصف الله بها نفسه (٢).

قال الزمخشري (ت : ٥٣٨ ه‍) : كان المشركون معتقدين ربوبيتين : ربوبية الله ، وربوبية آلهتهم ، فإن خصوا بالخطاب فالمراد به اسم يشترك فيه رب السموات والأرض والآلهة التي كانوا يسمونها أربابا (٣).

وقال ابن كثير الدمشقي : وشرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية الوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده باخراجهم من العدم إلى الوجود واسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة ... ثم قال : فبهذا يستحق أن يعبده وحده لا شريك به غيره (٤)

وقد اختلف المفسرون في المعني في (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، فمنهم من قال : المشركون ، ومن قال : كافة الناس ، ومن قال : المنافقون والمذبذبون (٥). غير أن تفسيرهم كان في سياق واحد لهذه الآية الكريمة جاعلين أهم صفة من صفاته هي الخلق والابداع.

__________________

(١) البقرة / ٢١.

(٢) أصول الكافي ، الكليني ، ١ / ٩٦+ تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٢٢.

(٣) الكشاف ، الزمخشري ، ١ / ٩٠.

(٤) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ١ / ٩٩ ـ ١٠٠.

(٥) ظ : الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١ / ١٩٤ ـ ١٩٥+ زاد المسير ، ابن الجوزي ، ١ / ٤٧ ـ ٤٨+ فتح القدير ، الشوكاني ، ١ / ٣٧ ـ ٣٨+ روح المعاني ، الآلوسي ، ١ / ١٨١ ـ ١٨٥.

٢٨٩

ويظهر من النص المتقدم عن الإمام الباقر أنه كان يريد أن يوجه الأمة في عصر انشغلت فيه بمباحث الصفات إلى صرف ماهية العبادة إلى الذات الالهية ، تحجيما لتلك التيارات من أن تخوض في الصفات فيؤثر ذلك الخوض على طبيعة العبادة التي أجمع المسلمون على أنها الغاية من الخلق ، ويؤيده في ذلك قوله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فكان تفسير الإمام الباقر تأكيدا على العبادة قبل كل شيء ، وكذلك بالنسبة للمفسرين فقد جاءت تفاسيرهم للآية المتقدمة لتؤكد صحة ما ذهب إليه الإمام أبو جعفر الباقر.

ثانيا : في تفسير قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)(١) ، فقد روي عن الإمام الباقر أنه قال : أي وسع علمه السموات والأرض (٢).

قال البخاري عن سعيد بن جبير : كرسيه أي علمه (٣) ، ونقل الطبري اختلاف أهل التأويل فيه فقال : ذهب ابن عباس إلى أنه علم الله تعالى ، حيث أسند الطبري هذه الرواية عن أبي كريب وسلمة بن جنادة عن مطرف عن جعفر بن المغيرة عن ابن عباس (٤). ثم عرض إلى الروايات الأخريات من قبيل موضع القدمين وأسند ذلك إلى الأشعري أبي موسى ، وذكر القول الثالث بأن معنى الكرسي : هو العرش نفسه مسندا ذلك إلى الحسن البصري ، ولكن الطبري قال : ولكل هذه الأقوال وجه ، وصوب قول ابن عباس وسعيد والإمام الباقر فقال : ويؤيده ظاهر القرآن لقوله : (وَلا يَؤُدُهُ) أي لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به فاصل الكرسي العلم وأثبت ذلك بشواهد شعرية أيضا (٥).

وذهب الزمخشري إلى القول : في تفسير الكرسي أربعة أوجه ، أحدها : تصوير لعظمته ، والثاني : علمه ، والثالث : ملكه ، والرابع : قدرته ، ورجح الوجه الأول وهو ما يتفق مع منهجه الاعتزالي في التأويل (٦).

__________________

(١) البقرة / ٢٥٥.

(٢) التبيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٢٥٤+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٦٢.

(٣) صحيح البخاري ، ٦ / ٣٨.

(٤) جامع البيان ، الطبري ، ٣ / ٧.

(٥) المصدر نفسه ، ٣ / ٧ ـ ٨.

(٦) الكشاف ، الزمخشري ، ١ / ٢٩٩.

٢٩٠

وذهب الرازي (ت : ٦٠٦ ه‍) إلى حمل هذا اللفظ على ظاهره على الرغم من أنه نقل آراء المؤولين ونقل في ما سماه الأخبار الصحيحة أنه جسم تحت العرش وفوق السماء السابعة (١) ، وظاهر كلام القرطبي (ت : ٦٦٧ ه‍) التعويل على ظاهر معنى الكرسي (٢).

أما الطبرسي فقد نقل عن الحسن البصري : أنه العرش هو هو ، وفي غيره أنه الملك والسلطان والقدرة ، ونقل رواية ضعيفة عن الصادق وعطاء أنه سرير دون العرش ، وضعفها يظهر من أنه علم الله تعالى (٣).

إن هذه الآية الكريمة من المتشابه القرآني ، أسهم الإمام الباقر في تأكيد رفع التشابه بانضمام رأيه إلى رأي ابن عباس وسعيد بن جبير ، وفي ذلك جزم بصحة تفسيره (٤).

ثالثا : في تفسير قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...)(٥) ، روي بسند عن سدير الصيرفي قال : سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر (عليه‌السلام) عن قول الله (عزوجل) (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال أبو جعفر : إن الله (عزوجل) ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله ، فابتدع السموات والأرض ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)(٦)(٧).

قال الطبرسي : أي مبدعها ومنشؤها بعلمه ابتداء لا من شيء ولا على مثال سبق ، وقال : وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (٨).

__________________

(١) التفسير الكبير ، الرازي ، ٧ / ١٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٣ / ٢٧٦.

(٣) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٦٢.

(٤) انظر للتفاصيل : تفسير آيات الصفات بين المفوضة والمؤولة ، مخطوط ، استاذنا الدكتور محسن عبد الحميد ، ٣١ ـ ٣٣.

(٥) البقرة / ١١٧.

(٦) هود / ٧.

(٧) الشافي في شرح أصول الكافي ، الشيخ عبد الحسين المظفر ، ٧ / ٢٢٧+ تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٤٥+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٤ / ٣٤٣.

(٨) مجمع البيان ، الطبرسي ، ١ / ١٩٢.

٢٩١

وذهب الزمخشري إلى حمل اللفظة على ظاهرها ولم يضف شيئا ، فقد قال : أي بديع سماواته وأرضه (١) ومال ابن كثير في تفسيره إلى قول الإمام الباقر حينما قال : أي خالقهما على غير مثال سبق بعد أن نقل قول مجاهد والسدي حيث قالا وهو مقتضى اللغة ونقل أيضا قول الطبري : أي مبدعهما (٢).

وكذلك القرطبي ذهب إلى القول : أي منشئهما وموجدهما ومبدعهما على غير حد ولا مثال (٣) ، وكذلك ابن الجوزي في قوله : أنه فطر الخلق مخترعا له لا على مثال سبق (٤).

وذهب الشوكاني والآلوسي إلى القول : أي هو بديع سماواته وأرضه أبدع الشيء أنشأه لا عن مثال ، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع (٥).

إذن من خلال هذا الاستعراض لأقوال جملة من المفسرين على اختلاف مناهجهم تبين أن أقوالهم في تفسير الآية الكريمة كانت امتدادا طبيعيا لرأي الإمام الباقر وقوله ، ومستفيدة منه أشد ما تكون الاستفادة بحيث أنهم قد أعرضوا عن باقي الأقوال مكتفين بما تنبؤه من رأيه الذي كان يمثل اعتدالا واضحا في فهم النصوص القرآنية المراد معالجتها وفق منظور إسلامي واع.

رابعا : في تفسير قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(٦) فقد وردت عدة روايات عن الإمام الباقر في معنى الآية مفادها جميعا عن زرارة بن أعين عنه أنه قال : شرك طاعة وليس شرك عبادة ، في المعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة وليس باشراك عبادة أن يعبدوا غيره معه (٧).

قال الطبرسي : إن المراد بالاشراك شرك طاعة لا شرك العبادة ، أطاعوا الشيطان في المعاصي التي يرتكبون مما أوجب الله عليها النار فأشركوا بالله في طاعة

__________________

(١) الكشاف ، الزمخشري ، ١ / ١٨١.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ١ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٢ / ٧٨.

(٤) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ١ / ١٣٦.

(٥) فتح القدير ، الشوكاني ، ١ / ١١٤+ روح المعاني ، الآلوسي ، ١ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(٦) يوسف / ١٠٧.

(٧) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ١٩٩ ـ ٢٠٠+ تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٢٧٤+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ١٥ / ٦+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ١ / ٨٦٠.

٢٩٢

ولم يشركوا بالله شرك عبادة فيعبدون معه غيره ، ونقل مضمون الرواية أعلاه عن الإمام الباقر (١).

ونقل الزمخشري أقوال المفسرين فقال : عن الحسن : هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هم الذين يشبهون الله بخلقه ، ومال هو إلى القول : أن أحدا لا يؤمن في اقراره بالله وأنه خلق السموات والأرض (٢).

وقال صاحب زاد المسير : أن في الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم المشركون لأنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به ، وهو أحد قولي ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة أو أنها نزلت في تلبية مشركي العرب قبل الإسلام وهذا القول في أنها تعني المشركين ـ وهو ما رجحه على بقية الأقوال ـ والثاني : أنهم النصارى ، والثالث : أنهم المنافقون. واحتج إلى ما ذهب إليه بقوله أنه ليس المراد به حقيقة الإيمان وإنما المعنى : إن أكثرهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون (٣).

ومال ابن كثير إلى قول الإمام الباقر بعد استعراض أقوال غيره من أن هذا الشرك شرك طاعة وليس بشرك عبادة في قوله : وثم شرك آخر خفي لا يشعر به غالبا فاعله ، وساق أحاديث وروايات كثيرة للاستدلال على ما ذهب إليه (٤).

وقد استعرض القرطبي جميع الأقوال في هذه الآية وبعد أن قال : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه عن الحسن ، وقال عطاء : هذا في الدعاء وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم بلاء أخلصوا في الدعاء ، وقيل : معناها أنهم يدعون الله أن ينجيهم من الهلكة فإذا أنجاهم قال قائلهم : لو لا فلان ما نجونا ، فيجعلون نعمة الله منسوبة إلى فلان ... قلت : قد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٥ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٢) الكشاف ، الزمخشري ، ٢ / ٥٠٨.

(٣) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٤ / ٢٩٤.

(٤) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٤ / ٥٥ ـ ٥٦.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٩ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٢٩٣

يشعر هذا القول من القرطبي بأنه مع الاتجاه القائل بأن هذا الشرك هو شرك طاعة لا شرك عبادة في قوله الأخير بأنه يقع فيه كثير من عوام المسلمين ، بالرغم من ايراده لبقية الأقوال.

ويذهب الشوكاني إلى : أن الآية مختصة بالمشركين من العرب والنصارى (١) ، وبعد أن استعرض أبو الثناء الآلوسي جميع الأقوال في الآية الكريمة ذهب إلى القول : أنهم من يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته وكان مرتكبا ما يعد شركا كيفما كان (٢).

وبهذا يكون قول الألوسي أيضا مندرجا تحت قول الإمام الباقر من أنه عنى بالآية عامة شرك الطاعة وليس شرك عبادة.

وبهذا يتبين لنا أن الإمام أسهم إسهاما فعالا في معرفة وفهم الآية ، تأصيلا لقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، إذا ما قال بعض المفسرين أنها نزلت في كذا ، باعتبار أن الخطاب القرآني شامل إلى يوم الدين وقد أخذ عن الإمام هذا المعنى جملة من كبار المفسرين كما اتضح في أعلاه.

خامسا : في تفسير قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ)(٣) ، روى الطبرسي عن الإمام الباقر قال : قال في تفسير هاتين الآيتين : الله المعبود الذي له الخلق وممن عجز عن إدراك ماهيته والاحاطة بكيفيته ، والأحد : الفرد المتفرد ، والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال (٤). ونقل الفيض الكاشاني عنه أنه قال في (الصَّمَدُ) : هو السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر ولا ناه (٥).

واحتج النسفي لابطال وجود الهين لتدبير هذا العالم بالبرهان العقلي القاطع ، وأكد مسألة واجب الوجود ، بعد أن قرر أن معنى الأحد : أي الواحد ، والواحد هو المتفرد ، بعد أن أبطل جميع الاحتمالات ، وقال : معنى الصمد هو السيد المصمود إليه في الحوائج ، والمعنى : هو الله الذي تعرفون وتقرون بأنه خالق

__________________

(١) فتح القدير ، الشوكاني ، ٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) روح المعاني ، الآلوسي ، ٣ / ٦٦ ـ ٦٧.

(٣) الاخلاص / ١ ـ ٢.

(٤) مجمع البيان ، الطبرسي ، / ١٠ / ١٢٢.

(٥) الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ٩٠٦.

٢٩٤

السموات والأرض وخالقكم وهو واحد لا شريك له وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه وهو الغني عنهم (١).

وكذلك بالنسبة لابن جزي فإنه بعد أن عرض أقوال العلماء في (أحد) اختار القول بأن معناه الواحد ، الفرد ، وبالنسبة للصمد أيضا فإنه رجح القول بأنه : السيد المطاع المفتقر إليه الخلق (٢).

أما ابن الجوزي فقد ذكر ثلاثة أقوال في سبب نزول سورة الاخلاص الأول عن أبي بن كعب (٣) والثاني عن ابن عباس (٤) والثالث عن قتادة والضحاك (٥) وفي كل واحد منها سؤال يوجه إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في وصف الله سبحانه وتعالى ، وأما في تفسير الآيات فإنه ينقل قول الخطابي ـ وهو قريب من قول الإمام الباقر ـ في معنى (أحد) ويتبناه فيقول : الأحد هو المنفرد بالذات فلا يضاهيه أحد ، ثم يستعرض أقوال العلماء في (الصمد) ويقسمها إلى أربعة أقوال :

١ ـ أنه السيد المطاع الذي يصمد إليه في الحوائج ، قاله ابن عباس.

٢ ـ أنه الذي لا جوف له ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والضحاك وقتادة والسدي.

٣ ـ أنه الدائم.

٤ ـ الباقي بعد فناء الخلق ، حكاه أبو سليمان الخطابي. وقد اختار هو القول الأول (٦). ومن خلال هذا العرض يتضح أنه قد أخذ بقول الإمام الباقر المروي عنه في الصافي المأخوذ عن ابن عباس.

ومال القرطبي إلى أحد قولي الإمام الباقر في معنى (الصَّمَدُ) بعد أن فسّر (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) بقوله : أي الواحد ، الوتر الذي لا شبيه له ولا نظير ، ولا صاحبة ، ولا ولد ، ولا شريك (٧) وبعد أن عرض باقي الأقوال قال : قال أهل

__________________

(١) مدارك التنزيل ، النسفي ، ٤ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٢) التسهيل لعلوم التنزيل ، ابن جزي ، ٤ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٣) ظ : المسند ، الإمام أحمد بن حنبل ، ٥ / ١٣٣+ سنن الترمذي ، ٢ / ١٧٢+ جامع البيان ، ٣٠ / ٣٤٢.

(٤) ظ : تفسير البغوي والخازن.

(٥) ظ : جامع البيان ، الطبري ، ٣٠ / ٣٤٣+ الدر المنثور ، السيوطي ، ٦ / ٤١٠.

(٦) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٩ / ٢٦٤ ـ ٢٦٨.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٢٠ / ٢٤٤.

٢٩٥

اللغة : الصمد السيد الذي يصمد إليه في النوازل والحوائج وقال قوم : الصمد الدائم الذي لم يزل ولا يزال ، واختار القول الأول (١) ، وهو اختيار البيضاوي أيضا (٢).

سادسا : في تفسير قوله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً)(٣) فعن زياد بن المنذر عن الإمام الباقر في تفسير (قُلْنا إِذاً شَطَطاً) قال : يعني جورا على الله أن قلنا له شريك (٤).

وخلص ابن الجوزي في تفسيره لهذه الآية إلى القول : بأنهم لا يجورون على الله بل قاموا في قومهم فدعوهم إلى التوحيد (٥) ، وكذلك النسفي ذهب إلى نفس المعنى وقال : إن الشطط هو الإفراط بالظلم (٦).

ومال ابن جزي صراحة إلى قول الإمام الباقر في تفسيره للآية فقال : أي لو دعونا من دونه إلها لقلنا قولا شططا ، والشطط الجور والتعدي (٧).

وبعد أن استعرض القرطبي أقوال العلماء في قيامهم في قومهم اختار قول الإمام الباقر في قوله : لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذن جورا ومحالا (٨). وهو ما ذهب إليه البيضاوي (٩).

سابعا : في تفسير قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(١٠) فعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر قال : يفنى كل شيء ويبقى وجه الله أعظم من أن يوصف ، لا ، ولكن معناها : كل شيء هالك إلا دينه (١١).

__________________

(١) المصدر نفسه ، ٢٠ / ٢٤٥.

(٢) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، البيضاوي ، ٤ / ٢٦٩.

(٣) الكهف / ١٤.

(٤) البرهان في تفسير القرآن ، ٢ / ٢٤٦.

(٥) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٥ / ١١٥.

(٦) مدارك التنزيل ، النسفي ، ٣ / ٤.

(٧) التسهيل لعلوم التنزيل ، ابن جزي ، ٢ / ١٨٣.

(٨) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٠ / ٣٦٦.

(٩) أنوار التنزيل ، البيضاوي ، ٣ / ١٣٥.

(١٠) القصص / ٨٨.

(١١) البرهان في تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٨٧.

٢٩٦

قال ابن الحوزي فيه قولان : الأول : إلا ما أريد به وجهه ، عطاء عن ابن عباس وبه قال الثوري.

والثاني : إلا هو ، قاله الضحاك وأبو عبيدة (١). ولم يرجح أحد القولين.

وقال الزمخشري : (إِلَّا وَجْهَهُ) إلا إياه ، والوجه يعبر به عن الذات (٢) ، وكذلك النسفي نص على هذا التفسير وزاد : قال مجاهد : يعني علم العلماء إذا أريد به وجه الله (٣).

وقال ابن كثير : اخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم ، الذي تموت الخلائق ولا يموت ، فعبر بالوجه عن الذات وهكذا قوله هاهنا (الآية) أي إلا إياه ، وقال مجاهد والثوري : أي : إلا ما أريد به وجهه ، وقد وفق بين القولين توفيقا رائعا بقوله : وهذا القول لا ينافي القول الأول فإن هذا اخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة (٤).

واستعرض القرطبي أقوال العلماء بدون أن يرجح واحدا منها ، قال : قال مجاهد : إلا هو ، وقال الصادق : دينه ، وقال أبو العالية وسفيان : أي : إلا ما أريد به وجهه أي ما يقصد إليه بالقربة ، وعن الثوري : إلا جاهه (٥).

وذهب البيضاوي إلى القول : إلا ذاته فإنما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدود (٦) ، وهو بهذا يميل إلى ترجيح قول من قال إلا هو.

ويذهب الآلوسي إلى هذا المعنى أيضا أي أن وجهه ذاته المقدسة تبارك وتعالى ويستدل على ما ذهب إليه بالبراهين العقلية الدالة على ما يريد أن يوجه الآية إليه (٧).

ويتبين من خلال استعراض هذه النصوص في معنى (الوجه) قد انقسمت إلى قولين ، الأول : هو ذاته سبحانه وتعالى ، والثاني : هو دينه بالتصريح في

__________________

(١) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٦ / ٢٥٢.

(٢) الكشاف ، الزمخشري ، ٣ / ٤٣٧.

(٣) مدارك التنزيل ، النسفي ، ٣ / ٢٤٩.

(٤) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٥ / ٣٠٦.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١٣ / ٣٢٢.

(٦) أنوار التنزيل ، البيضاوي ، ٤ / ١٣.

(٧) روح المعاني ، الألوسي ، ٢٠ / ١٣١ ـ ١٣٢.

٢٩٧

اللفظ كما ورد عن الباقر والصادق أو بقولهم : إلا ما أريد به وجهه من عمل صالح ـ وما هذا إلا من الدين ـ ولم يشذ واحد منهم عن هذا التفسير تنزيها له سبحانه وتعالى عن الجسمية التي أصبحت بعد عصر الإمام الباقر من أبرز المشاكل الفكرية التي ساهمت في إذكاء حدة الصراع بين الفرق الإسلامية القائلة بها والنافية لها.

وقد أشرنا من قبل أن التوحيد كان رائد المسلمين في أول الأمر ثم ما لبثوا أن افترقوا فريقين ، الأول : شبه الباري تبارك وتعالى ومال إلى التجسيم وهم الكرامية (١). والثاني : نزهه تعالى عن الجسمية وهم الأشعرية (٢) ، والإمامية (٣) ، والزيدية (٤) ، والمعتزلة (٥).

ثامنا : وفي نفي مشابهة الحوادث ، ورد في تفسيره لقوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(٦) في حوار مع جابر بن يزيد الجعفي حيث قال له الإمام الباقر : يا جابر ما أعظم فرية أهل الشام على الله يزعمون أن الله تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدس ، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نتخذه مصلى ، يا جابر أن الله تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه ، تعالى عن صفة الواصفين ، وجل عن أوهام المتوهمين ، واحتجب عن عين الناظرين لا يزول مع الزائلين ولا يأفل مع الآفلين (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٧)(٨). يستفاد من هذه الرواية ، أن مقدمات شبهات المجسمين كانت منتشرة في زمن الإمام الباقر وتشير إلى أن مراكز تركز مذهب التجسيم كان في الشام وأنها تستند

__________________

(١) مناهج الأدلة ، ابن رشد ، ١٧١+ احقاق الحق ، العلامة الحلي ، ١ / ٤٣.

(٢) ظ : الانصاف ، الباقلاني ، ١٨٨+ التمهيد ، الباقلاني ، ١٩١+ اللمع ، الأشعري ، ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) ظ : الاقتصاد ، الشيخ الطوسي ، ٧٤+ التوحيد ، الصدوق ، ٨١.

(٤) ظ : الحور العين ، الحميري ، ١٤٧.

(٥) ظ : الانتصار ، الخياط ، ١٥ ـ ٨٠+ شرح الأصول الخمسة ، القاضي عبد الجبار ، ٢١٦.

(٦) البقرة / ١٢٥.

(٧) الشورى / ١١.

(٨) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٥٩+ تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ١٥٥.

٢٩٨

إلى مقدمات ضعيفة ربما ترتكز في ذلك على الإسرائيليات ، فقد جاء في هذه الرواية رد على من يرى أن الله تعالى وضع قدمه على صخرة بيت المقدس واعتمد الرد في آلياته على ما يسمى بقياس الأولوية ، فقد أجاب الباقر : أن عبدا من عباده وضع قدمه على حجر فأمرنا أن نتخذه مصلى فكيف إن كان هو إنكارا لزعم المجسمة ، ثم يصرح الإمام في ذلك موجها أنظار الأمة إلى أن الله تعالى لا نظير له ولا شبيه.

ويلاحظ من الرواية أنها نهجت بتفسير القرآن بالقرآن لاستدلالها بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، وأن هذه الحوارية تكشف لنا عن الدور الفاعل والكبير الذي أداه الإمام الباقر مقابل تيارات التجسيم التي برزت في العالم الإسلامي ثم حوربت هذه التيارات الفاسدة من قبل المسلمين دولة وفقهاء.

تاسعا : وفي تفسير قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)(١) فعن محمد بن مسلم الطائفي عن الإمام الباقر قال : أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولا تدركها ببصرك ، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف بأبصار العيون (٢).

لقد اختلفت الفرق الإسلامية في مسألة الرؤية على قولين مشهورين :

الأول : جوازها من غير تكييف ولا إحاطة (٣) ، واستدلوا بأدلة كلها غير قاطعة الدلالة لكن فيها وجه (٤). وفسرت هذه الآية أن الاستدلال بها إنما جاء في سياق التمدح (٥).

الثاني : عدم الجواز لقوله تعالى : (... لَنْ تَرانِي ...)(٦) وقيل أن (لن) هنا تفيد التأبيد ورتبوا عليها استحالة الرؤية (٧). ولأنه لو كان تعالى مرئيا لكان في جهة وحيز.

__________________

(١) الأنعام / ١٠٣.

(٢) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٩٦+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ٣ / ١٦.

(٣) الباجوري على الجوهرة ، ٢ / ١٩+ الدردير شرح الخريدة ، ١٠٠.

(٤) ظ : العقائد العضدية ، الايجي ، ٢ / ١٧٦+ الطحاوية ، ١٤٤+ المواقف ، الايجي ، ٥٤.

(٥) التذكرة ، القرطبي ، ٤٩٢.

(٦) الأعراف / ١٤٣.

(٧) أوائل المقالات ، الشيخ المفيد ، ٦٢+ شرح الأصول الخمسة ، القاضي عبد الجبار ، ٢٣٣.

٢٩٩

أما المفسرون فقد نقل الطبري اختلاف أهل العلم وقال : فقال بعضهم : لا تحيط به الأبصار عن ابن عباس ، وعن سعيد عن قتادة : هو أعظم من أن تدركه الأبصار (١) ، وواضح أن هذه العبارة بنصها عن الإمام الباقر ، ونقل الطبري أيضا بسنده عن عطية العوفي أنه قال : لا تحيط أبصارهم به من عظمته وهو من رأي السدي (٢).

وحجة القائلين بالجواز أنه بغير كيف لا تتوافق مع نص القرآن الكريم وهي الاحاطة الكاملة الشاملة ، وأيد الزمخشري مذهب عدم جواز الرؤية ، واعتبر المعتزلة أن الآية محكمة (٣).

أما الفخر الرازي فقد عقد لتفسير هذه الآية فصلا لغويا ، أصوليا ، كلاميا طويلا ، وعرض وجهات النظر وأدلة الطرفين وما نوقشت به وانتهى إلى مناصرة مذهب أصحابه الأشاعرة (٤).

وقال الطبرسي في تفسير الآية : أي لا تراه العيون لأن الإدراك متى قرن بالبصر لم تفهم منه إلا الرؤية ، وقال : وبهذا خالف سبحانه جميع الموجودات لأن منها ما يرى ويرى كالإنسان وما يرى ولا يرى ، وما لا يرى ولا يرى كغير المدرك من المخلوقات ، وقد تفرد الله بالآية فإنه لا يرى ويرى غيره (٥). وإلى هذا أشار الإمام الباقر فكان مع الذين قالوا باستحالة الرؤية وعدم جوازها وتابعه على ذلك بعض المفسرين كما وضحنا.

ولعل في هذه الشواهد كفاية في توضيح جهود الإمام الباقر في تفسير بعض الآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بالتوحيد ونفي الصفات.

ومما تقدم تظهر لنا حقيقتان واضحتان ، الأولى : أن عصر الإمام الباقر لم يكن عصرا كالعصور التي سبقته في وحدة التوجهات الفكرية ، بل كان عصرا

__________________

(١) جامع البيان ، الطبري ، ٧ / ٢٠٠.

(٢) المصدر نفسه ، ٧ / ١٩٩.

(٣) الكشاف ، الزمخشري ، ١ / ٣٢٢.

(٤) التفسير الكبير ، الرازي ، ١٣ / ١٢٤.

(٥) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٤ / ٣٤٤.

٣٠٠