الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

ـ ومن صور حلمه وصبره أيضا ، ما نقله المؤرخون : إنه كان للإمام الباقر (عليه‌السلام) ولد ، وكان أثيرا عليه فمرض ، فخشي على الإمام لشدة حبه له ، وتوفي الولد فسكن صبر الإمام ، فقيل له : خشينا عليك يا بن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأجاب بالاطمئنان والرضا بقضاء الله قائلا : إنا ندعو الله فيما نحب ، فإذا وقع ما نكره لم نخالف الله فيما يحب (١).

قد تسلح الإمام الباقر (عليه‌السلام) بالصبر وواجه نوائب الدنيا ومصائب الدهر بإرادة صلبة ، وإيمان راسخ ، وتحمل الخطوب في غير ضجر ولا سأم محتسبا في ذلك الأجر عند الله ، هذه هي بعض الصور التي حفلت بها حياة الإمام الباقر (عليه‌السلام) وأمثالها سجلنا بعضا منها لكي تتوضح ملامح الحلم والصبر المرتسمة في شخصية هذا الإمام الصابر الحليم.

٤ ـ زهده وتسليمه لأمر الله

كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) زاهدا في دنياه ، راغبا في آخرته ، لا يأبه بزخارف الدنيا ولا يلتفت إليها ، بل كان شديد الحذر منها ، هاربا من إقبالها ، منذرا من خطر الاستشراف إليها ، فهو لم يتخذ الرياش في داره وإنما كان يفرش في مجلسه حصيرا (٢).

وكان يواسي الفقراء مرة بماله وأخرى بأقواله ، مصبرا لنفسه عليه زهدا وتقربا إلى الله تعالى ، ومما يروى عنه بأسانيد صحيحة في تفسيره لقوله تعالى (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا)(٣) قال : على الفقر في دار الدنيا ، وفي تفسيره لقوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)(٤) قال : بما صبروا على الفقر ومصائب الدنيا (٥).

__________________

(١) المصدر نفسه والصفحة+ المصدر نفسه والصفحة.

(٢) أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ١ / ٤ / ٤٧٢.

(٣) الفرقان / ٧٥.

(٤) الإنسان / ١٢.

(٥) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٢+ الطبقات الكبرى ، الشعراني ، ١ / ٢٨+ شرف الأسباط ، القاسمي ، ٧+ تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٣ / ٣٣٠+ الدر المنثور ، السيوطي ، ٥ / ٨١+ الاختصاص ، الشيخ المفيد ، ١٢٣+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ٢٠٥.

٦١

وفي هذا القول كان يحث الإمام على التعفف والصبر والزهد بما في الحياة الدنيا من مباهج وملاذ واحتساب ذلك عند الله سبحانه وتعالى.

كان يحذر من الركون إلى القراء الذين يقفون على أبواب الأغنياء وأصحاب السلطان بما رواه عن الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لأن الوقوف على أمثال هؤلاء ما هو إلا الركون إلى الدنيا وملاذها بأجلى صوره وإن انطوت على بسطاء الناس ، فانظر إليه يطلقها كلمة تكشف القناع عن وجوه أولئك الذين جرفتهم الحياة الدنيا وانغمسوا في ملاذها قائلا : إذا رأيتم القارئ يحب الأغنياء فهو صاحب دنيا وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص (١).

ودأب الإمام الباقر (عليه‌السلام) كدأب آبائه الكرام على تصغير الدنيا وتحقيرها حتى جعلها لا تساوي شيئا سوى أنها محل ابتلاء للفرد المسلم والجماعة بصيغ متعددة منها أنه كان يقول : كان لي أخ في عيني عظيم وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه (٢).

حاثا في هذا على الزهد والتسليم لأمر الله في السراء والضراء ، ومن أحسن الصور التي رسمها الإمام للدنيا بعد أن تعمق وتبصر في جميع شئونها فزهد فيها وحث المسلمين على ذلك الزهد ، ما رواه جابر الجعفي عنه أنه قال : يا جابر ما الدنيا ، وما عسى أن تكون ، هل هي إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أحببتها ، يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها ، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم ففازوا بثواب الأبرار ، إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مئونة إن نسيت ذكّروك ، وإن ذكرت أعانوك ، قوالين بحق الله ، قوامين بأمر الله ، يا جابر انزل الدنيا كمنزل نزلت به وارتحلت عنه أو كمال أصبته في منامك فاستيقظت

__________________

(١) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٣+ البداية والنهاية ، ابن الكثير الدمشقي ، ٩ / ٣١٠.

(٢) صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٢+ حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٨+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٥.

٦٢

وليس معك منه شيء إنما هي مع أهل اللب والعالمين بالله تعالى كفيء الظلال (١).

نستطيع أن نسمي هذه الوصية القيمة للإمام الباقر (عليه‌السلام) ـ بالوصية الزهدية ـ لما حملت بين طياتها من التحذير من غرور الدنيا وآثامها ، والحث على الزهد لأنه في نظر العارفين بالله تعالى هو أسلم طريق للوصول إلى مرضاته ومحبته لأن فيه كل ما يمكن أن يوصل إلى الفضيلة ومن ثم إلى المجتمع الفاضل الذي ارتضاه الله لعباده الصالحين.

٥ ـ كثرة صدقاته

كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) رحيما بالفقراء عطوفا عليهم ، فقد كان يرفع من شأنهم لئلا يرى عليهم ذل الحاجة والمسكنة ، وأنه عهد إلى أهله إذا قصدهم سائل أن لا يقولوا له يا سائل خذ هذا ، وإنما يقولون له : يا عبد الله بورك فيك (٢) ، وكان يقول سموهم بأحسن أسمائهم (٣).

يقصد بذلك الفقراء والمحتاجين لأنه كان يعتبر التصدق عليهم صلة واجبة بين المؤمنين.

وكذلك عدّ الإمام الباقر (عليه‌السلام) عتق العبيد وإنقاذهم من رق العبودية نوعا آخر من أنواع البر والمعروف فقد نقلت عنه المصادر أنه أعتق أحد عشر مملوكا في يوم واحد كلهم من أسرة واحدة (٤) وروي أنه أعتق عند حضور وفاته ثلث عبيده (٥). وكان يكثر البر والمعروف على فقراء المدينة فقد أحصيت صدقاته فبلغت ثمانية آلاف دينار (٦). وهذا المبلغ ضخم جدا وكان يشكل ثروة هائلة فلم

__________________

(١) مخطوطة مرآة الزمان سبط ابن الجوزي ، ج ٥ / الورقة ٧٨+ صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦١+ حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٢+ كشف الغمة ، الأربلي ، ٢ / ٣٣٣+ مطالب السئول ، ابن طلحة الشافعي ، ٨٠.

(٢) عيون الأخبار ، ابن قتيبة ، ٣ / ٢٠٨+ مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٥٣.

(٣) أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ١ / ٤ / ٤٧٢.

(٤) شرح شافية أبي فراس ، ٢ / ١٧٦+ ظ : حياة الإمام الباقر ، باقر القرشي ، / ١ / ٩٦.

(٥) المصدر نفسه والصفحة+ المصدر نفسه والصفحة.

(٦) أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ١ / ٤ / ٤٧١.

٦٣

يعبأ به الإمام الباقر (عليه‌السلام) بل تصدق بجميعه على الفقراء والمحتاجين ، وكان كثيرا ما يكتم الصدقة فلا يظهرها لئلا يفسدها الرياء.

وقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليه‌السلام) أنه قال : كان أبي أقل أهل بيته مالا وأعظمهم مئونة ، وكان يتصدق كل جمعة بدينار وكان يقول : الصدقة يوم الجمعة تضاعف كفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام (١).

٦ ـ جوده وسخاؤه

لقد جبل الإمام الباقر (عليه‌السلام) على الخير ومحبة الناس وصلتهم وإدخال السرور على الذين التقوا به من ذوي الحاجة والمسألة ، وكانت تلك الصفة من أهم عناصر شخصيته مضافة إلى العلم والفضل والإمامة وغيرها من الصفات التي تميز بها فكان من طليعة أعلام زمانه الذين ما زال التاريخ يحفظ لهم مواقفهم الكريمة ، ولم أجد في حدود ما اطلعت عليه من مصادر ترجمته من لم يصرح باتصاف الإمام بهذه الصفة فقد قال غير واحد منهم كان محمد بن علي بن الحسين مع ما هو عليه من العلم والفضل والرئاسة والإمامة ، ظاهر الجود في الخاصة والعامة ، مشهورا بالكرم في الكافة ، معروفا بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله (٢).

وعلى الرغم من أنه كان من أقل أهل بيته مالا وأعظمهم مئونة إلا أن ذلك لم يكن حائلا دون كرمه وجوده ولأن من المعروف لدى الجميع أن الكرم لا يقاس بكثرة العطية أو قلتها بل بما يؤثر به الكريم غيره على نفسه وعياله ، وكذلك كان الإمام الباقر.

ونقلت إلينا نماذج كثيرة دلت على جوده وكرمه غير أننا سنقتصر على ذكر مختارات منها دون التعرض إلى الكل لعلمنا أن هذه المختارات ستكون وافية للاستدلال على ما قلناه :

__________________

(١) الأمالي ، الشيخ الصدوق ، ٢٨٢+ أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، ق ١ / ٤ / ٤٧٢.

(٢) الوافي بالوفيات ، الصفدي ، ٤ / ١٠٢+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ٢٢٧.

٦٤

١ ـ عن الحسن بن كثير قال : شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي الحاجة وجفاء الإخوان فقال : بئس الأخ أخا يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا ثم أمر غلامه فأخرج كيسا فيه سبعمائة درهم وقال : استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني (١).

٢ ـ وروي عن عمرو بن دينار وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهما قالا : ما لقينا أبا جعفر محمد بن علي إلا حمل إلينا النفقة والصلة والكسوة ويقول : هذه معدة لكم قبل أن تلقوني (٢).

٣ ـ وروي عن سليمان بن دمدم قال : كان أبو جعفر محمد بن علي يجيزنا بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الألف درهم ، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه (٣).

٤ ـ وروي عن سلمى مولاته قالت كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب ويلبسهم الثياب الحسنة ويهب لهم الدراهم ، فأقول له في بعض ما يصنع فيقول : يا سلمى ما يؤمل في الدنيا بعد المعارف والإخوان (٤).

وفي رواية أخرى : فأقول له في ذلك ليقلل منه فيقول : يا سلمى ما حسنة الدنيا إلّا صلة الأخوان والمعارف (٥)

وكان الإمام الباقر (عليه‌السلام) يعد الجود والكرم وصلة الإخوان نوعا من أنواع التكافل الاجتماعي الذي حث عليه القرآن الكريم في كثير من آياته وأكده الرسول العظيم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الكثير من أحاديثه ، وكذلك كان يعتبره تأسيا بين

__________________

(١) صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٣+ مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ الورقة ٥٥+ المشرع الروي ، الشلي ، ١ / ٣٨.

(٢) عيون الأخبار ، ابن قتيبة ، ٢١٧+ الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٩+ الكنى والأسماء ، الدولابي ، ١ / ١٣٥ في حب عمرو بن دينار.

(٣) الإرشاد ، الشيخ المفيد ، ٢٩٩+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ٢٢٨.

(٤) مخطوطة الدر النظيم ، ابن حاتم ، الورقة ١٩٠+ صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٣+ كشف الغمة ، الأربلي ، ٢ / ٣٣٣.

(٥) الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٧+ مطالب السئول ، ابن طلحة الشافعي ، ٨١+ نور الأبصار ، الشبلنجي الشافعي ، ١٣١+ الكواكب الدرية ، المناوي ، ١ / ١٦٥.

٦٥

الإخوان المؤمنين ، فقد ورد في حلية الأولياء بسنده عن عبيد الله بن الوليد قال : قال لنا أبو جعفر محمد بن علي : أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد؟ قلنا : لا. قال : فلستم بإخوان كما تزعمون (١).

وروى غير واحد من العلماء هذا الخبر المتقدم عن الحجاج بن أرطأة قال : قال أبو جعفر محمد بن علي : يا حجاج كيف تواسيكم؟ قلت : صالح يا أبا جعفر ، قال : يدخل أحدكم يده في كيس أخيه فيأخذ حاجته إذا احتاج إليه؟ قلت : أما هذا فلا ، فقال : أما لو فعلتم ما احتجتم (٢).

وكان كثيرا ما يتعوذ من البخل ، ومن بوائقه لأنه من حبائل الشيطان ودسائسه ، وكان يوصي الناس أيضا بالتعوذ من هذه الصفة الرذيلة التي تبعد العبد عن ربه وتجعله كالبهيمة أو هو أضل سبيلا.

المبحث الخامس

وصاياه ، ومواعظه ، وبعض أقواله الخالدة

لقد كانت للإمام الباقر (عليه‌السلام) رغبة أكيدة واستعداد نفسي واضح للوعظ والإرشاد وتعليم الناس طرق الهداية ، وتحذيرهم من طرق الغواية ، فكان دائما ينذر ويحذر ويدعو ويرشد ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، يخاف على الناس مثل ما يخاف على نفسه من الغفلة وترك السنة ، فيقف واعظا الخاصة والعامة ، يوصي الناس حاكمين ومحكومين ، وإذا ما أزمة ألمت هرع إليه الكثير يريدون رأيه ونصحه ويستطلعون موقفه ويطلبون توجيهه.

وقد كانت وصاياه ومواعظه حافلة بالقيم الكريمة ، زاخرة بالمثل العليا ، متوفرة على جملة من آداب السلوك والتوجيه الصحيح الذي يحمي الناس من الانحراف والوقوع في مزالق الغواية والضلالة.

__________________

(١) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٧+ صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٣.

(٢) مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٥٤+ كشف الغمة ، الأربلي ، ٢ / ٣٣٣+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٩٧.

٦٦

* المطلب الأول : وصاياه :

نستطيع أن نقسم وصايا الإمام الباقر (عليه‌السلام) إلى ما أوصى به ابناه ، وما أوصى به بعض الخلفاء في عصره ، وإلى ما أوصى به بعض العلماء وتلامذته.

أولا : وصيته للإمام جعفر الصادق

قد زود الإمام الباقر (عليه‌السلام) ولده جعفر الصادق بجملة من الوصايا القيمة نختار واحدة منها للتمثيل والاستدلال ، ولما زخرت به من روائع الحكم وجمعت من مقومات الآداب والسلوك ، فقد قال الإمام أبو جعفر لولده : يا بني إن الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء : خبأ رضاه في طاعته ، فلا تحقرن من الطاعة شيئا فلعل رضاءه فيه ، وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئا فلعل سخطه فيه ، وخبأ أولياءه في خلقه فلا تحقرن أحدا فلعله ذلك الولي (١).

حفلت هذه الوصية بجملة من الأمور منها : الترغيب في طاعة الله والحث عليها ، والتحذير من المعصية والتشديد فيها ، والحث على عدم الاستهانة بالناس أيا كان موضعهم ومهما كانت طبقتهم بل فيها أمر بتكريمهم وإظهار معالم الاحترام لهم.

ثانيا : وصيته لبعض ولده

وفي وصية أخرى له يوصي بها بعض ولده فيقول : يا بني إذا أنعم الله عليك نعمة فقل : الحمد لله وإذا أحزنك أمر فقل : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وإذا أبطأ عنك رزقك فقل : أستغفر الله (٢).

في هذه الوصية أوجز الإمام الباقر (عليه‌السلام) كل معالم التقوى وأركان الصبر والإنابة من الذنب في كلمات قليلة كانت خير نبراس لمن أراد الالتزام بها واتخاذها منهجا حياتيا ، وهي صالحة لكل زمان ومكان لتخطيها حدودهما ، فكان الإمام الباقر (عليه‌السلام) يريد أن يقول يجب على العبد أن ينقطع لله تبارك وتعالى مهما كانت حالة ذلك العبد من الشكر على النعمة والصبر على المكروه والتوكل على الله.

__________________

(١) الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ١٢٩.

(٢) الموفقيات ، الزبير بن بكار ، ٣٩٩+ البيان والتبيين ، الجاحظ ، ٣ / ٢٠٨.

٦٧

ثالثا : وصيته للخليفة عمر بن عبد العزيز

أما وصاياه المتعلقة بسياسة الملك ، فهذه وصيته للخليفة عمر بن العزيز حينما طلب من الإمام أن يوصيه بما ينتفع منه في سياسة دولة الإسلام عند ما ولي الخلافة بعد أن أرسل إليه في جملة من أرسل إليهم ، فقال له الإمام أبو جعفر الباقر : أوصيك بتقوى الله ، وأن تتخذ صغير المسلمين ولدا ، وأوسطهم أخا ، وكبيرهم أبا ، فارحم ولدك ، وصل أخاك ، وإذا صنعت معروفا فربه.

فأعجب الخليفة عمر بن عبد العزيز بهذه الوصية الجامعة وراح يبدي إعجابه قائلا : جمعت والله ما أن أخذنا به ، وأعاننا الله عليه استقام لنا الخير إن شاء الله (١).

احتوت هذه الوصية جملة من الأمور منها : يجب على الخليفة أن لا يغتر بملك ولا يؤخذ بإقبال الدنيا عليه فإن أهم من ذلك كله تقوى الله ، وأن يسوس رعيته بسياسة العدل والإنصاف باتخاذ أبناء المسلمين أبناء له لا ينفكون عنه بل هم من أفراد أسرته ، وكذلك صلة الرحم بصلة إخوانه المسلمين فإذا كان الخليفة كذلك يسعد هو ويسعد معه المسلمون ، وتكون مدة حكمه خالية من الاضطرابات والفتن ، ويكون قد حقق أهم ما نادى به الإسلام للوهلة الأولى من العدالة والمساواة.

رابعا : وصيته لسفيان الثوري

وقد حكى الإمام الصادق (عليه‌السلام) إحدى وصايا أبيه لسفيان الثوري عند ما أراد منه الأخير أن يوصيه فقال : يا سفيان ، أمرني أبي بثلاث ، ونهاني عن ثلاث ، فكان فيما قال لي : من يصحب صاحب السوء لا يسلم ، ومن يدخل مداخل السوء يتهم ، ومن لا يملك لسانه يندم ، ثم انشد لي :

عود لسانك قول الخير تحظ به

أن اللسان لما عودت يعتاد

موكل بتقاضي ما سننت له

في الخير والشر فانظر كيف تعتاد (٢)

__________________

(١) مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٣٨+ تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي ، ٥ / ٧٤.

(٢) الخصال ، الشيخ الصدوق ، ١٥٧.

٦٨

حدد الإمام في هذه الوصية المحكية عن أبيه زين العابدين الإطار النظري للقيم الأخلاقية بتأسيس قواعد كلية عامة للمناهج السلوكية المرضية عند الله تبارك وتعالى وعند عامة الناس أيضا وقد وفق أشد التوفيق في ذلك التحديد وهذا العرض ومن خلال التطبيق الفعلي في حياته اليومية لما يوصي به سفيان الثوري وغيره.

خامسا : وصيته لجابر بن يزيد الجعفي

زود الإمام أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) تلميذه جابر الجعفي بوصية خالدة ، مميزة على كل وصاياه وعلى كل ما أوصى به موص على طول التاريخ العربي الإسلامي ، حفلت بجميع القيم الأخلاقية الرفيعة والمثل الإنسانية السامية ، التي لو طبقها الإنسان بجزئياتها وجعلها منهجا حياتيا له بكل تفصيلاتها لسمت به سموا جعله من الخالدين ، وسنورد هذه الوصية الرائعة ليتبين لنا أن هذا الإمام كان يحمل كنوزا معرفية جلت عن الوصف.

قال الإمام لجابر الجعفي : أوصيك بخمس ، إن ظلمت فلا تظلم ، وإن خانوك فلا تخن ، وإن كذبت فلا تغضب ، وإن مدحت فلا تفرح ، وإن ذممت فلا تجزع ، وفكر فيما قيل فيك ، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله (عزوجل) عند غضبك من الحق أعظم مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس وإن كنت على خلاف ما قيل فيك فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.

واعلم بأنك لن تكون لنا وليا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا إنك رجل صالح ، لم يسرك ذلك ، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله فإن كنت سالكا سبيله ، زاهدا في تزهيده ، راغبا في ترغيبه ، خائفا من تخويفه ، فاثبت وابشر ، فإنه لا يضرك ما قيل فيك ، وإن كنت مباينا للقرآن فما ذا الذي يغرك من نفسك ، إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة الله ، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواه فينعشه الله فينتعش ويقيل الله عثرته فيتذكر ويفزع إلى

٦٩

التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة بما زيد فيه من الخوف ، وذلك بأن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(١).

يا جابر استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلصا إلى الشكر ، واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله إزراء على النفس وتعرضا للعفو ، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم ، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل ، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف ، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة ، وتوق مجازفة الهوى بدلالة العقل وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم ، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص ، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة ، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل ، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس ، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس ، وتخلص إلى راحة النفس بصحة التفويض ، واطلب راحة البدن بإجمام القلب ، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخطأ ، وتعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن ، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق ، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك بالخوف الصادق ، وتزين لله (عزوجل) بالصدق في الأعمال ، وتحبب إليه بتعجيل الانتقال ، وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكى ، وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب ، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون ، واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم وكثرة الاستغفار ، وتعرض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة ، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء والمناجاة في الظلم ، وتخلص إلى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق واستقلال كثير الطاعة ، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر ، والتوسل إلى عظيم الشكر بخوف زوال النعم ، واطلب بقاء العز بإماتة الطمع ، وادفع ذل الطمع بعز اليأس ، واستجلب عز اليأس ببعد الهمة ، وتزود من الدنيا بقصر الأمل ، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة ولا إمكان كالأيام الخالية مع صحة الأبدان ، وإياك والثقة بغير المأمون فإن للشر ضراوة كضراوة الغذاء.

__________________

(١) الأعراف / ٢٠١.

٧٠

واعلم أنه لا علم كطلب السلامة ، ولا سلامة كسلامة القلب ، ولا عقل كمخالفة الهوى ، ولا خوف كخوف عاجز ، ولا رجاء كرجاء معين ، ولا فقر كفقر القلب ، ولا غنى كغنى النفس ، ولا قوة كغلبة الهوى ، ولا نور كنور اليقين ، ولا يقين كاستصغارك للدنيا ، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك ، ولا نعمة كالعافية ، ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد الهمة ، ولا زهد كقصر الأمل ولا حرص كالمنافسة في الدرجات ، ولا عدل كالإنصاف ، ولا تعدي كالجور ، ولا جور كموافقة الهوى ، ولا طاعة كأداء الفرائض ، ولا خوف كالحزن ، ولا مصيبة كعدم العقل ، ولا عدم العقل كقلة اليقين ، ولا قلة يقين كفقد الخوف ، ولا فقد خوف كقلة الحزن على فقد الخوف ، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب ورضاك بالحالة التي أنت عليها ، ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة الهوى ، ولا قوة كرد الغضب ، ولا معصية كحب البقاء ، ولا ذل كذل الطمع ، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة فإنه ميدان يجر لأهله الخسران (١).

حفلت هذه الوصية بجواهر الحكم وأضاءت جوانب كثيرة من مواهب الإمام الباقر (عليه‌السلام) وعلمه ، ويحق لقائل أن يقول : لو لم تكن له غير هذه الوصية لكانت كافية في الاستدلال على ما يملكه الإمام أبو جعفر من طاقات علمية لا توصف ، فهو نظر إلى أعماق النفس الإنسانية وسبر أغوارها وحلل أبعادها وعرف ما ابتلي به الإنسان من الأمراض النفسية والأخلاقية من جهل وكبرياء وغرور وطمع وبعد أمل مما يدفعه إلى الإغراق في المعاصي واجتراح الآثام وسلوك طرق الضلالة ، ودرس الإمام الباقر (عليه‌السلام) كل ذلك فوضع لكل واحد من تلك الأمراض والآفات علاجا مناسبا ووصف لكل منها دواء فاعلا يستطيع الإنسان بواسطته القضاء على تلك الأمراض إذا ما أخذ بهذه المجموعة المتراصة والمتكاملة من الوصايا التي صبت في قالب واحد ووصية واحدة وعمل بها فإنه سيعود إنسانا مثاليا مهذبا قد صان نفسه واتصل بخالقه تبارك وتعالى.

__________________

(١) تحف العقول ، ابن شعبة الحراني ، ٢٨٤ ـ ٢٨٦.

٧١

سادسا : وصيته لرجل من المسلمين

ومن وصاياه القصار فقد وفد عليه رجل من المسلمين وطلب منه أن يوصيه بوصية يسير على ضوئها ويهتدي بهديها ، فقال له الإمام الباقر : هيئ جهازك وقدم زادك ، وكن وصي نفسك (١).

صورت هذه الوصية على قصرها ما يحتاجه الإنسان ليسلم على دينه ويكون ضامنا للفوز بآخرته يوم لا ينفع مال ولا بنون ، بالقربة من الله زلفى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه بأن يهيئ أعماله الصالحات ليقدمها بين يدي ربه ، وأن يحاسب نفسه ويجعلها رقيبة عليه.

* المطلب الثاني : مواعظه :

كان الإمام الباقر (عليه‌السلام) في مواعظه يحذر من الدنيا والركون إليها ، وينذر من الاغترار بها والعيش من أجلها ، ويدعو الناس إلى التفكر والتبصر فيما يصيرون إليه من مفارقة الدنيا إلى القبور المظلمة واللحود الموحشة التي لا ينفع فيها إلا ما ادخره الإنسان من الباقيات الصالحات.

فمن بعض مواعظه في هذا الباب قوله : أيها الناس إنكم في هذه الدنيا أغراض تنتقل فيكم المنايا ، لن يستقبل أحد منكم يوما جديدا من عمره إلا بانقضاء آخر من أجله ، فأية أكلة ليس فيها غصص؟ أم أي شربة ليس فيها شرق؟ استصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه ، فإن اليوم غنيمة وغدا لا تدري لمن هو ، أهل الدنيا في سفر يحلون عقد رحالهم في غيرها ، قد خلت منا أصول نحن فروعها فما بقاء الفرع بعد أصله.

أين الذين كانوا أطول أعمارا منكم وأبعد آمالا؟ أتاك يا بن آدم ما لم ترده ، وذهب عنك ما لا يعود ، فلا تعدن عيشا منصرفا عيشا ، ما لك منه إلا لذة تزدلف بها إلى حمامك ، وتقربك من أجلك ، فكأنك قد صرت الحبيب المفقود والسواد المخترم ، فعليك بذات نفسك ودع ما سواها واستعن بالله يعنك (٢).

__________________

(١) مخطوطة تاريخ دمشق ، ابن عساكر ، ج ٥١ / الورقة ٣٨+ ربيع الأبرار ، الزمخشري ، ١ / ٣٨.

(٢) تحف العقول ، ابن شعبه الحراني ، ٢٩٩+ الكامل في الادب ، المبرد ، ١ / ١٢٧.

٧٢

وكان الإمام الباقر (عليه‌السلام) كثيرا ما ينتهز الفرصة عند تفسيره لبعض الآيات القرآنية ، مستغلا الموقف في استماع الناس لما سيقول في تفسير هذه الآية أو تلك فيجعل من تفسيره على شكل موعظة تفيد الناس في حياتهم ، ففي تفسيره لقوله تعالى : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ)(١).

قال : ما اغرورقت عين بمائها من خشية الله إلا وحرم الله وجه صاحبها على النار ، فإن سالت على الخدين دموعه لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة ، وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله تعالى يكفر بها بحور الخطايا (٢).

لقد دعا الإمام الناس إلى البكاء من خشية الله فإنه من علامة الإيمان الصحيح الكاشف عن اتصال العبد بربه وخالقه.

وسئل الإمام يوما عن أشد الناس زهدا؟ فقال : من لا يبالي الدنيا في يد من كانت ، فقيل له : من أخسر الناس صفقة؟ فأجاب : من باع الباقي بالفاني ، فقيل له : من أعظم الناس قدرا؟ فقال : من لا يرى الدنيا لنفسه قدرا (٣).

ووعظ الإمام يوما بعض أصحابه فقال لهم : إن الله تعالى يقول : يا بن آدم تطولت عليك بثلاث ؛ سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما داروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدم خيرا ، وجعلت لك نظرة في ثلثك فلم تقدم خيرا (٤).

وهكذا نرى الإمام الباقر (عليه‌السلام) يستنطق النصوص القرآنية في وصاياه ومواعظه فيجعل تلك الآيات القرآنية رائدا له في كل ما يعظ به الناس ، ولو أردنا استعراض كل ما أوصى ووعظ به الإمام لما وسعت هذه الصفحات هذا المطلب فآثرنا ذكر بعض النماذج منها والتي ساقها لمعالجة النفوس وتهذيبها ، وكانت هذه الظاهرة التربوية من أبرز القيم في تعاليم هذا الإمام الجليل.

__________________

(١) يونس / ٢٦.

(٢) البداية والنهاية ، ابن كثير الدمشقي ، ٩ / ٣١٢+ الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي ، ٩٤+ صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦١+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٥ / ١٠٤+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ١٩ / ٤٧.

(٣) البيان والتبيين ، الجاحظ ، ٣ / ١٦١ ـ تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي ، ٢ / ٣٢١.

(٤) الخصال ، الشيخ الصدوق ، ١٣١.

٧٣

* المطلب الثالث : في بعض أقواله الخالدة :

أما بالنسبة لقصار المعاني التي أثرت عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) وتحمل في طياتها من المغزى الأخلاقي والتربوي العظيم ما لا تتسع لها تلك الأقوال لو صبت في قالب آخر عن غير الإمام الباقر ، فقد وردت عنه مجموعة كبيرة جدا من تلك المعاني تجاذبها العلماء من الأمة الإسلامية ودوّنوها في تصانيفهم.

وسنعرض هنا لجملة من تلك الأقوال المأثورة عنه ، والتي أودعها الإمام روائع الحكم القصار الحافلة بالقيم الكبيرة والحكم الصائبة والتجارب النافعة ، وإليك بعضها :

١ ـ قال الإمام أبو جعفر الباقر : ما شيب شيء بشيء أحسن من حلم بعلم (١).

٢ ـ وقال : من لم يجعل الله له من نفسه واعظا فإن مواعظا الناس لن تغني عنه شيئا (٢).

٣ ـ وقال : من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه (٣).

٤ ـ وقال : أربع من كنوز البر : كتمان الحاجة ، وكتمان الصدقة ، وكتمان الوجع ، وكتمان المصيبة (٤).

٥ ـ وقال : من صدق لسانه زكا عمله ، ومن حسنت نيته زيد في رزقه ، ومن حسن برّه في أهله زيد في عمره (٥).

٦ ـ وقال : إن المؤمن أخو المؤمن ، لا يشتمه ، ولا يحرمه ، ولا يسيء الظن به (٦).

٧ ـ وقال : أفضل العبادة عفة البطن والفرج (٧).

٨ ـ وقال : لكل شيء آفة ، وآفة العلم النسيان (٨).

__________________

(١) تحف العقول ، ابن شعبة الحراني ، ٢٩٢+ جامع كرامات الأولياء النبهاني ، ١ / ٩٧.

(٢) إثبات الهداة ، الحر العاملي ، ٥ / ٢٦٦+ تحف العقول ، ابن شعبة الحراني ، ٢٩٣.

(٣) تحف العقول ، ابن شعبة الحراني ، ٢٩٣.

(٤) المصدر نفسه والصفحة.

(٥) المصدر نفسه والصفحة.

(٦) المصدر نفسه والصفحة.

(٧) صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٢ ـ ٦٣+ المشرع الروي ، الشلي ، ١ / ٣٧.

(٨) حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨٣+ البداية والنهاية ، ابن كثير الدمشقي ، ٩ / ٣١٠.

٧٤

٩ ـ وقال : اللهم أعنّي على الدنيا بالغنى ، وعلى الآخرة بالتقوى (١).

١٠ ـ وقال : لا يزال الرجل يزداد في رأيه ما نصح لمن استشاره (٢).

١١ ـ وقال : سلاح اللئام قبيح الكلام (٣).

١٢ ـ وقال : الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن ولا تصيب الذاكر (٤).

١٣ ـ وقال : أشد الأعمال ثلاثة : ذكر الله على كل حال ، وإنصافك من نفسك ، ومواساة الأخ في المال (٥).

١٤ ـ وقال : لا يكون المعروف معروفا إلا باستصغاره وتعجيله وكتمانه (٦).

١٥ ـ وقال : ما أحسن الحسنات بعد السيئات ، وما أقبح السيئات بعد الحسنات (٧).

١٦ ـ وقال : من أصاب مالا من أربع لم يقبل منه في أربع : من أصاب مالا من غلول أو ربا أو خيانة أو سرقة ، لم يقبل منه في زكاة ، ولا في صدقة ، ولا في حج ، ولا في عمرة (٨).

١٧ ـ وقال : إن الكذب حراب الإيمان (٩).

١٨ ـ وقال : شر الأدباء من دعاه البر إلى الإفراط ، وشر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق (١٠).

١٩ ـ وقال : إن الله قضى قضاء حتما .. ألّا ينعم على العبد نعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة (١١).

__________________

(١) البيان والتبيين ، الجاحظ ، ٣ / ٢٢٢.

(٢) عيون الأخبار ، ابن قتيبة ، ١ / ٣٠٠.

(٣) طبقات الشعراني ، ١ / ٢٨+ ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي ، ٤٣٣.

(٤) سير أعلام النبلاء ، الذهبي ، ٤ / ٢٤٢+ حلية الأولياء ، الأصفهاني ، ٣ / ١٨١+ صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٠.

(٥) حلية الأولياء الأصفهاني ، ٣ / ١٨٣.

(٦) الأخبار الموفقيات ، الزبير بن بكار ، ٤٠٠.

(٧) الأمالي ، الشيخ الصدوق ، ٢٢٤.

(٨) المصدر نفسه ، ٢٩٦.

(٩) أصول الكافي ، الكليني ، ٢ / ٣٣٩.

(١٠) تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي ، ٢ / ٥٣+ أصول الكافي ، الكليني ، ٢ / ٢٧٣.

(١١) المصدر نفسه والصفحة.

٧٥

٢٠ ـ وقال : لو صمت النهار لا أفطر وصليت الليل لا أفتر ، وأنفقت مالي في سبيل الله علقا علقا ، ثم لم تكن في قلبي محبة لأوليائه ولا بغضة لأعدائه ما نفعني ذلك شيئا (١).

٢١ ـ وقال : اصبر للنوائب ، ولا تتعرض للحقوق ، ولا تعطي أحدا من نفسك ما ضره عليك أكثر من نفعه (٢).

٢٢ ـ وقال بئس الأخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا (٣).

٢٣ ـ وقال : ليس في الدنيا شيء أعون من الإحسان إلى الإخوان (٤).

٢٤ ـ وقال : من أعطى الخلق والرفق فقد أعطى الخير والراحة ، وحسن حاله في دنياه وآخرته ، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا إلى كل شر وبلية إلا من عصمه الله (٥).

٢٥ ـ وقال : ما يضر من عرّفه الله الحق أن يكون على قلة جبل يأكل من نبات الأرض حتى يأتيه الموت (٦).

٢٦ ـ وقال : إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر إلى قلبك ، فإن كان يحب أهل طاعة الله (عزوجل) ويبغض أهل معصيته ففيك خير ، والله يحبك ، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك ، والمرء مع من أحب (٧).

٢٧ ـ وقال : ما من شيء أبغض إلى الله من بطن مملوء (٨).

٢٨ ـ وقال : إني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلا على مقدار علمه كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله (٩).

__________________

(١) المصدر نفسه والصفحة.

(٢) المصدر نفسه والصفحة.

(٣) طبقات الشعراني ، ١ / ٢٨+ صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٣+ المشرع الروي ، الشلي ، ١ / ٣٨.

(٤) صفوة الصفوة ، ابن الجوزي ، ٢ / ٦٣+ كشف الغمة ، الأربلي ، ٢ / ٣٣٠.

(٥) البداية والنهاية ، ابن كثير الدمشقي ، ٩ / ٣١١.

(٦) التحصين ، أحمد بن فهد الحلي ، ٢٢٥.

(٧) علل الشرائع ، الشيخ الصدوق ، ١١٧.

(٨) جامع السعادات ، النراقي ، ٢ / ٥.

(٩) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ٧ / ٩٢.

٧٦

الفصل الثّاني

من سيرته العلمية

ويتضمن :

* المبحث الأول : حثه على طلب العلم وأقواله في العلم والعلماء

* المبحث الثاني : علومه ومعارفه

* المبحث الثالث : مناظراته وأجوبته

* المبحث الرابع : مكانته وأقوال العلماء فيه

٧٧
٧٨

المبحث الأول

حثه على طلب العلم وأقواله في العلم والعلماء

كانت حياة الإمام الباقر (عليه‌السلام) حافلة بأعمال جليلة ومآثر عظيمة ، فقد فتحت في عصره معاهد العلم وعقدت فيه مجالس البحث لدراسة الفقه والحديث والفلسفة والتفسير وسائر العلوم الأخرى ، وكانت حلقة دراسة تنعقد في المسجد النبوي الشريف وتضم كبار التابعين وأعيان الفقهاء في المدينة المنورة ، وكان له فضل لا يستهان به مع جهود العلماء الآخرين في إنارة مجالس البحث وحلقات الدرس.

وقد اهتم الإمام الباقر (عليه‌السلام) في تبيين ما للعلم والعلماء من فضل ، وما في طلب العلم وآداب العلم من فضيلة لأنه بات واضحا أن العلم هو الدعامة الأولى الذي ترتكز عليه الأمم والشعوب في رقيها وتقدمها الحضاري ، وتلك ميزة تضاف إلى مزايا الإمام الباقر (عليه‌السلام) بوصفه أحد مصادر الوعي والتوجيه للأمة الإسلامية آنذاك.

أولا : بيانه لفضل العلم ومكانته

نراه أولا يبين فضل العلم ومكانته السامية عند الله سبحانه وتعالى وعند العقلاء إذ روي عنه أنه قال : تعلموا العلم فإن تعلمه جنة ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، والعلم منار الجنة ، وأنس الوحشة ، وصاحب في الغربة ، ورفيق في الخلوة ، ودليل على السراء ، وعون على الضراء ، وزين عند الأخلاء ، وسلاح على الأعداء ، يرفع الله به قوما ليجعلهم في الخير أئمة يقتدى بفعالهم ، وتقتص آثارهم ، ويصلي عليهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه (١).

__________________

(١) تذكرة ابن حمدون ، ٢٦+ معالم العلماء ، ابن الشهيد الثاني ، ١٦.

٧٩

جمعت هذه الكلمة كل ما قد يقال في تمجيد العلم وبيان فضله ، وأحاطت بثمراته وفوائده ، وبينت قيمة أهله وطالبيه ، ورغبت في طلبه أشد ما يكون الترغيب لأنها رفعت العلم إلى أعلى درجات السمو وجعلته هو والعبادة صنوان لا يفترقان ، وإذا لم تكن للإمام الباقر (عليه‌السلام) سوى هذه الكلمة في العلم والعلماء لكانت كافية في أن تؤسس الخطوط العريضة للمنهج العلمي للحركة العلمية والفكرية التي أوجدها الإمام الباقر (عليه‌السلام) في عصره ، والتفاف طلاب العلم ورواد الحقيقة حوله على الرغم من كل الصعوبات والعقبات التي كانت تواجهه وتواجه تلامذته وطلابه.

ثانيا : بيانه لفضل العالم ومكانته

أما ما أثر عنه في الإشادة بفضل العالم وتوضيحه لمكانته الاجتماعية المرموقة والتي يجب أن يتبوأها العلماء وما أعدّه الله (عزوجل) لهم من جزيل الأجر والثواب فهي كلمات كثيرة ، والحق لا يخلو واحد من مصادر التراث العربي الإسلامي قد جعل من أبوابه بابا للعلم إلا وذكر كلمة للإمام ، ولذلك سنختار بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر وهي :

١ ـ قال الإمام أبو جعفر الباقر : عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد (١) ، وفي رواية أفضل من ألف عابد (٢).

٢ ـ وقال : والله لموت عالم أحب إلى إبليس من موت سبعين عابدا (٣).

٣ ـ وقال : من علم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئا ، ومن علم باب ضلالة كان عليه مثل وزر من عمل به ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئا (٤).

٤ ـ وقال : ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح إلا خاض الرحمة خوضا (٥).

__________________

(١) جامع بيان العلم وفضله ، ابن عبد البر ، ١ / ٣٢+ جامع السعادات ، النراقي ، ١ / ١٠٤.

(٢) حلية الأولياء الأصفهاني ، ٣ / ١٨٣.

(٣) المصدر نفسه ، ٣ / ٨٢+ البداية والنهاية ، ابن كثير الدمشقي ، ٩ / ٣١٢.

(٤) أصول الكافي ، الكليني ، ١ / ٣٤.

(٥) ناسخ التواريخ ، محمد تقي الكاشاني ، ٢ / ٢٠٥.

٨٠