الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) وقد قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(١) فقال أبو جعفر الباقر : قد فرق الله بينهما ، ثم قال : أكنت قاتل رجل لو قتل أخاك؟ قلت : نعم ، قال : فلو مات موتا أكنت قاتلا به أحدا؟ قلت : لا ، قال : ألا ترى كيف فرق الله بينهما (٢).

ولا ريب في اختلاف أصناف الموت وأنواعه ولا ربط لأحد الأصناف والأنواع بالآخر ، فذات الموت شيء والقتل شيء آخر وإن كان الأخير سببا له ، وهو ـ أي الإمام الباقر ـ يبين منشأ الخلاف والسائل تمسك بذكر جنس الموت كما في قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)(٣).

وللإمام الباقر استنباطات كثيرة وخاصة في الأحكام الفقهية وغيرها تدل على عمق فهمه ، وحسن استنباطه ، وفي أكثرها إجابة لتساؤلات من أصحابه وتلامذته أو من عامة الناس ، فقد كان يرجع إليه الكثير من العلماء في مثل تلك الاستنباطات.

وأخيرا : إن المتتبع لأقواله وآرائه في التفسير يجد غوصه في المعاني واستنباطه الأحكام واضحا جليا ، فهو يعلل ويقارن ويوجه ويستنبط من الآية ما تشير إليه من معان قد لا تدرك بسهولة ويسر إلا للمتبحرين من العلماء ، وكيف لا يتأتى ذلك للإمام أبي جعفر الباقر وهو الذي لقب بباقر علوم الأولين والآخرين وقد تحصل إجماع العلماء على ذلك.

* * *

__________________

(١) آل عمران / ١٨٥.

(٢) تفسير العياشي ، ١ / ٢٠٢+ تفسير القرآن ، ١ / ٣٢٣+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٩ / ٧٠.

(٣) ظ : المواهب الرحمن ، السبزواري ، ٦ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٢٢١
٢٢٢

الباب الثّاني

آراء الإمام الباقر

(عليه‌السلام)

وأثرها في علوم القرآن والتفسير

ويتضمن

الفصل الأول

جهود الإمام الباقر في علوم القرآن

الفصل الثاني

آراؤه وأثرها في تفسير آيات العقائد

الفصل الثالث

جهوده وأثرها في تفسير آيات الأحكام

الفصل الرابع

الجانب التربوي والأخلاقي في تفسير الإمام الباقر

الفصل الخامس

قيمة تفسيره وخصائصه وأثره في غيره

٢٢٣
٢٢٤

الفصل الأوّل

جهود الإمام الباقر في

علوم القرآن

ويتضمن :

* المبحث الأول : آراؤه في الناسخ والمنسوخ وموقفه منه

* المبحث الثاني : جهوده في علم أسباب النزول وتوجيهه لها

* المبحث الثالث : جهوده في القراءات القرآنية

* المبحث الرابع : جهوده في فضائل القرآن الكريم

* المبحث الخامس : جهود الإمام الباقر في القصص القرآني وموقفه من الاسرائيليات

٢٢٥
٢٢٦

المبحث الأول

آراؤه في الناسخ والمنسوخ وموقفه منه

من المسائل المهمة في علوم القرآن هي معرفة الناسخ والمنسوخ بل وفي التفسير أيضا ، حتى أن العلماء قد نقلوا قول الإمام علي بن أبي طالب لقاض : أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا ، قال الإمام : إذن هلكت وأهلكت (١) ، وقال أئمة العلم كذلك لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف الناسخ والمنسوخ ، وهو ما خلص الله به هذه الأمة لحكم منها : التيسير وتدرج الأحكام ، والنسخ واقع بالقرآن والسنة ولكل منهما (٢).

والاعتراض على هذا القول يبدو في حكمة النسخ من تدرج الأحكام باعتبار أن التدرج في الحكم غير النسخ بالاصطلاح ، فالتدرج كان لحكمة اقتضتها التربية الالهية التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يربي بها خلقه ، وأما النسخ في الاصطلاح : فهو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه (٣). والفرق واضح بين التدرج والرفع حتى في اللغة فلا يحتاج إلى مزيد توضيح.

ويبدو أن العلماء قد ولعوا ولوعا شديدا في هذه المسألة ـ وهو موقفهم من النسخ ـ حتى أنهم انقسموا إلى ثلاثة مذاهب مأخوذة من اثنتين وهي كما يأتي :

الأول : قال بعض العلماء بوقوع النسخ بشكل كبيرا جدا ، حتى أنهم قطعوا أوصال الآية الواحدة ، فزعموا أن أولها منسوخ وآخرها ناسخ ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(٤) فان آخر

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٢ / ٦٢+ الاتقان ، السيوطي ، ٢ / ٢٠+ روح المعاني ، الآلوسي ، ٤ / ٢٣١+ مناهل العرفان ، الزرقاني ، ١ / ١٩.

(٢) ظ : الناسخ والمنسوخ ، هبة الله بن سلامة ، ٤+ الاتقان ، السيوطي ، ٢ / ٢٠+ معرفة الناسخ والمنسوخ+ ٢ / ١٤٩+ الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ، الحازمي ، ١٩.

(٣) ظ : إرشاد الفحول ، الشوكاني ، ١٧١+ مناهل العرفان ، الزرقاني ، ٢ / ٧٢+ علم أصول الفقه ، عبد الوهاب خلاف ، ٢٥١+ علوم القرآن والتفسير ، د. محسن عبد الحميد ، ٤١.

(٤) المائدة ، ١٠٥.

٢٢٧

الآية يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو بذلك ناسخ لأولها عند ابن العربي مثلا (١).

الثاني : ما مثله أبو مسلم الأصفهاني بإنكاره لوقوع النسخ في القرآن الكريم وسماها تخصيصا تجنبا منا ـ كما ظن ـ لإبطال حكم قرآني أنزله الله تعالى (٢).

الثالث : ومن العلماء من أقرّ بوقوع النسخ في القرآن الكريم ، إلا أنهم قد اقتصروا على عدد قليل من الآيات (٣). ومن المحدثين من اقتصر به على آية واحدة فقط منهم المحقق الخوئي وأستاذنا الدكتور الجميلي (٤) واشترط العلماء للنسخ عدة شروط يجب تحققها في الناسخ والمنسوخ على حد سواء لكي يضيقوا من دائرته في القرآن الكريم (٥).

غير أنه لا خلاف بينهم في وقوعه إجمالا في القرآن الكريم ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية وأن جملة من أحكام هذه الشريعة قد نسخت بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها ، فقد نص القرآن الكريم مثلا على نسخ التوجه في الصلاة إلى القبلة الأولى وهذا مما لا ريب فيه (٦).

وللإمام الباقر جهود في الناسخ والمنسوخ بعد أن قرر في رواية صحيحة رواها عنه زرارة بن أعين قال : نزل القرآن ناسخا ومنسوخا ، وهذا يعني أن النسخ واقع في القرآن الكريم ، وليس التقييد بأن القرآن كله ناسخ ومنسوخ إذ من غير المعقول أن يكون قول الإمام الباقر في أعلاه محمولا على هذا ، ولم يرد عنه (عليه‌السلام) سوى روايات قليلة جدا في الناسخ والمنسوخ لم تتجاوز (٦) روايات في حدود ما استطعنا استقراءه ، وإليك تلك الروايات :

أولا : في قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا

__________________

(١) أحكام القرآن ، ابن العربي ، ١ / ٢٠٥+ ظ : مباحث في علوم القرآن ، د. صبحي الصالح ، ٢٦٤ وانظر مصادره.

(٢) ظ : البرهان في علوم القرآن ، الزركشي ، ٢ / ٣٣+ مناهل العرفان ، الزرقاني ، ٢ / ٨١+ مباحث في علوم القرآن ، د. صبحي الصالح ، ٢٦٢.

(٣) ظ : الاتقان ، السيوطي ، ٢ / ٢٠ ـ ٢٤.

(٤) ظ : البيان في تفسير القرآن ، الخوئي ، ٢٩٦ ـ ٤٠٣+ محاضرات استاذنا الدكتور الجميلي.

(٥) ظ : أصول الفقه الإسلامي ، محمد مصطفى شلبي ، ٣٥٩+ النسخ في القرآن الكريم ، د. مصطفى زيد ، ١ / ١٨٠ ـ ٢٠٤ ..

(٦) ظ : البيان في تفسير القرآن ، الخوئي ، ٣٠٣.

٢٢٨

وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١). قال ابن عباس : يأمره بالقتل والسبي لبني قريظة ، والجلاء لبني النضير.

وقال قتادة : يأمره بالقتال وقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٢) ، وأيده الربيع والسدي.

وقيل : نسخت بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)(٣).

وبعد أن أفاض الرازي والطبرسي في بيان ذلك الخلاف خلصا إلى قول الإمام الباقر : أنه لم يؤمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقتال حتى نزل جبرئيل (عليه‌السلام) بقوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(٤) وقلده سيفا ، فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر (٥).

ثانيا : وعد الإمام الباقر آية السيف ناسخة لقوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(٦) ، عند ما قال : نزلت ـ هذه الآية ـ في أهل الذمة ثم نسخها قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)(٧)(٨).

قال السيوطي : إن قوله تعالى : (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) خبر لا نسخ فيه لأنه حكاية عما أخذه الله من الميثاق على بني اسرائيل (٩).

ثالثا : في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١٠) ، أخرج العلماء بأسانيد صحيحة عن أبي بصير

__________________

(١) البقرة / ١٠٩.

(٢) التوبة / ٢٩.

(٣) التوبة / ٥.

(٤) الحج / ٣٩.

(٥) التفسير الكبير ، الرازي ، ٣ / ٢٦٤+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ١ / ١٨٥.

(٦) البقرة / ٨٣.

(٧) التوبة / ٢٩.

(٨) تهذيب الأحكام ، الشيخ الطوسي ، ٦ / ١٢٧+ تفسير العياشي ، ٢ / ١٣٢+ مقتنيات الدرر ، علي الحائري ، ١ / ٢٢٢.

(٩) الاتقان ، السيوطي ، ٢ / ٢٢.

(١٠) البقرة / ٢٤٠.

٢٢٩

قال : سألت أبا جعفر عن هذه الآية فقال : هي منسوخة نسختها الآية : (... يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(١) ، ونسختها آية الميراث (٢).

وهو مما اتفق عليه العلماء ، ويعضد هذه الرواية قول الإمام الصادق : كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ، ثم أخرجت بلا ميراث ، ثم نسختها آية الربع والثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها (٣).

وقد نسب الطبرسي الرواية الأولى للإمام الصادق أيضا (٤) ، وهذا مخالف لما أجمع عليه علماء الإمامية من أنها رواية أبي بصير عن الإمام الباقر كما تقدم.

رابعا : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(٥) ، اختلفت أقوال العلماء في قوله تعالى : (حَقَّ تُقاتِهِ) على عدة وجوه منها :

١ ـ عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة أن معناه : أن يطاع ولا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى.

٢ ـ عن مجاهد : أنه المجاهدة في الله تعالى وأن لا تأخذه فيه لومة لائم ، وأن يقام له بالقسط في الخوف والأمن.

٣ ـ عن أبي علي الجبائي : أنه اتقاء جميع معاصيه (٦).

٤ ـ أما الإمام الباقر فإنه قال : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٧)(٨).

المراد من المنسوخ هنا المرتبة الأخيرة في علم الأخلاق والتي تسمى بتقى أخص الخواص وهي لا يستطيع الوصول إليها غير الأنبياء ومن بمنزلتهم.

__________________

(١) البقرة / ٢٣٤.

(٢) تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦+ تفسير العياشي ، ١ / ١٢٢+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٢٣ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٣) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٤٥.

(٤) ظ : المصدر نفسه والصفحة.

(٥) آل عمران / ١٠٢.

(٦) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٤٨٢.

(٧) التغابن / ١٦.

(٨) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٤٨٢.

٢٣٠

والمراد بالنسخ هنا على قول الإمام الباقر هو عدم وجوب مراعاتها ـ أي تقوى أخص الخواص ـ رفعا للعسر والحرج وتسهيلا على الأمة ، وأما لو راعاها أحد مع مراعاة القواعد الشرعية فلا محذور فيه إطلاقا (١).

خامسا : في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً* وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٢).

اختلفت أقوال علماء الأمة في حكم هاتين الآيتين على عدة وجوه وهي :

١ ـ ذهب عكرمة وعبادة بن الصامت في رواية الحسن عن الرقاشي عنه ، أن الآية الأولى منسوخة بالثانية ، والثانية منسوخة في البكر من الرجال والنساء إذا زنى بأن يجلد مائة جلدة وينفى عاما ، وفي الثيب منهما أن يجلد مائة ، ويرجم حتى الموت.

٢ ـ ذهب قتادة ومحمد بن جابر إلى : أن الآية الأولى مخصوصة بالثيب والثانية بالبكر وقد نسخت كلتاهما بحكم الجلد والرجم.

٣ ـ ذهب ابن عباس ومجاهد ومن تبعهما كأبي جعفر النحاس إلى : أن الآية الأولى مختصة بزناء النساء من ثيب أو بكر ، والآية الثانية مختصة بزناء الرجال ثيبا كان أو بكرا ، وقد نسخت كلتاهما بحكم الرجم والجلد (٣).

وكيف كان هذا الاختلاف ، فقد ذكر أبو بكر الجصاص أن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين (٤) ، وقد جاء عن الإمام الباقر في روايتين بطريقين مختلفين سندهما صحيح ما يلي :

الأولى : عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سألته ـ يعني الإمام الباقر ـ عن قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ

__________________

(١) ظ : مواهب الرحمن ، السبزواري ، ٦ / ٢٣٢.

(٢) النساء / ١٥ ـ ١٦.

(٣) الناسخ والمنسوخ ، أبو جعفر النحاس ، ٩٨.

(٤) أحكام القرآن ، الجصاص ، ٢ / ١٠٧.

٢٣١

فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) قال : منسوخة ، والسبيل هو الحدود (١).

الثانية : عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر في حديث طويل قال فيه : وسورة النور أنزلت بعد سورة النساء ، وتصديق ذلك أن الله (عزوجل) أنزل في سورة النساء (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) والسبيل هو الذي قال الله (عزوجل) : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢)(٣).

وقال بعض المفسرين : أن هذا الحكم غير منسوخ لأن الحبس لم يكن مؤبدا بل كان مستندا إلى غاية فلا يكون بيان الغاية ناسخا له (٤) ، وهذا مردود لأن النسخ ما هو إلا رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر لارتفاع أمد الأول وزمانه ، وكان بهذا تفسير الإمام الباقر مطابقا لما جاء عن ابن عباس ومجاهد ومن تابعهما.

سادسا : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥) ، فقد سئل الإمام الباقر عن هذه الآية فقال : قدم علي بن أبي طالب بين يدي نجواه صدقة ، ثم نسخها قوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(٦)(٧).

__________________

(١) تفسير العياشي ، ١ / ٢٢٧+ تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٣٥٣+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ٣ / ٦٢.

(٢) النور / ١ ـ ٢.

(٣) الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ١٥٢+ تفسير نور الثقلين ، العروسي الحويزي ، ١ / ٣٧٨.

(٤) ظ : مجمع البيان ، الطبرسي ، ٤ / ٢١.

(٥) المجادلة / ١٢.

(٦) المجادلة / ١٣.

(٧) تفسير نور الثقلين ، العروسي الحويزي ، ٢ / ٦٧٦.

٢٣٢

وذهب أكثر العلماء إلى ذلك ، فقد استفاضت الروايات من الفريقين : أن الآية المباركة لما نزلت لم يعمل بها سوى علي بن أبي طالب فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم فكان كلما ناجى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قدم درهما حتى ناجاه عشر مرات (١).

وبهذه الرواية نكون قد استقصينا وذكرنا كل ما نقل في كتب التفسير عن الإمام الباقر من روايات في الناسخ والمنسوخ بينت ما له من جهد فيه على الرغم من قلته ، غير أنه مثل من جهة أخرى انضمام الإمام الباقر للمذهب الثاني بشقه الأول من أن النسخ قد اقتصر على عدد قليل جدا من الآيات الكريمة ، وهذا مما يجعلنا نميل إلى القول بقلة وقوع النسخ في القرآن الكريم.

المبحث الثاني

جهوده في علم أسباب النزول وتوجيهه لها

أن معرفة أسباب النزول يعين كثيرا على فهم المراد من الآية أو الآيات النازلة بأسبابها ، فان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ، وأنه لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها فبيان النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن (٢). إذن مفهوم سبب النزول هو : ما نزلت الآية أو الآيات من أجله مجيبة عنه أو حاكية له أو مبينة لحكمه بقيد زمن وقوعه (٣).

وقد جعل المفسرون علم أسباب النزول علما تطبيقيا ، فهو يأخذ معناه العام باعتبار أن سبب النزول له علاقة بالآية القرآنية المراد تفسيرها ، فسبب النزول عندهم هو لفهم المراد من الآية أو ما له علاقة باستنتاج الحكم.

وبالجملة يمكن تقسيم النزول عند العلماء إلى :

__________________

(١) جامع البيان ، الطبري ، ٢٨ / ١٥+ أسباب النزول ، الواحدي ، ٢٩٤ ـ ٢٩٥+ فتح القدير ، الشوكاني ، ٥ / ١٨٦+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٩ / ٢٥٣+ تفسير البرهان ، سيد هاشم البحراني ، ٢ / ١٠٩٩. وقد تعرض لنقل جملة منها محمد باقر المجلسي في المجلد التاسع من بحار الأنوار صفحة ١٧٠.

(٢) البرهان في علوم القرآن ، الزركشي ، ١ / ٢٢+ مقدمة في أصول التفسير ، ابن تيمية ، ٤٧+ الاتقان ، السيوطي ، ١ / ١٠٨.

(٣) مباحث في علوم القرآن ، د. صبحي الصالح ، ١٣٢.

٢٣٣

١ ـ وقت النزول : أي مكي أو مدني ، في سلم أو حرب ، في ليل أو نهار.

٢ ـ مكان النزول : أي في مكة أو المدينة أو في مكان ليس في مكة أو المدينة.

٣ ـ موضوع الآية : وهو أهم أقسام النزول لارتباطه بالحكم الموجود في الآية ، وينقسم إلى :

أ ـ توضيح لرؤية تاريخية : فان بعض الآيات القرآنية نزلت لتوضيح بعض المسائل التاريخية التي تحتاج إلى توضيح.

ب ـ الحادثة التي وقعت وسبقت نزول الآيات النازلة بصددها.

ج ـ سؤال وجه إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يجب عليه انتظارا للوحي.

د ـ سلوك من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يرد عليه القرآن الكريم ويوجهه.

وتعد هذه العناصر الأربعة هي مدار البحث عند الدارسين لعلم أسباب النزول ، فإذا خرج موضوع الآية عن هذه العناصر محّصه العلماء وفتشوا عن صحيحه من سقيمه لأن التفاسير المتنوعة ولا سيما التي لا تمحص الروايات تمحيصا جيدا فيها أسباب كثيرة تذكر للآيات وهي ضعيفة السند أو باطلة في المعنى أو مخالفة للوقائع التاريخية (١) أما عن مصادر الرواية في أسباب النزول ، فقد شدد العلماء على الأخذ بها باعتبار أنها ليس فيها رأي اجتهادي أو عقلي بل أن العملية كلها لا تعدو أن تكون عملية سماعية أي (نقل ورواية) فلذلك يمكن أن نقسم مصادر الرواية إلى :

أولا : الصحابة الكرام

الذين كانوا شهودا صادقين لأسباب النزول وهم المصدر الرئيس في قبول الرواية فيه ، قال الواحدي : لا يحل القول في أسباب النزول ، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا الوحي والتنزيل ، ووقفوا على الأسباب (٢).

وقال محمد بن سيرين : سألت عبيدة عن آية في القرآن فقال : اتق الله وقل سدادا ، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن (٣).

__________________

(١) المصدر نفسه ، ١٣٥+ علوم القرآن والتفسير ، د. محسن عبد الحميد ، ٣٨.

(٢) أسباب النزول ، الواحدي ، ٨.

(٣) المصدر نفسه ، ٩+ لباب النقول ، السيوطي ، ١٣+ التبيان في علوم القرآن ، محمد علي الصابوني ، ٢٩.

٢٣٤

ونقل السيوطي قول الحاكم في علوم الحديث : إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فانه حديث مسند ، ووافقه ابن الصلاح وغيره (١).

إذن يشترط أولا في الأخذ بأسباب النزول أن تؤخذ عن الصحابي ويجب أن يكون هذا الصحابي ممن شاهد الوحي والتنزيل أو سأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن نزول الآية أو الآيات ، ويجب أيضا أن لا يكون رأي اجتهادي في النقل.

ثانيا : التابعون

لا يؤخذ بقول التابعي في هذا المجال إلا إذا اعتضدت روايته بمرسل آخر رواه أحد أئمة التفسير الذين ثبت أخذهم عن الصحابة كعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب والضحاك (٢).

ويمكن أن نجعل هذا على شكل شروط وهي كما يأتي :

١ ـ يلزم التابعي أن يسند الأثر أو الرواية إلى الصحابة.

٢ ـ أن لا يكون للتابعي رأي فيه.

٣ ـ أن يعضد رواية التابعي مرسل عن تابعي آخر.

٤ ـ أن يكون الصحابي المسند إليه الحديث أو الرواية ممن شاهد الوحي والتنزيل.

٥ ـ مع مراعاة صفات الضبط والعدالة في التابعي.

ثالثا : إتباع التابعين

الأصل فيهم أن لا يؤخذ إلا كما يؤخذ الحديث المسند مع شروط الإسناد عند الصحابة والتابعين ، وذلك لوجود فترة زمنية بعيدة جدا بينهم وبين أسباب النزول.

__________________

(١) لباب النقول ، السيوطي ، ١٣ ـ ١٤+ الاتقان ، السيوطي ، ١ / ٢٩ ـ ٣٠+ علوم القرآن والتفسير ، د. محمد عبد الحميد ، ٣٨.

(٢) الاتقان ، السيوطي ، ١ / ٥٢ ـ ٥٣.

٢٣٥

قبل أن نستعرض ما أثر عن الإمام الباقر في أسباب النزول ، نود أن نسجل مشاركته في إبداء رأي في تاريخ النزول ، فقد روى عبد الله بن كيسان عن الإمام الباقر أنه قال : نزل جبرائيل (عليه‌السلام) على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : يا محمد اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ ، قال : اقرأ باسم ربك الذي خلق ، وقال : أول ما نزل من القرآن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) والعلق أول سورة نزلت (١).

وبعد أن تقصينا أسباب النزول التي ذكرها الإمام الباقر في كتب التفسير كانت تربو على (١٥٦) سببا ، نذكر منها نماذج مع تصحيحه لبعضها :

١ ـ في سبب نزول قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٢). قال الإمام الباقر : كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين ، إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة النبي محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا : لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد فيحاجوكم به ، فنزلت الآية (٣).

٢ ـ عن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام الباقر قال : أما قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٤) فانه نزل في علي بن أبي طالب حين بذل نفسه لله ولرسوله ليلة اضطجع على فراش رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما طلبته كفار قريش (٥).

__________________

(١) تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٤٣٠+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ٨٣٣. وقارن بأسباب النزول ، الواحدي ، ١٢.

(٢) البقرة / ٧٦.

(٣) مجمع البيان ، الطبرسي ، ١ / ١٤٢+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ١ / ٢٠٨. وقارن بالتبيان ، الشيخ الطوسي. ١ / ٣١٥ أورد الرواية عن السدي قريبة مما رويناه وقال : ومثله ما روي عن أبي جعفر (عليه‌السلام). وقارن بتفسير ابن كثير ، ١ / ١١٦ أورد رواية مشابهة لما أوردناه عن الحسن البصري ، وقارن كذلك بما ورد في لباب النقول ، السيوطي ، ٢٠.

(٤) البقرة / ٢٠٧.

(٥) تفسير العياشي ، ١ / ١٠١+ تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٢٠٨+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٧ / ١٢٣.

٢٣٦

وروى الشيخ الطوسي عن الإمام الباقر أنه قال : نزلت في علي (عليه‌السلام) حين بات على فراش رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما أرادت قريش قتله ، حتى خرج رسول الله وفات المشركين أغراضهم ، وبه قال عمر بن شبة (١).

٣ ـ أخرج السيوطي باسناده عن عبد بن حميد عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي الباقر قال : لما أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بصدقة الفطر جاء رجل بتمر رديء فأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي يخرص النخل أن لا يجيزه ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٢)(٣).

٤ ـ في سبب نزول قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٤) قال الإمام الباقر : نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل لم

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ١٨٣ ، ورواه أيضا في اماليه بأسانيده عن زين العابدين وابن عباس وأنس وعمرو بن العلاء وعن أبي اليقظان عمار عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ورواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره بخمسة طرق ، ١ / ٢٠٦ ـ ٢٠٨ ، ورواه الطبرسي في مجمع البيان عن ابن عباس ، ٢ / ٣٠١ والثعلبي في الجزء الأول من تفسيره عن ابن عباس وعن جابر عن الباقر ، وفي تفسير آلاء الرحمن ، محمد جواد البلاغي ، ١ / ١٨٤ ، وفي مواهب الرحمن ، السبزواري ، ٣ / ٢٤١. ورواه جمع غفير من علماء الحديث والتفسير من الفريقين.

ومن الجدير بالذكر أن الطبري أخرج بسنده عن عكرمة في تفسيره ، ٢ / ١٨٦ ـ ١٨٧ سببا آخرا لنزول هذه الآية الكريمة وقد تابعه ابن كثير في تفسيره ، ١ / ٢٤٧ من أن الآية نزلت في صهيب الرومي أو أبي ذر وتابعهما الواحدي في أسباب النزول ، ٤٦. وكذلك السيوطي في الدر المنثور ، ١ / ١٢٣ ولباب النقول ، ٤٠ ـ ٤١. ويمكن الجمع بين هذه الأخبار المتعارضة فقد تتعدد الأسباب الصحيحة المتكافنة التي لا نستطيع أن نرجح سببا على آخر ، فتتنزل بموجبها آية واحدة فتكون من باب تعدد الأسباب والنازل واحد.

(٢) البقرة / ٢٦٧.

(٣) الدر المنثور ، السيوطي ، ١ / ٣٢٥ وقال في لباب النقول ص ٤٩ روى الحاكم والترمذي وابن ماجة عن البراء قال : نزلت هذه الآية فينا ، وساق نفس الرواية وكذلك رواها عن جابر ، وأخرجها أيضا الطبري في تفسيره ، ٣ / ٥٥ عن البراء والإمام علي ، وابن كثير في تفسيره ، ١ / ٣٢٠ ، والواحدي في أسباب النزول ص ٦٢ عن البراء ، ورواه الطبرسي ، ٣ / ٣٨٠ عن الإمام علي والبراء والحسن وقتادة ، والطوسي في تفسيره ، ٣ / ٣٤٤ والعياشي في تفسيره ، ١ / ١٤٩ فقد أخرج عن زرارة بن أعين عن الإمام الباقر نفسها الرواية.

(٤) البقرة / ٢٧٣.

٢٣٧

يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر يأوون إليها فجعلوا أنفسهم في المسجد وقالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فحث الله الناس عليهم وكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى (١).

٥ ـ في سبب نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢) قال الإمام الباقر : أن الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية وقد بقيت له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم ، فنزلت الآية (٣).

٦ ـ في سبب نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً)(٤) عن زياد بن المنذر عن الإمام الباقر قال : كان في الجاهلية في أول ما أسلموا من قبائل ، إذا مات حميم الرجل وله امرأة ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها فكان يرث نكاحها كما يرث ماله ، فلما مات أبو قيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه وهي كبيشة بنت معمر بن معبد فورث نكاحها ثم تركها لا يدخل بها ولا ينفق عليها فأتت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقالت : يا رسول الله مات أبو قيس بن الأسلت فورث ابنه محصن نكاحي فلا يدخل علي ولا ينفق علي ولا يخلي سبيلي فألحق بأهلي ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ارجعي إلى بيتك فإن يحدث الله في شأنك شيئا علمتك به ، فنزل قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٥) فلحقت بأهلها وكانت نساء في

__________________

(١) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٨٧+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ١ / ٣٠٣. ولم يذكر هذا السبب ولا غيره كل من : الطبري في تفسيره ، ٢ / ٦٥ وابن كثير في تفسيره ، ١ / ٢٣٦ والطوسي في تفسيره ، ٣ / ٣٥٥ والواحدي في أسباب النزول ، ٦٣ والسيوطي في لباب النقول ، ٤٩. عند تفسيرهم لهذه الآية.

(٢) البقرة / ٢٧٨.

(٣) التبيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي ، ٣ / ٣٦٥+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٩٢+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٢ / ٢٤٦+ مواهب الرحمن ، السبزواري ، ٤ / ٤٧٣ ـ ٤٧٤. وقارن بأسباب النزول ، الواحدي ، ٦٥+ لباب النقول ، السيوطي ، ٥٠.

(٤) النساء / ١٩.

(٥) النساء / ٢٢.

٢٣٨

المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشة غير أنه ورثهن من الأبناء فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً)(١)(٢).

وفي أسباب الواحدي ولباب السيوطي عن عكرمة عن ابن عباس في الآية الشريفة قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها وأن شاءوا لم يزوجوها وهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية (٣).

وكل هذه الروايات من الفريقين تنكر ما كان شائعا في الجاهلية من أنه يجرون على النساء حكم المتاع والعروض ، بل يستفاد من الآية أنها كانت بزعمهم بمنزلة أي شيء آخر لا إرادة لها ولا اختيار وذلك من إضافة الوراثة إلى النساء إلا أن وراثة النساء كانت وراثة خاصة لم تكن في عرض وراثة سائر الأموال.

فجاءت هذه الآية المباركة لكي تنهى عن تلك العادات التي لم ينزل بها سلطان ، وتضمنت قوانين الهية وعقلية قررها الوحي المبين وهي أمور اجتماعية مما يسعد بها المجتمع والحياة الزوجية.

٧ ـ في سبب نزول قوله تعالى : (... إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ)(٤) قال الطبرسي المروي عن أبي جعفر الباقر أنه قال : المراد بقوله : (قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) هو هلال بن عويمر السلمي واثق عن قومه رسول الله فقال في موادعته على أن لا تحيف يا محمد من أتانا ولا نحيف من أتاك ، فنهى الله أن يتعرض لأحد عهد إليهم وبه قال السدي وابن زيد (٥).

__________________

(١) النساء / ١٩.

(٢) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ٢٢+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٨٢+ تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ١٣٤+ الميزان في تفسير القرآن ، محمد حسين الطباطبائي ، ٤ / ٢٥٨.

(٣) أسباب النزول ، الواحدي ، ١٠٢ ـ ١٠٣+ لباب النقول ، السيوطي ، ٦٥.

(٤) النساء / ٩٠.

(٥) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٥ / ٨٨. وروى هذا السبب بلفظ قريب الواحدي في أسباب النزول ص ١١٧ عن مجاهد ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس باللفظ نفسه. انظر : لباب النقول ، السيوطي ، ٧٦ ، وذكر ابن كثير سببا آخر لنزول هذه الآية ، ١ / ٥٣٢.

٢٣٩

ومعنى الآية ـ والله أعلم ـ يريد بهذا (جلّ وعلا) أن من يلتجئ من أولئك المنافقين إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد في المهادنة وترك القتال ، أن هذا اللاجئ يترك لا يؤسر ولا يقتل ، لأنه ـ والحال هذه ـ يكون مسالما للمسلمين تماما كالذين التجأ إليهم فيعامل معاملتهم في عدم التعرض له ، ومن المفيد أن ننقل ما قاله الرازي هنا : أعلم أن ذلك يتضمن بشارة عظيمة لأهل الإيمان ، لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى المسلمين فان يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى (١).

٨ ـ في قوله تعالى : (... سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ...)(٢).

اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية :

ـ عن ابن عباس ومجاهد : أنها نزلت في أناس كانوا يأتون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم ويأمنوا نبي الله فأبى الله ذلك عليهم (٣).

ـ عن السدي : أنها نزلت في نعيم بن مسعود الاشجعي كان ينقل الحديث بين النبي وبين المشركين (٤).

ـ والمروي عن الإمام أبي جعفر الباقر : أنها نزلت في عيينة بن حصن الفزاري وذلك أنه أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ووادعه على أن يقيم ببطن نخل ولا يتعرض له ، وكان منافقا ملعونا وهو الذي سماه رسول الله الأحمق المطاع في قومه (٥).

ومهما يكن من أمر في سبب نزول هذه الآية إلا أن اختبار الطبري هو المستفاد

__________________

(١) التفسير الكبير ، الرازي ، ١٠ / ٢٢٩.

(٢) النساء ، ٩١.

(٣) جامع البيان ، الطبري ، ٥ / ١٢٠+ معاني القرآن ، الفراء ، ١ / ٢٨٢.

(٤) جامع البيان ، الطبري ، ٥ / ١٢٧.

(٥) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٥ / ٨٨.

٢٤٠