الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

٨ ـ روي عن الإمام الصادق عن أبيه الباقر (عليهما‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أربع خصال من كن فيه كان في نور الله الأعظم ، من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ومن (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(١) ، واذا أعطي شيئا قال الحمد لله وإذا أذنب ذنبا قال : استغفر الله (٢).

٩ ـ أخرج الطبرسي بسنده عن أبي جعفر الباقر قال : من قرأ سورة المائدة في كل يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم ولا يشرك أبدا (٣).

١٠ ـ وأخرج الطبرسي أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر قال : في سورة الأنفال جدع الأنوف (٤) ، وذلك لاشتمالها على آية الخمس.

١١ ـ روي عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر الباقر قال : من قرأ سورة هود في كل جمعة بعثه الله يوم القيامة في زمرة المؤمنين وحوسب حسابا يسيرا ولم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة (٥).

١٢ ـ روي عن الإمام الباقر أنه قال : من وجد في قلبه قساوة فليكتب (يس) في جام (٦) بزعفران ثم يشربه (٧).

__________________

(١) البقرة / ١٥٦.

(٢) الخصال ، الشيخ الصدوق ، ٤١٢+ تفسير نور الثقلين ، العروسي الحويزي ، ١ / ١٢١. وقريب منه ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : أربع من كن فيه بنى الله له بيتا في الجنة : من كانت عصمة أمره لا إله إلا الله ، وإذا أصابته مصيبة قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وإذا أعطي شيئا قال : الحمد لله ، وإذا أذنب قال : استغفر الله. انظر : الدر المنثور ، السيوطي ، ١ / ١٥٦.

(٣) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ١٥٠+ مقتنيات الدرر ، سيد مير علي الحائري ، ٣ / ٢٣٦. ولم أجد في فضلها رواية عن صحابي أو تابعي في حدود ما اطلعت عليه من المصادر.

(٤) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٤ / ٥١٦.

(٥) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ١٣٩+ تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٢٠٦+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٥ / ١٤٠+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ١٩ / ٧٠. وأخرج الدارمي وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : اقرءوا هود يوم الجمعة. انظر : الدر المنثور ، السيوطي ، ٣ / ٣١٩.

(٦) الجام : يعني القدح الذي يشرب فيه الماء.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ١١ / ٣١+ الدر المنثور ، السيوطي ، ٥ / ٢٥٧. في حديث حسان بن عطية عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء ، وألف نور ، وألف يقين ، وألف بركة ، وألف رحمة. انظر : الدر المنثور ، السيوطي ، ٥ / ٢٥٦.

٢٦١

١٣ ـ أخرج الطبرسي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر قال : من أدمن قراءة سورة الدخان في فرائضه ونوافله بعثه الله من الآمنين يوم القيامة وأظله تحت ظل عرشه وحاسبه حسابا يسيرا وأعطي كتابه بيمينه (١).

١٤ ـ روي عن الإمام الباقر أنه قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : وددت أنها في قلب كل مؤمن : يعني (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)(٢).

١٥ ـ أخرج الطبرسي بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر قال : من أدمن في فرائضه ونوافله سورة (ق) وسع الله في رزقه وأعطاه كتابه في يمينه وحاسبه حسابا يسيرا (٣).

١٦ ـ أخرج الطبرسي أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر قال : من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا والآخرة (٤).

١٧ ـ روي عن زيد الشحام عن أبي جعفر الباقر قال : من قرأ سورة الواقعة قبل أن ينام لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر (٥).

١٨ ـ أخرج الطبرسي بإسناده عن أبي بصير عن الإمام الباقر قال : من قرأ سورة الصف وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله صفه الله مع ملائكته وأنبيائه المرسلين (٦).

١٩ ـ وروي عن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام الباقر أنه قال : أكثروا من قراءة (الحاقة) فان قراءتها في الفرائض والنوافل من الإيمان بالله ورسوله ولم يسلب قارئوها دينه حتى يلقى الله (٧).

__________________

(١) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٩ / ٦٠+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ٥٤٦.

(٢) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ٢٦٩+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ٩ / ١٢٢. وباللفظ نفسه ورد هذا الحديث عن ابن عباس ، رواه الحاكم وصححه ، انظر : الترغيب والترهيب ، المنذري ، ٢ / ٣٧٧.

(٣) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٩ / ١٤٠+ الصافي ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ٣٠٦+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ١٠ / ٢٠٦ ، ووردت أحاديث كثيرة في فضلها في : الدر المنثور ، السيوطي ، ٦ / ١٠١.

(٤) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٩ / ١٦٢. وأخرج البخاري وأبو داود عن أم سلمة قالت : شكوت إلى ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أني أشتكي ، فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ، فطفت ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصلي إلى جنب البيت ويقرأ وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ انظر : الدر المنثور ، السيوطي ، ٦ / ١٠٩.

(٥) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ٤٠٦+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٩ / ٢١٢+ تفسير نور الثقلين ، العروسي الحويزي ، ٢ / ٦٥١. وقد أخرج السيوطي في الدر المنثور عدة روايات في فضلها ، ٦ / ١٥٣.

(٦) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٩ / ٢٢٩+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ١١ / ٤٠.

(٧) المصدر نفسه ، ١٠ / ٣٤٢.

٢٦٢

٢٠ ـ وروي عن أبي عبد الله الصادق قال : كان أبي يقول : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ربع القرآن (١).

٢١ ـ روى أبو عبيدة الحذاء عن أبي جعفر الباقر قال : من أوتر المعوذتين و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قيل له : يا عبد الله أبشر فقد قبل الله وترك (٢).

٢٢ ـ أخيرا ، روى الفضيل بن يسار قال : سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وجع وجعا شديدا فأتاه جبرئيل وميكائيل (عليهما‌السلام) ، فقعد جبريل وميكائيل عند رجليه ، فعوذه جبرئيل ب (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وعوذه ميكائيل ب (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)(٣).

المبحث الخامس

جهود الإمام الباقر في القصص القرآنية وموقفه من الإسرائيليات

إن القرآن الكريم يسعى في وضع القضايا الحياتية الكبرى بصورة محسوسة وملموسة بين يدي الجميع ، ويعلن للناس عامة عن حقائقهم وتعليماتهم ويفهمهم بها بما يتفق وصدق القرآن الكريم وإعجازه معتمدا على قضايا وأحداث حية وحساسة تخص تاريخ الشعوب السالفة ، لهذا لا يريد القرآن من سرد قضية أو قصة تاريخية منح نفسه الطابع التاريخي على ما هو معروف بين مناهج المؤرخين في بسط القضايا التاريخية من دون توجه إلى الناحية التربوية فيها ، وإنما

__________________

(١) المصدر نفسه ، ١٠ / ٥٥١. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، وقل يا أيّها الكافرون تعدل ربع القرآن. رواه الترمذي والحاكم ، قال الترمذي : حديث غريب ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد. انظر : الترغيب والترهيب ، المنذري ، ٢ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

(٢) مجمع البيان ، الطبرسي ، ١٠ / ٥٦٧+ الصافي ، الفيض الكاشاني ، ٢ / ٨٦٩. وقد أورد في فضلهما الكثير من الأحاديث انظر : الترغيب والترهيب ، المنذري ، ٢ / ٣٨٠ ـ ٣٩٣.

(٣) مجمع البيان ، الطبرسي ، ١٠ / ٥٦٩+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ١٢ / ٢٦٩. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غلام يهودي يخدمه يقال له لبيد بن أعصم فلم تزل به يهود حتى سحر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يذوب ولا يدري ما وجعه فبينما رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذات ليلة نائم إذ أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رأسه للذي عند رجليه ما وجعه؟ قال : مطبوب ، قال : من طبه؟ قال : لبيب بن أعصم ، قال : بم طبه؟ قال : بمشط ومشاطة ... الحديث بطوله ، وكذلك عن ابن عباس. انظر : الدر المنثور ، السيوطي ، ٦ / ٤١٧ ـ ٤١٨.

٢٦٣

نجد القرآن الكريم في مباحثه التاريخية يتوخى المسائل التربوية والتعليمية ويفتش عن هذه الجوانب في طوايا التاريخ وصفحاته وهو الوجه الغالب عليه ويستخلص منها مضامين إيمانية وعبادية فيتخذها جسرا للصلة بين الهدف والمتلقي.

وعلى هذا يأخذ القرآن الكريم لب التاريخ ويحافظ عليه ويرمي بقشوره لأن مطلوبه هو الجوهر ، فهو على خلاف المؤرخين ومنهجهم في سرد الوقائع ، إذ يبعث في المستمع والقارئ حس التحقيق والتدبر والتفكر ، ودراسة النقاط التاريخية بأساليب مختلفة وتعابير متباينة ليودع فيهم الوعي واليقظة (١).

فالقصة في القرآن الكريم أخذت حيزا كبيرا في البحوث القرآنية ، و «يشكل القصص جزء كبيرا من القرآن الكريم ، وليس المراد من القصص في القرآن الإمتاع مجردا ، ولكن لإلقاء الدروس النافعة كذلك ، التي تكفل لمن وعاها وعمل بمقتضاها الاهتداء إلى صراط العزيز الحميد» (٢) ، فنستطيع أن نستنتج من هذا القول الغرض الكلي للقصص القرآني الذي هو الغرض الديني البحت (٣) ، وهو هداية البشرية لما فيه صلاحها وسعادتها ، وتندرج تحت هذا الغرض الكلي أغراض جزئية أخرى نلخص بعضا منها بما يأتي :

١ ـ أن القصة القرآنية سيقت لغرض العبرة والاتعاظ ، حيث يتعرف الناس على أحوال الأمم السالفة وما حل بها وما آلت إليه ، حتى يعتبروا ويتعظ أولوا الألباب منهم (٤) ، وتصديق ذلك في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥).

٢ ـ لتثبيت فؤاد الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وترسيخ صلابته في الدعوة إلى وحدانية الله تبارك وتعالى حيث يقف على أخبار إخوانه من الرسل ، وعلاقتهم

__________________

(١) ظ : محمد والقرآن ، ناصر الدين الشيرازي ، ١٧١.

(٢) الوحدة الموضوعية في سورة يوسف ، حسن باجودة ، ٥١٨.

(٣) التصوير الفني في القرآن ، سيد قطب ، ١١٧.

(٤) من روائع القرآن ، محمد سعيد رمضان البوطي ، ١٧٧+ دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني ، د. أحمد جمال العمري ، ١٧٦.

(٥) يوسف / ١١١.

٢٦٤

بأقوامهم ، وكيف كان العاقبة للمتقين والخزي والعذاب للمعاندين الكافرين (١) ، قال تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(٢).

٣ ـ دليل على صدق نبوة الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، إذ أنه أخبر عن الغيب ، وما اخباره ذاك إلا عن طريق الوحي المرسل من السماء ، لأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رجل أمي لا عهد له بالقراءة والكتابة ولا قومه إذ أنهم لم يكونوا يعرفون من ذلك القصص شيئا (٣) ، قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(٤).

٤ ـ إن في القصص القرآني غرضا دينيا جليلا ، هو بيان بعض الأحكام الشرعية الكلية التي لا تختص بها شريعة سماوية دون أخرى ، بل هي موجودة في كل الشرائع السماوية وهي غير قابلة للنسخ ومؤكدة وثابتة من ذلك قصة ابني آدم (٥). وتثبت هذه القصة أن الغيرة والحسد إذا تمكنا في النفس الإنسانية يؤديان بها إلى الاعتداء على الآخرين فلا دواء لهذا المرض إلا ببتر من استكن في قلبه ، فذكر سبحانه وتعالى عقب تلك القصة (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)(٦).

وهناك أغراض أخرى للقصة القرآنية غير ما ذكرنا (٧) ، لسنا بصددها تفصيلا وقد ظهرت آراء متعددة في مسألة فهم القصص القرآني الراجح منها : هو الوقوف عند ما ورد في القرآن الكريم مع الاحتفاظ بدلالة الألفاظ اللغوية على معانيها وإفادتها للواقع هي تعبير صحيح عنه ، دون تزيد عليه بما لم يرد فيه اعتمادا على روايات لا سند لها كما صنع المفرطون ، ودون تحيف لمعانيها باعتبار

__________________

(١) الأنبياء في القرآن ، محمود الشرقاوي ، ١٠٢+ التصوير الفني في القرآن الكريم ، سيد قطب ، ١٢٢.

(٢) هود / ١٢٠.

(٣) دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني ، أحمد جمال العمري ، ١٧٧.

(٤) هود / ٤٩.

(٥) ظ : الآيات / ٢٧ ـ ٣١ من سورة المائدة.

(٦) المائدة / ٣٢.

(٧) أوصلها سيد قطب إلى عشرة أغراض ، انظر للتفاصيل : التصوير الفني للقرآن ، ١١٧ ـ ١٢٥.

٢٦٥

أن الكلام تخييل لا يعبر عن واقع كما فعل المفرطون أيضا ، ودون صرف للألفاظ عن معانيها الوضعية إلى معان أخرى من غير صارف يمنع إجراء الكلام على ظاهره ، كما فعل أهل التأويل (١).

وأولى الإمام الباقر القصة القرآنية عنايته البالغة واهتمامه الشديد ، فإنك تشعر أن روايته القصصية تجعل المرء يعيش في أجواء الآيات القرآنية بانسيابية وهدوء دون أثر لدس اسرائيلي يشوه جمال النص القرآني أو يثلم كرامة الأنبياء (عليهم‌السلام) ومكانتهم ، كما هو الحاصل في روايات من أخذ عن أهل الكتاب بدون تمحيص أو فحص ، ونجده أيضا يلتزم النهج النبوي في الاستشهاد بإخبار أهل الكتاب فيسمع ما لدى الناس من أخبارهم ثم يعرض ما سمعه على منهج الإسلام ، فما وافق النصوص أو تماشى مع الآيات والأحاديث من غير تضاد أو اضطراب حدث به أن كان يخدم النص القرآني ، ويوضح الجوانب الأخرى من القصة ويربط بين خيوطها ، ونلمس أيضا في رواياته تفرده بإظهار الجانب التربوي والأخلاقي من القصة القرآنية ويركز عليه لمكان العظة والعبرة ملتزما في إسهاماته هذه بالمنهج القرآني وكيفية تعامله مع القصص.

وكان الإمام الباقر يميل هنا إلى تفسير القرآن بالقرآن ولا يميل إلى الإكثار من القصص المفصلة للقصص القرآني لأن أكثرها إسرائيلية ، ومع ما ذكرناه من عدم ميله إلى الإكثار من تفسير القصة القرآنية بقصص أخرى فقد وجدنا له بعض التفسير القصصي ، وإليك تلك الجهود :

أولا : قصة الملكين هاروت وماروت

أخرج العياشي والطبرسي بإسناد صحيح عن محمد بن قيس قال : سمعت أبا جعفر الباقر وقد سأله عطاء ونحن بمكة عن هاروت وماروت ، فقال أبو جعفر : إن الملائكة كانوا ينزلون من السماء إلى الأرض في كل يوم وليلة يحفظون أعمال أهل أوساط الأرض ، فيكتبون أعمالهم ويعرجون بها إلى

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ، الأجزاء العشرة الأولى ، الشيخ محمود شلتوت ، ٥٠.

٢٦٦

السماء ، قال : فضج أهل السماء من معاصي أهل الأرض مما يسمعون ويرون من افترائهم الكذب على الله وجرأتهم عليه ، ونزهوا الله مما يقول فيه خلقه ويصفون ، قال : فقالت طائفة من الملائكة : يا ربنا أما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك ، مما يفترون عليك الكذب ويقولون الزور ويرتكبون المعاصي وقد نهيتهم عنها ثم أنت تحلم عنهم وهم في قبضتك وقدرتك وخلال عافيتك ، قال أبو جعفر : وأحب الله أن يري الملائكة قدرته ونافذ أمره في جميع خلقه ويعرّف الملائكة ما منّ به عليهم مما عدلهم عنده من جميع خلقه وما طبعهم عليه من الطاعة وعصمهم به من الذنوب ، قال : فأوحى الله إلى الملائكة أن اندبوا منكم ملكين حتى أهبطهما إلى الأرض ثم أجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب والشهوة والحرص والأمل مثلما جعلت في ولد آدم ثم أختبرهما في الطاعة لي ، قال : فندبوا لذلك هاروت وماروت وكانوا من أشد الملائكة قولا في العيب على ولد آدم ، قال : ثم أوحى الله إليهما انظرا ألا تشركا بي شيئا ولا تقتلا النفس التي حرّمت ولا تزنيا ولا تشربا الخمر ، قال : ثم كشط عن السموات السبع ليريهما قدرته ، ثم أهبطهما إلى الأرض في صورة بشر ولباسهم ، فهبطا برحبة بابل فرفع لهما بناء مشرفا فأقبلا نحوه فإذا بحضرته امرأة جميلة حسناء مزينة ، معطرة ، مسفرة ، مقبلة نحوهما ، فلما نظرا إليها وناطقاها وتأملاها وقعت في قلوبهما موقعا شديدا لموضع الشهوة التي جعلت فيهما ، ثم أنهما ائتمرا بينهما وذكرا ما نهيا عنه من الزنا فمضيا ثم حركتهما الشهوة التي جعلت فيهما فرجعا إليها رجوع فتنة وخذلان ، فراوداها عن نفسها فقالت لهما : إن لي دينا أدين به ولست أقدر في ديني الذي أدين له على أن أجيبكما إلى ما تريدان إلا أن تدخلان في ديني الذي أدين به ، فقالا لها : وما دينك؟ فقالت : لي إله من عبده وسجد له كان لي السبيل إلى أن أجيبه إلى ما كان سألني ، فقالا لها : وما إلهك؟ قالت : إلهي ، هذا الصنم. قال الإمام الباقر : فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا : هاتان الخصلتان مما نهينا عنهما الشرك والزنا ، لأنا إن سجدنا لهذا الصنم وعبدناه أشركنا بالله وإنما نشرك بالله لنصل إلى الزنا ، وهو هذا ما نحن نطلبه فليس نعطاه

٢٦٧

إلا بالشرك ، قال : فأتمرا فيها فغلبتهما الشهوة التي جعلت فيهما ، فقالا لها : نجيبك إلى ما سألتي ، قالت : فدونكما فاشربا هذه الخمر فإنه قربان لكما عنده ، وبه تصلان إلى ما تريدان ، قال الإمام الباقر : فأتمرا بينهما ، فقالا : هذه ثلاث خصال مما قد نهانا ربنا عنها : الشرك والزنا وشرب الخمر ، وإنما ندخل في شرب الخمر حتى نصل إلى الزنا ، فأتمرا بينهما ثم قالا لها : ما أعظم البلية بك ، قد أجبناك إلى ما سألتي ، قالت فدونكما فاشربا من هذه الخمر واعبدا الصنم واسجدا ، قال الإمام : فشربا الخمر وسجدا له ، ثم راوداها عن نفسها فلما تهيأت لهما وتهيئا دخل عليهما سائل يسأل فلما أن رأياه ذعرا منه ، فقال لهما : أنكما لمريبان ، ذعران ، قد خلوتما بهذه المرأة العطرة الحسناء ، إنكما لرجلا سوء ، فخرج عنهما ، فقالت لهما : لا وإلهي ما أصل إلى أن تقرباني وقد اطلع هذا الرجل على حالكما وعرف مكانكما ، خرج الآن فيخبر بخبر كما ولكن بادرا هذا الرجل فاقتلاه قبل أن يفضحكما ويفضحني ، ثم دونكما فاقضيا حاجتكما وأنتما مطمئنان آمنان ، قال الإمام الباقر : فقاما إلى الرجل فأدركاه فقتلاه ثم رجعا إليها فلم يرياها وبدت لهما سوأتهما ونزع عنهما رياشهما وأسقط في أيديهما ، قال : فأوحى الله إليهما أنما أهبطتكما مع خلقي ساعة من نهار فعصيتماني بأربع معاصي كلها قد نهيتكما عنها وتقدمت إليكما فيها فلم تراقباني ولم تستحيا مني وقد كنتما أشد من ينقم على أهل الأرض من فعل المعاصي غضبي لما جعلت فيكم من صنع خلقي وعصمتي إياكم من المعاصي ، فكيف رأيتما موضع خذلاني فيكما ، اختارا عذاب الدنيا أم عذاب الآخرة؟ فقال أحدهما : نتمتع من شهواتنا في الدنيا إذ صرنا إليها إلى أن نصير إلى عذاب الآخرة ، وقال الآخر : إن عذاب الدنيا له مدة وانقطاع ، وعذاب الآخرة دائم لا انقطاع له فلسنا نختار عذاب الآخرة الدائم الشديد على عذاب الدنيا الفاني المنقطع ، قال الإمام الباقر : فاختارا عذاب الدنيا ، فكانا يعلمان السحر بأرض بابل ، ثم لما علم الناس السحر ، رفعا من الأرض إلى الهواء فهما معذبان منكسان معلقان في الهواء إلى يوم القيامة (١).

__________________

(١) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٥٢ ـ ٥٤+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ١ / ١٧٢ ـ ١٧٦+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ١ / ٢٥٤ ـ ٢٥٦.

٢٦٨

وقد ذكر ابن كثير ما يقرب من تسع روايات عن الصحابة والتابعين صرح بضعف أكثرها من حيث السند والمتن وقال بغرابة بعضها الآخر (١). إلا أنه أخرج رواية عن ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس قريبة جدا من رواية الإمام الباقر المتقدمة وبتغيير طفيف بين ألفاظ الروايتين ولم يختارها ابن كثير أو يصححها بقوله : وقد رواه الحاكم في المستدرك مطولا عن أبي زكريا العنبري بسنده عن حكام بن سلم الرازي وكان ثقة ، ثم قال : صحيح الإسناد ، فهذا أقرب ما روي في شأن نزول الآية والله أعلم (٢).

ولكنه أخرج رواية أخرى عن معروف بن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين يقول فيها : السجل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه وكان له في كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور فأسر ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه فلما قال تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)(٣) قالا : ذلك استطالة على الملائكة (٤).

وقد علق على هذا الخبر بقوله : هذا أثر غريب وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب وفيه نكارة توجب رده (٥).

غير أنني تتبعت هذا الخبر في تفاسير الإمامية وكتب الحديث عندهم قديما وحديثا فلم أجد له أثرا هذا من جهة وأن هذا الخبر مقطوع ب (عمن سمع) من جهة أخرى.

ثانيا : قصة آدم (عليه‌السلام) وزوجته

أخرج القمي والعياشي بإسنادهما عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر عن أبيه عن آبائه عن الإمام علي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : إنما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى خرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتى أكلا من

__________________

(١) ظ : تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ١ / ١٣٩ ـ ١٤٢.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير الدمشقي ، ١ / ١٤٠.

(٣) البقرة / ٣٠.

(٤) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير الدمشقي ، ١ / ٧١.

(٥) المصر نفسه والصفحة.

٢٦٩

الشجرة فأهبطهما الله إلى الأرض من يومهما ذلك ، قال : فحاج آدم ربه فقال : يا رب ، أرأيتك قبل أن تخلقني كنت قدرت عليّ هذا الذنب وكلما صرت وأنا صائر إليه أو هذا شيء فعلته أنا من قبل أن تقدره عليّ ، غلبت عليّ شقوتي فكان ذلك مني وفعلي لا منك ولا فعلك؟ قال له : يا آدم أنا خلقتك وعلمتك أني أسكنك وزوجك الجنة بنعمتي وما جعلت فيك من قوتي ، قويت بجوارحك على معصيتي ولم تغب عن عيني ولم يخل علمي من فعلك ولا مما أنت فاعله ، قال آدم : يا رب الحجة لك عليّ ، قال : فحين خلقتك وصورتك ونفخت فيك من روحي وأسجدت لك ملائكتي ونوهت باسمك في سمواتي وابتدأتك بكرامتي وأسكنتك جنتي ولم أفعل ذلك إلا برضا مني عليك ، ابتليتك بذلك من غير أن يكون عملت لي عملا تستوجب به عندي ما فعلت بك ، قال آدم : يا رب الخير منك والشر مني ، قال الله تعالى : يا آدم أنا الله الكريم خلقت الخير قبل الشر ، وخلقت رحمتي قبل غضبي وقدمت بكرامتي قبل هواني وقدمت باحتجاجي قبل عذابي ، يا آدم ألم أنهك عن الشجرة وأخبرك أن الشيطان عدو لك ولزوجك ، وأحذركما قبل أن تصيرا إلى الجنة ، وأعلمكما أنكما إن أكلتما من الشجرة لكنتما ظالمين لأنفسكما عاصيين لي ، يا آدم لا يجاورني في جنتي ظالم عاصي لي ، قال الإمام الباقر : فقال آدم : بلى يا رب الحجة لك علينا ، ظلمنا أنفسنا وعصينا وإلا تغفر لنا وترحمنا نكن من الخاسرين ، قال الإمام : فلما اقرا لربهما بذنبهما وأن الحجة من الله لهما ، تداركتهما رحمة الرحمن الرحيم ، فتاب عليهما ربهما أنه هو التواب الرحيم ، قال الله تعالى : يا آدم اهبط أنت وزوجك إلى الأرض ، فإذا أصلحتما أصلحتكما ، وإن عملتما لي قويتكما وإن تعرضتما لرضاي تسارعت إلى رضاكما وإن خفتما مني آمنتكما من سخطي ، قال الإمام : فبكيا عند ذلك وقالا : ربنا فأعنا على صلاح أنفسنا وعلى العمل بما يرضيك عنا ، قال الله لهما : إذا عملتما سوء فتوبا إلي منه أتب عليكما وأنا الله التواب الرحيم ، قالا : فاهبطنا برحمتك إلى أحب البقاع إليك ، قال : فأوحى الله إلى جبرئيل أن أهبطهما إلى البلدة المباركة مكة فهبط بهما جبرئيل فألقى آدم على

٢٧٠

الصفا وألقى حواء على المروة ، قال : فلما ألقيا قاما على أرجلهما ورفعا رءوسهما إلى السماء وضجا بأصواتهما بالبكاء إلى الله تعالى وخضعا بأعناقهما ، قال الإمام : فهتف الله بهما : ما يبكيكما بعد رضاي عنكما؟ قال : فقالا : ربنا أبكتنا خطيئتنا وهي أخرجتنا من جوار ربنا ، وقد خفي عنا تقديس ملائكتك لك ، ربنا وبدت لنا عوراتنا واضطرنا ذنبنا إلى حرث الدنيا ومطعمها ومشربها ودخلتنا وحشة شديدة لتفريقك بيننا ، قال : فرحمهما الرحمن الرحيم عند ذلك ، وأوحى إلى جبرئيل أنا الله الرحمن الرحيم وأني قد رحمت آدم وحواء لما شكيا إلي فاهبط عليهما بخيمة من خيام الجنة وعزهما عني بفراق الجنة ، وأجمع بينهما في الخيمة على الترعة التي بين جبال مكة ، قال الإمام : والترعة مكان البيت وقواعده التي رفعها الملائكة قبل ذلك ، فهبط جبرئيل على آدم بالخيمة على مقدار أركان البيت وقواعده فنصبها ، قال : وأنزل جبرئيل آدم من الصفا وأنزل حواء من المروة وجمع بينهما بالخيمة ، قال الإمام : وكان عمود الخيمة قضيب ياقوت أحمر فأضاء نوره وضوؤه جبال مكة وما حولها ، قال : وكلما امتد ضوء العمود فجعله الله حرما لحرمة الخيمة والعمود ، لأنهن من الجنة ولذلك جعل الله الحسنات في الحرم مضاعفة والسيئات فيه مضاعفة ، قال الإمام : ومدت اطناب الخيمة حولهما فمنتهى أوتادها ما حول المسجد الحرام ، قال : وكانت أوتادها من غصون الجنة وأطنابها من ظفائر الأرجوان ، قال : فأوحى الله إلى جبرئيل أهبط على الخيمة سبعين ألف ملك يحرسونها من مردة الجن ويؤنسون آدم وحواء ويطوفون حول الخيمة تعظيما للبيت والخيمة ، قال : فهبطت الملائكة فكانوا بحضرة الخيمة يحرسونها من مردة الشياطين والعتاة ، ويطوفون حول أركان البيت والخيمة كل يوم وليلة كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور ، قال : ثم إن الله أوحى إلى جبرئيل بعد ذلك أن اهبط إلى آدم وحواء فنحهما عن مواضع قواعد بيتي لأني أريد أن أهبط في ظلال من ملائكتي إلى أرضي فارفع أركان بيتي لملائكتي ولخلقي من ولد آدم ، قال : فهبط جبرئيل على آدم وحواء فأخرجهما من الخيمة ونحاهما عن ترعة البيت الحرام

٢٧١

ونحى الخيمة عن موضع الترعة ، قال : ووضع آدم على الصفا ووضع حواء على المروة ورفع الخيمة إلى السماء فقال آدم وحواء : يا جبرئيل أبسخط من الله حولتنا وفرقت بيننا أم برضا تقدير من الله علينا؟ فقال لهم : لم يكن ذلك سخطا من الله عليكما ولكن الله لا يسأل عما يفعل يا آدم إن السبعين ألف ملك الذين أنزلهم يريد أن يبني لهم مكان الخيمة بيتا على موضع الترعة المباركة حيال البيت المعمور فيطوفون حوله كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور ، فأوحى الله إلي أن أنحيك وحواء وأرفع الخيمة إلى السماء فقال آدم : رضينا بتقدير الله ونافذ أمره فينا ، فكان آدم على الصفا وحواء على المروة ، قال : فدخل آدم لفراق حواء وحشة شديدة وحزن ، قال : فهبط من الصفا يريد المروة شوقا إلى حواء وليسلم عليها وكان فيما بين الصفا والمروة وادي وكان آدم يرى المروة من فوق الصفا فلما انتهى إلى موضع الوادي غابت عنه المروة فسعى في الوادي حذرا لما لم ير المروة مخافة أن يكون قد ضل طريقه فلما أن جاز الوادي وارتفع عنه نظر إلى المروة فمشى حتى انتهى إليها فصعد عليها فسلم على حواء ثم أقبلا بوجهيهما نحو موضع الترعة ينظران هل رفعت قواعد البيت ويسألان الله أن يردهما إلى مكانهما حتى هبط من المروة فرجع إلى الصفا فقام عليه وأقبل بوجهه نحو موضع الترعة فدعا الله ثم أنه اشتاق إلى حواء فهبط من الصفا يريد المروة ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، ثم رجع إلى الصفا ففعل عليه مثل ما فعل في المرة الأولى ثم أنه هبط من الصفا إلى المروة ففعل مثلما فعل في المرتين الأوليتين ثم رجع إلى الصفا فقام عليه ودعا الله أن يجمع بينه وبين زوجته حواء ، قال : فكان ذهاب آدم من الصفا إلى المروة ثلاث مرات ورجوعه ثلاث مرات فذلك ستة أشواط فلما أن دعيا الله وبكيا إليه وسألاه أن يجمع بينهما استجاب الله لهما من ساعتهما ، من يومهما ذلك مع زوال الشمس ، فأتاه جبرئيل وهو على الصفا واقف يدعو الله مقبلا بوجهه نحو الترعة فقال له جبرئيل : انزل يا آدم من الصفا والحق بحواء فنزل آدم من الصفا إلى المروة ففعل مثلما فعل ثلاث مرات حتى انتهى من المروة فصعد عليها وأخبر حواء بما أخبره جبرئيل ففرحا بذلك فرحا شديدا وحمد الله وشكراه ، فلذلك جرت

٢٧٢

السنة بالسعي بين الصفا والمروة ولذلك قال الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ...)(١) ، قال : ثم إن جبرئيل أتاهما فأنزلهما من المروة وأخبرهما أن الجبار تبارك وتعالى قد هبط إلى الأرض فرفع قواعد البيت الحرام بحجر من الصفا وحجر من المروة وحجر من طور سيناء وحجر من جبل السلام وهو بظاهر الكوفة ، فأوحى الله إلى جبرئيل أن ابنه وأتمه ، قال : فاقتلع جبرئيل الأحجار الأربعة بأمر من الله من مواضعهن بجناحيه فوضعهما حيث أمرهما الله في أركان البيت على قواعده التي قدرها الجبار ونصب أعلامها ثم أوحى إلى جبرئيل أن ابنه وأتمه بحجارة من أبي قبيس واجعل له بابين ، باب شرقي وباب غربي ، قال : فأتمه جبرئيل فلما أن فرغ منه طافت الملائكة حوله فلما نظر آدم وحواء إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا في البيت سبعة أشواط ثم خرجا يطلبان ما يأكلان وذلك من يومهما الذي هبط بهما فيه (٢).

ويبقى الإمام الباقر في أجواء هذه القصة القرآنية يبين للناس ما تنطوي من العظة والعبرة والهدف ، فهو يروي عن آبائه عن جده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما يزين أنبياء الله ولا ينقص من قدرهم ومكانتهم وعصمتهم ، مستلهما لما في النص القرآني من درس ومرمى ، فيختتم قصة آدم وحواء بتوبتهما والكلمات التي تلقياها ففي تفسير قوله تعالى : (... فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ)(٣) في أصح رواية أخرجها العياشي والطبرسي عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر أنه قال : الكلمات هي اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم (٤).

__________________

(١) البقرة / ١٥٨.

(٢) تفسير القمي ، ١ / ٤٥+ تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٣٥ ـ ٣٩.

(٣) البقرة / ٣٧.

(٤) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٤١+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ١ / ٨٩. وقد رواها الحافظ ابن كثير في تفسيره عن مجاهد ، ١ / ٨١ وكذلك الرازي عن ابن عباس ، ٢ / ٢٠ ، ٢١ ، وهناك رواية أخرى أخرجها السيوطي عن الإمام الباقر في الدر المنثور ، ١ / ٦٠ فراجع.

٢٧٣

ثالثا : قصة ابني آدم

روى أبو حمزة الثمالي عن الإمام الباقر أنه قال : إن آدم أمر هابيل وقابيل أن يقربا قربانا وكان هابيل صاحب غنم وكان قابيل صاحب زرع فقرب هابيل كبشا من أفضل غنمه ، وقرب قابيل من زرعه ما لم يكن ينفق كلما أدخل بيته ، فتقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل وهو قول الله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ...)(١) وكان القربان تأكله النار فعمد قابيل إلى النار فبنى لها بيتا وهو أول من بنى بيوت النار ، فقال : لاعبدن هذه النار حتى يتقبل قرباني ، ثم إن ابليس عدو الله أتاه وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق فقال له : تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربانك وإنك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك ويقولون : نحن أبناء الذي تقبل قربانه وأنتم أبناء الذي ترك قربانه فاقتله لكي لا يكون له عقب يفتخرون على عقبك فقتله ، فلما رجع قابيل إلى آدم قال له : يا قابيل أين هابيل؟ فقال : اطلبه حيث قربنا القربان ، فانطلق آدم فوجد هابيل قتيلا (٢).

وروى الطبرسي بإسناده عن الإمام الباقر قال : فشدخ قابيل هابيل بحجر فقتله (٣) ، وقد ختم الإمام الباقر فصول هذه القصة ببعث نوح نبيا (عليه‌السلام) ، رابطا بين أجزائها ، معبرا عنها أحسن تعبير.

رابعا : قصة لوط (عليه‌السلام)

روى أبو بصير قال : قلت له ـ يقصد الإمام الباقر ـ : أصلحك الله ، أكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يتعوذ من البخل؟ قال : نعم يا أبا محمد في كل صباح ومساء ، ونحن نعوذ بالله من البخل ، إن الله يقول في كتابه (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٤) وسأنبئك عن عاقبة البخل ، إن قوم لوط كانوا أهل قرية

__________________

(١) المائدة / ٢٧.

(٢) تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٤٦٢+ تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٣٠٩+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٧ / ١٤+ اثبات الهداة ، العاملي ، ١ / ٢٦٤.

(٣) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ١٨٣+ مقتنيات الدرر ، الحائري ، ٤ / ٢.

(٤) الحشر / ٩.

٢٧٤

بخلاء أشحاء على الطعام فأعقبهم الله داء لا دواء له في فروجهم ، قلت : وما أعقبهم؟ قال : إن قوم (قرية) لوط كانت على طريق السيارة إلى الشام ومصر فكانت المارة تنزل به فيضيفونهم ، فلما أن كثر ذلك عليهم ضاقوا به ذرعا وبخلا ولؤما ، فدعاهم البخل إلى أن كان إذا نزل بهم الضيف فضحوه من غير شهوة بهم وإنما كانوا يفعلون ذلك بالضيف حتى تنكل النازلة عنهم فشاع أمرهم في القرى وحذرتهم المارة فأورثهم البخل بلاء لا يدفعونه عن أنفسهم في شهوة بهم إليه حتى صاروا يطلبونه من الرجال في البلاد ، ويعطونهم عليه الجعل فأي داء أعدى من البخل ، ولا أضر عاقبة ولا أفحش عند الله! قال أبو بصير : فقلت له : أصلحك الله ، هل كان أهل قرية لوط كلهم هكذا مبتلين؟ فقال الإمام : نعم ، إلا أهل بيت من المسلمين ، أما تسمع لقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(١) ثم قال أبو جعفر : إن لوطا لبث مع قومه ثلاثين سنة يدعوهم إلى الله ويحذرهم عقابه ، قال : وكانوا قوما لا يتنظفون من الغائط ولا يتطهرون من الجنابة وكان لوط وأهله يتنظفون من الغائط ويتطهرون من الجنابة ، وكان لوط ابن خالة إبراهيم (عليه‌السلام) وكانت امرأة إبراهيم سارة أخت لوط ، وكان إبراهيم ولوط نبيين مرسلين منذرين ، وكان لوط رجلا سخيا كريما يقري الضيف إذا نزل به ويحذره قومه ، قال : فلما أن رأى قوم لوط ذلك قالوا : أنا ننهاك عن العالمين لا تقر ضيفا نزل بك ، فإنك إن فعلت فضحنا ضيفك وأخزيناك فيه ، وكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه ، وذلك أن لوطا كان فيهم لا عشيرة له ، قال : وإن لوطا وإبراهيم لا يتوقعان نزول العذاب على قوم لوط وكانت لإبراهيم ولوط منزلة من الله شريفة ، وإن الله تبارك وتعالى كان إذا هم بعذاب قوم لوط أدركته مودة إبراهيم وخلته ومحبة لوط فيراقبهم فيه فيؤخذ عذابهم.

قال الإمام الباقر : فلما اشتد أسف الله على قوم لوط وقدر عذابهم وقضاه أحب أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام حليم فيسلي به مصابه بهلاك قوم لوط فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل فدخلوا عليه ليلا ففزع منهم وخاف

__________________

(١) الذاريات / ٣٥ ـ ٣٦.

٢٧٥

أن يكونوا سراقا قال : فلما رأته الرسل فزعا وجلا (فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(١) ، قال الإمام الباقر : والغلام هو إسماعيل بن هاجر ، فقال إبراهيم للرسل (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ* قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ)(٢) ، فقال إبراهيم للرسل : فما خطبكم بعد البشارة؟ (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)(٣) قوم لوط أنهم كانوا قوما فاسقين لنذرهم عذاب رب العالمين ، قال الإمام : فقال إبراهيم للرسل (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)(٤) قال : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ)(٥) يقول : من عذاب الله لننذر قومك العذاب (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) يا لوط إذا مضى من يومك هذا سبعة أيام بلياليها (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)(٦) إلا امرأتك أنه مصيبها ما أصابهم ، قال أبو جعفر الباقر : فقضوا إلى آل لوط ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ، قال : فلما كان اليوم الثامن مع طلوع الفجر قدم الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه باسحاق ويعزونه بهلاك قوم لوط ، وذلك قول الله تعالى في سورة هود (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)(٧) يعني ذكيا مشويا نضيجا (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ* وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ)(٨) قال أبو جعفر : إنما عنى امرأة إبراهيم سارة قائمة (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)(٩) ، فلما أن جاءت البشارة بإسحاق ذهب عنه الروع

__________________

(١) الحجر / ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) الحجر / ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) الحجر / ٥٨.

(٤) العنكبوت / ٣٢.

(٥) الحجر / ٦١ ـ ٦٣.

(٦) الحجر / ٦٥.

(٧) هود / ٦٩.

(٨) هود / ٧٠ ـ ٧١.

(٩) هود / ٧١ ـ ٧٢.

٢٧٦

وأقبل يناجي ربه في قوم لوط ويسأله كشف العذاب عنهم ، قال تعالى : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(١)(٢).

وإذا نظرنا إلى هذه الأحداث القصصية المتتابعة والتي استطاع الإمام الباقر أن يصورها بأحسن تصوير وجدنا أن رائده في ذلك القرآن الكريم لا يخرج عن سياقه واخباره في سرد الأحداث والوقائع ، استعان في الكثير من تلك اللقطات القصصية بآيات كاملة من القرآن من هذه السورة وتلك ما دامت هذه الآيات توظف سياقاتها لإبراز الحدث في القرآن الكريم لتصل به إلى ذروته ، فكان الإمام يجري مع تلك الأحداث ديدنه في ذلك مع جميع القصص القرآني والتي روى أحداثها غير آبه ولا ملتفت إلى أخبار أهل الكتاب التي كثر فيها الدس الإسرائيلي المتعمد أو غير المتعمد.

خامسا : قصة يوسف (عليه‌السلام)

خير ما يمثل اسهامات الإمام الباقر في القصص القرآني : قصة يوسف (عليه‌السلام) وهي التي كثرت فيها الروايات الإسرائيلية والتفصيلات الجزئية التي ما أنزل الله بها من سلطان فلا يؤيدها الشرع ولا العقل ولا المنطق السليم بل زادت فيها الأخيلة اليهودية المريضة ، نجد الإمام الباقر حين يتعرض لبعض جوانبها يبتعد كليا عن المتهم والملفق الواضح من روايات أهل الكتاب ويقتصر على ما يوافق السرد القرآني والسياق الملائم مع منزلة الأنبياء (عليهم‌السلام) وتنزيههم ، وإليك تلك القصة :

روى محمد بن مسلم وأبو بصير قالا : سمعنا أبا جعفر الباقر يحدث قال : لما فقد يعقوب يوسف اشتد حزنه عليه وبكاؤه حتى ابيضت عينه

__________________

(١) هود / ٧٦.

(٢) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ٢ / ١٥٢ ، ١٥٧ ـ ١٥٨ ، ٢٤٢ ـ ٢٤٧+ تفسير القرآن ، القمي ، ٢ / ٢٢٨ ، ٢٣١ ، ٣٤٨+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٥ / ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٨+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ١ / ٩٠٩.

٢٧٧

من الحزن واحتاج حاجة شديدة وتغيرت حاله ، وقال : وكان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرتين للشتاء والصيف ، وأنه بعث عدة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر مع رفقة خرجت فلما دخلوا على يوسف وذلك بعد ما ولاه العزيز مصر ، فعرفهم يوسف ولم يعرفه أخوته لهيبة الملك وعزته ، فقال لهم : هلموا بضاعتكم قبل الرفاق وقال لفتيانه : عجلوا لهؤلاء الكيل وأوفوه. فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم ولا تعلموهم ذلك ، ففعلوا ثم قال لهم يوسف : قد بلغني أنه كان لكم أخوان لأبيكم فما فعلا؟ قالوا : أما الكبير منهما فان الذئب أكله وأما الصغير فخلفناه عند أبيه وهو به ضنين وعليه شفيق. قال : فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ* قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ)(١) ، فلما رجعوا إلى أبيهم فتحوا متاعهم (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ)(٢)(فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ)(٣) فلما احتاجوا إلى الميرة بعد ستة أشهر بعثهم يعقوب ، وبعث معهم بضاعة يسيرة وبعث معهم بنيامين وأخذ عليهم (مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ)(٤) أجمعين ، فانطلق الأخوة حتى دخلوا على يوسف فقال لهم : معكم بنيامين ، قالوا : نعم هو في الرحل ، قال لهم : فأتوني ، فأتوه به وهو في دار الملك ، فقال : ادخلوه وحده ، فادخلوه عليه فضمه يوسف إليه وبكى وقال له : أنا أخوك يوسف فلا تبتأس بما تراني أعمل ، واكتم ما خبرتك به ولا تحزن ولا تخف فيما أخرجه إليهم ، وأمر فتيته أن يأخذوا بضاعتهم ، ويعجلوا

__________________

(١) يوسف / ٦٠ ـ ٦١.

(٢) يوسف / ٦٥.

(٣) يوسف / ٦٣ ـ ٦٤.

(٤) يوسف / ٦٦.

٢٧٨

لهم الكيل ، فإذا فرغوا جعلوا المكيال في رحل بنيامين ففعلوا به ذلك وارتحل القوم مع الرفقة فمضوا فلحقهم يوسف وفتيته فنادوا فيهم قال : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ* قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ* قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ* قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ)(١) ويستمر الإمام الباقر في تصعيد قصة يوسف فيقول : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ* قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ...)(٢) فقال لهم يوسف : ارتحلوا عن بلادنا (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً)(٣) وقد أخذ علينا موثقا من الله لنرد به إليه (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٤) إن فعلت (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ)(٥) و (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي ...)(٦) ومضى أخوة يوسف حتى دخلوا على يعقوب فقال لهم : فأين بنيامين قالوا : بنيامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فسل أهل القرية والعير حتى يخبروك بذلك ، فاسترجع واستعبر واشتد حزنه حتى تقوس ظهره ، ويستمر الإمام الباقر في سرد هذه القصة قائلا : وأدبرت الدنيا عن يعقوب وولده حتى احتاجوا حاجة شديدة وفنيت ميرتهم ، فعند

__________________

(١) يوسف / ٧٠ ـ ٧٥.

(٢) يوسف / ٧٦ ـ ٧٧.

(٣) يوسف / ٧٨.

(٤) يوسف / ٧٨.

(٥) يوسف / ٧٩.

(٦) يوسف / ٨٠.

٢٧٩

ذلك قال يعقوب لولده (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(١) ، فخرج منهم جماعة معهم بضاعة يسيرة وكتب معهم كتابا إلى عزيز مصر يتعطفه على نفسه وولده ، قال : ومضى ولد يعقوب بكتابه نحو مصر حتى دخلوا على يوسف في دار المملكة (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا)(٢) بأخينا بنيامين وهذا كتاب أبينا يعقوب إليك في أمره يسألك تخلية سبيله وأن تمن به عليه ، قال : فأخذ يوسف كتاب يعقوب فقبله ووضعه على عينيه وبكى وانتحب حتى بلت دموعه القميص الذي عليه ثم أقبل عليهم فقال : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ)(٣) من قبل (وَأَخِيهِ) من بعد (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا)(٤) فلا تفضحنا ولا تعاقبنا اليوم واغفر لنا (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا)(٥) الذي بلته دموع عيني (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً)(٦) وردهم إلى يعقوب ريح يوسف ، فقال لمن بحضرته من ولده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ)(٧) قال الإمام الباقر : وأقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحا وسرورا بما رأوا من حال يوسف والملك الذي أعطاه الله والعز الذي صار إليه في سلطانه وكان مسيرهم من مصر إلى يعقوب تسعة أيام (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ

__________________

(١) يوسف / ٨٧.

(٢) يوسف / ٨٨.

(٣) يوسف / ٨٩.

(٤) يوسف / ٨٩ ـ ٩٤.

(٥) يوسف / ٩٢ ـ ٩٣.

(٦) يوسف / ٩٣.

(٧) يوسف / ٩٤.

٢٨٠