الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

* المطلب الثالث : الرهن :

في قوله تعالى : (... وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ...)(١).

في الآية اشتراط القبض فإن لم يقبض لم ينعقد الرهن بإجماع الإمامية (٢) ، واكثر فقهاء المسلمين ، قال الدمشقي : قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد من صحة شرط الرهن القبض فلا يلزم إلا بالقبض ، ونقل عن مالك أنه يلزم وإن لم يقبض لكن الراهن يجبر على التسليم (٣).

وما ذهب إليه اكثر الفقهاء هو ما دلت عليه رواية الشيخ الطوسي عن محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر قال : لا رهن إلا مقبوضا (٤).

فصيغة النفي والحصر بالاستثناء دال على اشتراط القبض ، لكن ابن إدريس الحلي يرى عدم الاشتراط ويميل إليه العلامة في المختلف والشهيد في المسالك (٥) ، وبذلك تكون دعوى الإجماع في أعلاه محل نظر ، مستندين إلى عموم قوله تعالى : (... أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...)(٦).

ويذهب ابن إدريس الحلي إلى أن الرواية المتقدمة عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) ضعيفة ، لسببين : لجهالة محمد بن قيس في سندها ولاشتراكه (٧) ، وقد تقدم في فصل من روى عن الإمام في رسالتنا أنه غير مجهول لأنه الأسدي الثقة ، وبالجملة فالسند قوي ومعتبر ومتن الرواية مطابق للقرآن الكريم ، لكن من جهة الدلالة أن خبر (لا) النافية للجنس استحبابي أي لا رهن كاملا ، وعموم المسألة محل نقاش بين علماء الإمامية.

__________________

(١) البقرة / ٢٨٣.

(٢) قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٢ / ٢٩٥.

(٣) رحمة الأمة ، الدمشقي ، ١٤٧.

(٤) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ١٦٦+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٦ / ١٢٣.

(٥) ظ : المختلف ، العلامة الحلي ، ٢ / ٤٦+ السرائر ، ابن إدريس ، ٢ / ١١٣+ مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ٢ / ١٣٢.

(٦) المائدة / ١.

(٧) السرائر ، ابن إدريس ، ٢ / ١١٣.

٣٦١

ولكن الذي يبدو لي ـ والله اعلم ـ أن القبض شرط للزوم لا شرط للصحة ، أي أنه لو لم يقع لكان الرهن صحيحا لكنه ليس بلازم.

* المطلب الرابع : الوصية :

هناك الكثير من الروايات المنقولة عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) في الوصية وأحكامها والتي اتخذت فيما بعد كأدلة لاستنباط الأحكام الشرعية المتعلقة بالوصية عند فقهاء الإمامية ولكن الذي يهمنا منها رواياته التفسيرية فقط ، ومنها في قوله تعالى : (... إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(١).

هناك روايتان متعارضتان عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) في جواز الوصية لوارث أو عدمه :

الأولى : عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الوصية للوارث؟ فقال : تجوز ثم تلا هذه الآية : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(٢).

الثانية : عن عمرو بن شمر الجعفي قال : سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول في الدين والوصية : أن الدين قبل الوصية ثم الوصية على أثر الدين ثم الميراث ، ولا وصية لوارث (٣).

رجح فقهاء الإمامية الرواية الأولى لتضافر الأدلة لديهم على ترجيحها ، ومنها : أن الرواية الأولى هي برواية محمد بن مسلم وهو من عرفت في إجماع العلماء على توثيقه وتعديله والثانية ضعيفة بضعف عمرو بن شمر الجعفي ، والسبب الآخر أن الرواية الأولى يعضدها جمع من الروايات الصادرة عن كثير من أئمة آل البيت (٤) ولإجماع العلماء عندهم على أن الوصية للوارث صحيحة

__________________

(١) البقرة / ١٨٠.

(٢) الوافي ، الفيض الكاشاني ، ١٣ / ١٧.

(٣) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٢٢٦+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٢٤ / ١٢٩.

(٤) ظ : البيان في تفسير القرآن ، الخوئي ، ٣١٨.

٣٦٢

إذا لم تكن اكثر من الثلث ، فإن كانت اكثر من الثلث ردت إليه (١) ، وبه قال بعض الزيدية (٢).

وأما المالكية ففي المشهور من مذهبهم وهو قول للشافعية ورواية عن الحنابلة وبه قال الظاهرية من أن الوصية للوارث باطلة ، وإذا أجازها الورثة فإجازتهم تعتبر ابتداء هبة منهم للموصى له ، وليس تنفيذا لوصية مورثهم فيعتبر فيها ما يعتبر في الهبة ، فلا بد من إيجاب من الورثة وقبول وقبض من الموصى له (٣).

وقال جمهور العلماء وإليه ذهب الحنفية وبعض المالكية وهو قول للشافعي والصحيح من مذهب الحنابلة وهو المذهب عند الزيدية : إن صحة الوصية للوارث متوقف على إجازة الورثة ، فإذا أجازوها صحت وكانت إجازتهم تنفيذا لوصية الموصي ، وإذا أجازها بعضهم ورد بعض آخر جازت في حق المجيز بقدر نفسه وإن لم يجيزوها بطلت (٤).

ولكل من هذين القولين أدلة استدل بها على ما ذهب إليه من حكم فقهي بخصوص الوصية للوارث غير أن أدلة هذه الأقوال الثلاثة ومن ضمنهم الإمامية مناقش في استدلالهم فيها وقد تكلفت الموسوعات الفقهية في بيان أوجه الاختلاف وطرق الاستدلال بما فيه الكفاية لمستزيد.

* المطلب الخامس : الحجر :

أثرت عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) عدة روايات تفسيرية في الآيات القرآنية ذات الصلة نذكر منها مثالا واحدا :

في قوله تعالى : (... وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ...)(٥) ، فقد روى زياد بن المنذر عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) أنه قال : السفهاء النساء والولد ، إذا علم الرجل أن

__________________

(١) الخلاف ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٨٩.

(٢) البحر الزخار ، ابن المرتضى ، ٦ / ٣٠٨.

(٣) المهذب ، النووي ، ١٥ / ٤٢٠+ المغني ، ابن قدامة ، ٦ / ٤١٩+ البحر الزخار ، ابن المرتضى ، ٦ / ٣٠٨+ المحلى ، ابن حزم ، ٩ / ٣١٦.

(٤) الهداية متن تكملة فتح القدير ، ٩ / ٣٤٨+ المهذب ، النووي ، ١٥ / ٤٢٠+ المغني ، ابن قدامة ، ٦ / ٤١٩+ البحر الزخار ، ابن المرتضى ، ٦ / ٣٠٨.

(٥) النساء / ٥.

٣٦٣

امرأته سفيهة مفسدة وولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل الله له قياما (١).

قال القرطبي : باسطا اختلاف العلماء في (السفهاء) فنقل : عن سعيد بن جبير أنه قال : إنهم اليتامى وعقب عليه بعبارة النحاس في قوله : وهذا احسن ما قيل في الآية ، وروى عن أبي مالك أنه قال : الأولاد الصغار ، وعن مجاهد النساء ، قال النحاس : وهذا القول لا يصح ، ويقال : لا تدفع للكفار وقال أبو موسى الاشعري (رضي الله عنه) : السفهاء هنا كل من يستحق الحجر وعلق عليه القرطبي بقوله : وهذا جامع (٢).

ثم يعرض آراء الفقهاء وبعدها يورد قولا لابن عباس وهو : لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم بل كن أنت الذي تنفق عليهم (٣).

فالسفهاء على هذا القول هم النساء والصبيان ، فيكون الإمام الباقر (عليه‌السلام) قد أخذ بتفسير ابن عباس وخرّج عليه.

ونسب الرازي هذا القول إضافة لابن عباس إلى الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في أحد قوليه ، وقد مال هو إلى قول آخر وهو : أن السفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفا بهذه الصفة ، وهذا القول أولى لأنّ التخصيص بغير دليل لا يجوز (٤).

وهذا الرأي هو قول أبي موسى الاشعري المتقدم والذي ذكره القرطبي في تفسيره ، ونحن نرجح ما ذهب إليه الرازي لأن التخصيص بلا دليل غير جائز قطعا إلا إذا قامت قرائن على ذلك.

__________________

(١) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ١٥٩+ تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٨٩.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٥ / ١٤.

(٣) المصدر نفسه ، ٥ / ١٦.

(٤) التفسير الكبير ، الرازي ، ٣ / ٢١٠.

٣٦٤

* المطلب السادس : اليمين وكفارته :

فصل الفقهاء في أحكام اليمين ، وما ينعقد منها وما لا ينعقد واستندوا فيها على مجموعة من الآيات الكريمة التي ورد تفسير بعض منها عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) :

أولا : في قوله تعالى : (... وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ...)(١).

عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) قال :

يعني : الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه وما أشبه ذلك (٢).

وفي تفسيره هذا بيان للماهية من خلال المثال ، واعتبر هذا اليمين لغوا لأن العرضة بمعنى المانع من ارتكاب فعل الخير ، فلا تجب به الكفارة (٣) ، خلافا لبعض الفقهاء.

قال ابن رشد : الإيمان منها لغو ، ومنها منعقد ، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن إيمان اللغو هو يمين على شيء يظن الرجل أنه على يقين منه فيخرج الأمر على خلاف ذلك ، وقال الشافعي : لغو اليمين ما لم تنعقد عليه النية مثل ما جرت به العادة من غير أن يعتقد لزومه وهذا القول رواه مالك في الموطأ عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) ، وقيل عن بعض أصحاب مالك أن اليمين على المعصية يمين لغو (٤).

وترى الإمامية : أن اليمين لا ينعقد إلا بالنية ـ وهو قول الشافعية كما هو واضح في ما تقدم ـ وهذا اليمين هنا حلف من غير نية ولذلك يسمونه يمين اللغو (٥).

ويرى السيوري : أن متى تضمن اليمين ترك بر وتقوى وإصلاح فإنها باطلة لا يجب العمل بمضمونها (٦).

__________________

(١) البقرة / ٢٢٤.

(٢) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ١١٢+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٢٣ / ٤٦+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ١٢.

(٣) قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ١٢.

(٤) بداية المجتهد ، ابن رشد ، ١ / ٣٩٥.

(٥) شرايع الإسلام ، المحقق الحلي ، ٣ / ١٧٠.

(٦) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ٢ / ٢٠١.

٣٦٥

ويفهم من الآية أيضا أبعاد الناس عن الإيمان ، كما وردت في رواية سدير الصيرفي عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) أنه قال : من حلف بالله صادقا فقد أثم (١).

ثانيا : أما في كفارته فقد ورد تفسير الإمام الباقر (عليه‌السلام) لقوله تعالى : (... فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ...)(٢) عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر الباقر (عليه‌السلام) عن أوسط ما تطعمون أهليكم؟ فقال : ما تعولون به عيالكم من أوسط ذلك ، قلت : وما أوسط ذلك؟ فقال : الخل والزيت والتمر والخبز يشبعهم به مرة واحدة (٣).

ويترتب عليها أن الإطعام يصدق أما بالتسليم أو التمكين ، واختلف في قدر ما يعطى المسكين ، فقال أبو حنيفة : نصف صاع من الحنطة أو صاع من غيره ، بينما ذهب الإمامية والشافعية إلى : أنه لكل مسكين مد ـ ثلاثة أرباع الكيلو غرام ـ (٤) ، وهو قول مالك وأهل المدينة (٥).

ويرى مالك تبعا لرأي الإمام الباقر : أن المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم ، أما سائر المدن فيعطون من الوسط من نفقتهم لقوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) والوسط من الادام : الزيت واللبن والسمن والتمر (٦).

* المطلب السابع : النكاح :

في هذا المطلب مسائل كثيرة دلت عليها آيات قرآنية كريمة وأحاديث شريفة ، وقد فرع عليها الفقهاء فروعا وأحكاما كثيرة ، وقد وردت روايات تفسيرية عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) تتناول العديد من قضاياه ، وسنكتفي بأمثلة مجتزأة منها :

أولا : في قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ...)(٧). الأيم : الخلية التي لا زوج لها.

__________________

(١) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ١١٤+ تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٢١٧.

(٢) المائدة / ٨٩.

(٣) قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٢٣.

(٤) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ٢ / ٢٠٥.

(٥) بداية المجتهد ، ابن رشد ، ١ / ٤٠٤.

(٦) المصدر نفسه والصفحة.

(٧) النور / ٣٢.

٣٦٦

واختلف الفقهاء في حاجة عقد النكاح إلى أذن الولي على أقوال :

ذهب الإمامية في مشهورهم إلى أنه لا يعد أذن الولي شرطا على وجه الوجوب ومدرك ذلك روايتان عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) :

الأولى : عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) أنه قال : إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي من مالها ما شاءت ، فان أمرها جائز تتزوج إن شاءت بغير أذن وليها ، وإن لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلا بأمر وليها (١).

الثانية : عن أبي بصير وحمران ومحمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) انه قال : المرأة التي ملكت غير السفيهة ولا المولى عليها أن تزويجها بغير ولي جائز (٢).

وأما ما هو خلاف المشهور عندهم فمدركه روايتان أخريان عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) أيضا :

الأولى : عن منصور بن حازم عن الإمام أنه قال : تستأمر البكر وغيرها (٣).

الثانية : عن زرارة عن الإمام أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : لا ينقض النكاح إلا بالأب (٤).

وحينئذ فالمجتهد وخبرته في الترجيح بين المتعارض هو الذي يجعله يختار ما يراه صحيحا.

وممن قال بشرط الولاية مالك والشافعي وأحمد والزيدية (٥) ، وأجاز أبو حنيفة بغير ولي وزفر والشعبي والزهري لا سيما إذا كان كفؤا (٦) ، وفرق

__________________

(١) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٢٢١+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٧ / ٢١٥+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٤٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ٢ / ١٢٧+ التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٢٢٠+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٧ / ، ٢٠١.

(٣) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٢٢١+ الوسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٧ / ٢٠٣.

(٤) الاستبصار ، الشيخ الطوسي ، ٤ / ٢٣٥+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٧ / ٢٠٥.

(٥) شرح الدردير مع حاشية الدسوقي ، أحمد بن الدردير ، ٣ / ٢٢٦+ المغني ، ابن قدامة ٧ م / ٣٣٧+ مغني المحتاج ، الشربيني ، ٣ / ١٣٧+ البحر الزخار ، ابن المرتضى ، ٤ / ٢٣.

(٦) الاختيار لتعليل المختار ، عبد الله بن محمود الموصلي ، ٣ / ١٢٨+ فتح القدير ، ابن الهمام ، ٢ / ٢٩١.

٣٦٧

الظاهرية بين البكر والثيب (١) ، وعلى رواية ابن القاسم عن مالك القول الرابع : أن اشتراط الولاية سنة لا فرض (٢).

وكان لكل واحد من هذه الأقوال أدلته المستفاد منها هذه الأحكام الشرعية ، وقد افاض الفقهاء في مناقشتها وذكرها وترجيح بعضها على بعض في موسوعاتهم الفقهية.

ثانيا : في مباحث النكاح يتعرض العلماء إلى محرماته ، ومن محرماته الرضيعات لقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ...)(٣).

اختلف الفقهاء في مقدار الرضاع الناشر للحرمة ، فذهب الإمامية إلى أنه إما خمسة عشر رضعة أو رضاع يوم وليلة لتضافر روايات آل البيت على ذلك (٤) ، ومنها ما رواه محمد بن مسلم قال : قلت لأبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) : هل للرضاع حد يؤخذ به؟ فقال : لا يحرم الرضاع اقل من رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينهما رضاع امرأة غيرها ، فلو أن امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتها امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما (٥).

وذهب مالك وأبو حنيفة والزيدية إلى : أن قليله وكثيره ناشر للحرمة ، فمتى وصل شيء إلى جوف الرضيع ثبت حكم الرضاع في نشر الحرمة ، ودليله قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (٦).

__________________

(١) المحلى ، ابن حزم الظاهري ، ٩ / ٤٥٥.

(٢) بداية المجتهد ، ابن رشد ، ٢ / ٨.

(٣) النساء / ٢٣.

(٤) ظ : للتفاصيل : كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ٣ / ٤٢+ الكافي ، الكليني ، ٥ / ٤٣٨.

(٥) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٢٠٦+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٧ / ٢٨٢+ الاستبصار ، الشيخ الطوسي ، ٣ / ١٩٣+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٩٦.

(٦) الموطأ مع الزرقاني ، ٣ / ٢٤٠+ فتح القدير ، ابن الهمام ، ٣ / ٢+ البحر الزخار ، ابن المرتضى ، ٤ / ٢٦٤.

٣٦٨

وذهب الشافعي وأحمد وابن حزم إلى : خمس رضعات وصاعدا ناشرة للحرمة ، ودليله رواية أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) (١).

ولكل فريق من الفقهاء أدلته ، ونحن لا يهمنا هنا سوى عرض ما نقل عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) في تفسيره لبعض آيات الأحكام حتى يتسنى لنا إظهار مدى مشاركة الإمام في ترصين الجهود الفكرية والفقهية دون التعرض إلى أدلة باقي الفقهاء الذين سبقوه أو تأخروا عنه لأن ذلك يخرج هذه الدراسة عما قدر لها ويوسمها بطابع فقهي لم تقم على أساسه.

ثالثا : في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢).

الايلاء هو الحلف على ترك الوطء أربعة اشهر فما فوق ، وقد كان طلاقا في الجاهلية فنسخ الله ذلك واثبت له حكما آخر (٣).

نقل بكير بن أعين وبريد بن معاوية في هاتين الآيتين أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قال : إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الأربعة أشهر ولا أثم عليه في كفه عنها في الأربعة أشهر ، فإن مضت الأربعة الأشهر قبل أن يمسها فسكنت ورضيت فهو في حل وسعة ، فإن رفعت أمرها قيل له : أما أن تفيء فتمسها ، أما أن تطلق ، وعزم الطلاق أن يخلي عنها فإذا حاضت وطهرت طلقها وهو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاث قروء ، فهذا الايلاء الذي أنزله الله تعالى في كتابه وسنة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٤).

وقال ابن رشد : وفيه خلاف أساسه ، هل تطلق المرأة بعد الأربعة أشهر بعد الترافع ، ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والليث وداود إلى : أنه يوقف بعد انقضاء الأربعة أشهر ، فأما يفيء وأما يطلق وهو

__________________

(١) المهذب ، النووي ، ٢ / ١١٦+ المغني ، ابن قدامة ، ٩ / ١٩٢+ المحلي ، ابن حزم الظاهري ، ١٠ / ٩١.

(٢) البقرة / ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

(٣) قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٣٧٩.

(٤) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٧ / ٥٢٦+ فروع الكافي ، الكليني ، ٢ / ١٢١.

٣٦٩

قول علي وابن عمر ، أما أبو حنيفة فإنه يرى أن الطلاق يقع بانقضاء الأربعة أشهر إلا إذا فاء فيها (١).

ونرى أن تفسير الإمام الباقر (عليه‌السلام) هنا مطابق لمذهب مالك والشافعي واحمد وداود.

المبحث الثالث

الحدود والجنايات والقضاء

* المطلب الأول : الحدود :

وهي عقوبات قدرها الشارع على الجناة والذين يرتكبون المعاصي المقررة شرعا (٢) ، وفيها مجموعة من الآيات الكريمة ورد تفسيرها عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) ، وإليك بعضها :

أولا : في حد الزنا

قال تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ...)(٣).

فقد بيّن الإمام أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) طريقة استيفاء الحد برواية زرارة عنه فقال : يضرب الرجل قائما والمرأة قاعدة ويضرب على كل عضو ويترك الوجه والمذاكير (٤).

وفي رواية أخرى عنه قال : يفرق على الجسد كله ويتقى الفرج والوجه ويضرب بين الضربين (٥) ، ولا أعلم خلافا بين الفقهاء في هذه الطريقة في استيفاء الحد.

__________________

(١) بداية المجتهد ، ابن رشد ، ٢ / ٩٨.

(٢) شرايع الإسلام ، المحقق الحلي ، ٤ / ٢١.

(٣) النور / ٢.

(٤) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١٠ / ٣١+ من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ٤ / ٢٠+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١٨ / ٣٦٩.

(٥) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١٠ / ٣١+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١٨ / ٣٧٠+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٣٦١.

٣٧٠

ثانيا : في حد السرقة

قال تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١).

بين الإمام الباقر (عليه‌السلام) في إحدى الروايات عنه مسقطات العقوبة ، فأجاب عن سؤال وجه إليه عن الابن يسرق من منزل أبيه فقال : لا يقطع لأن ابن الرجل لا يحجب عن الدخول إلى منزل أبيه هذا خائن (٢) وبه قالت الإمامية.

وذهب مالك إلى : أنه لا يقطع الأب فيما سرق من مال الابن فقط ويقطع ما سواه من القرابات ، أما الشافعي فذهب إلى أنه لا يقطع عمود النسب الأعلى والأسفل ، أما أبو حنيفة فذهب إلى أنه لا يقطع ذو الرحم المحرمة (٣).

* المطلب الثاني : الجنايات :

وردت في الجنايات مجموعة من الآيات المفسرة برواية الإمام الباقر (عليه‌السلام) في قتل المؤمن عمدا قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)(٤).

فقد فسر العمد بالتعدي وبما يكشف عنه مثل آلة القتل ، فقد ورد عن جميل بن دراج عن الإمام الباقر أنه قال : العمد كل ما عمد فيه الضرب (٥) ، وفيه قصاص ، فقد نقل عن أبي عبيدة الحذاء عن الإمام الباقر في رجل قتل أمه ، قال : يقتل بها صاغرا ولا أظن قتله بها كفارة له ولا يرثها (٦).

والأظهر عند الإمامية أن الحد لا يسقط العقاب الأخروي إلا بعد التوبة ، وقيل أن إقامة الحد بمثابة التوبة ، وتوبة القاتل عمدا : الندم

__________________

(١) المائدة / ٣٨.

(٢) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١٠ / ١١٠+ فروع الكافي ، الكليني ، ٧ / ٢٢٨+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١٨ / ٥٩٨ ـ ٥٠٩.

(٣) بداية المجتهد ، ابن رشد ، ٢ / ٢٤٢.

(٤) النساء / ٩٣.

(٥) قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٣٩٨.

(٦) من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ٤ / ٩٠+ التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١٠ / ٢٣٧+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١٩ / ٥٧.

٣٧١

الخالص والكفارة الجامعة للخصال الثلاثة والانقياد لأولياء الدم قصاصا أودية أو عفوا (١).

* المطلب الثالث : القضاء :

أما في فقه القضاء فقد وردت رواية تفسيرية واحدة عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) ـ في حدود ما اطلعت عليه ـ أوردها هنا استكمالا للموضوع وهي :

في قوله تعالى : (... فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)(٢).

فعن أبي بصير عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) قال : إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم وإن شاء تركهم (٣).

وللعلماء في هذه الآية قولان : الأول : أنها منسوخة بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)(٤).

فلزمه الحكم وزال التخيير ، وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي (٥).

قال النحاس : وهو الصحيح من قول الشافعي لقوله : ولا خيار له إذا تحاكما إليه لقوله تعالى : (... حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٦) ، وهذا من اصلح الاحتجاجات (٧) ، وهو مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف (٨).

القول الثاني : أنها محكمة ، فيكون ذلك للإمام إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم ، وهو المروي عن الشعبي والنخعي والزهري وبه قال أحمد ومالك

__________________

(١) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ٤ / ٥٦+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٣٩٩.

(٢) المائدة / ٤٢.

(٣) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٦ / ٣٠٠+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١٨ / ٢١٨+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٣ / ٤٢٩.

(٤) المائدة / ٤٩.

(٥) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٢ / ٣٦١.

(٦) التوبة / ٢٩.

(٧) الناسخ والمنسوخ ، النحاس ، ١٢٩.

(٨) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٦ / ١٨٥.

٣٧٢

ابن انس ذكر ذلك أبو جعفر عنهم (١) ، ومال إليه وصوبه الطبري الذي احتج بعدم التعارض بين الآيتين لأنه لم يصح به خبر عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يجمع عليه علماء المسلمين (٢) ، وكذلك ابن الجوزي وعده صحيحا (٣) ، والقرطبي (٤) وقدمنا أن هذا القول كان اختيار الإمام الباقر المتقدم زمنا على بعض أولئك الأعلام.

وأخيرا كان الإمام الباقر من فقهاء المدينة البارزين ، ومن الطبقة الثالثة من التابعين ، ولا بد أن تكون له منهجية يسلكها عند إصداره للفتوى ليصل بها إلى النتائج التي هي ثمرات علمه ، والإمام فقيه كان له المنزلة العالية في منهجه العلمي الذي سلكه ، ومن خلال ما تقدم من عرض أقواله وآرائه في تفسير آيات الأحكام يمكن أن نستخلص أهم مميزات منهجه الفقهي فيها ، وهي :

١ ـ تعويله على القرآن الكريم والسنة الشريفة وإجماع الصحابة أولا واحتكامه إليها ، وهذه أول قاعدة أصولية يبني عليها الفقه الإسلامي فهو ممن يتشدد في الآخذ بالأثر ويتمسك به.

٢ ـ تعمقه في المحاورات الفقهية وبيان وجهة استدلاله ، أن كانت من القرآن الكريم ، أو السنة الشريفة أو من غيرهما ، وأوضح ما يكون ذلك في مناظراته الفقهية.

٣ ـ التيسير في الأحكام واستيعابه لأحوال الناس عند إصدار الفتوى ، لأنه كان يدرك بأن الإسلام ليس مجموعة من النظم والقوانين التي توقع المسلم في الحرج والضيق ، بل هو تنظيم الهي متكامل يهدف إلى تشييد حياة إنسانية فاضلة.

٤ ـ دعمه وتشجيعه لاجتهادات الآخرين في حدود المشروعية الفقهية أن كانت مخالفة لآرائه أو موافقة لها وكان يشجع من يجد فيه قدرة على الإفتاء ، فقد قال مرة لأحد تلامذته : اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس (٥).

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ ، النحاس ، ١٢٩.

(٢) جامع البيان ، الطبري ، ١٠ / ٣٣٠.

(٣) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٢ / ٣٦١.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٦ / ١٨٤.

(٥) معجم رجال الحديث ، الخوئي ، ١ / ٢١ ـ ٢٢.

٣٧٣

٥ ـ ضربه المثل عمليا أثناء بيان مسألة فقهية بحركات جسمه أو يديه وخير دليل على ذلك محاكاته لوضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عند ما طلب منه ذلك.

٦ ـ وأخيرا له انفرادات فقهية تدل على سعة علمه وتميز شخصيته الفقهية بمسائل توصل إليها دون أقرانه واستفاد منها الآخرون مما شكل ثروة فقهية اشتملت عليها الموسوعات الفقهية عند الإمامية خاصة سميت منضمة إليها فتاوى وأحكام باقي آل البيت شكلت فيما بعد ثروة فقهية لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال.

* * *

٣٧٤

الفصل الرّابع

الجانب التربوي والأخلاقي

في تفسير الإمام الباقر

(عليه‌السلام)

٣٧٥
٣٧٦

تعد التربية الإسلامية مجموعة مترابطة من المفاهيم والقيم المتفاعلة ، الأساس فيها التصور الكوني الذي عرضه القرآن الكريم فالإنسان مخلوق على الفطرة ويؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يراه ويسمعه في كل آن ، وأن مسئوليته على نواياه وأفعاله مسئولية كاملة يلزم بها المعاد ، وقد نقل عن الإمام أبي جعفر الباقر في هذا الصدد عنه تفسيره لقوله تعالى (... وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ...)(١) فعن فضيل بن يسار عنه قال : يا فضيل بلغ من لقيت من موالينا عنا السلام وقل لهم إني أقول : إني لا أغني عنكم من الله شيئا إلا بورع فاحفظوا ألسنتكم وكفوا أيديكم ، وعليكم بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (٢).

وفي حالات استعصاء تحصيل مراد الإنسان يستريح ضمير الفرد المسلم تحت مفهوم التوكل على الله والتضامن مع إخوانه المسلمين والصبر على الشدائد ، ويعد أيضا مفهوم التوبة المسلك الذي يجذب دائما إلى الفضيلة.

إن علماء المسلمين بجهودهم المعرفة بأركان الإسلام حبوا الإنسان المسلم ثروة تربوية ضخمة جدا من مدرسة الصحابة والتابعين وأئمة أهل البيت إلى الفقهاء النابغين والأولياء الصالحين والدعاة المربين الذين ساروا بإحسان على مناهج الأولين.

وكان الإمام الباقر الذي عاش شطرا من حياته موجها للأمة وتربويا عظيما لمن يأخذ عنه فهو في سلوكه قدوة وفي تصرفاته منار ، فلم يثبت في التاريخ أنه تعرض لنقد من قبل علماء الأمة ، ولم يتحدث أحد عنه باقتراف كبيرة أو صغيرة (٣).

وعلى الرغم من طبيعة عصر الإمام الباقر وانشغال الدولة آنذاك بالفتن وانقسام الناس إلى فئات وعلى الرغم من حركة العمران والاختلاط فقد كان على الرغم من

__________________

(١) البقرة / ٤٥.

(٢) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٦٨+ تفسير نور الثقلين ، الحويزي ، ١ / ١١٩.

(٣) تاريخ المذاهب الإسلامية ، محمد أبو زهرة ، ٢ / ٥١١.

٣٧٧

كل هذه الظروف واحدا من أعلام المربين والموجهين ، ظهرت توجيهاته في الجانب التربوي والأخلاقي وأثرت عنه في هذا المجال مجموعة ضخمة من الروايات والأقوال ذكرنا بعضا منها في الفصل الثاني من الباب الأول من هذه الرسالة.

أما الروايات المتعلقة بتفسير آيات القرآن الكريم والتي يستنبط منها أحكام الجانب التربوي والأخلاقي فقد كانت قليلة جدا بحيث لم ترب على (١٥) رواية تفسيرية ، سنعرضها وفق تسلسل الآيات في السور والسور في المصحف الشريف وهو منهج التزمنا به في كل فصول هذه الرسالة ، وإليك تلك الروايات :

أولا : في الحلم وكظم الغيظ

وهما ضبط النفس إزاء مثيرات الغضب ، وهما أشرف السجايا وأعز الخصال ودليلان على سمو النفس وكرم الأخلاق.

وقد مدح الله الحلماء والكاظمين الغيظ ، وأثنى عليهم في قوله تعالى : (... وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(١) وفي قوله تعالى (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٢).

وعلى هذا النسق جاءت توجيهات الإمام الباقر (عليه‌السلام) ، فقد ورد في تفسير قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(٣) عن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) قال قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم ، فإن الله تبارك وتعالى يبغض اللعان ، السباب ، الطعان على المؤمنين ، المتفحش ، السائل الملحف ويحب الحيي ، الحليم ، المتعفف (٤).

وايد الرازي المتوفى (٦٠٦ ه‍) بقاء هذه الآية على عمومها وأنه لا حاجة إلى التخصيص وعده هو القول الأقوى ـ أي تفسير الإمام الباقر المتقدم ـ واستدل عليه بما يعضده من آيات قرآنية كريمة أخرى فقال : أن موسى وهارون (عليهما‌السلام) مع

__________________

(١) الفرقان / ٦٣.

(٢) آل عمران / ١٣٤.

(٣) البقرة / ٨٣.

(٤) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٤٨+ الصافي في تفسير القرآن ، الكاشاني ، ١ / ٢٢٧+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ٧ / ١٠٨.

٣٧٨

جلال منصبهما أمرا بالرفق واللين مع فرعون ، وكذلك رسول الله محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مأمور بالرفق وترك الغلظة وكذلك قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(١) وقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٢)(٣).

ثانيا : في الحث على الصدقة والترغيب فيها

ورد فيها حديث عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه ، أو فصيله حتى تكون مثل أحد (٤).

قال المنذري : رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه واللفظ له (٥).

وذهب الإمام الباقر (عليه‌السلام) إلى هذا النهج القويم في تفسيره لقوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ...)(٦) فعن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) قال : قال الله وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة ، فإني أقبضها بيدي حتى أن الرجل والمرأة يصدق بشقة التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه ، حتى أتركها يوم القيامة أعظم من أحد (٧).

ثالثا : في الترهيب من منع الزكاة

ورد في تفسير قوله تعالى : (... سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٨).

عن محمد بن مسلم الطائفي قال : سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن هذه الآية فقال : ما من عبد منع زكاة ماله إلا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعبان من نار مطوقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب (٩).

__________________

(١) النحل / ١٢٥.

(٢) الأعراف / ١٩٩.

(٣) التفسير الكبير ، الرازي ، ٣ / ١٨٠.

(٤) الترغيب والترهيب ، المنذري ، ٢ / ٤+ الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٣ / ٣٦٢+ تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ١ / ٥٨٤ ـ ٥٨٥.

(٥) الترغيب والترهيب ، المنذري ، ٢ / ٣.

(٦) البقرة / ٢٧٦.

(٧) تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٢٥٨+ الصافي في تفسير القرآن ، الفيض الكاشاني ، ١ / ٢٣١.

(٨) آل عمران / ١٨٠.

(٩) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٥٤٦+ تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٣٢٧.

٣٧٩

وذكر ابن الجوزي أربعة أقوال في معنى تطويقهم به وهي :

الأول : أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان ، روى ابن مسعود عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه ، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه ، ثم قرأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا مذهب ابن مسعود ومقاتل.

الثاني : إنه يجعله طوقا من نار ، رواه منصور عن مجاهد.

الثالث : إن معنى تطويقهم به : تكليفهم أن يأتوا به ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.

الرابع : إن معناه : يلزم أعناقهم إثمه ، قاله ابن قتيبة (١).

والذي يترجح عندنا هو القول الأول من الأقوال التي ذكرها ابن الجوزي ، وذلك لما رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ، مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ...)(٢).

ولما رواه ابن ماجة بلفظ قريب منه (٣) ، هذا من جهة ولأنه مطابق لما جاء عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) من جهة أخرى.

فيكون بهذا أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قد أفاد من الحديث الشريف المروي عن جده رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الترهيب عن منع الزكاة وفي رسم الصورة البشعة التي سيئول إليها مانع الزكاة.

رابعا : في الترهيب من أكل مال اليتيم بغير حق

ورد في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)(٤).

__________________

(١) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ١ / ٥١٣.

(٢) صحيح البخاري ، ٨ / ٢٧٣.

(٣) سنن ابن ماجة ، ١ / ٥٦٧.

(٤) النساء / ١٠.

٣٨٠