الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي

الإمام الباقر عليه السلام وأثره في التّفسير

المؤلف:

الدكتور حكمت عبيد الخفاجي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

ومن الجدير بالذكر هنا أن المدونات التفسيرية نقلت بأسانيد صحيحة عن الغالب بن هذيل قال : سألت الإمام أبا جعفر عن المسح على الرجلين : هو الذي نزل به جبرائيل (١).

وقال جماعة من المفسرين : إن المسح مذهب ابن عباس وانس وعكرمة والشعبي والإمام الباقر (٢) ، وقد حكي عن أحمد والاوزاعي والثوري وابن جرير الطبري جواز مسح القدمين ، وقيل أن المرء مخير عندهم بين الغسل والمسح (٣).

ثالثا : في قوله تعالى : (... وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ...)(٤).

فقد روي عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) بسند صحيح رواه زرارة ومحمد بن مسلم قالا : قلنا له الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال : الحائض والجنب لا يدخلان إلا مجتازين ، أن الله تبارك وتعالى يقول (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا (٥).

وقواه الطبرسي في المجمع لخلوه من التكرار (٦) ، ومعنى الآية لا تقربوا الصلاة أي مواضع الصلاة إلا عابري سبيل.

وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فذهب بعض الإمامية إلى أن هذا الحمل للآية بعيد ، فجواز الاجتياز للجنب مقيد عندهم بما عدا المسجدين وقالوا : وبذلك وردت الروايات وانعقد الإجماع (٧).

__________________

(١) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١ / ١٨+ الاستبصار ، الشيخ الطوسي ، ١ / ٣٣+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ١٦٥+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ١ / ٢٣.

(٢) جامع البيان ، الطبري ، ٦ / ٧٣+ تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٢ / ٢٥+ الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٦ / ٩٢+ الدر المنثور ، السيوطي ، ٢ / ٢٦٢+ المغني ، ابن قدامة ، ١ / ١٣٣+ السنن الكبرى ، البيهقي ، ١ / ٧١.

(٣) رحمة الأمة ، الدمشقي ، ١٥.

(٤) النساء / ٤٣.

(٥) العلل ، الصدوق ، ١ / ٢٧٢+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ٥٢+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ١ / ٤٤+ مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ١ / ٧٧.

(٦) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ٥٢+ جامع أحاديث الشيعة ، ١ / ١٦٤.

(٧) زبدة البيان ، الاردبيلي ، ١٨ ـ ١٩+ مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ١ / ٢٢.

٣٤١

أما الشافعية فقد أطلقوا جواز الاجتياز (١) ، ومنعته الحنفية والمالكية إلا أن يكون الماء في المسجد أو هو طريق الماء (٢).

واستنبط فخر المحققين من هذه الآية عدم جواز الطواف بالبيت للجنب المتيمم لأنه سبحانه علق دخول الجنب إلى المسجد على الإتيان بالغسل لا غير (٣).

وهو مذهب سعيد بن المسيب أنه لا يجوز له المكث ، ويجوز له العبور سواء له حاجة أو لا (٤).

وهذه الأمثلة كافية في بيان تفسير الإمام الباقر (عليه‌السلام) للآيات المتعلقة بالطهارة ، وأثره فيمن بعده من الفقهاء بالأخذ بها والتعويل عليها.

* المطلب الثاني : الصلاة :

هناك مجموعة من الآيات بلغت خمسا وعشرين آية متعلقة بأحكام الصلاة من وجوب وشرائط وأركان ومتعلقات ، وردت سبع وعشرون رواية في تفسيرها عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) واستنباطه للأحكام منها أفاد فقهاء الإمامية وغيرهم في جعلها مدارك شرعية لهم في الوصول إلى الحكم الشرعي المتعلق بموضوع الآية أو الرواية المفسرة لها ، وسنعرض نماذج منها :

أولا : في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(٥).

روى زرارة قال : قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) قول الله (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)؟ قال : يعني كتابا مفروضا (٦) ، وفي رواية أخرى قال : أن للصلاة وقتا والأمر فيه واسع يقدم مرة ويؤخر مرة إلا الجمعة فإنما هي وقت واحد ، وإنما عنى الله كتابا موقوتا أي واجبا ، يعني بها أنها فريضة (٧).

__________________

(١) رحمة الأمة ، الدمشقي ، ١٧.

(٢) عمدة القاري ، العيني ، ٣ / ٢٢٦+ أحكام القرآن ، الجصاص ، ٢ / ٢٤٨.

(٣) مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ١ / ٧٨.

(٤) المجموع شرح المهذب ، النووي ٢ / ١٦٢.

(٥) النساء / ١٠٣.

(٦) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٢ / ٣+ فروع الكافي ، الكليني ، ١ / ٧٤+ علل الشرائع ، الصدوق ، ٢٠١+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ١ / ٧٩.

(٧) من لا يحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق ، ١ / ٦٣+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٢ / ١٠١+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ١٠٤+ تفسير العياشي ، محمد بن مسعود ، ١ / ٢٧٣.

٣٤٢

قال ابن الجوزي : (كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي فرضا ، وفي (الموقوت) قولان : أحدهما : إنه بمعنى المفروض ، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد. والثاني : إنه الموقت في أوقات معلومة ، وهو قول ابن مسعود وقتادة وزيد بن اسلم وابن قتيبة (١).

ومعنى هذين القولين : أن الصلاة فرض مفروض أو هي فرض مؤقت في أوقات معلومة ، وقال القرطبي : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي مؤقتة مفروضة (٢).

وبعد أن ذكر الجصاص هذين القولين ذهب إلى اختيار الثاني في قوله : إنه مفروضة في أوقات معلومة معينة (٣).

أما الاردبيلي (ت : ٩٩٢ ه‍) فقال : مفروضة أو مؤقتة فلا تضيعوها ولا تخلوا بشرائطها وأوقاتها (٤) ، وذهب إلى هذا الاختيار السيوري قبله (٥).

ويظهر أن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قد قرر أن للصلاة وقتا مؤقتة به لكنه أراد أن ينفي أن يكون هذا الوقت مضيقا بحيث لو جاز بعضه لم تكن الصلاة مؤداة ، فيكون من هذه الناحية قوله مطابقا لما اختاره غيره من العلماء.

ثانيا : في قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٦).

روى زرارة بن أعين عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) في الصلاة الوسطى : هي صلاة الظهر وهي أول صلاة صلاها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهي وسط ، ووسط الصلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر (٧).

__________________

(١) زاد المسير ، ابن الجوزي ، ٢ / ١٨٨.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٥ / ٣٧٤.

(٣) أحكام القرآن ، الجصاص ، ٢ / ٣٢٤.

(٤) زبدة البيان ، الاردبيلي ، ٤٩.

(٥) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ١ / ٥٨ ـ ٥٩.

(٦) البقرة / ٢٣٨.

(٧) علل الشرائع ، الصدوق ، ١٢٥+ مجمع البيان ، الطبرسي ، ٢ / ٣٢٣+ الدر المنثور ، السيوطي ، ١ / ٣٠٢+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٢ / ٥ ـ ٦+ الميزان في تفسير القرآن ، الطباطبائي ، ٢ / ٥٩.

٣٤٣

وقد اختلف العلماء فيها على ثمانية عشر قولا ، أوردها الشوكاني مع أدلة كل فريق من الأحاديث الشريفة وغيرها (١) ، وكذلك البهوبودي بدون ذكر الأدلة (٢).

وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن منيع والنسائي وابن جرير وغيرهم من طريق الزبرقان : أن رهطا من قريش مرّ بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى؟ فقال : هي الظهر ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال : هي الظهر ، أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، والناس في قائلتهم وتجارتهم ، فانزل الله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لينتهين رجال أو لاحرقن بيوتهم (٣) ، ونقل بأنها الظهر أيضا عن أبي سعيد الخدري وعائشة وعلي رضوان الله عليهم (٤).

ويمكن أن نرجح هذا القول بالاستشهاد له بقوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(٥) إنه تعالى لم يذكر الصلاة الوسطى بين الطرفين وخصوصا بعد الأمر في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(٦) ، المتفق بين المسلمين على أنها صلاة الظهر المعبرة في لسان علي (عليه‌السلام) ب (صلاة الأوابين) ـ والله اعلم ـ.

ثالثا : في قوله تعالى : (.. وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ...)(٧).

روي بأسانيد صحيحة عن زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا : قلنا لأبي جعفر (عليه‌السلام) : ما تقول في الصلاة في السفر ، كيف هي وكم هي؟ قال : أن الله

__________________

(١) نيل الأوطار ، الشوكاني ، ١ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

(٢) هامش (١) من : كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ١ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) الدر المنثور ، السيوطي ، ١ / ٢٩٨.

(٤) نيل الأوطار ، الشوكاني ، ١ / ٣٣٥.

(٥) هود / ١١٥.

(٦) الإسراء / ٧٨.

(٧) النساء / ١٠٠.

٣٤٤

يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ...) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا : قلنا : إنما قال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل افعلوا ، فكيف أوجب الله ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ قال : أو ليس قد قال الله في الصفا والمروة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)(١) ، ألا تريا أن الطواف واجب مفروض لان الله ذكرهما في كتابه وصنعهما نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وذكره الله في كتابه. قالا : قلنا : فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال : إن كانت قرأت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه والصلاة في السفر كلها فريضة ركعتان كل الصلاة إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في السفر والحضر ثلاث ركعات (٢).

وقد اتفق الفقهاء على مشروعية قصر الرباعية في السفر ، لكنهم اختلفوا في وصف هذه المشروعية على مذهبين :

الأول : القصر فرض ، فلا يجوز للمسافر الإتمام ، وإلى ذلك ذهب الإمامية لما ورود في أعلاه من دليل ـ اعني الرواية المتقدمة ـ وأبو حنيفة والظاهرية ، وبعض الزيدية ، وهو قول لمالك (٣).

الثاني : القصر رخصة ، وعليه فانه يجوز للمسافر القصر والإتمام ، إلا أن القصر أفضل ، وبذلك قال أحمد ، وهو المشهور من مذهب مالك وأصح قولي الشافعي (٤).

__________________

(١) البقرة / ١٥٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ١ / ١٤٥+ التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١ / ٣١٨+ بحار الأنوار ، المجلسي ، ١٨ / ٩٤+ البرهان في تفسير القرآن ، القمي ، ١ / ٤١٠.

(٣) مفتاح الكرامة ، السيد العاملي ، ٢ / ٤٩٠+ البحر الرائق في شرح كنز الدقائق ، ابن نجيم ، ٢ / ١٤٠+ المحلى ، ابن حزم الظاهري ، ٢ / ١٠١+ ظ : مسائل في الفقه المقارن ، أستاذنا الدكتور هاشم جميل ، ق ١ / ١٧٠.

(٤) المغني ، ابن قدامة ، ٢ / ١٠٧+ شرح الدردير ، ١ / ٣٥٨+ المجموع ، شرح المهذب ، النووي ، ٤ / ٢٢٣+ ظ : المسائل الدكتور هاشم جميل ، ق ١ / ١٧٠.

٣٤٥

ونقل صاحب المجمع والعاملي هذا الاختلاف بعد أن أورد كل واحد منهما الرواية في أعلاه (١).

وقال البيضاوي : أن نفي الجناح يدل على الجواز دون الوجوب (٢) ، وفيه نظر لأنّ هذا صحيح ، ولكن لا دلالة فيه على المطلوب ، لأنّ الجواز أعم من الوجوب فإذا استفيد الوجوب من أدلة خارجية لا يتعارض ذلك مع الجواز.

أما الأحاديث التي رويت بمؤدى أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أتم في السفر فهي ضعيفة (٣) ، وظاهر الآية : أن القصر مشروط بالخوف ، وليس كذلك بل الخوف خرج مخرج الغالب لحديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، ولما صح عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) أيضا : إنه سئل عن صلاة الخوف وصلاة السفر أتقصران جميعا؟ فقال : نعم ، وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر الذي ليس فيه خوف (٤).

ويرى السيوري : أن الجناح في الآية الإثم ، ونفي الجناح يستعمل في رفع الإثم وهو الواجب والندب والمباح وهو أهم من التخيير المحض ، إذ يلتمس الدليل التفصيلي على الوجوب من أدلة خارج الآية وهو فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم (٥).

ويقول الكاظمي : أن نفي الجناح في اكثر الآيات التي وردت فيها مجمل يبين بالأخبار (٦).

ولذلك فان رواية الإمام الباقر (عليه‌السلام) في تفسير آية التقصير كان يؤكد فيها على صنع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أي فعله المبين للمجمل القرآني ، فمن ذاك استفاد

__________________

(١) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ١٠١+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٣ / ٥٣١.

(٢) أنوار التنزيل ، البيضاوي ، ١٢٤ المطبعة العثمانية.

(٣) ظ : المحلى ، ابن حزم الظاهري ، ٤ / ٤٥٣+ السنن الكبرى ، البيهقي ، ٣ / ١٤١.

(٤) من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ١ / ٢٩٤+ الحدائق الناظرة ، يوسف البحراني ، ١١ / ٢٦٦+ منتقى الجمان ، الشهيد الثاني ، ١ / ٥٦٣.

(٥) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ١ / ١٥٠.

(٦) مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ١ / ٢٧٦.

٣٤٦

القائلون بوجوب القصر أدلتهم التي احتجوا بها ـ ومما يبدو ـ كانت أقوى من حجة أدلة القائلين بأن القصر رخصة.

* المطلب الثالث : الزكاة :

هي لغة : تطلق على معنيين : أحدهما : الطهارة ، والآخر : النماء لقوله تعالى : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ)(١) أي إنما ، وإلا كان تأكيدا ، والتأسيس أولى من التأكيد فضلا عن أن الواو تقتضي المغايرة.

وشرعا : هي اسم لحق مالي لله يجب في المال المصروف للفقراء ، ويعتبر في وجوبه شروط منها : ما هو مندوب ومنها ما هو واجب.

وقد وردت عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) أربع روايات تفسيرية للآيات المتضمنة للزكاة أو أركانها أو مصارفها سنختار اثنتين منها :

أولا : في قوله تعالى : (... وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ...)(٢).

إن إقام الصلاة هو عبارة عن الإتيان بها تامة الأفعال والشروط ، والظاهر من إيتاء الزكاة أن المراد بها المفروضة المعروفة ، ويشعر بذلك اقترانها بالصلاة ، فيكون ذكرها بعد آتيان المال من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشدة الاهتمام والربط بالصلاة.

فقد روى معروف بن خربوذ عن الإمام أبي جعفر الباقر أنه قال : إن الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(٣) فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلم يقم الصلاة (٤).

ثانيا : في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٥).

__________________

(١) البقرة / ٢٣٢.

(٢) البقرة / ١٧٧.

(٣) النور / ٥٦.

(٤) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٤ / ١١+ من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ١ / ٤١+ فروع الكافي ، الكليني ، ٣ / ٥٠٦+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ١ / ٢٦٣.

(٥) التوبة / ٣٤.

٣٤٧

روي عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وأبي بصير وبريد بن معاوية العجلي والفضيل بن يسار كلهم عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) قال : فرض الله (عزوجل) الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في تسعة أشياء وعفا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عما سواهن : في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وعفا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عما سوى ذلك (١).

واستدل الإمامية أيضا بأصالة البراءة وعموم قوله تعالى (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ)(٢) يعمان كل مال فيخرج منه ما وقع الإجماع عليه عندهم ويبقى الباقي على اصله (٣) ، ولذلك كان وجوب الزكاة عندهم في تسعة أصناف.

أما باقي الفقهاء فيرون أن الذهب والفضة إذا بلغا نصابا وكانا مسكوكين بسكة المعاملة ، أو غير مسكوكين على قول واستوفيا شرط الحول فتجب فيهما الزكاة (٤) ، مع تفصيلات مذكورة في مظانها في الكتب الفقهية.

* المطلب الرابع : الخمس :

في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٥). روي عن الإمام أبي جعفر الباقر بعدة طرق صحيحة أنه سئل عن الخمس : أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب والصناع؟ وكيف ذلك؟ فقال : الخمس مما يفضل من مئونته (٦).

__________________

(١) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١ / ٣٢٨+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٤ / ٣٤+ فروع الكافي ، الكليني ، ١ / ١٤٣.

(٢) محمد / ٣٦.

(٣) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ١ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٤) أحكام القرآن ، الجصاص ، ٣ / ١٣٠+ أحكام القرآن ، ابن العربي ، ١ / ٣٨٠ ـ ٣٨١+ الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٨ / ١٢٤ ـ ١٢٥+ كنز العرفان ، السيوري ، ١ / ٢٢٤.

(٥) الأنفال / ٤١.

(٦) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٤ / ٣٤٨+ التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١ / ٣٨٤.

٣٤٨

فلذلك يرى الإمامية أن الآية الكريمة دلت على خضوع مطلق الفائدة في إخراج حق الخمس ، وذلك للقرائن الآتية :

١ ـ لان الغنيمة في الأصل هي مطلق الفائدة المكتسبة ، وإنها جعلت مقصورة بإنما وهذا هو قصر الحكم على الموضوع.

٢ ـ ودل على عموم خضوع الغنيمة للخمس قوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) لذلك يرون أن الخمس يجب في جميع ما يستفاد من أرباح التجارة والصناعة والزراعة إذا زاد على مؤنة السنة.

أما المذاهب الإسلامية الأخرى فقد اختلفوا عن الإمامية في فهم المستند وما يترتب عليه من أحكام ، فهم يذهبون إلى أن الغنيمة في عرف الشرع هي ما أخذت من دار الحرب (١) ، مستدلين بالسياق وهو ليس حجة عند الإمامية ، ومع ذلك يرى بعض الفقهاء انه يجب في الكنوز وبعض المعادن والغوص وأيا كان فان اللفظة لبيان الإمام الباقر (عليه‌السلام) يعني العموم.

أما في مصارف الخمس فكان للفقهاء عدة أقوال نذكرها باختصار :

١ ـ جعله الإمامية على قسمين : قسم سمي بحق الإمام يتصرف به لمصلحة المسلمين مما يشمل سهم الله وسهم الرسول وسهم الإمام المعبر ب (لِذِي الْقُرْبى) ، أما القسم الثاني : فهو سهم بني هاشم الذي أشير إليه ب (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(٢) ، فقد روى زرارة عن الصادق عن أبيه الإمام الباقر (عليهم‌السلام) قال : لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطلبي إلى صدقة ، أن الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم (٣).

٢ ـ عند مالك : الخمس لا يستحق لصنف دون صنف ، وإنما هو موكول إلى نظر الإمام يصرفه فيما يراه مصلحة للمسلمين (٤).

٣ ـ وعند أبي حنيفة يصرف للثلاثة من عامة المسلمين (٥).

__________________

(١) مسائل في الفقه المقارن ، أستاذنا الدكتور هاشم جميل ، ١ / ٢٠٩.

(٢) شرائع الإسلام ، المحقق الحلي ، ١ / ١٨٢+ فقه الإمام الصادق ، محمد جواد مغنية ، ٢ / ١٢٢.

(٣) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٤ / ٥٩+ الاستبصار ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٣٦.

(٤) القوانين الفقهية ، ابن جزي ، ١٣٠+ التفسير الكبير ، الرازي ، ١٥ / ١٦١.

(٥) الهداية ، المرغيناني ، ٢ / ١٠٨ ، ١١٠.

٣٤٩

٤ ـ وقال الشافعي وأحمد والظاهرية : يقسم إلى خمسة أقسام : يصرف سهم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مصالح المسلمين وسهم ذوي القربى هو للموجود منهم ـ أي بني هاشم وبني المطلب ـ والأسهم الثلاثة الباقية لعامة يتامى ومساكين وأبناء سبيل المسلمين (١).

٥ ـ قال الزيدية : يقسم إلى ستة أقسام كما هو ظاهر الآية ، فسهم الله لمصالح المسلمين وسهم الرسول للإمام وسهم ذوي القربى للموجود من بني هاشم فقط ، والثلاثة الباقية قالوا بها بمثل ما قاله الشافعي (٢).

هذه هي آراء الفقهاء بالجملة في مصارف الخمس وبعض أحكام الآية المتقدمة ذكرناها هنا لتعلق بعض منها بما ورد عن الإمام الباقر من روايات في تفسير هذه الآية المتضمنة تلك الأحكام.

* المطلب الخامس : الصوم :

وردت فيه مجموعة من الآيات نقل تفسيرها عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) منها :

في قوله تعالى : (... وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٣).

عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) قال : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا ويتصدق كل واحد منهما في كل يوم بمد من طعام ولا قضاء عليهما فإن لم يقدرا فلا شيء عليهما (٤).

معنى ذلك : أن الذين كانوا يطيقون الصوم فأصابهم كبر أو عطاش فعليهم لكل يوم مد ، والمراد بهم : الشيوخ وذو العطاش ونحوهم مما دلت عليه الرواية الصحيحة المتقدمة.

__________________

(١) المهذب ، الشيرازي ، ٢ / ٢٦١ ، ٢٦٣+ المغني ، ابن قدامة ، ١ / ٤٤٣+ المحلى ، ابن حزم الظاهري ، ٧ / ٣٢٧.

(٢) البحر الزخار ، ابن المرتضى ، ٣ / ٢١٤ ، ٢٢٤.

(٣) البقرة / ١٨٤.

(٤) التهذيب ، الشيخ الطوسي ـ ٤ ، ٢٣٧+ مرآة العقول ، المجلسي ، ٣ / ٢٢٨+ منتقى الجمان ، الشهيد الثاني ، ٢ / ٢٠٢+ مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ١ / ٣٢١+ الكافي ، الكليني ، ١ / ١٩٤+ قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ١ / ٣٤٩.

٣٥٠

وتوضحه الرواية الصحيحة الأخرى عند محمد بن مسلم أيضا قال : سمعت أبا جعفر الباقر (عليه‌السلام) يقول الحامل المقرب ، والمرضع القلية اللبن لا حرج عليها أن تفطر في شهر رمضان لأنها لا تطيق الصوم ، وعليها أن تتصدق في كل يوم تفطر فيه بمد ، ثم عليها قضاء ما افطرته (١).

وعلى هذه الرواية فان الشيخ لو لم يطق أصلا لم تجب عليه الفدية وعلى هذا يفتي الشيخ المفيد والمرتضى وسالار وابن إدريس والعلامة ، قال في المختلف هو قول اكثر علمائنا (٢).

أما الشيخ الطوسي فيرى أن الفدية تجب عليه ، قال في التهذيب : إن التفصيل الذي ذهب إليه المفيد لم أجد فيه حديثا مفصلا (٣) ، لكن العلامة الحلي احتج للمفيد بظاهر الآية فإنه دلّ على سقوط الفدية على الذي لا يطيقه ولأنّ الأصل براءة الذمة (٤) ، لكن الشيخ الطوسي يقول : ومع ذلك لا يستبعد إيجاب الفدية (٥).

أما متأخروا الإمامية ، فقد قال في المسالك الذي أظن أن قول الشيخ الطوسي بوجوب الفدية مطلقا لا يخلو من قوة ، واستدلال العلامة الحلي على خلافه بمفهوم الوصف وهو غير حجة عند محققي الإمامية وحينئذ لا مانع من ثبوت الفدية (٦).

وكذلك اتفقت المذاهب الإسلامية الأخرى أن المريض الذي لا يرجى برأه والشيخ الكبير أو عطش مستمر كلما صام بحيث لا يرجى قدرته على الصوم في المستقبل يجوز له الإفطار بلا خلاف ، ولكن اختلفوا في عجز هؤلاء عن دفع الفدية على قولين :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٤ / ١٥٣+ التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ١ / ٤٢٠+ من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ١ / ٤٦.

(٢) المختلف ، العلامة الحلي ، ٢ / ٦٤.

(٣) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٤ / ٢٣٨.

(٤) المختلف ، العلامة الحلي ، ٢ / ٦٥.

(٥) التهذيب ، الشيخ الطوسي ٤ / ٢٣٧.

(٦) مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ١ / ٣٢٣.

٣٥١

الأول : هؤلاء لا شيء عليهم وقد سقط الصوم عنهم ، وهو قول مالك والظاهرية وهو قول للشافعي وقول للإمامية (١).

الثاني : ونسب ابن قدامة إلى من سماهم جمهور العلماء : أن الواجب عليهم هو الفدية ، إطعام مسكين عن كل يوم (٢).

واختلف العلماء في مقدار الفدية : ذهب أبو حنيفة إلى أنها نصف صاع من بر أو صاع من شعير وعن الشافعي قوله : عن كل يوم مد ، أما أحمد فقال : يطعم نصف صاع من تمر أو شعير أو مدا من بر (٣).

* المطلب السادس : الحج :

هو القصد إلى بيت الله تعالى لأداء المناسك المخصوصة ، وحيث أن الحج من اعظم أركان الإسلام قد ورد في وجوبه ضرورة مجموعة من الآيات نقل تفسير بعض منها الإمام الباقر منها :

في قوله تعالى : (.. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ..)(٤).

فقد فسر السبيل والاستطاعة بالزاد والراحلة للأحاديث الواردة في هذا المعنى (٥) ، ونفقة الذهاب والإياب فاضلة عن حوائجه الأصلية (٦).

واشترط البعض في العود إلى كفاية من مال أو صناعة أو حرفة ومستنده ما رواه أبو الربيع الشامي عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) قال : سئل الإمام الباقر (عليه‌السلام) هل الاستطاعة الزاد والراحلة حصرا؟ فقال : هلك الناس أذن ، إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما مما يمون به عياله ويستغني عن الناس يجب عليه الحج

__________________

(١) المدونة الكبرى ، سحنون ، ١ / ٢١١+ المحلى ، ابن حزم الظاهري ، ٦ / ٢٦٣+ مغني المحتاج الشربيني ، ٣ / ٧٧+ شرائع الإسلام ، المحقق الحلي ، ١ / ٢٢١.

(٢) المغني ، ابن قدامة ، ١ / ٤٤٨.

(٣) رحمة الأمة ، الدمشقي ، ٩٠.

(٤) آل عمران / ٩٧.

(٥) ظ : الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٤ / ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٦) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ١ / ٢٦٤.

٣٥٢

ثم يرجع فيسأل الناس بكفه فقد هلك أذن ، فقيل له : ما لسبيل عندك يا بن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ فقال : السعة في المال وهو أن يكون له ما يحج ببعضه ويبقي بعضا يمون به عياله ، ثم قال : أليس قد فرض الله الزكاة فلم يجعلها إلا على من ملك مائتي درهم (١).

ويرى صاحب المسالك : أن هذه الرواية غير معلومة الصحة لجهالة الراوي وهو أبو ربيع الشامي ، فلو سلم فلا دلالة فيها إلى ما ذهبوا إليه ومقتضاه أن كانت زيادة على نفقة الحج ومعارضة لعموم القرآن وصحاح الأخبار (٢).

أن مقتضى الآية وجوب الحج على المستطيع بالزاد والراحلة وهو اعم من أن يكون مالكا لهما ، فلو بذل له هل يجب عليه؟ أكثر الفقهاء من الإمامية على الوجوب ، فقد روي عن الصادق عن أبيه الإمام الباقر (عليه‌السلام) أنه سئل : فإن عرض عليه الحج فاستحى؟ قال هو ممن يستطيع ، ولم يستحي! ولو على حمار اجدع (٣).

أما المذاهب الإسلامية الأخرى فقالوا : وشرط وجوب الحج الاستطاعة أما بنفسه للقادر ، أو بغيره للمعضوب ، فشرط الاستطاعة في حق من يحج بنفسه وجود الزاد والراحلة ومن لم يجدهما وقدر على المشي وله صنعة يكتسب بها ما يكفيه للنفقة استحب له الحج بالاتفاق ، وإن احتاج إلى مسألة الناس كره له الحج ... ومن غصب مالا فحج به أو دابة فحج عليها صح حجه وإن كان عاصيا عند أبي حنيفة ومالك والشافعي (٤).

* المطلب السابع : الجهاد :

الجهاد من الجهد وهو المشقة البالغة ، وشرعا هو بذل النفس والمال لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة الشعائر فيدخل فيه قتال الكفار والبغاة (٥).

__________________

(١) المصدر نفسه والصفحة+ مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ٢ / ١٠٩.

(٢) مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ٢ / ١١٠.

(٣) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٥ / ٣+ الاستبصار ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ١٤٠+ منتقى الجمان ، الشهيد الثاني ، ٢ / ٢٨٧.

(٤) رحمة الأمة ، الدمشقي ، ٩٩+ الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٤ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٥) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ٢ / ٣.

٣٥٣

وهو واجب على الكفاية على الأشهر ، وعلى الأعيان في المرجوح عند الفقهاء ، ولكن الراجح عندي أنه قد يصير واجبا بحسب الأحوال على الأعيان ، أما لقصور القائمين به أو تعيين ولي الأمر.

وقد وردت مجموعة من الآيات تحث عليه وتفرضه ، وقد أثر تفسير بعضها عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) ، سنعرض جملة منها :

أولا : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ...)(١).

نقل الطبرسي عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قوله : الحذر هو السلاح ، ثم رجحه على بقية الأقوال مستدلا بأنه أوفق بقياس اللغة ، لأنه من باب حذف المضاف أي آلات حذركم (٢).

وقال السيوري : وفي هذا القول ـ أي قول الطبرسي ـ نظر لأنّ الحذر معطوف على السلاح والعطف يقتضي المغايرة فلزم أن يكون غير السلاح ، واعتباره من باب حذف المضاف خروج عن الظاهر ، ولو قال إنه سمى السلاح حذرا لم يحصل به الحذر فذلك أصوب (٣).

وذكر هذا القول القرطبي في تفسيره : وقيل خذوا السلاح حذرا ، لأنّ به الحذر (٤).

وعموما فان الآية مستند صريح في وجوب الجهاد والتأهب لقتال الكفار والالتزام بمجانبة الغفلة (٥).

ثانيا : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٦).

الخطاب في الآية للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتدخل فيه أمته من بعده (٧) ، قال ابن عباس : هو أمر بجهاد الكفار بالسيف (٨) ، أما المنافقون فقد اختلف فيه فالمأثور عن الإمام

__________________

(١) النساء / ٧١.

(٢) مجمع البيان ، الطبرسي ، ٣ / ٧٢ ـ ٧٣.

(٣) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ٢ / ١١.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٥ / ٢٧٣.

(٥) قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٢ / ١٣٨.

(٦) التوبة / ٧٣.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٨ / ٢٠٤.

(٨) المصدر نفسه والصفحة.

٣٥٤

الباقر (عليه‌السلام) أنه قال في تفسير هذه الآية : إنه أمر بجهاد الكفار ، والمنافقين بإلزامهم الفرائض (١).

ونقل عن ابن عباس : بأنّ المراد بجهاد المنافقين باللسان ، أي : بإقامة الحجة عليهم والوعظ لهم وقد اختاره الجبائي. ونقل عن الحسن وقتادة : أن جهاد المنافقين هو بإقامة الحدود عليهم (٢).

وفي هذين القولين نظر لأن إقامة الحجة عليهم والوعظ لهم يتطلب من غير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) معرفتهم والنفاق أمر باطن فالرأي غير عملي من الناحية التطبيقية ، أما إقامة الحدود في ما اختاره قتادة فقد جرى مجرى الأغلب ، ولذلك رده ابن العربي فقال : أما تفسير جهادهم ـ أي المنافقين ـ بإقامة الحدود عليهم لاعتبار أنهم اكثر إصابة لمقتضاه فدعوى لا برهان عليها لأن مرتكب ما يوجب الحد عاصي ، وليس العاصي مطلقا منافقا فبينهما عموم وخصوص من وجه (٣) ، وذكر أن المنافق إنما يكون النفاق في قلبه كامنا فلا تلتبس به الجوارح ظاهرا (٤).

فظهر منه أن الراجح هو قول الإمام الباقر (عليه‌السلام) إذ إلزامهم بالفرائض هو المطلوب لأن التعامل مع المنافقين عمدته الظاهر.

ثالثا : في قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ...)(٥).

استدل بهذه الآية على استحباب المرابطة في الثغور حذرا من العدو ، لما رواه الطبرسي عن محمد بن مسلم وزرارة عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) أنه قال : الرباط ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوما فإذا جاوز ذلك فهو جهاد (٦).

ويعضده قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ...)(٧).

__________________

(١) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ٢ / ٣٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٨ / ٢٠٤.

(٣) أحكام القرآن ، ابن العربي ، ٢ / ٨٧١.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٨ / ٢٠٥.

(٥) الأنفال / ٦٠.

(٦) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٤٢+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٦ / ١٨.

(٧) آل عمران / ٢٠٠.

٣٥٥

والمرابطة لفظ مشترك بين التصبر على العبادة والتصبر على حراسة الثغور ولم يتعرض القرطبي إلى حكم المرابطة عند تفسيره لهذه الآية بل صرفها إلى تسخير الخيل تبرعا للجهاد فقال : يستدل بهذه الآية على جواز وقف الخيل ، ومنع منه أبو حنيفة ، وبالصحة قال الشافعي ؛ قال القرطبي : وهو اصح ، لأنه مال ينتفع به في وجه القربة وهو معلل بأن يرهب به عدو الله (١).

وقد أكد ابن العربي على قول الإمام الباقر (عليه‌السلام) فقال : الرباط هو حبس النفس في سبيل الله حراسة للثغور مستندا إلى ما رواه البخاري أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ، وكذلك الترمذي ، وأشار إلى رباط الخيل فيما له فضل عظيم ، ولم يتعرض للخلاف لكنه أكد استحبابه لتعليل النص (٢).

وما تقدم في سورة آل عمران من الأمر بالمرابطة دليل على رجحان تفسير الإمام الباقر (عليه‌السلام) وخاصة إذا ما عضد ذلك التفسير مجموعة من الأحاديث الشريفة ، فقد روى أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه (٣). وذلك كله للدلالة على استحباب المرابطة (٤).

* المطلب الثامن : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

هو واجب شرعي ثبت بأكثر من آية للحث على الفعل الراجح وترك القبيح ، قال الرازي : أوجبه الله على كل الأمة لان ال (من) في آية وجوبه (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٥) ليست للتبعيض لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٦) ولأن في المنكر ضرر فيجب دفع

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، ٨ / ٣٨.

(٢) أحكام القرآن ، ابن العربي ، ٢ / ٨٧٤.

(٣) ظ : الدر المنثور ، السيوطي ، ٢ / ١١٣ فيما يرويه عن أحمد ومسلم والترمذي والنسائي.

(٤) مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ٢ / ٢٦٠.

(٥) آل عمران / ١٠٤.

(٦) آل عمران / ١١٠.

٣٥٦

الضرر عن النفس على كل أحد (١) وقيل : إن (من) للتبعيض مراعاة لمن لا يقدر على الأمر بالمعروف مثل المرضى والعاجزين ، وقيل : هو مختص بالعلماء لأن الواجب مشروط بأن يعلم الآمر بالمعروف بحقيقته والناهي عن المنكر بحقيقته ، ولقيام الإجماع على أنه على سبيل الكفاية لكان ذلك إيجابا على البعض لا على الكل (٢).

ومن الآيات الدالة على هذا الوجوب بما ورد الأثر عن الإمام الباقر في قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٣).

أخرج الشيخ الطوسي بسند صحيح عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قوله : ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤) ، وعن جابر الجعفي عن الباقر (عليه‌السلام) أنه اخبر عن قوم آخر الزمان لا يمتثلون لأمر هذه الآية إلا إذا أمنوا الضرر فيغضب الله عليهم فيعمهم عقابه (٥).

واختلف الإمامية في الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر بموجب الآية ، قد وجب شرعا أم عقلا أم بهما معا؟ نقل صاحب المسالك ذلك الاختلاف بقوله : ذهب الشيخ الطوسي بأنه واجب عقلا ، لكونه لطف وكل لطف واجب ، ومنع المرتضى منه بحجة أنه يلزم منه أن يكون كل معروف واقعا وكل منكر مرتفعا وإلا فالناس جميعا مخلين بالواجب (٦) ، وفي استدلاله هذا نظر.

وقال صاحب المسالك : أما القول بوجوبه عقلا والشرع مؤكد ، كما ذهب إليه جمع غفير واضح إذ ليس في العقل ما يدل على الوجوب مطلقا إلا على سبيل دفع الضرر كما تقدم (٧).

__________________

(١) التفسير الكبير ، الرازي ، ٨ / ١٧٧.

(٢) المصدر نفسه والصفحة.

(٣) آل عمران / ١٠٤.

(٤) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ٥٧+ فروع الكافي ، الكليني ، ١ / ٣٤٣+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٦ / ٣٩٣.

(٥) المصدر نفسه ، ٢ / ٥٨+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٦ / ٣٩٤.

(٦) مسالك الإفهام ، الشهيد الثاني ، ٢ / ٣٧٣.

(٧) المصدر نفسه والصفحة.

٣٥٧

فهذه المسألة من متعلقات التحسين والتقبيح العقليين وهي محل خلاف كما هو واضح ، وفي تفسير الإمام للآية ترغيب في فعله وترهيب من تركه ، وقد نقل الرازي عن الإمام علي (عليه‌السلام) قوله : إنه افضل الجهاد (١).

وفي فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحكام كثيرة مستفادة من روايات تفسيرية للإمام الباقر (عليه‌السلام) وغيره من أئمة آل البيت وغيرهم من العلماء تراجع في مضانها.

المبحث الثاني

المعاملات

* المطلب الأول : المكاسب :

تقدم أن الفقه الإسلامي هو عبادات ومعاملات وإنّ لب المعاملات ما يطلق عليه في الفقه المكاسب والتجارات وما يقابله بالقانون (المدني والتجاري) ، والتكسب ضروري لإبقاء النوع فمن جهة الأصل يجب السعي في تحصيله على القادر عليه وجوبا عقليا وشرعيا ، وقد وردت في الاكتساب مجموعة من الآيات أثر فيها تفسير للإمام الباقر (عليه‌السلام) نورد بعضها مورد المثال :

أولا : ورد عن الشيخ المفيد عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) بسند معتبر أنه قال في تفسير الآية : (.. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ)(٢) : إذ العرش تمثال لجميع ما خلق الله (٣) ، فظهر منها كون الأرض محل المعاش والارتزاق. ومن فقه الآية يستفاد إباحة الانتفاع والتصرف بها إلا ما دل الدليل على المنع (٤) ، وإنما جمع (خزائن) لأن مقدورات الله تبارك وتعالى غير متناهية ، وإنما دل الدليل على المنع فعلى حسب المصالح والمفاسد (٥).

__________________

(١) التفسير الكبير ، الرازي ، ٨ / ١٧٩.

(٢) الحجر / ٢١.

(٣) روضة الواعظين ، الفتال ، ٤٢+ قلائد الدرر الدر ، الشيخ الجزائري ، ٢ / ٢٠٩.

(٤) قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٢ / ٢١٠.

(٥) كنز العرفان ، المقداد السيوري ، ٢ / ٨٨.

٣٥٨

ثانيا : في قوله تعالى : (... سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)(١).

روي عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سألت أبا جعفر عن الغلول؟ فقال : كل شيء غل من الإمام فهو سحت وأكل مال اليتيم سحت وشبهه سحت ، والسحت أنواع كثيرة منها أجور الفواحش وثمن الخمر والنبيذ والمسكر والربا بعد البينة ، وأما الرشا في الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢).

وتضمنت الآية تحريم أكل الحرام مطلقا ويدخل فيه الاكتساب بعون الظالم ، وفي الآية حكم تكليفي وحكم وضعي ، فالحكم التكليفي قد تقدم (الحرمة) والوضعي هو المنع من ترتب الأثر فلا تتحقق الملكية بالثمن السحت فمن اخذ مال من قطع طريق أو سرقة فلا يمتلك ما يشتري به ، وقد قال الإمام الباقر (عليه‌السلام) : لا خير في شيء اصله حرام ولا يحل استعماله (٣).

وهناك آيتين ورد تفسيرهما عن الإمام الباقر وهما : الملك / ١٥ والنور / ٣٣ (٤).

* المطلب الثاني : الشهادة في الحقوق :

في قوله تعالى في آية الدين : (... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ...)(٥).

السين للطلب ، وفي الآية حكم باشتراط الاثنينية في الشهادة ، فدلت على عدم قبول شهادة الواحد ، وقد اختلف الفقهاء بالنسبة للحقوق في القضاء فيها بشاهدين أو بشاهد ويمين.

ذهب اكثر الفقهاء إلى القضاء بالشاهد واليمين ، وقد روي ذلك عن الخلفاء الأربعة ، وفقهاء المدينة السبعة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد والظاهرية واستدلوا بقضاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيما رووه بالشاهد واليمين (٦).

__________________

(١) المائدة / ٤٢.

(٢) التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٢ / ١١٠+ فروع الكافي ، الكليني ، ١ / ٣٦٣+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ٦ / ٦١ ـ ٦٢.

(٣) من لا يحضره الفقيه الصدوق ، ٢ / ٣٣٧.

(٤) قلائد الدرر ، الشيخ الجزائري ، ٢ / ٢١١ ـ ٢١٨.

(٥) البقرة / ٢٨٢.

(٦) ظ : المدونة ، سحنون ، ١٣ / ٣٣+ بداية المجتهد ، ابن رشد ، ٢ / ٥٠٧+ مغني المحتاج ، الشربيني ، ٤ / ٤٤٣+ المحلى ، ابن قدامة ، ٩ / ٤٠٤+ نيل الأوطار ، الشوكاني ، ٨ / ٢٩٥.

٣٥٩

وكذلك بالنسبة للإمامية واستدلوا بما رووه عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) ، فقد روى عبد الرحمن بن الحجاج قال : دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) فسألاه عن شاهد ويمين فقال : قضى به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقضى به علي (عليه‌السلام) عندكم بالكوفة ، فقالا : هذا خلاف القرآن ، فقال : أين وجدتموه خلاف القرآن : قالا : أن الله يقول : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ...)(١) فقال : قول الله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) هو لا تقبلوا شهادة واحد ويمينا!؟ ثم نقل حكاية الإمام علي مع شريح القاضي في درع طلحة (٢).

وقد روى الدارقطني بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه الإمام الباقر (عليه‌السلام) مثله (٣) ، وكذلك البيهقي (٤).

وذهب بعض الفقهاء إلى : أنه لا يقضي بالشاهد واليمين في شيء من الحقوق ، ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه (٥).

واحتج أبو حنيفة بظاهر الآية ، لكون ثبوته بدليل خارج الآية كالإجماع والأخبار (٦).

والذي أراه : أن قبول الشاهد مع اليمين ليس مخالفا لظاهر الآية لأن في الآية أمرا لأصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بشاهدين وليس أمرا للحكام ، وطريق الحكم بالحق شيء وطريق حفظ الحق شيء آخر فلا قياس ولا تلازم.

واحتج الحنفية بأن الحكم بالشاهد واليمين زيادة على نص الآية ، والزيادة على النص نسخ ، والنسخ بأخبار الآحاد لا يجوز على مسلكهم.

ويناقش هذا المدرك أن النسخ هو الرفع الإزالة ، والزيادة تقرير لا رفع ، فالحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين (٧).

__________________

(١) الطلاق / ٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، الصدوق ، ٣ / ٦٣+ التهذيب ، الشيخ الطوسي ، ٤ / ٢٧٣+ فروع الكافي ، الكليني ، ٧ / ٣٨٥+ الاستبصار الشيخ الطوسي ، ٣ / ٣٤+ وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، ١٨ / ١٩٤.

(٣) ظ : سنن الدارقطني ، ٤ / ٢١٢ وما بعدها.

(٤) ظ : السنن الكبرى ، البيهقي ، ١٠ / ١٧٠ وما بعدها ظ : المسائل ، د. هاشم جميل ، ق ٢ / ٢٠٢.

(٥) رحمة الأمة الدمشقي ، ٣٣٤.

(٦) المصدر نفسه ، ٣٣٥.

(٧) نظام القضاء في الإسلام ، عبد الكريم زيذان ، ١٩٠.

٣٦٠