بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

وهذا التخلص من الميرزا غير صحيح.

ولتوضيح ذلك ، يقع الحديث معه في كل من الجعلين ، إذن فالكلام في مقامين.

١ ـ المقام الأول : في الجعل الأول الّذي تصوره الميرزا «قده» مهملا.

والصحيح أن يقال فيه : إنّ استحالة التقييد لا توجب استحالة الإطلاق ، بل توجب ضرورية الإطلاق ، وذلك لأنّا بيّنا في بحث المطلق والمقيد أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين في عالم الجعل هو تقابل السلب والإيجاب ، أي تقابل التناقض ، فإذا استحال أحد النقيضين وجب ضرورية النقيض الآخر.

والسيّد الخوئي «قده» (١) يقول ذلك ، ولكنّه على مبناه لا يحقّ له ذلك ، لأنّه يبني «قده» على أنّ التقابل بينهما هو تقابل التضاد ، فلا يمكنه أن يرى ضرورة الإطلاق باستحالة التقييد :

بل هو يحتاج في تعيين أحد الضدين عند انتفاء الآخر إلى إقامة برهان على أنّهما من الضدين الّذين ليس لهما ثالث.

وأمّا بناء على مسلكنا فلا نحتاج إلى عناية ما دام التقابل بينهما هو تقابل السلب والإيجاب ، فإذا استحال أحدهما أصبح نقيضه ضروريا.

ولكن مع هذا ، فإنّ ضرورية أحدهما لا يفيدنا شيئا ، فلا يوصلنا إلى غرضنا الأصولي وهو إثبات انّ غرض المولى قد تعلّق بالمطلق ، لأنّ هذا الإطلاق الثبوتي مفروض على المولى فلا يكشف عن إطلاق حقيقي في الحكم بلحاظ غرضه وملاكه ، إذن ، فحال هذا الإطلاق حال

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٥ ، ص ٣٦٥.

٢٨١

الإهمال بحكم الميرزا «قده» ، لاحتمال أن يكون من عدم قدرة المولى على التقييد ، إذن فهذا الإطلاق كإهمال الميرزا «قده» لا يفيد الفقيه شيئا من حيث أنّ الفقيه لا يتمكن بمثل هذا الجعل أن يثبت سعة دائرة الغرض ، سواء كان هذا الجعل مهملا كما يقول الميرزا «قده» أو مطلقا بالمعنى المتقدّم.

ثمّ إنّ السيّد الخوئي «قده» (١) علّق على الجعل الأول للميرزا «قده» فاعترض عليه باعتراضين.

١ ـ الاعتراض الأول : هو أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد وإن كان تقابل العدم والملكة كما كان يقول به السيّد الخوئي في أول الأمر ثمّ عدل عنه واختار كون التقابل تقابل التضاد ، حيث يقول (٢) : وإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، لكن الملكة المأخوذة هنا ليس بمعنى القابلية الشخصية ، بل بمعنى القابلية النوعية ، فميزان صدق العدم المطعّم بالملكة هي قابلية عدم هذا المحل لا شخصه ، واستدلّ على ذلك ، بأنّ التقابل بين الجهل والعلم من باب تقابل العدم والملكة ، فلا يقال عن الجدار بأنّه جاهل لأنّه غير قابل للعلم رأسا ، ولكن يقال عن الإنسان أنّه جاهل بحقيقة كنه الله سبحانه ، مع أنّه ليس قابلا للعلم بحقيقته تعالى ، لكن حيث أنّ الإنسان قابل لنوع هذا العلم وإن لم يكن قابلا لشخصه فصحّ أن يوصف بأنّه جاهل بكنه الله تعالى.

وإن شئت قلت : إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل التضاد لا تقابل العدم والملكة ، فإنّ التقييد عبارة عن لحاظ دخل القيد ، والإطلاق عبارة عن لحاظ عدم دخل القيد ، وهما أمران وجوديان

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٥ ، ص ٣٦٥ ، ٣٦٦. أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٨٥.

(٢) محاضرات فياض : ، ج ٥ ، ص ٣٦٥.

٢٨٢

والتقابل بينهما من تقابل التضاد لا العدم والملكة (١) ، وحتّى لو فرضنا أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، إلّا أنّه يكفي في تقابل العدم والملكة ، القابلية النوعية أو الصنفية للملكة ، فلا يلزم القابلية الشخصية ، وفي المقام ، وإن لم يكن المورد قابلا للتقييد بخصوص العالم وبشخص هذا القيد ، إلّا أنّه قابل للتقييد ببقية القيود وبنوع القيد ، وهذا المقدار كاف في الإطلاق.

والوجه في ذلك ، أنّ الإنسان لا يكون عالما بحقيقة كنه الله سبحانه ، وإلّا لا نقلب الواجب ممكنا أو الممكن واجبا ، ومع ذلك يتصف بأنّه جاهل بحقيقة الله سبحانه ، بل يكون الجهل به ضروريا بالنسبة إليه ، فلو كانت القابلية الشخصية معتبرة لما اتصف بالجهل ، لعدم إمكان الاتصاف بالعلم في هذا المورد بل هو مستحيل ، مع أنّ الاتصاف بالجهل ضروري ، إذن ، فالمعتبر هو القابلية النوعية ، إذن ، فليس إذا استحال التقييد يستحيل الإطلاق بل قد يكون الإطلاق ضروريا ، والمصحح لهذا التعبير هو وجود القابلية لنوع العلم ، وهنا كذلك ، حيث يصحّ أن يقال : إنّ هذا الخطاب مطلق من ناحية هذا التقييد المستحيل والمصحح له قابلية المحل لنوع هذا التقييد.

وهذا الكلام غير تام ، وذلك لأنّه يوجد في المقام مطلبان لا علاقة لأحدهما بالآخر.

أولهما : مطلب لفظي اصطلاحي ، وحاصله : هو أنّ الحكماء في بحث التقابل في الفلسفة العالية ، قالوا بأنّ التقابل على أربعة أقسام ، تقابل السلب والإيجاب ، وتقابل التضاد ، وتقابل التضايف ، وتقابل العدم والملكة.

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٨٣

وهنا قد يقع بحث في الاصطلاح حيث يسأل : هل أنّ الحكماء الّذين عبّروا بتقابل العدم والملكة ، هل اشترطوا فيه القابلية الشخصية أو أنّهم جعلوها أعم؟ وهذا بحث لا محصل له إلّا تحديد الاصطلاح ، وإلّا لا إشكال في أنّ كل وجود مع عدمه متقابلان سواء طعّم العدم بالقابلية الشخصية ، أو النوعية ، أو الحيثيّة ، أو لم يطعم بشيء أصلا ، فحينئذ ، لو ورد دليل شرعي يقول : بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ، حينئذ يقع البحث في هذا التقابل ما هو ، وحينئذ يرجع إلى الاصطلاح في مقام شرح مدلول هذا الدليل الشرعي ، لكن من الواضح عدم وجود دليل شرعي من هذا القبيل ، إذن فهذا مطلب اصطلاحي لا دخل له هنا ، ولو فرض أنّ الحكماء اختاروا أنّ القابلية في باب العدم والملكة هي قابلية نوعية ، فهل هذا يكفي للقول بأنّ القابلية هنا نوعية لا شخصية؟ من الواضح عدم كفاية ذلك ، لأنّ البحث ليس عن تحديد مصطلح العدم والملكة عند الحكماء ، لا سيّما وأنّه لم تردّ آية أو رواية تفيد بأنّ الإطلاق والتقييد بينهما تقابل العدم والملكة لكي نبحث عن تحديد مفاد هذا الاصطلاح.

وثانيهما : مطلب في منهج البحث ، وهو أن نلحظ انّ الإطلاق بمعنى ما يقتضي سريان الحكم إلى تمام أفراد الطبيعة ، وهل أنّ حيثيّة السريان متقومة بالقابلية الشخصية أو النوعية أو ليست متقومة أصلا بالقابلية ، سواء كان المصطلح الفلسفي أو حتّى الاستعمال العرفي يساعد على صدق عدم الملكة في مورد فقدان القابلية الشخصية أم لا ، إذن ، فالمسألة ثبوتية وليست لفظية أو اصطلاحية.

والخلاصة أنّ تحقيق هذا المطلب إذن ، يكون بالالتفات إلى الحيثيّة الّتي تقتضي السريان ليرى أنّ تلك الحيثيّة هل تقتضي السريان بلا أخذ قابلية أصلا ، أو مع أخذها ، وعلى الثاني ، فهل القابلية المأخوذة شخصية أو نوعية؟.

٢٨٤

والصحيح هو انّ هذه الحيثيّة الّتي تقتضي السريان لم يؤخذ فيها قابلية أصلا في الإطلاق كما عرفت ذلك في بحث المطلق والمقيد ، ولهذا قلنا هناك : بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل السلب والإيجاب لا العدم والملكة ، ومعه : فحيثيّة سريان الحكم إلى تمام أفراد الطبيعة متقومة بمجرد عدم التقييد ، فتكون العلاقة بين الإطلاق والتقييد علاقة التناقض ، لا العدم والملكة مهما كان مصطلح العدم والملكة فيما ذكره السيّد الخوئي «قده».

٢ ـ الاعتراض الثاني : للسيّد الخوئي «قده» (١) على الجعل الأول في كلام الميرزا «قده» هو أنّ الإهمال في الجعل الأول غير معقول ، وذلك لأنّ الإهمال إنّما يعقل في مقام إبراز شيء وإظهاره ، فقد يكون المبرز مهملا وغير متصدي لبيان تمام الخصوصيات ، لكن في مقام عالم الثبوت لذلك الشيء لا يعقل الإهمال ، لأنّ مقام الثبوت لا بدّ وأن يفرض فيه التعيّن ، لأنّ كل شيء في متن وجوده ووعاء ثبوته لا بدّ وأن يكون متعينا متحددا ، فمثلا حينما نتحدث عن زيد قد نهمل بعض خصوصياته ، لكن زيدا في متن الواقع غير مهمل ، بل لا بدّ أن يكون متحددا من حيث الجهل والعلم وغيره ، إذن فالإهمال شأن مقام الإثبات ، وأمّا مقام الثبوت لا بدّ فيه من فرض التعين والتحدد ، وعليه : فالحكم والجعل الأول في مقام ثبوته ومتن وجوده لا بدّ أن يكون تمام أطرافه متعينة من المكلّف والموضوع والمحمول ، ولا يمكن أن يكون الجعل الأول مهملا ، وكأنّه أثبت أولا عدم إمكان الإهمال في مقام الثبوت ، ثمّ استنتج من ذلك عدم إمكان الإهمال في الحكم والجعل الأول.

والصحيح انّ هذا الاعتراض غير تام ، فإنّه عندنا في المقام مطلبان.

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٨٥

١ ـ المطلب الأول : هو أنّه تارة نبني على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب.

٢ ـ المطلب الثاني : هو أنّه تارة أخرى نبني على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل آخر كالتضاد ، كما اختاره السيّد الخوئي «قده».

فإذا بنينا على المطلب الأول ، حينئذ لا نحتاج إلى إدخال هذه الخصوصيات في مقام تسجيل استحالة الإهمال والاعتراض على الميرزا «قده» ، إذ من الواضح أنّ الإهمال بمعنى عدم الإطلاق والتقييد معا معناه ارتفاع النقيضين وهو واضح الاستحالة ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، إلّا أنّ هذا على خلاف مبنى الميرزا والسيّد الخوئي «قده» ، إذ بناء على مبناهما ـ من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ـ لا مانع من ارتفاع الإطلاق والتقييد معا ، وحينئذ لا يمكن أن يبرهن على استحالة الإهمال بما ذكره السيّد الخوئي «قده» ، لأنّ ما ذكره يفترض أنّ الإهمال معناه اللّاتعيين المساوق للوجود المردّد ، بحيث يكون معنى الإهمال ، أنّ الصورة الذهنية الّتي هي ثابتة في متن وجود الحكم مردّدة غير متعينة ، ومن الواضح انّ هذا التردّد واللّاتعيين بهذا المعنى مستحيل ، سواء في عالم الوجود الذهني أو الوجود الخارجي ، فإنّ كل موجود في مرتبة وجوده متعيّن ، ومن هنا كنّا نقول : باستحالة الفرد المردّد ذهنا وخارجا ، فالصورة الذهنية للطبيعة في عالم الذهن لا محالة تكون متعينة ، فالفرد الّذي هو مردّد في واقع وجوده بين زيد وعمر مستحيل ، نعم قد يتردّد شخص فيه وأنّه هل هو زيد أو عمرو ، لكن في واقع وجوده تردّده مستحيل.

لكن الإهمال بناء على مبنى السيّد الخوئي الّذي هو التضاد لا يلزم منه التردّد الوجودي بهذا المعنى ، لأنّ الإهمال معناه أنّ المولى يلحظ الطبيعة حينما يريد جعل الحكم لها دون أن يلحظ دخل القيد أو عدمه ،

٢٨٦

وهذا لا يجعل لحاظ الطبيعة بما هو وجود ذهني غير متعين في حده الوجودي ومرددا في متن وجوده ، بل هو وجود متعين لطبيعة متعينة ، غايته لم يضم إليه لحاظ دخل القيد ولا لحاظ عدم دخله ، إذن فأين الإهمال بهذا المعنى وانّ كل موجود في حاق ثبوته لا بدّ أن يكون متعينا لاستحالة التردّد الثبوتي؟ فالتعين بهذا المعنى صحيح ، لكن هنا لا يلزم التردّد الثبوتي كما يرى السيّد الخوئي ، نعم المولى يلحظ هذا الموجود لكن دون أن يلحظ فيه عدم القيد أو وجوده ، وحينئذ يحتاج إثبات استحالة الإهمال إلى إبراز نكتة أخرى غير ما ذكر ، وهذا سوف نشير إليه عند الكلام على الجعل الثاني.

والحاصل هو انّ هذا الاعتراض من السيّد الخوئي «قده» غير تام ، فإنّه تارة يبنى على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل السلب والإيجاب ، وأخرى يبنى على أنّه من تقابل الضدين ، أي أنّ التقييد هو لحاظ القيد ، والإطلاق لحاظ عدمه.

فإنّ بنينا على الأول ، فالمطلب لا يحتاج إلى إدخال هذه الخصوصيات في مقام تسجيل الاعتراض على الميرزا «قده».

بل قد يقال بعبارة أخرى ، إنّ الإهمال بمعنى عدم الإطلاق والتقييد معا ، معناه : ارتفاع النقيضين وهو واضح الاستحالة ، وإن بنى على الثاني ، أي كون التقابل من تقابل الضدين كما هو مبناه ، أو بنى على مبنى الميرزا ، من كون التقابل بنحو العدم والملكة ، فإنّه حينئذ لا يمكن إثبات استحالة الإهمال بالبيان المذكور ، لأنّ الإهمال حينئذ لا يعنى اللّاتعيين والوجود المردّد ، وإنّما يعني عدم لحاظ الإطلاق ، وعدم لحاظ التقييد ، أو عدم القابلية لذلك بناء على مبنى الميرزا «قده» فإنّه بناء عليه يكون لحاظ للطبيعة بلا لحاظ أي شيء زائد عليها ، لا لحاظها مردّدة بين الإطلاق والتقييد ، وعليه : فأين هذا الإهمال من الإهمال في الوجود؟ إذن فالتعين بهذا المعنى

٢٨٧

صحيح ، لكن هنا لا يلزم التردّد الثبوتي ، كما عرفت ، فإنّ المولى يلحظ هذا الموجود لكن دون أن يلحظ فيه عدم القيد أو وجوده ، إذن فلا بدّ في إثبات استحالة الإهمال في المقام من إبراز نكتة أخرى غير ما ذكر كما سنشير إلى ذلك عند الكلام على الجعل الثاني.

٢ ـ المقام الثاني : في الجعل الثاني : والّذي عوّل عليه الميرزا «قده» لأجل إيجاد نتيجة التقييد أو نتيجة الإطلاق ، ففي هذا الجعل يجعل الحكم على العالم بالجعل الأول فيكون منتجا نتيجة التقييد ، أو يجعله على المكلّف مطلقا فينتج نتيجة الإطلاق ، وهنا يعترض على ما أفاده «قده» باعتراضين.

١ ـ الاعتراض الأول : هو انّ هذا الجعل الثاني الّذي أخذ في موضوعه العلم بالحكم الأول ، إذا قصد منه التقييد ، حينئذ نسأل : انّه هل أخذ في موضوع الجعل الثاني ـ متمم الجعل ـ العلم بالجعل الأول ، أو العلم بفعلية مجعول الجعل الأول؟

فإن قيل بالأول ، فهذا تطويل للمسافة بلا موجب ، لأنّنا برهنّا فيما تقدّم على أنّ العلم بالجعل الأول يمكن أن يؤخذ في موضوع نفس الجعل الأول بلا محذور ، وبلا حاجة إلى متمم الجعل ، ومعه : لا موجب للتوسل بجعلين ، إذ يتحقّق المطلب بالجعل الأول.

وإن قيل بالثاني : فهذا لا يمكن التوصل إليه بالجعل الواحد ، لكن لا يمكن التوصل إليه بجعلين أيضا ، وذلك لأنّه إذا أخذ في موضوع الجعل والحكم الثاني ، العلم بفعلية المجعول الأول ، حينئذ نسأل ـ بأنّ هذا الجعل الأول حيث أنّ مجعوله رتّب على موضوع مهمل من حيث العلم والجهل ـ نسأل بأنّ الطبيعة المهملة هنا ، هل تنطبق على المقيّد من باب أنّ المهملة في قوّة الجزئية ، أو أنّها تنطبق على كلا الفردين ، أو أنّها لا تنطبق على شيء؟

٢٨٨

فإن قيل بأنّها تنطبق على المقيّد فقط ، إذن فلما ذا يحتاج إلى الجعل الثاني ـ «متمم الجعل» ـ لإيجاد نتيجة التقييد إذ عليه ، لو أنّ المولى جعل الجعل الأول وسكت ، إذن فينطبق جعله هذا على المقيد ، فلو كان غرض المولى هو المقيد ، إذن فقد حصل غرضه بالجعل الأول ، وقد وصلتم إلى نتيجة التقييد وبدون جعل ثاني ، اللهمّ إلّا إذا أراد المولى نتيجة الإطلاق من أنّ الميرزا «قده» يقول بالحاجة إلى الجعل الثاني حتّى في نتيجة التقييد.

وإن قيل بالثاني ، وهو كون المهملة في قوّة الكليّة ، بحيث أنّ الطبيعة المهملة تنطبق على تمام الأفراد ، إذن فالمولى لو تعلّق غرضه بالمطلق فإنّه لا يحتاج إلى جعل ثاني ، لأنّ الجعل الأول يكون كافيا.

وإن قيل بالثالث ، وهو كون هذا الجعل المهمل الأول غير منطبق لا على المقيد ، ولا على فاقد القيد ، إذن حينئذ متى سوف يعلم بمجعوله؟ لأنّه إذا كان لا ينطبق ، إذن سوف لن يتحقّق علم بالمجعول الأول لكي يتحقّق الجعل الثاني ، فإنّ الجعل الثاني أخذ في موضوعه العلم بمجعول الجعل الأول.

وحينئذ إذا قلنا انّ مجعول الجعل الأول لا يصير فعليا ، لعدم انطباقه على شيء في الخارج ، حينئذ معه لا يعقل العلم بفعلية المجعول ، وحينئذ ، لا يتحقّق شرط الجعل الثاني.

والحاصل هو أنّ العلم المأخوذ في موضوع الجعل الثاني هو العلم بفعلية المجعول بالجعل الأول المهمل حسب الفرض ، وحينئذ نسأل : هل انّ الجعل المهمل ، هل هو في قوّة الجزئية ، أو الكليّة ، أو أنّه لا قوّة له أصلا؟

فإن قيل بالأول : إذن فهذا معناه أنّنا لا نحتاج إلى نتيجة التقييد بالجعل الثاني ، بل الجعل الأول يحقّق التقييد.

٢٨٩

وإن قيل بالثاني : فهذا معناه أنّنا لا نحتاج في موارد الإطلاق إلى الجعل الثاني ، فإنّ الجعل الأول يكون مطلقا في نفسه.

وإن قيل بالثالث : حينئذ يقال : بانّ الجعل الثاني يستحيل تحقّق موضوعه الّذي هو العلم بالمجعول بالجعل الأول ، لأنّ العلم بفعلية المجعول بالجعل الأول فرع العلم بتحقّق موضوعه ، وقد فرض أنّ موضوعه هو المهمل غير المنطبق على شيء ، إذن فلا يعلم بتحقّقه ، وعليه : فلا يتحقّق موضوع الجعل الثاني.

ثمّ انّنا نصعّد هذا الإشكال ، بناء على كون العلم بمجعول الجعل الأول مأخوذا في موضوع الجعل الثاني ، فنقول : بأنّه إذا كان العلم بالمجعول الأول مأخوذا في موضوع الجعل الثاني ، فيلزم أن يستحيل تحقّق العلم بالمجعول بالجعل الأول ، كما أنّه يستحيل فعلية المجعول بالجعل الثاني ، وذلك لأنّ المجعول في الجعل الأول قضية مهملة ، والموضوع فيه لا مطلق ولا مقيد ، والموضوع المهمل الّذي هو هكذا يستحيل أن يكون في قوّة الكليّة ، وذلك لأنّ المهملة معناها أنّه لا إطلاق فيها ، والإطلاق معناه حيثيّة السريان ، أي الحيثيّة الّتي تقتضي إسراء الطبيعة إلى تمام أفرادها ، فإذا فرض عدم الإطلاق ، فلا بدّ وأن يفرض عدم السريان ، لأنّنا إذا فرضنا أنّ المهملة كانت سارية ، وفي قوّة الكليّة ، فهذا معناه : انّ حيثيّة السريان محفوظة ، ونحن لا نريد بالإطلاق إلّا حيثيّة السريان ، إذن فهذا خلف ما فرض من عدم الإطلاق فيها ، إذن فلا يمكن أن تكون المهملة في قوّة الكليّة ، بل هي إمّا في قوّة الجزئيّة أو أنّه لا قوّة لها أصلا ، وعلى كلا التقديرين يستحيل تحقّق العلم بالمجعول الأول الّذي أخذ شرطا في الجعل الثاني.

أمّا إذا كان المجعول الأول لا قوّة له أصلا فواضح كما عرفت.

وأمّا إذا كان في قوّة الجزئيّة ، فحينئذ يقال : بأنّ معنى كونه في قوّة

٢٩٠

الجزئيّة ، يعني أنّه قابل للانطباق على المقيّد لا على غيره ، إذن ، انطباق الموضوع في الجعل الأول على فرد ، فرع أن يكون واجدا للقيد ، والقيد هو العلم بالحكم ، إذن فيكون انطباق المهملة على فرد يعني : العلم بالحكم ، والعلم بالحكم ، وهو المجعول ، فرع انطباق المهملة عليه ، فيلزم الدور ، ونفس المحاذير السابقة ، من أخذ العلم في الجعل الأول ، في موضوع الجعل الأول تأتي هنا أيضا ، وبهذا يتبرهن استحالة الجعل الأول ، كما يتبرهن استحالة الجعل الثاني.

ثمّ انّنا نصعّد الإشكال فنقول : انّ المهملة يستحيل أن تكون في قوّة الكليّة ولا في قوّة الجزئيّة ، بل لا قوّة لها أصلا ، وذلك لأنّ انطباق الطبيعة على حصة يتوقف على أحد أمرين : إمّا على أخذ هذه الحصة بعنوانها موضوعا ، وإمّا على لحاظ الطبيعة مطلقة من ناحية الحصة المقابلة لهذه الحصة.

إذن الانطباق موقوف إمّا على تقييد ، أو على إطلاق للمقابل ، فإذا لم يكن تقييد ولا إطلاق مقابل ، إذن لا ينطبق على أيّهما ، فمثلا : طبيعة الإنسان لها حصتان ، الأسود ، والأبيض ، فانطباق هذه الطبيعة على الأبيض فرع أحد أمرين.

فإمّا أن يفرض أن يكون البياض قد أخذ قيدا كما لو قال : «أكرم الإنسان الأبيض» فحينئذ تنطبق الطبيعة على الأبيض.

وإمّا أن نلحظ الطبيعة مطلقة من ناحية السواد ، فنلحظ عدم أخذ السواد قيدا ، حينئذ تسري الطبيعة إلى الأسود ، إذن فانطباق الطبيعة على أحدهما فرع أحد أمرين ، إمّا التقييد بالبياض ، أو الإطلاق من ناحية السواد ، فإذا لم يثبت كلاهما ، فلا تنطبق على الأبيض.

حينئذ ، هنا في محل الكلام ، المقيّد هو العالم بالحكم ، وانطباق طبيعة المكلّف على العالم بالحكم فرع أحد أمرين : فإمّا أن يؤخذ نفس

٢٩١

العلم بالحكم قيدا فتنطبق عليه ، لكن هذا يستحيل أن يكون مطلقا من ناحية الجهل ، لأنّ التقييد بالجهل مستحيل عند الميرزا «قده» ، فالإطلاق المقابل له مستحيل أيضا عنده «قده» كما عرفت من مبناه في قضية التقابل بين الإطلاق والتقييد ، حيث إذا استحال الإطلاق استحال التقييد ، إذن انطباق المهملة على المقيّد بالعلم مستحيل ، وهذا يبرهن على أنّ المهملة لا قوّة لها في مقام الانطباق أصلا.

وإذا تبرهن هذا ، يتبرهن بالتبع استحالة الإهمال ، وبهذا تمّ النقاش مع الميرزا «قده» ، وبه تمّ الكلام في المقام الأول ، وهو أخذ العلم بشخص الحكم شرطا في موضوع الحكم.

٢ ـ المقام الثاني : في أخذ العلم بالحكم مانعا في شخص ذلك الحكم وذلك ، بأن يؤخذ عدم العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم.

وهذا المطلب تصوره الشيخ الأنصاري «قده» في مقام توجيه كلمات المحدّثين الّذين ذهبوا إلى عدم حجيّة القطع الناشئ من الدليل العقلي ، فاعترض عليهم ، بأنّه كيف يعقل الردع عن القطع مع أنّ حجيته ذاتية ، حينئذ ، صار الشيخ «قده» في مقام توجيه كلمات المحدّثين بحيث لا يردّ عليهم إشكال عقلي ثبوتي ، فقال : بانّه يمكن أن نحول القطع من طريقي إلى موضوعي ، وحينئذ يدّعى انّ الأحكام الشرعية قد أخذ في موضوعها عدم القطع بها من غير طريق الأئمّة عليهم‌السلام ، فلو حصل القطع بها من غير طريقهم عليهم‌السلام ، حينئذ لا يتحقّق الحكم ، لا لأنّ القطع غير حجّة ، بل لانتفاء موضوع الحكم ، وبهذا وجّه كلمات المحدّثين (١) ، ومن هنا انفتح باب معقولية أخذ عدم العلم وعدم القطع بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم.

__________________

(١) الرّسائل : الأنصاري ، ص ١٠.

٢٩٢

والصحيح أنّه بالنسبة للجعل لا إشكال في معقولية أخذ عدم القطع بالجعل في موضوع المجعول ، وذلك بأن يقال : «بأنّي جعلت وجوب الحج على من لم يقطع بهذا الجعل من ناحية الرمل ، أو الجفر مثلا ، أمّا من قطع به من هذه الناحية ، فلا يشمله هذا الجعل».

وهذا أمر معقول ، فأخذ القطع بالجعل معقول ، لكن كيف يؤخذ عدم القطع به؟.

وغاية ما يتوهم هنا هو ، انّ الجعل إذا قيّد بعدم القطع به فإنّه يلغو ، لأنّ الجعل إنّما يترقب له فائدة فيما لو فرض أنّه وصل إلى المكلّف ، فإذا قيّد الجعل بعدم الوصول يكون لغوا ، إذ لو وصل لما كان مجعولا فعليا ، ولو لم يصل فلا أثر له حتّى لو كان مجعوله فعليا ، إذن أي متى يترقب الأثر؟

أمن حالة وصول الجعل؟ من الواضح عدمه ، لأنّ المجعول غير فعلي.

أو من حالة عدم وصول فعلية المجعول؟ من الواضح أنّه لا أثر لها.

وهذا الكلام إنّما يتم فيما لو أخذ عدم مطلق الوصول قيدا في الجعل بتمام مراتبه ، فإنّه حينئذ يلزم هذا الإشكال ، وهو اللغوية وأنّه لا أثر له.

وأمّا إذا أخذ فيه عدم حصة من الوصول ، لا عدم مطلق الوصول ، حينئذ لا يلزم منه محذور اللغوية ، إذ يكفي في ترتيب الأثر الوصول الآخر الّذي لم يؤخذ عدمه في الموضوع.

وما ادّعاه الشيخ الأنصاري «قده» في مقام توجيه كلماتهم هو ، أن يؤخذ عدم حصة خاصة من الوصول ، في موضوع الحكم ، وهو عدم الوصول الناشئ من البراهين العقلية ، وهذا لا يردّ عليه الإشكال.

٢٩٣

وأمّا أخذ عدم العلم في المجعول في موضوع المجعول ، فهل يعقل؟ أو أنّه مستحيل؟ كما أنّ أخذ العلم في المجعول في موضوع المجعول مستحيل؟

والصحيح انّ برهان الدور بصيغته السابقة لا يجري في المقام ، إذ قلنا سابقا أنّه إذا أخذ العلم بالمجعول في موضوع المجعول ، فيلزم توقف الحكم على موضوعه ، وتوقف الموضوع على حكمه ، فيتوقف كل منهما على الآخر.

وهذا الدور لا يأتي هنا ، لأنّه هنا إذا أخذ عدم العلم بالمجعول في موضوع المجعول ، ففعلية المجعول موقوفة على عدم العلم بالمجعول ، وعدم العلم بالشيء لا يتوقف على ذلك الشيء.

وبعبارة أخرى ، انّه إذا أخذ عدم العلم بالمجعول في موضوع المجعول ، ففعلية المجعول يتوقف على العلم بالمجعول ، ولكن عدم العلم بالمجعول لا يتوقف على المجعول ، إذن ، فلا دور.

والخلاصة هي أنّ فعلية المجعول يتوقف على عدم العلم به ، وعدم العلم به لا يتوهم أنّه يتوقف على المجعول ، وهذا هو الفرق بين طرف العلم ، وطرف عدمه.

ففي طرف العلم ، يتوهم أنّ العلم بالمجعول يتوقف على المجعول ، فإن توقف المجعول على العلم دار.

لكن في طرف عدم العلم ، لا يتوهم انّ عدم العلم بالمجعول يتوقف على المجعول ، ومعه لا دور حينئذ ، ومعه لا تجري المحاذير السابقة ، فإن كان هناك محذور فلا بدّ من استئناف بحث جديد ليتضح به غير ما تقدّم.

ومن هنا ، قد يقال : بوجود محذور في أخذ العلم بحكم مانعا عن شخص ذلك الحكم ، وذلك بأن يقال : أنّه إذا أخذ العلم المخصوص

٢٩٤

كالعقلي مثلا ، مانعا عن فعلية الحكم ، فهذه المانعية لا يترتب عليها أثر في المقام ، وإنّما يترتب عليها أثر لو أمكن أن تصل إلى من وجد في حقّه المانع ، لكي يعرف المانعية ويترتب الأثر عليها ، مع انّ هذه المانعية لا يمكن أن تصل إلى الشخص الّذي يكون المانع محفوظا عنده ، لأنّها إن وصلت لمن لم يكن علمه عقليا ، إذن فالمانع غير موجود عنده ليكون لإيصال المانعية أثر بالنسبة إليه ، وأمّا من كان عالما علما عقليا بفعلية المجعول ، فهذا يستحيل تصديقه بهذه المانعية ، إذ بمجرد أن يصدق بها يخرج عن كونه عالما بفعلية الحكم ، إذن ، فاجتماع المانع مع وصول المانعية مستحيل ، وعليه : فمثل هذه المانعية لا يعقل جعلها ، لعدم الأثر لها.

وجواب هذه الشبهة أولا : انّ هذه المانعية مجعولة بنفس جعل الحكم لا بجعل مستقل ، والمناط في فائدة جعل الحكم هو أن يكون قابلا للوصول إلى المكلّف ، ومن الواضح أنّ التكليف بوجوب الحج على البالغ المستطيع غير العالم علما عقليا بهذا الوجوب ، هو تكليف قابل للوصول إلى المكلّف به ، وهو من كان عالما علما شرعيا ، وهذا تمام ما يراد من التكليف ، فإنّه يكفي في فائدته أن يكون قابلا للوصول لمن خوطب به ، ولا يعتبر قابليته للوصول لمن لم يخاطب به.

وثانيا : إنّ قولكم ، انّ من يوجد عنده المانع يستحيل أن تصل إليه المانعية ، فهذا غير تام.

وذلك لأنّه بحسب الدقة ، حينما يقيّد الحكم بعدم العلم العقلي بالمجعول ، حينئذ ، يستحيل أن يوجد المانع ، لا أنّه يوجد ولكن لا تصل المانعية ، لأنّ هذا المكلّف الّذي يعلم عقلا بشخص هذا الحكم والّذي هو حكم مقيّد بعدم هذا العلم ، كيف يعقل أن يتعلّق علمه العقلي بفعلية حكم مع أنّ فعليته مقيّدة بعدم هذا العلم العقلي بهذا الحكم نفسه

٢٩٥

إذ عدم علمه به لا يجتمع مع علمه به ، فهذا التقييد بحسب الحقيقة يؤدّي إلى استحالة وجود المانع ، لا أنّ المانع يوجد لكن يستحيل وصول مانعيته.

فإن قيل : إذا كان المانع مستحيل وجوده ، إذن ما معنى أخذ عدمه قيدا ، وما هي فائدته؟ لأنّه إذا استحال وجوده كان عدمه ضروريا.

فجوابه : إنّ استحالة وجود المانع ، كان سببه هذا التقييد ، إذ لو لا هذا التقييد كان وجود المانع بمكان من الإمكان ، واستحالة وجوده الناشئة من التقييد لا يوجب لغويته ، وبهذا يتضح ، انّ أخذ عدم العلم في موضوع شخص الحكم أمر معقول.

وبهذا تمّ الكلام في أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مماثل ، أو مخالف ، أو مضاد ، أو متحد معه شرطا ومانعا.

ثمّ انّ الشيخ «قده» في الرّسائل ، والمتأخرين ذكروا كلاما طويلا في أقسام الظن ، ومماثلتها لأقسام القطع ، حيث أنّه قد يكون مأخوذا في موضوع حكم آخر يماثله ، أو يخالفه ، أو يضاده ، أو يكون عينه بنحو الشرطية أو المانعية ، ومن هنا صاروا في مقام التفتيش عن نكات الفرق بين القطع والظن من هذه الناحية ، وحيث انّ هذه الأقسام هي مجرد افتراضات لا تطبيق لها ولا أثر إلّا في مجال جعل الأحكام الظاهرية ، والجمع بينها وبين الأحكام الواقعية الّتي سوف يأتي الكلام عنها ، لذا نتركها في المقام إلى مقامها إذ لا ثمرة في بحثها ، وندخل في تنبيه جديد من تنبيهات القطع.

٢٩٦

التنبيه الثالث

من تنبيهات القطع ، هو البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية في التكليف الشرعي وعدمه.

ويقع البحث فيه من ناحيتين.

١ ـ الناحية الأولى : في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمها.

٢ ـ الناحية الثانية : هي أنّه إذا قيل بوجوب الموافقة الالتزامية ، فهل يكون وجوبها مانعا عن إجراء الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي فيما إذا لم يكن هناك مانع من ناحية الموافقة العملية؟ كما في موارد الأصول المثبتة للتكليف مع كون المعلوم بالإجمال حكم ترخيصي كما في موارد جريان استصحاب النجاسة مع العلم إجمالا بطهارة أحد الإناءين ، حيث لا محذور في جريان الاستصحابين من ناحية الموافقة العملية ، إذ لا امتثال عملي للمعلوم بالإجمال لأنّه ترخيص؟ لكن حينئذ يقع الكلام في أنّه هل ينشأ محذور من ناحية المخالفة الالتزامية؟ لأنّه إذا استصحبنا النجاسة أو الحرمة في كلا الطرفين يكون هذا موجبا للالتزام بمخالفة حكم الله تعالى ، وحينئذ ، ان قيل بحرمة المخالفة الالتزامية ، ووجوب موافقتها فقد ينشأ محذور يمنع من جريان الأصول في مثل هذا المورد.

ومثال آخر : هو موارد دوران الأمر بين المحذورين ، كما لو علم في مورد بالوجوب أو الحرمة ، فإنّه هنا لا مانع من جريان الأصول

٢٩٧

بلحاظ الموافقة العملية ، لأنّ المخالفة الاحتمالية قهرية سواء جرت الأصول أم لا ، والمخالفة القطعية مستحيلة سواء جرت الأصول أم لا ، إذن لا محذور من ناحية المخالفة العملية ، لكن قد ينشأ محذور من ناحية المخالفة الالتزامية ، كما لو تعبّدنا بعدم الوجوب ، وعدم الحرمة ، فمعناه أنّه لم نلتزم بحكم الله تعالى في هذه المسألة الدائرة أمرها بين الوجوب أو الحرمة ، إلى غير ذلك من الموارد الّتي تظهر فيها ثمرة المخالفة الالتزامية ، وقبل الدخول في تحقيق الحال في ذلك ، لا بدّ من بيان معنى الموافقة الالتزامية الّتي يدّعى وجوبها حيث يحتمل فيها عدّة احتمالات.

وقبل بيان هذه الاحتمالات ، لا بدّ من شرح معنى الموافقة الالتزامية فنقول : إنّ الموافقة الالتزامية هي عبارة عن فعل نفساني واقع تحت اختيار المكلّف ، وهذا الفعل هو سنخ توجّه مخصوص من قبل النّفس نحو مطلب «ما» بحيث ينتزع من هذا التوجّه مفهوم الخضوع والتسليم والانقياد ، وهذا أمر اختياري للنفس ، إذن ، ليست الموافقة الالتزامية مجرد القطع واليقين والعلم بالمطلب ، إذ قد يفرض أنّ الإنسان يحصل له اليقين بنبوّة إنسان أو إمامته أو أعلميته ، لكنّه مع هذا لا يلتزم بذلك ، بمعنى أنّه لا يتوجه إلى هذه النّبوّة أو الإمامة توجها نفسيا خاصا بحيث ينتزع منه عنوان الخضوع والانقياد لذلك النّبيّ ، بل هو في مقام التوجيه يعرض عنه وإن كان في واقع نفسه يقطع بأنّ هذا نبي.

ومن هنا يعلم ، انّ الالتزام ليس مساوقا لليقين والقطع ، بل معناه ما تقدّم ، إذن فهو من أفعال الجوانح وليس من أفعال الجوارح.

وحينئذ ، يقع الكلام ، في أنّ الحكم الشرعي كما يستدعي فعلا جارحيا ، فهل يستدعي فعلا جانحيا بحيث نتوجّه إلى الحكم الشرعي توجها مخصوصا ، والمعبّر عنه بالالتزام بالنحو الّذي عرفت أم لا؟.

٢٩٨

وتحقيق الكلام في ذلك ، يستوجب التكلم في عدّة أمور.

الأمر الأول : في أنّه كيف نتصور مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن إجراء الأصول العملية؟.

وهنا يمكن تصوير هذه المانعية ببيانات ثلاث.

١ ـ البيان الأول : هو أنّه إذا وجب الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم إجمالا ، فإنّه يستحيل حينئذ جريان الأصول والالتزام بها ، لأنّه لو جاز الالتزام بجريانها أيضا للزم الالتزام بالمتنافيين ، وهذا يستحيل صدوره من عاقل ، إذ كيف نلتزم بطهارة أحد الإناءين مع الالتزام فعلا بنجاسة كل منهما بالاستصحاب ، إذن فالالتزام بهذين الأمرين معا التزام بالمتنافيين ، وهو مستحيل.

وهذا التقريب واضح البطلان ، لأنّ المفروض في المقام أنّ متعلّق أحد الالتزامين حكم واقعي ، ومتعلّق الآخر حكم ظاهري ، والمفروض انّنا جمعنا بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية ولم نفترض تضادا وتنافيا بين الإباحة الواقعية والحرمة الظاهرية ، وحينئذ لا يكون الالتزام بهما معا التزاما بالمتنافيين.

وعليه : لا يكون هذا برهانا على استحالة جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي بناء على وجوب الموافقة الالتزامية.

٢ ـ البيان الثاني : هو أنّ نفس الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم إجمالا ، مناف لجريان الأصول ، وإن لم يكن التزاما بالمنافي ، لأنّه لا منافاة بين الحكم الواقعي والظاهري ، لكن نفس الالتزام منافي ، لأنّ الالتزام الجدي بإباحة شيء شرعا وواقعا لا يلائم مع الالتزام بحرمته استصحابا وظاهرا ، إذ الالتزام الجدي بإباحته يستدعي ترتب الأثر عليها ، إذن فنفس الالتزام بالإباحة الواقعية ينافي جريان الاستصحاب ،

٢٩٩

وبناء عليه : قد يتوهم انّ هذه المانعية ـ كما في الدراسات ـ إنّما تتم لو كان الواجب هو الالتزام بالحكم الواقعي بعنوانه التفصيلي ، فإنّ الالتزام بإباحة شيء بعنوانه التفصيلي مع البناء على حرمته استصحابا لا يجتمعان.

وأمّا إذا كان الواجب هو الالتزام بالحكم الواقعي بعنوانه الإجمالي فلا منافاة حينئذ بين الإباحة والحرمة في كل مورد.

لكن الصحيح في تقريب هذه المانعية هو البيان الثالث ، حيث لا يفرّق فيه الحال بين كون الواجب هو الموافقة الالتزامية للحكم الواقعي بعنوانه التفصيلي ، أو بعنوانه الإجمالي.

٣ ـ البيان الثالث : هو أن يقال : بأنّ وجوب الموافقة الالتزامية من شئون الحكم المعلوم بالإجمال ، فإذا جرى الأصل في نفي الحكم المعلوم بالإجمال ، نفي وجوب الموافقة الالتزامية نفيا ظاهريا بنفي موضوعها ، باعتبار انّ موضوع وجوبها هو ثبوت الحكم ، فإذا انتفى الحكم بالأصل المؤمن ، فحينئذ ، ينتفي موضوع وجوب الموافقة الالتزامية ، وهذا ينتج الترخيص من قبل الأصل في ترك الالتزام رأسا ، أي الترخيص في المخالفة القطعية الالتزامية ، لأنّ هذا الحكم منفي ، فكأنّه قال : لا يجب عليك الالتزام ، وهذا ترخيص في المخالفة القطعية الالتزامية.

وهذا التقريب من سنخ تقريب المانعية لوجوب الموافقة القطعية ، أو حرمة المخالفة القطعية في جريان الأصول ، حيث كنّا نقول : بأنّ جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي يؤدّي إلى الترخيص في ترك الموافقة الالتزامية ، لأنّ وجوبها من تبعات الحكم الشرعي ، وهو منفي ، وهذا ترخيص في المخالفة الالتزامية القطعية ، وعليه فلا يجب الالتزام به لا إجمالا ولا تفصيلا.

٣٠٠