بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

بخصوص القطع الّذي يكون مصيبا للواقع ، فيكون الواقع دخيلا في موضوع الحكم.

وهذا يتنافى مع ما ذكروه من أنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، سواء الصفتي أو الطريقي ، من أنّه تارة يكون تمام الموضوع ، وأخرى يكون جزء الموضوع ، ويكون الجزء الآخر هو الواقع.

وهذا غير معقول ، بل يتعيّن أن يكون القطع المأخوذ على وجه الطريقية ، هو جزء الموضوع ، لأنّه لا يعقل إضافته إلى الخارج ، بلا خارج في البين.

وثانيا : فإنّ ما ذكروه من أنّ الظاهر من الدليل دائما هو ، أخذ القطع في الموضوع على نحو الطريقية ، وإنّ أخذه على نحو الصفتية بحاجة إلى قرينة ، فهذا سوف يصبح معكوسا ، بناء على هذا التفسير ، لأنّه إذا كان القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية. عبارة عن أخذ القطع بما هو بلا تقييده بالخارج ، وأخذه على نحو الطريقية معناه : تقييده بالخارج ، يكون هذا خلاف ما يريدون ويدعون ، إذ انّ هذا أشدّ عناية من ذاك ، لأنّ هذا تقييده بالخارج ، خلاف الأصل والإطلاق ، مع أنّهم صرّحوا بأنّ الصفتية على خلاف ظاهر الدليل ، فيجب أن نفسّر القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية بنحو يكون على خلاف ظاهر الدليل هذا ، مضافا إلى أنّه سيأتي أنّهم سيقولون بأنّ دليل حجيّة الإمارة الّذي ينزل الإمارة منزلة العلم ، يجعل الإمارة بمنزلة القطع الموضوعي ، ولا يجعلها بمنزلة القطع الموضوعي الصفتي ، لأنّ دليل الحجيّة ليس ناظرا إلى حيثيّة الصفة ، بل إلى حيثيّة الكاشفية على ما سوف يأتي.

وهذا أيضا لا يناسب هذا التفسير ، إذ أنّ فرض أخذ القطع صفتيا ، كان معناه : أخذ القطع بملاحظة كاشفيته الذاتية من دون تقييده

١٨١

بالخارج ، لأنّه يقول : إنّ الإمارة كاشفة كالعلم ، فكل هذا لا ينسجم مع هذا التفسير.

والصحيح في تصوير تقسيم القطع الموضوعي إلى صفتي وطريقي ، هو إبداء بيانين ، أحدهما عرفي ، والآخر دقّي ، والمظنون أنّ الشيخ «قده» حينما طرح هذا التقسيم ، كان مقصوده البيان العرفي الّذي ينسجم مع كل هذه الخصوصيات الّتي ذكرناها.

وتوضيح البيان العرفي هو ، أنّ القطع له خصوصية ذاتية ، وهي الكاشفية عن الخارج ، وله خصوصية عرفية طارئة ، من قبيل ، راحة النّفس ، وهدوء البال ، فإنّ اليقين يسبغ حالة من الاستقرار ، بينما الشك يسبغ حالة من القلق.

وحينئذ : تارة يكون موضوع الحكم هو ، القطع بلحاظ كاشفيته الّتي هي قوام حقيقته ، وهذا هو معنى القطع الموضوعي الطريقي ، لأنّه لوحظت هنا كاشفيته الذاتية المحفوظة له في مرتبة ذاته.

وتارة أخرى ، يفرض أنّ القطع يؤخذ في موضوع الحكم بلحاظ الخصائص النفسية المترتبة عليه بما هو موجب لسكون النّفس ، وهذا هو القطع المأخوذ على وجه الصفتية ، وحينئذ ينسجم مع جميع الخصوصيات الّتي فرّعت.

وحينئذ : القطع الموضوعي الطريقي ، أو الصفتي ، نقسّمه إلى جزء الموضوع ، وإلى تمام الموضوع ، لأنّ القطع الموضوعي الطريقي لم نقيده بالإصابة للواقع الخارجي ، بل أخذناه بلحاظ كاشفيته الذاتية ، وهي محفوظة سواء كان مصيبا ، أو مخطئا ، إذن ، فتارة تؤخذ هذه الكاشفية الذاتية تمام الموضوع ، وأخرى ، جزؤه ، وكما أنّه يكون ظاهر الدليل هو ، الطريقي لا الصفتي ، لأنّ أخذه على وجه الصفتية معناه : ملاحظة

١٨٢

خصائص عرضية زائدة على ذاتها ، من قبيل سكون النّفس ، وهذه تحتاج ملاحظتها إلى قرينة ، ومع عدمها ، فالأصل عدمها.

كما أنّه تظهر نكتة ، إنّ دليل حجّية الإمارة ـ الّذي يقول إنّ الإمارة علم لا ينزل الإمارة منزلة القطع الصفتي لأنّها علم ، ولا يقول بأنّها تقتضي سكون النّفس ونحو ذلك ، بل غاية ما يقتضيه هذا التنزيل هو ، إقامة الإمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية.

وتوضيح البيان الدقّي ، هو أنّ القطع له نسبتان حرفيتان إلى القاطع ، فإنّ القطع حينما يلحظ يكون التعبير

عنه بحرفين في لغة العرب ، وكلّ من الحرفين يدلّ على نسبة ، وكل نسبة مغايرة للأخرى.

فتارة نقول : «القطع في هذا القاطع» ، فنعبّر عن النسبة بالطرفية والمحلية ، باعتبار أنّ القاطع ، أي النّفس هي محل القطع على حدّ محلية الجسم للبياض مثلا ، فكما نقول : «البياض في الجسم» ، نقول : «العلم في الذهن» ، أو النّفس فهذه نسبة المحلية.

وهناك نسبة أخرى نعبّر عنها «باللّام» ، فنقول : «العلم للإنسان» ، فنلحظ العلم لا بما هو حال في الإنسان ، بل بما هو مرآة للإنسان ، إذ من الواضح أنّ التعبير الأول هو عن مجرد وجود علم ، ومجرد وجود علم حال في شيء ، لا يعني انّ هذا الشيء «عالم» ، بل قد يكون العالم غيره ، وإلّا بقطع النظر عن البرهان على ذلك ، فمجرد كون العلم في الشيء ، لا يساوق منطقيا أن يكون ذاك الشيء هو «العالم» بهذا العلم ، إذ قد يكون العالم به شخص آخر ، فكونه ظرفه ومحلّه ، غير كونه عالم به ، فهذا لا بدّ في إبطاله من برهان.

إذن : ففي عالم التصوّر ، هناك نسبتان متغايرتان ، أحدهما نسبة «في» المعبرة عن المحليّة والظرفيّة ، والأخرى ، نسبة «اللّام» المعبرة عن

١٨٣

انّ هذا المحل هو الّذي له هذا العلم ، فإذا ثبت أنّهما نسبتان متغايرتان لحاظا ـ وإن كنّا نقيم برهانا فلسفيا على استلزام إحداهما للأخرى ـ إلّا أنّ هذا لا ينافي مغايرتهما مفهوما.

وحينئذ يقال : بأنّ العلم تارة يؤخذ في موضوع الحكم مضافا إلى صاحبه بإضافة «في» بما هو علم في هذا الإنسان ، وأخرى يؤخذ مضافا بإضافة «اللّام» بما هو علم لهذا الإنسان ، والأول عبارة عن الصفتي ، والثاني يعبّر عنه بالطريقي.

وكل الخصائص الّتي ذكروها سابقا تنطبق على هذا التفسير ، غايته ، انّ هذا التفسير ليس عرفيا ، بمعنى أنّه حينما يكون العلم منسوبا بحرف «في» فقط لا يكون أمرا عرفيا ولا يقع في الأدلة الشرعية أو العرفية.

وهذا بخلاف أخذ العلم مع ضمّ آثاره النفسية كما في الأول ، فإنّ هذا أمر عرفي قد يؤخذ العلم فيه مع آثاره بنفسه موضوعا للحكم.

ومن مجموع ما ذكرنا يظهر حال إشكال آخر ذكره الميرزا «قده» (١) ، حيث أورد على ما قيل ـ من أنّ القطع المأخوذ في الموضوع سواء كان صفتيا أو طريقيا ، وأنّه تارة يكون جزء الموضوع وأخرى تمام الموضوع ـ أورد على ذلك ، بأنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، إن كان صفتيا ، فالأمر كما ذكر ، فإنّه يعقل أن يكون جزء الموضوع ، كما يعقل أن يكون تمام الموضوع ، لكن إذا أخذ القطع الموضوعي طريقيا ، فإنّه حينئذ لا يعقل أن يكون تمام الموضوع ، بل يجب أن يكون جزئه ، ويكون الجزء الآخر هو المقطوع ، لأنّ معنى أخذه بما هو طريق وكاشف ، يعني أنّ هناك نظر إلى المنكشف ، ومعنى أخذه تمام الموضوع ، يعني أنّه لا دخل للمنكشف ، وهذا تهافت.

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٥ ـ ٦ ـ ٧.

١٨٤

وهذا الإشكال قد ظهر حاله بما ذكرنا في تصوير القطع الموضوعي الطريقي ، فإنّنا إذا تصورنا القطع الموضوعي الطريقي بالبيان الثاني للآخوند «قده» وهو كون القطع ملحوظا مضافا إلى معلومه بالعرض ، أي بتقييد القطع بالمعلوم بالعرض على أحد الاحتمالين في كلامه حينما ناقشناه سابقا فيقال : إنّ معنى القطع الموضوعي الطريقي ، هو أنّ القطع يلحظ مضافا إلى معلومه بالعرض ومقيدا بهذه الإرادة ، إذا كان هذا معناه ، حينئذ ، يرد إشكال الميرزا «قده» ، لأنّه إذا أخذ مقيدا بإضافته إلى المعلوم بالعرض فمن الواضح انّ هذه الإضافة إلى المعلوم بالعرض ، لا تكون إلّا حيث يكون المعلوم بالعرض في الخارج كما تقدّم ، وهذا معنى أنّ المعلوم قيد في الحكم ، حينئذ لا يعقل أن يكون القطع تمام الموضوع ، وأمّا إذا قلنا بأنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، مأخوذ بلحاظ كاشفيته الذاتية وإضافته إلى المعلوم بالذات ، لا إلى المعلوم بالعرض ، وأنّ القطع الصفتي عبارة عمّا لوحظت فيه الآثار والمعلولات النفسيّة ، فحينئذ ، لا يرد إشكال الميرزا «قده» ، لأنّ القطع الملحوظ باعتبار كاشفيته الذاتية هو أمر محفوظ على كلّ حال ، سواء كان له مطابق في الخارج أم لا ، ومعه ، فلا محذور في أن يكون القطع تمام الموضوع حينئذ ، أي حين كون حيثيّة الكاشفيّة الذاتية للقطع هي الملحوظة.

وأمّا دعوى التهافت من الميرزا «قده» حيث قال : بأنّ أخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقية معناه : لحاظ الواقع المقطوع وأخذه ، وكونه تمام الموضوع معناه : عدم لحاظ تمام الواقع المقطوع ، وهذا تهافت.

وحلّه هو أن يقال : بأنّ أخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقيّة ، إن أردتم بذلك ، يعني أخذه في الموضوع عناية واستطراقا ومجرد معرّف إلى ما هو المأخوذ ـ وهو الواقع ـ من دون أخذه حقيقة ،

١٨٥

فهذا نسميه بالمعرفيّة ، وهذا معناه : أنّ المأخوذ هو الواقع ، أولا لا القطع ، وهذا خلف الطريقيّة الّتي نقصدها.

وإن أردتم من أخذه في الموضوع على وجه الطريقيّة ، يعني : كون كاشفيته دخيلة في موضوع الحكم ، فهذا صحيح ، ولكن يمكن أن يكون للكاشفية تمام الدخل أو بعضه ، ولا يلزم من دخالتها أن يكون المنكشف أيضا دخيلا ، فإنّ الكاشفية شيء ، والمنكشفة شيء آخر ، والمقصود هو الأول لا الثاني ، ومعه لا تهافت كما عرفت.

والخلاصة : هي أنّه اتضح بما تقدّم ، صحة تقسيم القطع الموضوعي إلى أقسام أربعة ، كما أفاده المحقّق الخراساني «قده» (١).

نعم القسم الآخر الّذي أضافه المحقّق الخراساني «قده» إلى القطع المأخوذ على نحو الصفتية ، وهو القطع المأخوذ بما هو صفة للمقطوع به ، حيث قسّمه إلى ما يكون على نحو جزء الموضوع ، أو تمامه ، هذا القسم غير تام.

لأنّه إن أراد من المقطوع به ، المعلوم بالذات ، فليس هذا قسما آخر للقطع الصفتي في قبال ما سبق ، إذ أنّ القطع المأخوذ بنحو الصفتية للقاطع ، تكون خصوصية المعلوم أيضا مأخوذة فيه ، وإلّا لزم ثبوت الحكم عند القطع بأيّ شيء من الأشياء ، إذ إضافة العلم إلى معلوم معيّن كإضافته إلى العالم ، مأخوذ في موضوع الحكم عليه ، وإلّا لزم أن يكون كل قطع ومن أيّ قاطع ، محقّقا لموضوع الحكم في حقّ غير القاطع أيضا.

وإن أراد من المقطوع به ، المعلوم بالعرض ، فقد عرفت أنّه هو

__________________

(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ١٨ ـ ٢٠.

١٨٦

الكاشفية بالمعنى المجازي ، وقد ذكر سابقا أنّ مفهوم القطع ليس مساوقا معه ، هذا فضلا عن أنّه حينئذ لا يصحّ تقسيمه إلى ما يكون تمام الموضوع ، وإلى ما يكون جزء الموضوع ، ذلك لأنّ هذه الإضافة المجازية مساوقة مع الإصابة ولزوم وجود الواقع ، وحينئذ ، فلا يكون الحكم ثابتا من دونه.

وعلى ضوء ما تقدّم ، تعرف أنّه يعقل أخذ القطع في موضوع حكم شرعي ، بأحد وجوه خمسة.

الوجه الأول : هو أخذه بما هو تمام الموضوع.

الوجه الثاني : هو أخذه بما هو صفة ، جزء الموضوع.

الوجه الثالث : هو أخذه بما هو انكشاف بالذات تمام الموضوع.

الوجه الرابع : هو أخذه بما هو انكشاف بالذات ، جزء الموضوع.

الوجه الخامس : هو أخذه بما هو انكشاف للواقع بالعرض والمجاز.

وهو يساوق كونه جزء الموضوع. وقد تبيّن أيضا ، إنّ ظاهر أخذه بنحو الكاشفية ، هو أخذه بما هو انكشاف بالذات لا بالعرض والمجاز ، هذا تمام الكلام في الجهة الأولى في التصوير الرباعي للقطع الموضوعي.

٢ ـ الجهة الثانية : في قيام الإمارات والأصول مقام القطع الطريقي :

ومعنى تنزيلها وقيامها مقام القطع الطريقي إثباتا ، يعني أنّه بلحاظ دليل حجيّتها يترتب عليها آثار القطع الطريقي من المنجزيّة والمعذريّة ، كما ذهب إليه الشّيخ «قده» في رسائله (١) ، والآخوند «قده» (٢) في

__________________

(١) فرائد الأصول : الأنصاري ، ص ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) درر الفوائد : الخراساني ، ص ٧ ـ ٨.

١٨٧

كفايته (١) ، وكأنّهم فرغوا من قيام الإمارة مقامه ، لأنّ هذا هو المتيقن من دليل حجيّتها ، إذ لو لم تقم مقامه لما كان هناك معنى لجعل الحجيّة لها ، فالقدر المتيقن من دليل جعل الحجيّة هي كونها تقوم مقام القطع الطريقي ، وإلّا فلا معنى لجعل الحجيّة لها.

لكن أثير بعد شيخ الرّسائل والكفاية «قده» إشكال ثبوتي حول قيام الإمارة مقام القطع الطريقي ، وهذا الإشكال مبني على تصورات المشهور القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث يقال :

انّه يحسن العقاب مع العلم بالبيان بمقتضى قاعدة حجيّة القطع ، ويقبح العقاب بلا بيان بمقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

حينئذ : مبنيا على هذا التصور قالوا : إذا كان العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان وعلم ، وحينئذ ، إن فرض أنّه حصل علم وجداني ، فهذا يرفع القبح موضوعا ، وأمّا إذا فرض قيام إمارة معتبرة على الحرمة ، وكانت الإمارة ظنّية أو احتمالية لا قطعيّة ، فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا علم موجودة ، وهو ، «اللّاعلم» ، ودليل الحجيّة لا يمكن أن يخصّص قاعدة قبح العقاب ، لأنّها عقلية ، إذن فكيف يعقل ، بجعل الحجيّة للإمارة ، أن تكون هذه الإمارة مصححة للعقاب ، ومنجزة له على الواقع المشكوك غير المعلوم ، مع أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب تام في المقام؟.

فإن قيل : بأنّ دليل الحجيّة ينجز بالإمارة الواقع المشكوك ، بمعنى : أنّه يصحح العقاب على الواقع المشكوك.

فجوابه : هو أنّ هذا على خلاف قانون قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

__________________

(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ٢٠.

١٨٨

وإذا فرض وادّعي أنّ دليل الحجيّة لا يصحح العقاب على التكليف الواقعي المشكوك ، بل هو ينشئ تكليفا ظاهريا ويصحح العقاب عليه ، وهذا التكليف الظاهري معلوم لا مشكوك.

أو فقل : إن فرض أنّ دليل الحجيّة أنشأ تكليفا ظاهريا ونجّزه ، بحيث يصحّ العقاب عليه ، لأنّه يصبح معلوما ، فإنّه يرد عليه.

أولا : إنّ هذا التكليف الظاهري لا عقاب له ، ولا تنجيز مستقل له عن التكليف الواقعي المشكوك ، لأنّه إن كان خطابا طريقيا ، إذن فهو ليس تكليفا وحكما حقيقيا واحدا لمبادئ وملاكات الحكم الحقيقي في نفسه ، وما هو موضوع التنجيز واستحقاق العقاب ، إنّما هو الحكم الحقيقي لا الطريقي.

وإن كان حكما حقيقيا ، فهذا التزام بالسببية وتحول الحكم من الواقعي إلى الظاهري ، ببعض مراتب التحوّل ، والمفروض بطلان السببية كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وثانيا : إنّ هذا على فرض تسليمه ، ليس معناه تنزيل الإمارة منزلة القطع الطريقي المنجز للحكم الواقعي ، بل الإمارة أحدثت حكما آخر ، وهذا الحكم الآخر قطعنا به بقطع طريقي وهذا خلف التنزيل.

وإن شئت قلت : إنّ هذا ليس معناه التنزيل ، وإنّما هو تنجيز بملاك حكم آخر ، هو الحكم الظاهري الواصل إلى المكلّف بالعلم الوجداني ، وهذا خلف التنزيل.

والخلاصة : أنّه لا إشكال في قيام الإمارات مقام القطع الطريقي إثباتا لكن هناك إشكال ثبوتي فيه ، حيث يقال : بأنّ هذا التنزيل للإمارة مستحيل ، لأنّ الإمارة إذا قامت مقام القطع الطريقي ، فإن نجّزت الواقع مع أنّه لا يزال مشكوكا ، فيكون هذا على خلاف قانون قاعدة قبح

١٨٩

العقاب بلا بيان ، وإن أنشأت بنفسها حكما ظاهريا ونجّزته ، فهو خلاف ما سيأتي من عدم منجّزية الأحكام الظاهرية مستقلا ، بل هو خلف التنزيل.

وهذه الشبهة مع شبهة ابن قبّة صارتا محورا وأساسا لأكثر المطالب الّتي ذكرت فيما بعد ، كما أنّها حرّكت علماء الأصول والفكر الأصولي ، ففرّعوا عليها كل ما هو جديد في مسألة حجيّة الإمارة والقطع والأحكام الظاهرية ، يلتمسون بذلك تخريجات وتفسيرات لحقيقة الحكم الظاهري وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي.

والصحيح : هو انّ هذه الشبهة ، لا أساس لها على مبنانا ، وإنّما هي شبهة تامة بناء على مسلك القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وذلك لأنّه بعد إنكارنا لهذه القاعدة ، والبناء على مسلك حق الطاعة للمولى في موارد الشك والجهل بالواقع ، تصبح الإمارة منجزة ، وتصبح هذه الشبهة بلا موضوع ، لأنّ مقتضى الأصل أن يصبح التكليف المولوي منجزا إذا وصل إلى المكلّف بأيّ درجة من درجات الوصول ، سواء كان مقطوعا ، أو موهوما ، فتكون الإمارة منجزة لكونها مؤكدة وموجبة لإلزام المكلّف اتجاه مولاه بما دلّت عليه.

إذن : كل تكليف غير مقطوع العدم هو منجز ، ونحتاج لرفع اليد عن تنجزه إلى القطع بإذن الشارع.

وبناء على هذا ، فلا موضوع لتلك الشبهة ، لأنّ الإمارة ، إمّا أن يفرض أنّها تنجّز التكليف المشكوك ، وذلك بأن تثبت وجوبا أو حرمة ، وإمّا أن يفرض أنّها معذرة ، بمعنى أنّها تثبت الرخصة.

والقسم الأول ، هو مورد الشبهة ، حيث يقال : كيف تنجز الواقع المشكوك مع أنّه يقبح العقاب بلا بيان؟.

فنقول : إن تنجز الواقع على القاعدة ، والإمارة ليست إلّا مؤكدة

١٩٠

لهذا التنجيز كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فتنجز الواقع المشكوك في مورد الإمارة المثبتة للتكليف ، ليس على خلاف قانون عقلي ، بل على طبقه ، هذا بالنسبة للأمارات المثبتة للتكليف.

وأمّا الإمارات المرخصة والمؤمّنة ، فهي أيضا ليست على خلاف قانون عقلي ، لأنّ القانون العقلي هو قانون المولوية وحق الطاعة ، وهو يقتضي أن يكون للمولى حق الطاعة في كل ما نحتمله من التكاليف ما لم يقطع بإذنه ، بالإقدام ، أو الإحجام ، ومع القطع بإذنه نكون قد جرينا على طبق قانون المولوية والعبودية.

ومن الواضح أنّ الإمارة المرخّصة تكون إذنا قطعيا في الإقدام ، غايته ، أنّه إذن ظاهري قطعي ، لأنّ المفروض أنّ الشارع أمرنا باتباع الإمارة ، فإذا قامت الإمارة على الرخصة وقد قطعنا بأنّها مرخّصة ، فيكون جرينا حينئذ على طبقها ، جريا على طبق قانون العبودية ، ويكون المكلّف قاطعا بالإذن الظاهري كما مرّ ، فيكون معذورا في جريه على طبقها.

وعليه فلا شبهة من حيث المنافاة مع القانون العقلي ، حيث انّ هذا التنجيز والتعذير للإمارة كان إثباته بحكم العقل.

نعم يبقى الإشكال في كيفيّة تعقل صحة الإذن المذكور المعبّر عنه بالحكم الظاهري ، واجتماعه مع الحكم الواقعي ، بنحو لا يلزم منه التضاد أو محذور آخر.

وهذه هي الشبهة الأخرى الّتي أثارها «ابن قبّة» كما سيأتي بيانها وحلّها.

نعم ينفتح باب هذه الشبهة على مسلك المشهور القائلين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث يقال هناك : كيف يصحح العقاب على الواقع المشكوك لمجرد قيام الإمارة عليه ، مع أنّه يقبح العقاب بلا بيان؟

١٩١

وقد يجاب على هذه الشبهة بجواب من خلال تقريبين مبنيّين على تصورات مدرسة المحقّق النائيني «قده».

١ ـ التقريب الأول : هو أن يقال (١) : انّ البيان الّذي أخذ عدمه موضوعا في قاعدة ، «قبح العقاب بلا بيان» ، صار موجودا بقيام الإمارة ، وذلك بتقريب أنّ دليل الحجيّة قد جعل الإمارة علما وبيانا بناء على مسلك الطريقية في باب جعل الحجيّة ، فكأنّ المولى قال : «خبر الثقة علم» ، وحينئذ يكون بيانا ، وحينئذ يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهذا المدّعى تارة يبين بلسان الحكومة ، بمعنى أنّ دليل الحجيّة ينزل الظن الخبري منزلة العلم ، فيكون حاكما على دليل «قبح العقاب بلا بيان» ، من قبيل حاكميّة قولهم عليهم‌السلام «الطواف بالبيت صلاة» على دليل ، «لا صلاة إلّا بطهور».

وهذا التقريب غير معقول : لأنّ هذا التنزيل والحكومة إنّما يصحّ من الشارع فيما إذا كان الأثر المنزّل عليه شرعيا وتحت يد الشارع التصرف فيه توسعة وتضييقا ، كما هو الحال في قولهم عليهم‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» ، فإنّ هذه الشرطية شرعية وبيد الشارع ، فإنّه بيده الوضع ، فبيده الرفع ، وهذا لا يعقل في المقام.

وذلك لأنّ قبح العقاب بلا بيان ، وصحة العقاب مع البيان إنّما هو من أحكام العقل العملي ، وليست آثارا شرعية كي يصحّ الحكم عليها من قبل الشارع ، فإنّ الشارع إذا نزّل شيئا منزلة حكم العقل ، فإنّ هذا لا يوجب توسعة في حكم العقل ، لأنّ حكم العقل تابع لموضوعه الواقعي ، إذن ، فدليل الحجيّة بلسان الحكومة والتنزيل من قبل الشارع على

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٩.

١٩٢

الأحكام العقليّة غير معقول ، وإنّما تعقل الحاكمية التنزيليّة على الأحكام الشرعية الأخرى باعتبار أنّ توسعتها وتضييقها بيد الشارع دون الأحكام العقليّة.

إذن : فهذا التقريب لا يعالج مشكلة مناقضة جعل الإمارة مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

٢ ـ التقريب الثاني : هو أن يبيّن مدّعى مدرسة المحقّق النائيني «قده» (١) بلسان الورود ، بدعوى أنّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وصحته مع البيان ، إنّما هو البيان بالمعنى الأعم ، من العلم الوجداني والتعبّدي ، الظاهري ، أو الواقعي ، فالمولى باعتباره للإمارة علما ، يوجد فردا حقيقيّا في موضوع القاعدة ، فيكون هذا ورودا حينئذ.

وهذا التقريب ، وإن كان أحسن من سابقه ، ولكن على كلّ حال ، سواء قرّب هذا المطلب ، بالتقريب الأول ، أو الثاني ، فلا إشكال في أنّه لا يمسّ روح الإشكال ، بمعنى أنّه ليس هذا هو نكتة الجواب عن الشبهة ، إذ ليس النكتة في أنّ المجعول هو الطريقيّة والعلمية ، لأنّنا بحاجة لدفع هذه الشبهة في غير ما يكون المجعول فيه هو العلميّة والطريقيّة ، كما في الأصول العمليّة الشرعيّة غير التنزيليّة مثلا ، إذ لا إشكال في أنّ أصالة الاحتياط تنجز الواقع المشكوك ، ولم يقع خلاف بين علمائنا الأصوليّين ، والاخباريّين في أنّ وجوب الاحتياط لو ثبت في مورد من الشارع ، لكان منجزا ومقدّما على البراءة العقليّة أيضا ، وإنّما الخلاف في أنّه ما هي تلك النكتة الثبوتيّة في نفس جعل الحكم الظاهري المجعول لرفع التناقض ، حتّى لو لم يكن الجعل بلسان جعل الطريقية

__________________

(١) المصدر السابق.

١٩٣

والعلميّة هذا ، مع العلم أنّ دليل وجوب الاحتياط ليس مفاده جعل العلمية والطريقيّة ، وإنّما هو حكم ظاهري لوجوب التحفظ ، ومع هذا ينجز الواقع المشكوك ، ويقدم على البراءة العقليّة ، فإنّ الواقع ليس معلوما لا وجدانا ولا تنزيلا ولا اعتبارا ، ومع ذلك يتنجز فيه الاحتياط.

وهذا يكشف عن أنّ روح ملاك دفع الشبهة ليس هو جعل الطريقية والعلمية.

وإذا عرفت ملاك دفع الشبهة في مورد أصالة الاحتياط ، يتبيّن لك حينئذ ، أنّ نكتة دفع الشبهة غير مربوطة بكون الجعل على نحو الطريقيّة والعلمية والحكومة أو الورود ، بل هي مربوطة بشيء آخر ، وبوجود ذلك الشيء الآخر ، سوف تندفع الشبهة المذكورة ، سواء كان لسان دليل الحجيّة جعل الطريقية أو الأمر بالاحتياط ، وإن كان ذاك الشيء الآخر غير موجود ، فلا ينفع في دفع الشبهة مسألة جعل الطريقيّة.

فالصحيح في العلاج هو أن يقال : انّه لو تنزلنا عن إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان وسلّمنا بها ، فلا بدّ وأن لا نسلّم بها على إطلاقها ، بل نلتزم بأنّها مخصوصة ببعض الموارد ـ كما في مورد الحكم المشكوك ـ دون بعض.

وتوضيحه : هو أنّ التكاليف الواقعيّة المشكوكة على قسمين.

١ ـ القسم الأول : تكليف مشكوك لا يعلم بثبوته ، ولكن يعلم أنّه لو كان ثابتا فهو في غاية الأهمية ولا يرضى المولى بتفويته ، من قبيل أن يفرض انّ هذا المكلّف لا يعلم أنّ المولى في حالة غرق ، فأصل التكليف بالإنقاذ موجود ، وهو تكليف شديد الأهمية جدا ، بحيث أنّ المولى لا يرضى بتفويته.

ففي هذا القسم يوجد شكّ ، وعلم ، فالشكّ في القضية الفعلية ،

١٩٤

وأنّه هل هناك خطاب أنقذ المولى أم لا؟ وعلم بقضية شرطية ، وهي ، أنّه لو كان يوجد خطاب أنقذ ، وكان المولى يغرق ، إذن ، فهذا الخطاب في غاية الأهمية حتّى عن الشاكّ.

٢ ـ القسم الثاني : من التكاليف المشكوكة ، ما كان فيه شكّان ، شكّ في الخطاب الفعلي ، وشكّ حتّى في القضية الشرطية ، من قبيل أن يشكّ في أنّه هل هناك نفس محترمة تغرق أم لا؟ وعلى فرض وجودها ، هو يشكّ في أنّ اهتمام المولى بذلك ، هل هو بنحو لا يرضى المولى بتفويته حتّى في الشاكّ أم لا؟

فالشكّ في القسم الأول ، موجود في الثاني ، والمعلوم في الأول ، مشكوك في الثاني.

وحينئذ ، لو بنينا على أنّ قاعدة القبح ثابتة ، فعلى الأقل تكون ثابتة في القسم الثاني دون الأول.

ودعوى جريانها في الأول خلاف البداهة ، فإنّها لا تجري في أحكام الموالي العرفية ، كما في مثالنا ، فضلا عن أحكام المولى الحقيقي ، والإمارة الّتي تدلّ على التكليف ببركة دليل حجيّتها ، تخرج هذا التكليف المشكوك من القسم الثاني ، وتدخله في الأول ، فتوجب علما بأنّ هذا التكليف المشكوك على تقدير ثبوته فهو ممّا لا يرضى المولى بتفويته حتّى في الشاكّ ، فتوجب العلم بالقضية الشرطيّة ، لا القضية الفعلية ، فهذا يخرج عن موضوع قاعدة القبح.

وأمّا إخراج دليل الحجيّة ، التكليف المشكوك ، عن الثاني ، وإدخاله في الأول ، بمعنى ، أنّه كيف يوجد علما بالقضية الشرطيّة؟ ، فهذا له بيانان.

١ ـ البيان الأول : هو أن يقال : انّه ذكرنا انّه بناء على التمسك

١٩٥

بقاعدة القبح ، حينئذ ، يتوقف رفع الشبهة على أن ندعي تخصيصا في هذه القاعدة ، وأنّها لا تشمل موارد العلم بالقضية الشرطية.

وحينئذ الإمارة وأيّ خطاب ظاهري في باب الإمارات والأصول ، وإن كان لا يوجب زوال الشكّ في التكليف الواقعي ، ولكن يوجب زوال الشكّ في القضية الشرطية ، ويبدله إلى العلم بها.

وبهذا يكون واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا كيفيّة كون الحكم الظاهري موجبا للعلم بالقضية الشرطية ، فقد يقرّب ببرهان الإن ، بأن يقال : انّ الخطاب الظاهري الإلزامي يكشف عن اهتمام الشارع بالحكم الواقعي المشكوك ، بحيث لا يرضى بتفويته ، على فرض وجوده حتّى من الشاكّ ، فيكشف عن هذه المرتبة من الاهتمام ، من باب كشف المعلول عن العلّة ، لأنّه هو معلول لهذا الاهتمام فيكشف عنه لا محالة.

إلّا أنّ هذا البيان غير تام : وذلك لأنّ هذا الكشف الإنّي دوري ، لأنّ كشف الخطاب الظاهري عن تلك المرتبة من الاهتمام بالكشف الإنّي هو فرع أن يكون معلولا لتلك المرتبة ، لأنّ الكشف الإنّي ينشأ من المعلول لا غيره ، وكونه معلولا لتلك المرتبة من الاهتمام فرع أن يكون كاشفا ، إذ لو لم يكن كاشفا لم ينشأ من الاهتمام حينئذ ، فإنّ تلك المرتبة من الاهتمام إنّما تكون علّة للخطاب الظاهري الّذي ينجز الواقع ، وهذا الخطاب لا ينجز الواقع إلّا إذا كان كاشفا عن هذه المرتبة ، إذن ، فمعلوليته فرع كاشفيته ، وكاشفيته تكون فرع معلوليته إذن ، والصحيح في تقريب هذه الكاشفية أن يقال : انّ هذه الكاشفية من باب الأدلة اللفظية للحجيّة ، فهذه الكاشفية كاشفية عرفية ، فإنّ قوله عليه‌السلام «صدّق العادل» ، أو قوله : «أخوك دينك فاحتط لدينك» ، له مدلول تصديقي عرفي واضح ، وهذا المدلول التصديقي الواضح هو ، «إنّي» يهتم بالواقعيات المشكوكة ،

١٩٦

وحينئذ ، فكاشفية الخطاب الظاهري المتكفل للحجيّة ـ بألسنتها المختلفة ـ عن تلك المرتبة من الاهتمام ، إذن فهذه ليست كاشفية «إنّيّة» ، من باب كشف المعلول عن العلّة ، بل كشف عرفي تصديقي.

٢ ـ البيان الثاني : هو أن يقال : انّه في الأدلة اللبية للحجيّة ، من قبيل الحجيّة الثابتة بالسيرة العقلائية فالأمر فيها أوضح ، فإنّ روح السيرة العقلائية هذه عبارة أخرى ، عن أنّ المولى العقلائي لا يرضى بتفويت أغراضه الواقعية المشكوكة والّتي على طبقها خبر الثقة ، فإذا قطعنا بالإمضاء ، كان معناه القطع بأنّ الشارع كالمولى العقلائي من حيث الاهتمام بأغراضه الواقعية ، وعدم رضاه بتفويتها من قبل الشاكّ مع وجود خبر ثقة عليها.

وبما بيّناه ، اتضح أنّ جوهر الموقف من دفع الشبهة ، إنّما هو بمقدار ما يبرزه ذلك الخطاب الظاهري من تلك المرتبة من الاهتمام ، بحيث أنّه أوجد علما بالقضية الشرطية ، إذن ، فهو ينجز الواقع المشكوك ، لأنّه يخرج المورد عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان مهما كان لسانه الإنشائي ، سواء كان لسان الأمر ، «كصدق العادل» ، أو لسان تنزيل شيء آخر بمنزلة الواقع كما في قوله عليه‌السلام ، «ما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان» ، أو كان لسانه لسان إلغاء الشكّ ، وجعل الطريقية ، كما لو قال المعصوم : «لا ينبغي التشكيك فيما يروي عنا ثقاتنا» ، أو لسان جعل التنجيز ، أو أيّ لسان آخر ، فهذه كلّها تغني في مقام التعبير وليس لأحدها دخل في روح المطلب ، بل روحه الّذي به يتنجز الواقع إنّما هو ؛ بمقدار ما أبرزه هذا الخطاب من تلك المرتبة ، وما أوجده من علم وجداني بالاهتمام.

أمّا سنخ المجعول فلا دخل له ، فإن كشفت تلك المرتبة من الاهتمام بالإمارة ، فهذا المكشوف منجز ، وإلّا ، فالإشكال وارد على كلّ

١٩٧

حال ، حتّى لو كان لسانه لسان جعل الطريقيّة ، فإنّ مجرد كون لسان علما ، لا يغير من واقع قاعدة قبح العقاب بلا بيان شيئا ، ولهذا قلنا أنّه لا بدّ من اكتشاف نكتة ثبوتية في باب الإمارات.

والخلاصة هي أنّه لا إشكال في كون الخطاب الظاهري المنجز دالا على أنّ التكليف المشكوك الّذي يعلم أنّه على تقدير ثبوته ، يعلم أنّ المولى لا يرضى بتفويته ، فهنا ، العقل لا يحكم بقبح العقاب ، بل يحكم بالعقاب على تقدير التفويت ، لأنّ موضوع قاعدة القبح ارتفع هنا لا محالة.

وإنّما الكلام في وجه دلالة الخطاب الظاهري المنجز على عدم جواز تفويت الحكم الشرعي المشكوك على تقدير ثبوته.

وقد قربت هذه الدلالة تارة بطريق الإن ، وذلك بأن يدّعى ، بأنّ دليل الحكم الظاهري الإلزامي يكشف عن اهتمام الشارع بالحكم الواقعي المشكوك ، فيكون الحكم الظاهر معلولا لهذه المرتبة من الاهتمام.

إلّا أنّ هذا غير تام ، بحسب الفرض حيث لا يعقل دفع محذور التضاد به إلّا بعد افتراض كون الحكم الظاهري ناشئا عن ملاك التحفظ على الواقع والاهتمام به ، فيعلم حينئذ ، من ذلك ، الحكم الواقعي المشكوك ، على تقدير وجوده في مورد الحكم الظاهر ، وحينئذ يرتفع بالعلم بهذه القضية الشرطية موضوع قاعدة القبح.

ولكن هذا الكشف الإنّي دوري ، لأنّ كون الخطاب الظاهري معلول لتلك المرتبة من الاهتمام ، فرع أن يكون كاشفا ، لأنّ تلك المرتبة من الاهتمام ، إنّما تكون علّة للخطاب الّذي ينجز الواقع ، وهذا الخطاب لا ينجز الواقع إلّا إذا كان كاشفا عن هذه المرتبة ، فمعلوليته فرع كاشفيته ، وكاشفيته تكون فرع معلوليته ، إذن فمجرد كون لسان ، لسان

١٩٨

جعل الطريقيّة ، وكونه علما لا يغير من واقع قاعدة قبح العقاب بلا بيان شيئا ، ولهذا قلنا : إنّه لا بدّ من اكتشاف نكتة ثبوتية في باب الإمارات والأصول تدفع على أساسها المشكلة.

وقد عرفت انّ هذه الكاشفية من باب الأدلة اللفظية للحجيّة ، فهي كاشفية إنّيّة عرفيّة تصديقيّة ، وليست كاشفية إنّية عقليّة ، من باب كشف المعلول عن علّته ، بل كشف عرفي تصديقي.

وكذلك يقال في الأدلة اللبيّة للحجيّة ، فإنّ روحها عبارة أخرى عن عدم رضى المولى بتفويت أغراضه المشكوكة الّتي على طبقها خبر الثقة ، حيث أنّنا إذا قطعنا بالإمضاء كان معناه القطع بأنّ الشارع كالمولى العقلائي يهتم بأغراضه الواقعية ولا يرضى بتفويتها من الشاكّ مع وجود خبر ثقة عليها.

والحاصل هو أنّه : على ضوء ذلك ، يتضح جوهر الموقف من دفع الشبهة ، إذ بمقدار ما يبرزه الخطاب الظاهري من تلك المرتبة من الاهتمام ، يوجد علما بالقضية الشرطية ، وحينئذ ، هو ينجز الواقع المشكوك لأنّه يخرج المورد عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان مهما كان لسانه الإنشائي ، سواء كان لسان الأمر ، أو لسان تنزيل شيء آخر بمنزلة الواقع ، أو كان لسانه ، لسان إلغاء الشكّ وجعل الطريقيّة ، كما لو قال : «لا ينبغي التشكيك فيما يروي عنا ثقاتنا» ، أو لسان جعل التنجيز ، أو أيّ لسان آخر ، فهذه كلّها تفنّنات في مقام التعبير لا دخل لها في روح المطلب ، وإنّما روحه الّذي به يتنجز الواقع إنّما هو بمقدار ما أبرزه هذا الخطاب من مراتب الاهتمام وما أوجده من علم وجداني بالاهتمام.

والحاصل : هو أنّ الخطاب الظاهري ، إنّما يكون موجبا للعلم بالقضية الشرطية عن طريق دلالة عرفية تصديقية ، لا إنّيّة عقليّة ، وذلك بدعوى أنّ المستظهر من أدلة الأحكام الظاهرية اللفظية ، إنّما هو بمقدار

١٩٩

ما تبرزه هذه الخطابات من مراتب اهتمام الشارع بأغراضه وملاكاته الواقعية ، وما توجده من علم وجداني بهذه الأغراض والملاكات وإن اختلفت ألسنتها ، من جعل الطريقية أو المنجزية أو التنزيل أو غير ذلك ، فإنّ ذلك كله ينجز الواقع المشكوك ويخرجه عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهذا هو نفسه ، النكتة العقلائية من وراء جعل الحجيّة العقلائية للأدلة اللبية الّتي ليس فيها خطاب ، عند ما تكون ممضاة من قبل الشارع بخبر على طبقها ، كما في السيرة العقلائية وغيرها ، وإنّما اختلاف ألسنة هذه الخطابات في جميع موارد الحكم المشكوك والسيرة مثلا ، إن هي إلّا تفنّنات في التعبير لا دخل لها في حلّ المشكلة.

ويظهر من بعض كلمات المحقّق العراقي «قده» (١) في بعض الموارد ، محاولة الجواب على هذه الشبهة ، مع الإصرار على التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأحسن ما يقرّب به كلامه هو أن يقال :

إنّ الخطاب الظاهري في موارد الإمارة أو الأصل المعلوم وجدانا ، أمره مردّد ، بين أن يكون مطابقا للواقع ، أو لا يكون مطابقا ، فإن كان مطابقا للواقع ، فهذا الخطاب الظاهري هو نفسه حكم واقعي منجز ، لأنّنا لا نريد بالخطاب الواقعي المنجز عقلا إلّا الخطاب الّذي وراءه مبادئ حقيقية وملاكات.

وإن كانت الإمارة غير مطابقة للواقع بل كانت خطابا ظاهريا فارغا ، إذن هذا الخطاب ليس وراءه شيء من الملاكات والمبادئ ، وحينئذ ، يكون هذا حكما صوريا لا واقعيا ، وبما انّ أصل هذا الخطاب الظاهري معلوم لنا وجدانا ، حينئذ ، إذا ضممنا هذين الأمرين ، وهو إنّا

__________________

(١) مقالات الأصول : العراقي ، ج ٢ ، ص ١٨.

٢٠٠