بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

القسم الأول

مبحث القطع

وقد بحث فيه ، أولا : عن أصوليّة هذه المسألة ، وهذا البحث موكول إلى ما تقدّم حيث ذكرنا في محله الميزان في أصولية المسألة ، ومن الواضح أنّ ذلك الميزان لا ينطبق على القطع ، وعليه : فيقع الكلام الآن في حجيّة القطع ، والكلام في ذلك يقع في جهات.

٤١
٤٢

الجهة الأولى :

في أصل حجيّة القطع

وتوضيح الكلام فيها هو ، أنّ الحجيّة لها معان ثلاثة.

١ ـ المعنى الأول : الحجية المنطقية ، ويقصد بها البحث عن مدى إصابة القطع وحقّانيته ، وهنا يبحث كليا عن مناشئ القطع ، حيث انّه قد ينشأ عن الإحساس والتجربة أو البرهان وغير ذلك ، فيبحث حينئذ عن أنّه من أيّ منشأ يكون مضمون الإصابة أكثر ، وهذا كما عرفت بحث منطقي يسمي بنظرية المعرفة بحثناه في كتاب فلسفتنا وهو خارج عن غرض الأصولي وإن كان سيقع الكلام فيه استطراقا عند مناقشة بعض علمائنا المحدّثين في علم الأصول ، وكان هذا البحث يبحث قديما تحت عنوان صناعة البرهان في المنطق ، وأمّا حديثا فيبحث تحت عنوان نظرية المعرفة.

ب ـ المعنى الثاني : الحجيّة التكوينية ، ويقصد بها محركيّة القطع للقاطع نحو المقطوع بالنحو المناسب لغرضه ، فالعطشان مثلا إذا قطع بوجود ماء في مكان ، فإنّ قطعه هذا يحركه إلى ذلك المكان ، وهذا المعنى أيضا خارج عن غرض الأصولي.

ج ـ المعنى الثالث : هو الحجيّة الأصوليّة ، والّتي يهتمّ الأصولي

٤٣

بإثباتها ، وهي عبارة عن المعذريّة والمنجزيّة في علاقة العبد مع مولاه في مقام الامتثال ، وهذا المعنى هو المبحوث عنه عند الأصولي.

وقد استدلّ بعض العلماء على حجيّة القطع بهذا المعنى بقاعدة قبح الظلم وحسن العدل ، بتقريب : انّ العبد إذا قطع بتكليف مولوي ، كانت مخالفته لما قطع به ظلم لمولاه ، وإذا فرض أنّه قطع بترخيص ، كان جريه على طبق ما قطع به ، عدل.

وبما أنّ العدل حسن ، والظلم قبيح ، فيجب الجري على طبق القطع ، وبهذا تثبت منجزيّته ومعذريته ، وتكون بذلك حجيّة القطع من صغريات قاعدة حسن العدل ، وقبح الظلم ، وبهذا يكون فاعل الحسن مستحقا للمدح والثواب ، وفاعل القبح مستحقا للذمّ والعقاب ، ومن هنا اختلفت مبانيهم في حجيّة القطع بحسب اختلافهم في مباني هذه المسألة ، فمن جعل منهم قبح الظلم وحسن العدل من الأمور الواقعيّة المدركة عند العقل من قبيل الإمكان ، والامتناع ، كانت حجيّة القطع عنده كذلك أيضا ، ومن ذهب منهم مذهب الفلاسفة ، من أنّ حسن العدل ، وقبح الظلم حكم عقلائي وإنّما حكم به العقلاء حفظا لنظامهم ، كانت حجيّة القطع لديه من القضايا المشهورات كما في مصطلح المناطقة ، وهي القضايا المجعولة من قبل العقلاء.

والتحقيق : هو انّ هذا الاستدلال غير منهجي ، لأنّه إن أريد بهذا الكلام التنبيه للمرتكزات الموجودة في الأذهان وإلفات الخصم إلى استحقاق الثواب والعقاب في الجري على طبق القطع أو مخالفته فلا بأس بذلك.

وأمّا إذا أريد به الاستدلال على المنجزيّة والمعذريّة ، فهذا غير صحيح منهجيا.

٤٤

والوجه في ذلك هو ، انّ قاعدة قبح الظلم أخذ في موضوعها عنوان الظلم الّذي هو عبارة عن سلب ذي الحق حقّه ، وعليه : ففي المرتبة السابقة على تطبيق هذه القاعدة ، لا بدّ من إثبات حقّ للآمر على المأمور ، وهو حق الطاعة والمولوية لكي نفترض مخالفته سلبا لحقّه وإلّا لم يكن ظلما فيما إذا لم نثبت حقا للآمر على المأمور ، وحينئذ ، فإن أريد بنفس تطبيق قاعدة قبح الظلم ، إثبات حق الطاعة والمولويّة ، فهو دور واضح ، لأنّ هذه القاعدة فرع ثبوت حق الطاعة والمولوية كما عرفت.

وإن أريد بهذه القاعدة ، الاستدلال على ما ذكر بعد الفراغ عن ثبوت حق الطاعة والمولويّة ، فهو حشو من الكلام ، لأنّه بعد الفراغ عن حق الطاعة للمولى على العبد ، لا يبقى أيّ داع للاستدلال على وجوب الطاعة ، إذ بعد افتراض وجدانية القطع لدى القاطع لا نحتاج إلى شيء آخر حيث لا يراد بالمنجزية إلّا حقّ الطاعة ولزوم الامتثال ، والمفروض انّنا قطعنا بذلك صغرى وكبرى.

وإن شئت قلت : إنّ الصحيح بحسب منهجية البحث هو أن يقال : إنّه عندنا كبرى ، وهي مولوية هذا المولى ووجوب إطاعته ، وهذه الكبرى قد فرغ عنها في علم الكلام ولا معنى لبحثها هنا ، وعندنا صغرى لهذه الكبرى ، وهي القطع بالتكليف ، وهذا القطع موجود وجدانا ، لأنّ المكلّف حسب الفرض قاطع بتكليف من قبل هذا المولى ، وبعد ضمّ الصغرى إلى الكبرى تثبت المنجزية أو المعذرية كما لو قطع بالترخيص ، ومعه لا يبقى ما يحتاج إلى ضمّه في مقام انتزاع منجزية القطع ومعذريته.

والنتيجة هي إنّنا لا نحتاج إلى توسيط عنوان قبح الظلم ، وجعله دليلا على حجيّة القطع ، بعد أن كان جريان قبح الظلم فرع ثبوت مولوية

٤٥

المولى وحق الطاعة ، اللهمّ إلّا أن يراد بذلك مجرد تنبيه المرتكزات الموجودة في الأذهان وإلفات الخصم إلى استحقاق المثوبة على موافقة القطع ، والعقوبة على مخالفته كما تقدّم ، فلا بأس بذلك حينئذ.

وتفصيل الكلام في ذلك ، هو أنّ مرجع المولويّة إلى حقّ الطاعة ، فإذا كان لشخص على آخر حقّ الطاعة بمرتبة من المراتب ، فيكون مولى له بمرتبة من المراتب ، وهذه المولويّة على ثلاثة أقسام :

١ ـ القسم الأول : المولويّة الذاتية الثابتة في لوح الواقع ، بقطع النظر عن جعل أيّ جاعل ، ويكون حالها حال الملازمة بين العلّة والمعلول ، فكما انّ هذه الملازمة أمر واقعي ثابت في لوح الواقع وإن لم يوجد أيّ معتبر ، كذلك هذه المولويّة الذاتية ، ومثل هذه المولوية مخصوصة بالله سبحانه وتعالى ، فبحكم مالكيّته للكون ومن وما فيه ، يكون له مثل هذه المولويّة الحقيقيّة.

وهذه المولويّة الحقيقيّة ، تفترض المولوية التشريعيّة على ضوء المولويّة التكوينيّة ، فكما أنّ إرادته نافذة في الكون ، كذلك إرادته التشريعيّة نافذة تكوينا ، بمعنى أنّ له حق الطاعة على كل من يريد منه تشريعا شيء من الأشياء.

وهذه المولويّة ثابتة حتّى بقطع النظر عن وجوب شكر المنعم ، الّذي خرّج علماء الكلام على أساسه وجوب معرفة الله تعالى ولزوم طاعته ، لأنّ مسألة شكره شيء ، ومسألة مولويّته الحقيقيّة شيء آخر.

كما انّ هذه المولويّة يستحيل أن تكون مجعولة من قبله سبحانه ، لأنّ معنى ذلك ، أنّه في المرتبة السابقة على جعله لهذه المولويّة لم يكن مولى ، ومعه لا يمكن نفوذ حكمه بمولوية نفسه ، فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه.

٤٦

إذا عرفت ذلك ، وانّ هذه المولوية غير مجعولة أصلا ، وإنّما إدراكها عند العقلاء على حدّ إدراكهم للقضايا الواقعية الأخرى ، حينئذ نقول : إنّ القطع دائما يحقق صغرى هذه المولوية الراجعة إلى حقّ الطاعة ، وذلك بسبب كاشفيّة القطع التكوينيّة ، ومن هنا يتضح ، انّ حجيّة القطع ذاتية غير قابلة للجعل أصلا ، لأنّ حجيته كما عرفت مرجعها إلى كبرى هي المولوية المذكورة ، وهي غير قابلة للجعل كما تقدّم ، وإلى صغرى هي كاشفيّة القطع وهي تكوينيّة ، ولا معنى لجعل كاشفيته التكوينيّة.

وبهذا يتضح أنّ حجيّة القطع في مثل المقام ذاتية.

٢ ـ القسم الثاني : المولويّة المجعولة من قبل المولى الحقيقي ، كمولويّة النّبيّ أو الوليّ عليهم‌السلام على كلّ النّاس ، المجعولة من قبل الله سبحانه ، وكذا مولويّة الأب على الابن على القول بها ونحو ذلك.

ولمّا كانت هذه المولويّة مجعولة ، فيمكن للجاعل أن يجعلها في صورة قطع المولّى عليه بالتكليف ، وفي صورة ظنّه ، أو شكّه ، كما أنّه بالإمكان أن يجعلها في صورة الظن أو الشكّ دون القطع ، ولا لتهافت ، لأنّ هذه المولويّة ليست من لوازم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الوليّ عليه‌السلام أو الأب ، وإنّما هي مجعولة ، والجاعل يمكنه التحكم في ذلك ، فهي تتبع في السعة والضيق مقدار جعلها.

نعم القدر المتيقن عقلائيا من وجوب الإطاعة هو ، صورة القطع ، وعليه فحجيّة القطع في مثل ذلك تكون قابلة للجعل ، فإذا شملته دائرة الجعل يكون حجّة ، وإلّا فلا حجيّة له.

٣ ـ القسم الثالث : المولويّة المجعولة من قبل نفس العبد على نفسه أو العقلاء على أنفسهم ، كما لو جعل شخص لآخر حق الطاعة

٤٧

على نفسه لشخص آخر ، باعتبار ما له من خبرة ومعرفة مثلا ، أو كما في الموالي والسلطات الاجتماعية الوضعية ، فإنّ هذه المولوية أيضا تتبع مقدار الجعل والعقد والاتفاق العقلائي.

ثمّ انّ هذه المولويّة الذاتية الثابتة لله سبحانه والراجعة في حقيقتها إلى حق الطاعة ، هي ثابتة في صورة القطع بالتكليف ، أو الظن ، أو الشك ، أو الوهم إذا قطعنا النظر عن الأصول المؤمّنة ، وعليه فمن شكّ في التكليف يتنجز عليه وجوب امتثاله ، باعتبار انّ هذه المولوية تقتضي عدم جواز التصرف في أيّ شيء يرجع إلى المولى إذا لم يعلم برضاه في ذلك ، وهذا يقتضي منجزيّة الوهم كما هو واضح.

وأمّا ما يذكر من أنّه لا يجب امتثال غير ما قطع بالتكليف به ، لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تقتضي قبح العقاب في صورة الظن غير المعتبر والشك فضلا عن الوهم ، ففيه :

إنّ هذا تضييق لمولويّة المولى ، لأنّ مرجعها إلى انّ هذا المولى ليس له حق الطاعة إلّا في تكليف قطع به ، وهذا على خلاف ما هو الصحيح من معنى المولويّة الذاتية والحقيقيّة الراجعة إلى حق الطاعة.

ومن هنا أنكرنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما ستعرف تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وإلى هنا اتضح أنّ للمشهور طريقا في تصوير حجية القطع ، ولنا طريق آخر في تصويره ، حيث أنّ المشهور اعتمدوا قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بينما نحن أنكرناها في الشّبهات البدوية.

وهذا الاختلاف سوف يترتب عليه كثير من الثمرات في كثير من البحوث الآتية.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو أنّ المشهور فرّقوا بين أمرين ، حيث

٤٨

ميّزوا بين مولويّة المولى ، وبين منجزية أحكامه كما لو كان عندهم أمران متغايران ، أحدهما ، مولويّة المولى الواقعية ، فهي عندهم أمر واقعي مفروغ عنه ولا نزاع فيه لكن لا ربط له بحجيّة القطع ومنجزيته ، والأمر الآخر هو ، منجزية القطع وحجيته ، وهو أمر آخر لا ربط له بمولوية المولى.

وفي مقام بيان منجزية القطع وحجيته ذكروا أنّ التكليف إنّما يتنجز بالوصول والقطع ، ولهذا حكموا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، دون أن يروا انّ هذا تفصيل في مولويّة المولى وحق طاعته.

وقد عرفت سابقا انّ هذا المنهج غير صحيح إذ المنجزية الّتي جعلوها أمرا ثانيا إنّما هي من لوازم أن يكون للمولى حق الطاعة على العبد في مورد التنجيز ، إذ أيّ تبعيض عقلي في المنجزية ، هو تبعيض في المولويّة.

ومن هنا كان لا بدّ من جعل منهج البحث ابتداء ، عن دائرة مولويّة المولى وحق طاعته ، وبيان حدودها ، وذلك ضمن فرضيات :

أ ـ الفرضية الأولى : هي أن تكون مولوية المولى أمرا واقعيا ، موضوعها واقع التكليف ، بقطع النظر عن درجة الانكشاف به.

وهذا فرض واضح البطلان ، لأنّه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزا وتكون مخالفته عصيانا ، وهو خلف معذريّة القطع ، وهو باطل.

ب ـ الفرضية الثانية : هي أن تكون مولوية المولى وحق طاعته في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلّفين.

وهذا هو روح مذهب المشهور ، وهو يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع والوصول ، وموارد الظن والشك.

٤٩

وهذه الفرضية نرى بطلانها أيضا ، لأنّا نرى أنّ مولويّة المولى هي من أكمل مراتب صفاته الذاتية ، ومن ثمّ يكون حقّه في الطاعة على العباد من أكبر الحقوق وأوسعها حيث تشمل كل الموارد ، لأنّه ناشئ من المملوكيّة والعبوديّة الحقيقيّة.

ج ـ الفرضية الثالثة : هي أن تكون مولوية المولى في حدود ما لم يقطع بعدمه.

وهذه المولويّة هي الّتي ندّعيها لمولانا سبحانه ، وهي الّتي على أساسها أنكرنا قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» والّتي اعتمدها المشهور للتبعيض في المولوية.

ولعلّ المشهور قاس مولويّة مولانا سبحانه وتعالى على بعض المولويات العرفية العقلائية الّتي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف.

نعم لو أنّ المشهور قال : بأنّ الشارع أمضى السيرة والطريقة المتعارفة في المولويات الثابتة عند العقلاء وما تقتضيه ، لما كان هناك بأس بذلك ، ويكون مرجع ذلك في الحقيقة عند عدم وصول التكليف ، هو البراءة الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء مولانا سبحانه للسيرة العقلائية.

ومن هنا وعلى هذا الأساس يكون هناك فرقان بين القطع وبين غيره من الظن والشك والوهم.

أ ـ الفرق الأول : هو أنّ القطع حجّة في جانب التنجيز والتعذير بخلاف المراتب الأخرى الّتي لا يكون في مواردها إلّا التنجيز ، لأنّ القطع بالتكليف بشيء يدخله في دائرة حق الطاعة ولا يشمل موارد القطع بالترخيص ، فإنّ القطع بعدمه يخرجه عن هذه الدائرة ، وهذا ليس تبعيضا في مولوية المولى بل هو تخصّص كما سيأتي من استحالة محركيّة مولوية المولى في مورد القطع بالترخيص ومن هنا كان معذرا.

٥٠

أمّا غير القطع ، فهو حجّة في جانب التنجيز دون التعذير ، أمّا الأول فلما عرفت ، وأمّا الثاني ، فلأنّه ما لم يرد دليل شرعي على وجوب العمل على طبقه فلا يكون معذرا.

ب ـ الفرق الثاني : هو أنّ منجزية غير القطع من الظن والاحتمال قابلة للردع عنها شرعا ، وذلك بجعل ترخيص ظاهري على خلافه ، وهذا الحكم الترخيصي يسمّى بالحكم الظّاهري ، وهو مورد شبهة ابن قبة في كيفية الجمع بين الحكم الظّاهري والحكم الواقعي ، فإن أمكن الإجابة عن هذه الشبهة ، يتبرهن حينئذ قابلية غير القطع للردع عن منجزيته ، أمّا منجزية القطع فلا يمكن الردع عن منجزيته.

وهذا هو الّذي وقع موردا للخلاف بين الأصوليين والإخباريين في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة حيث ذهب الأصوليون إلى عدم إمكان الردع عنه ، وذهب الأخباريون إلى إمكان ذلك ، بل ذهب بعضهم إلى وقوعه ، ورتّبوا على ذلك انّ القطع إذا حصل من غير طريق الأدلة الشرعية الواردة في الكتاب والسنّة فهو غير حجّة.

والحاصل هو ، أنّه هل يمكن ردع الشارع عن العمل بالقطع ، كما كان يمكنه الردع عن العمل بالظن والاحتمال ، بمعنى أنّه في موارد الإمارات الظنيّة والاحتماليّة بإمكان الشارع أن يجعل حكما ظاهريا على خلافها ، ويسمّى بالحكم الظّاهري ، ويكون تعطيلا لحجيتها ، فهل يمكن هذا في موارد القطع وذلك بأن يجعل الشارع حكما على خلاف التكليف المقطوع به ، بحيث يوجب ردع القاطع عن العمل بقطعه وإسقاطه عن الحجيّة؟.

وقد ادّعى الأصوليون استحالة ذلك ، وحاولوا إقامة ثلاثة براهين عليه.

١ ـ البرهان الأول : هو أنّه لو جعل الشارع حكما على خلاف

٥١

المقطوع به ، للزم في فرض إصابة القطع للواقع ، اجتماع الضدين واقعا ، فلو قطع المكلّف بالوجوب مثلا ، وفرض أنّ الشارع ردع عن العمل بذلك وأبطل منجزيته ، وذلك بجعل ترخيص على خلافه ، فهذا القطع حينئذ ، إن كان مطابقا للواقع ، فيلزم اجتماع الضدين ، الوجوب المقطوع به مع الترخيص المجعول ردعا للقاطع ، ويلزم هذا سواء في حالة الإصابة ، أو في نظر القاطع في فرض الخطأ وكلاهما محال ، لأنّ القاطع هو قاطع بثبوت الوجوب ، فإذا جعل في حقّه الترخيص ، إذن يلزم أن يكون قاطعا باجتماع الضدين ، وهما الوجوب والترخيص ، سواء كان قطعه مصيبا أو لا ، وهو محال كما تقدّم والقطع بوقوع المحال ، محال.

٢ ـ البرهان الثاني : هو أنّ الردع من قبل الشارع عن التكليف المقطوع به ، مناف ومناقض مع حكم العقل بحجيّته ومنجزيته ، فيكون مستحيلا ، لأنّ الشارع لا يعقل أن يحكم بحكم يكون مناف لحكم العقل ، وقد فرضنا أنّ العقل يستقل في المقام بحجية القطع ، إذن ، فمع استقلاله وكون الحجيّة من ذاتيات القطع غير القابلة للانفكاك عنه ، حينئذ يكون حكم الشارع مستحيلا ، لأنّه إن أريد بذلك الحكم الشرعي إزالة الحجية الذاتية حقيقة فهو تفكيك بين الذات والذاتي وهو غير معقول لأنّ الحجيّة ذاتية ، وإن أريد جعل هذا الحكم الشرعي في قبال الحجيّة الذاتية عقلا فهو حكم شرعي معارض مع حكم العقل لأنّه جمع بين النقيضين وهو مستحيل أيضا. ويستحيل صدوره من الشارع.

٣ ـ البرهان الثالث : هو أن يقال : إنّ الردع عمّا قطع به يلزم منه نقض الغرض ، وذلك لأنّ المولى بعد فرض إنّنا قطعنا بأنّه جعل الوجوب واقعا ، فإذا رخّص بمخالفته ، حينئذ ، يتوجه سؤال :

وهو أنّه لما ذا جعل الوجوب إذن ، وما الغرض من جعل الحجيّة

٥٢

للقطع؟ إذ ليس الغرض إلّا التحرك على طبقها ، وبجعله الترخيص يبطل هذه المحركية ويسدّ كل أبوابها لا محالة.

هذا حاصل الكلام في البراهين الثلاثة ، ولا بدّ من التعليق على كلّ واحد منها.

أمّا البرهان الأول : وهو اجتماع الضدين ، وهما التكليف المقطوع به ، والحكم بالترخيص الّذي هو ردع عن العمل بالقطع ، فإنّ طرز هذا البرهان كالشبهة الّتي أوردت على جعل الأحكام الظّاهريّة عموما في موارد جعل الإمارات والأصول العملية عند الظن والشك ، فهناك قيل أيضا بأنّ حكم الشارع بالترخيص على طبق خبر الثقة فيما لو كان مخالفا للواقع يلزم منه اجتماع الضدين ، لأنّه في الواقع إذا كان الفعل الفلاني محرم ، وقد حكم الشارع بالترخيص فيه فيلزم اجتماع الضدين ، وهذا أحد شبهات ابن قبة في جعل الأحكام الظّاهرية ، فصياغة الشبهة هنا متقاربة مع صياغتها هناك.

والجواب هو أن يقال : بأنّ التضاد بين الحرمة المقطوعة ، وبين الترخيص المفروض على القاطع ، تارة يدّعى بلحاظ المبادئ ، أي بلحاظ عالم الملاك ، فيقال : إنّ الحكم بالحرمة مضاد للترخيص في عالم المصلحة والمفسدة ، لأنّ الحرمة ناشئة عن المفسدة والترخيص ناشئ عن المفسدة ، إذن فهما متهافتان في عالم المبادئ ، وأخرى يدّعى التضاد بلحاظ عالم المحركيّة والتنجيز خارجا في مقام الامتثال ، بأن يقال : بأنّ هذين الحكمين في عالم التنجيز والتحريك متضادان ، لأنّ أحدهما يمسك بالمكلّف ، والآخر يطلق له العنان ، إذن فهما متضادان في عالم الامتثال.

فإن ادّعي الأول ، أي التضاد بحسب عالم المبادئ كما ادعي ذلك في الجمع بين الأحكام الظّاهرية والواقعية في موارد الإمارات

٥٣

الظنيّة والاحتمالية ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة الأجوبة والمسالك الّتي عولج بها هذا التضاد في الجمع بين الأحكام الظّاهرية والواقعية في ناحية المبادئ وكيف تمّ التوفيق بينهما.

وحينئذ ، نرى انّ نفس العلاج الجاري هناك على بعض المسالك يجري هنا ، وإن كان على المسلك الصحيح في علاج التضاد هناك فإنّه لا يجري هنا نفس العلاج ، فهذا البرهان ، وهو برهان التضاد غير قابل للتكميل في جملة من المسالك ، وعلى جملة من المسالك غير قابل للعلاج هناك ، وعلى سبيل المثال نذكر مسلكين من تلك المسالك الّتي لم يتم فيها هذا البرهان.

١ ـ المسلك الأول : القائل باختلاف مرتبة الحكم الظّاهري عن الحكم الواقعي في دفع شبهة ابن قبة ، حيث لا يكون تضاد بين الأحكام الواقعية والظّاهرية ، وذلك باعتبار تعدد المرتبة بينهما ، لأنّ الحكم الظّاهري ليس في مرتبة الحكم الواقعي ، لأنّ الحكم الظّاهري متأخر عن موضوعه مرتبة ، إذ موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن نفس الحكم الواقعي تأخر العرض عن معروضه ، إذن فالحكم الظّاهري متأخر بمرتبتين عن الحكم الواقعي ، لأنّه متأخر عن موضوعه بمرتبة ، وموضوعه متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبة ، إذن فلم يجتمع الحكم الواقعي والحكم الظّاهري في مرتبة واحدة ، وحينئذ ، فلا تضاد بينهما ، لأنّ التضاد فرع وحدة المرتبة.

وهذا المسلك ، كل من يجري عليه هناك فهو ملزم أن يجري عليه هنا حيث يقال : بأنّ نفس التعدد الرتبي موجود هنا أيضا ، فإنّ الترخيص هنا في طول موضوعه وهو القطع بالحرمة ، وهو متأخر مرتبة عن ذلك ، والقطع بالحرمة متأخر عن الحرمة تأخر العرض عن معروضه ، إذن فالترخيص مع هذه الحرمة ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين.

٥٤

فمن يسلك هذا هناك لا بدّ وأن يقول بالتضاد هنا ، إذن فلا يمكن التمسك بهذا المسلك.

٢ ـ المسلك الثاني : وهو مسلك من يتخلص من التضاد في المبادئ بدعوى ، أنّ الحكم الظّاهري ليس مضادا للحكم الواقعي ، لأنّه لا مبادئ للحكم الظّاهري في متعلقه أصلا ، باعتبار أنّ الأحكام الظّاهرية تنشأ من مصلحة في نفس جعلها لا من مصلحة متعلقاتها.

وحينئذ بناء على هذا يدفع التضاد بين الأحكام الظّاهرية والواقعية ، وسوف نذكر مزيد تحقيق لهذا المطلب. وحينئذ من يلتزم بهذا المسلك ، أيضا لا بدّ وأن يلتزم به هنا ، فيقال : بأنّ الحرمة الواقعيّة المقطوعة ناشئة من مبادئ في متعلقها ، لكن الترخيص المشرّع للقاطع ، من حيث أنّه ناشئ من مصلحة في جعله ، فحينئذ لا تضاد بينهما ، بل جريان نفس المسلك هنا هو أحد أدلة بطلانه ، حيث أنّ وجدانية عدم إمكان جعل حكم ظاهري على خلاف الحكم الواقعي المقطوع به ، هو بنفسه دليل على الصور تلك المسالك وعجزها عن حلّ وعلاج مشكلة الجمع بين الأحكام الظّاهرية والواقعية.

نعم على المسلك الصحيح كما سيأتي بيانه ، سوف يظهر أنّه لا ينطبق على محل الكلام.

إذن يحتاج حساب الموقف إلى حساب المسالك الّتي عولج بها شبهة التضاد بين الأحكام الظّاهرية والواقعية لنرى ، أنّه هل يمكن إجراء روحه أو لا.

وإن ادّعي الثاني أي التضاد بلحاظ عالم الامتثال ، أي عالم التنجيز والمحركيّة بين التكليف المقطوع والترخيص المترتب.

وهنا الموقف أشدّ غموضا منه في موارد الأحكام الظّاهرية المجعولة

٥٥

في موارد الإمارات والأصول ، لأنّه هناك عند ما عالجوا هذا قالوا : بأنّه لا تضاد بينهما بلحاظ عالم الامتثال ، بدعوى انّ التكليف الواقعي باعتباره غير واصل لا يكون منجزا فلا امتثال له ، بخلاف المقام ، فإنّ المفروض فيه وصول الحكم الواقعي إلى المكلّف ، بالقطع وتنجّزه.

إذن فهذه الصيغة مع ذلك ، لا تنطبق في المقام ، لأنّ التكليف الواقعي هنا واصل إلى المكلّف ، كما أنّ الترخيص كذلك واصل إليه ، إذن فيبقى التضاد بينهما ، وحينئذ يقال : بأنّهما متضادان في مقام التأثير العملي ، لأنّهما معا واصلان.

إلّا أنّه مع ذلك التضاد الموجود في هذه المرتبة ، فإنّ حساب هذا المطلب يرجع إلى أنّنا يجب أن نقدّر مقدار محركيّة التكليف الواقعي المقطوع به الّتي هي فرع منجزيته ، وحينئذ ، إذا كان هذا الترخيص الشرعي بالخلاف صالحا لرفع منجزية القطع ، إذن ، لم يبق لهذا القطع محركيّة ليلزم التضاد ، لأنّ محركيّته فرع منجزيّته ، وحينئذ ، يصبح المقطوع كالمظنون ، ليس له مقام تنجيز وعمل.

نعم لو لم يقدر هذا الترخيص الشرعي على رفع حجيّة القطع وبالتالي منجزيّته ، يبقى التضاد واقعا بينهما لا محالة ، وهذا معناه : أنّ روح هذا يرجع إلى البرهان الثاني ، وهو ما يقال : من أنّ حكم الشارع بالترخيص على خلاف التكليف المقطوع غير معقول ، لأنّه لا يمكن أن يزيل حكم العقل بالحجيّة ، لأنّ هذا ذاتي للقطع ، والذاتي لا ينفكّ ولا يتخلّف ، ومعه يكون معارضا له ، فيرجع هذا التضاد بلحاظ عالم الامتثال إلى البرهان الثاني.

٢ ـ البرهان الثاني ، وحاصله : انّ حجيّة القطع ذاتية ، لكن هل أنّ الحجيّة بالنسبة إلى القطع ، نسبتها إليه ، هل هي نسبة المقتضي إلى المقتضى ، أو نسبة المعلول إلى العلّة التامة؟ ، فمثلا : الحرارة ذاتيّة

٥٦

للنّار ، لأنّ النّار حارة بالطبع ، والبرودة ذاتيّة للماء ، لأنّه جسم بارد بالطبع ، لكن الحرارة ذاتية على نحو العلّة التامة ، ونسبة البرودة إلى الماء نسبة المقتضى إلى المقتضي ، أي أنّه لو خلّي الماء وطبعه فهو بارد ، لكن يمكن أن يتخلّف ، إذن ، فالذاتي على نحوين.

وحينئذ يحتاج إلى استئناف بحث ، في أنّ الحجيّة ، هل هي ذاتية عليّا ، أو أنّها ذاتية اقتضائيا؟. فإذا كانت ذاتية عليّا ، فهذا معناه : انّ حكم العقل بالحجيّة يكون تنجيزيا ، وأمّا إذا كانت الحجيّة اقتضائية ، فهذا معناه : انّ العقل يحكم بالحجيّة التعليقية ، بمعنى أنّه على تقدير عدم المانع يحكم العقل بحجية القطع ، بأن يفرض انّ العقل يرى انّ القطع حجّة ما لم يجيء ترخيص على خلافه ، حيث أنّ مجيء الترخيص على خلافه يرفع موضوع الحجيّة.

ومرجع هذا الكلام ، إلى أنّ حجيّة القطع لا بدّ من حسابها ، وهل أنّها تنجيزية أو تعليقيّة ، فعلى الأول تكون نسبتها إلى القطع نسبة المعلول إلى العلّة التامة ، وحينئذ ، يكون الترخيص مناف ومضاد للحجيّة ، وإذا كانت حجيّة القطع اقتضائية تعليقيّة ، تكون نسبتها إلى القطع نسبة المقتضى إلى المقتضي ، وحينئذ لا يكون الترخيص مناف ومضاد لحكم العقل.

وبناء عليه : فهذا المقدار لا يكفي للبرهنة إذن ، ما لم يتحقّق أنّ نسبة الحجيّة هي نسبة المعلول إلى العلّة التامة ، وإلّا فلا تنافي ولا تضاد.

والحاصل هو ، أنّ البرهان الثاني بهذا المقدار الّذي عرفت هو غير تام أيضا ، لأنّ ما ذكر فيه من انّ إزالة الحجيّة عن القطع تفكيك بين الذات والذاتي ، والعلّة والمعلول هو ، غير كاف في البرهنة ، وإنّما يصلح للبرهنة فيما لو كانت علّية القطع للتنجيز علّية تامة لا علّية اقتضائية

٥٧

معلّقة على عدم ورود الترخيص الشرعي بالخلاف ، بعنى أن يكون حكم العقل بالحجية والتنجيز تنجيزيا لا تعليقيا كما هو الحال في موارد الاحتمال المنجز في موارد الشك في الامتثال ، أو الشك قبل الفحص ، بل مطلق الشك والشبهة بناء على إنكار البراءة العقلية لما عرفت سابقا.

٣ ـ البرهان الثالث : المستخلص من كلماتهم في مقام إثبات استحالة الحكم على خلاف القطع هو ، برهان نقض الغرض.

وحاصله : انّ المكلّف إذا قطع بصدور الحرمة ، وفرض أنّ الشارع رخّص بارتكاب هذه الحرمة بالنسبة لمن يقطع بها ، إذن ، سوف يتساءل القاطع عن الغرض من تشريع هذا التحريم المتنجز في حقّه ، لأنّه بالترخيص تنهدم حجيّة القطع وبالتالي منجزيته.

وهذا البرهان يجاب عليه : بأنّ الغرض الّذي يقال بأنّه يلزم نقضه بالترخيص ، إن أريد به الملاك الواقعي والمفسدة الواقعية الموجودة في الحرام والّتي تمثل ملاك التحريم الواقعي ، حيث أنّ المولى لا يحرم شيئا إلّا لأجل اشتماله على مفسدة.

فجوابه : إنّ هذا يرجع في الحقيقة إلى دعوى وبرهان التضاد بين الترخيص وبين مبادئ الحكم الواقعي ، إذن فيرجع إلى البرهان الأول ، وقد عرفت الكلام فيه.

وإن أريد بالغرض الّذي يلزم نقضه ، أنّه الداعي إلى الجعل ، أي الداعي إلى جعل التحريم ، بأن يقال مثلا : بأنّ الداعي لكل مولى إلى الجعل هو التحريك ، فإذا جعل بعد ذلك ترخيصا بهذه المحركيّة وإبطالها ، كان ذلك نقضا للغرض من جعل الخطاب الواقعي.

فالجواب هو ، انّ الغرض من جعل كل خطاب وحكم ، وإن كان هو التحريك ، لكن التحريك بحسب ما يستقل به العقل ويقتضيه في مقام التنجيز والتحريك ، فالمولى يجعل الخطاب بداعي المحركيّة ، لكن

٥٨

المحركية بمقدار صلاحيته الفعلية للتحريك وقابليته للتنجيز ، فالداعي إلى جعل الخطاب هو ، جعله محركا بالمقدار الّذي يستقل به العقل من التحريك ويراه قابلا للتنجيز والتحريك.

وحينئذ ، بناء عليه ، إذا فرض أنّ العقل يستقل بحجية القطع بنحو تنجيزي علي ، إذن فسوف تكون محركية هذا الخطاب المقطوع به محركية تنجيزية علّية ببركة حكم العقل ، وحينئذ ، يكون الترخيص على خلاف ذلك ، نقضا للغرض ، لأنّ الداعي من جعل الخطاب هو أن يحرك بمقدار ما يستقل به العقل ، والعقل يستقل بالمحركيّة التنجيزيّة العلّية ، إذن سوف يكون الترخيص نقضا للغرض.

لكن إذا بني على أنّ العقل يحكم بالحجية الاقتضائية التعليقية للقطع ، أي بالحجية مشروطة بعدم ورود الترخيص من قبل الشارع على خلافها كما هو الحال في باب الظن والاحتمال المنجز ، فإنّ العقل يحكم هناك بأنّ الاحتمال إمّا مطلقا منجز أو قبل الفحص ، ما لم يرد ترخيص على خلافه.

فإذا فرضنا أنّ حجية القطع كانت تعليقية اقتضائية ، إذن يكون الغرض من الخطاب الواقعي هو جعله محركا بهذا المقدار ، وهو مقدار ما تقتضيه هذه الحجية التعليقية ، فلو اقترنت بما يرفعها ويعطلها ، فلا يكون هذا نقضا للغرض.

وعليه فيرجع البرهان الثالث إلى البرهان الثاني بعد هذه الغربلة ، وحينئذ لا يكون هذا برهانا ثالثا.

وتحقيق الحال وما ينبغي قوله في المقام هو : انّه يستحيل جعل الحكم على خلاف الحكم المقطوع به ، وهذا بخلاف ما يجعل في موارد الظن والشك حيث لا يستحيل ذلك فيها.

٥٩

ومن أجل توضيح هذا ، لا بدّ من نبذة إجمالية يأتي تفصيلها عن كيفية التوفيق بين الأحكام الواقعية والظّاهريّة ، وكيفيّة رفع التضاد بينهما بلحاظ عالم المبادئ ، لنرى أنّ ذلك العلاج والتوفيق لا يأتي في محل الكلام.

وهذا يستدعي رسم مقدّمة ، حاصلها هو ، أنّ الأحكام على قسمين.

١ ـ القسم الأول : الأحكام النفسية ، والمقصود بها ، الأحكام الناشئة من مصالح ومفاسد في متعلّقات أشخاصها من قبيل وجوب الصّلاة الناشئ من مصلحة ملزمة في الصّلاة ، وهكذا بقية الأحكام النفسية ، فإنّ هذه الأحكام هي بنفسها تتنجز وعليها ثواب ، ولها عقاب باعتبارها أحكام نفسية.

٢ ـ القسم الثاني : هو الأحكام الطريقية ، وهي اسم لأحكام تكون ناشئة من مصالح ومفاسد في متعلقات تلك الأحكام النفسية لا متعلقاتها هي ، وهذا يكون في مورد اختلاط متعلقات الأحكام النفسية وعدم تميّزها على المكلّف خارجا ، فإنّ المكلّف ، تارة يميّز موارد الأحكام النفسية ، وهنا لا يكون موضوع للأحكام الطريقية أصلا ، وأخرى يفرض أنّ المكلّف لا يصيبها بأعيانها ، فلا يدري أيّ الإناءين هو الخمر.

فهنا يوجد عندنا أحكام نفسية ناشئة من ملاكات في أنفسها لحرمة الخمر الناشئة من مفسدة نفسية في نفس الخمر ، وإباحة الخل الناشئة من مصلحة نفسية في إطلاق العنان نحو الخل.

فهذان حكمان نفسيان ، فإذا ميّز بينهما المكلّف فلا أحكام طريقيّة ، وإذا لم يمكنه أن يميّز بينهما واشتبه عليه الحلال بالحرام ، إمّا بنحو الشبهة الموضوعية ، أو بنحو الشبهة الحكمية ، حينئذ ، في هذه الحال ،

٦٠