بنفسها تدلّ على ثبوت استحقاق العقاب الّذي تدلّ عليه الطائفة الأولى ، وإنّما لا فعليّة ولا تسجيل منّة وتفضلا من الله سبحانه على عباده ، إذن فلا تنافي بين الطائفتين.
وبعبارة أخرى يقال : انّ الصحيح بعد فرض ورودهما في مورد التجري وتعارضهما هو حمل أدلة النفي على نفي فعليّة العقاب ، وحمل أدلة الإثبات على إثبات استحقاق العقاب ، وذلك لأنّ أدلة النفي نصّ في نفي الفعليّة ، وظاهرة في نفي الاستحقاق ـ هذا إذا لم نقل إنّها كلّها أو جلّها تدلّ على نفي الفعليّة فقط ـ وأدلة الإثبات نصّ في إثبات استحقاق العقاب ، وظاهرة في إثبات الفعليّة ـ هذا إذا لم نقل إنّها كلّها أو جلّها تثبت الاستحقاق فقط ، وحينئذ ، نرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنصّ الآخر.
وبهذا يثبت عدم الدليل على حرمة التجري شرعا.
تنبيهات
١ ـ التنبيه الأول :
هو أنّه قد اتضح عدم اختصاص التجري بفرض القطع بالحرمة ، بل التجري يجري في كل مورد يتنجز فيه التكليف ، لعدم وجود مؤمّن عن التكليف الواقعي المحتمل ولو جاء به برجاء عدم مصادفة الحرام الواقعي عليه ، بجميع حصصه وصوره ، حتّى صورة رجائه لعدم المصادفة مع الحرام الواقعي ، لكون إقدامه تجريا وخروجا عن حقّ العبوديّة والطاعة لمولاه ، ومجرد رغبته ورجائه أن لا يصادف الحرام الواقعي لا يفيد في رفع موضوع حق المولى.
نعم وقع الكلام فيمن حصل على مؤمّن على الارتكاب ، ولكنّه أقدم على المشتبه برجاء مصادفة الحرام ، كمن شرب مستصحب الحلية برجاء أن يكون هو الحرام الواقعي ، فهنا ذكر المحقّق النائيني «قده» إنّ هذا تجر أيضا ويترتّب عليه أحكامه.
والحاصل هو انّ فرض التجري ، هو فرض انّ هذا الحكم الّذي كان يتخيّله المتجري على خلاف الواقع ، وأحيانا يتفق أن ما تخيّله حراما يكون واجبا ، ففي الموارد الّتي يحصل فيها التجري ويكون الحكم الواقعي فيها هو الوجوب أو الاستحباب ، هنا ذهب بعضهم إلى أنّه يقع التزاحم بين الجهة الواقعية وبين حرمة التجري ، باعتبار انّ هذا الفعل بلحاظ عنوانه الواقعي مطلوب ، وبلحاظ عنوان التجري يكون له حكم التجري ، وحينئذ يقع التزاحم بينهما.
وهذا منهم انسياقا مع الخلط بين باب الحسن والقبح ، وبين باب المصالح والمفاسد.
وصفوة القول في المقام هو ، أن يقال : بأنّه في فرض تنجز الحرمة الواقعية على المكلّف ، بقطع ، أو بأصل ، ولم يكن الفعل حراما ، بل كان في الواقع واجبا ، حينئذ ، يتكلم في انّ هذا الوجوب الواقعي هل يتنافى مع الحيثيّات الظاهريّة ، أو أنّه لا يتنافى؟ وهذا الكلام ينحل إلى أربع نقاط.
١ ـ النقطة الأولى : هي أنّ الوجوب الواقعي ، هل يتنافى مع الحكم الظاهري الّذي جعله الشارع ، وببركته تنجزت الحرمة؟
وهذا هو عين البحث في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، وسوف يأتي الكلام عنه في محله إن شاء الله تعالى ، وبتجاوز هذه النقطة نواجه النقطة الثانية.
٢ ـ النقطة الثانية : هي أنّه كيف يمكن الجمع والتوفيق بين الوجوب الواقعي ، وبين تنجز الحرمة ـ لا الحكم الظاهري ـ سواء كان منشأ التنجز هو حكم الشارع ، أو حكم العقل؟
والشبهة هنا ليست شبهة اجتماع الحكمين المتضادين كما في النقطة الأولى ، إذ ليس في هذه النقطة حكمان شرعيان ، بل وجوب واقعي ، وتنجز من قبل العقل.
إذن فالشبهة هنا هي ، ان تنجز الحرمة بحكم العقل يوجب عجز المكلّف تشريعا عن الإقدام على هذا الفعل ، وحينئذ ، فالمكلّف لا يكون قادرا على الفعل شرعا ، مع أنّ الوجوب الواقعي مشروط بالقدرة.
ومن هنا تقع شبهة المنافاة المذكورة بين الوجوب الواقعي ، وتنجز الحرمة بحكم العقل ، إذ معناه أنّ العقل يمنع المكلّف عن الإقدام ، فإنّ
الممنوع عقلا ، كالممتنع تكوينا ، ولازم ذلك ، هو عدم ثبوت الوجوب الواقعي ، وهذه غير شبهة ابن قبّة.
ولو تمّت هذه الشبهة ، لاقتضت أن يكون الوجوب الواقعي مختصّا بغير من تنجزت عليه الحرمة ظاهرا.
وسوف نوكل بحث هذه الشبهة إلى مكان شبهة ابن قبّة.
٣ ـ النقطة الثالثة : وهي في المنافاة بين الوجوب الواقعي وقبح التجري ، إذ كنّا قد ذكرنا سابقا ، أنّ المعصية والتجري كلاهما قبيح بملاك واحد ، وحينئذ ، يقال : بأنّه كيف نوفق بين حيثيّة القبح في التجري ، وبين حيثيّة الواقع الّتي هي الوجوب.
وهذه النقطة هي الّتي طرحت في كلمات الأصوليّين (١).
وهنا ، أراد المحقق العراقي «قده» أن يوفق بين حيثيّة التجري ، وحيثيّة الواقع ، وذلك ، ببيان الطولية بينهما فقال (٢) :
بأنّ التجري عنوان منتزع عن مرتبة العصيان والامتثال ، فهو في طول الّذي يمتثل ويعصى ، إذن فالتجري في طول الجهات الواقعية ، وإذا كان في طولها ، فلا تنافي.
وسنخ هذا الكلام جمع به بين الأحكام الظاهرية والواقعية بدعوى أنّ الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي.
والآن نفترض تمامية الطولية ، وهذه الصغرى ، كما أنّه نفترض أنّ الطولية تنفع في رفع التنافي ، وهذه هي الكبرى ، ونترك ذلك إلى بحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، ولكن حتّى مع تسليم هذه
__________________
(١) الفصول في الأصول : محمد حسين بن محمد رحيم ، ج ٢ ، ص ٣٣١ ، ٣٣٢.
(٢) مقالات الأصول : العراقي ، ج ٢ ، ص ١٦.
التمامية ، فإنّ ذلك البيان لا يتم ، وذلك لأنّ التجري في طول الامتثال والعصيان للحكم المتجرى بلحاظه ، وهو الحرمة الوهمية الّتي يعتقدها ، لا في طول امتثاله الوجوب الواقعي الّذي لم يصل إلى المكلّف.
ونحن نتكلم عن التوفيق بين حيثيّة التجري ، والوجوب الواقعي ، لا بين حيثيّة التجري ، والحرمة ، كما لو فرضنا أنّ صلاة الجمعة واجبة ، لكن هذا المكلّف تخيّل حرمتها ، وتجرّى فصلّاها ، فهنا ، انتزاع عنوان التجري عن حرمة الجمعة المتخيّلة ، هو في طول حرمتها الخيالية ، فإنّه لو لا ذلك لما انتزع عنوان التجري ، لا أنّه لو لا وجوبها الواقعي لما انتزع عنوان التجري ، إذن فانتزاع عنوان التجري في طول الحرمة الخيالية ، فيكون تعدّد المرتبة الطولية إنّما هو بين التجري ، وبين الحرمة الخيالية ، لا بين التجري والوجوب الواقعي.
بينما نحن نتكلم عن التوفيق بين التجري والوجوب الواقعي ، وهذان الأمران لا طولية بينهما ، إذن فحديث الطولية لا ينفع ولا ينطبق على المقام.
وإنّما الصحيح أن يقال : بأنّه لا تنافي أصلا بين قبح التجري ، والوجوب الواقعي ، وذلك ، لأنّ التنافي بينهما إنّما يكون لو أرجعنا باب الحسن والقبح إلى باب المصالح والمفاسد ، فإنّه حينئذ يقال : بأنّ هذا الفعل مقتضى وجوبه الواقعي ، أنّه فيه مصلحة ملزمة ، وبمقتضى قبح التجري ذاك ، أنّه فيه مفسدة ملزمة ، فالتنافي مبني على ذلك.
وقد عرفت أنّهما بابان ، لا باب واحد ، ولا تنافي بين كون شيء فيه مصلحة ملزمة ، وبين قبح بحكم العقل ، ولا يجتمعان.
٤ ـ النقطة الرابعة : هي أنّه لو قلنا بحرمة التجري ، مضافا إلى قبحه ، فإنّه حينئذ يقال : كيف نوفق بين الوجوب الواقعي ، وبين الحرمة الشرعية؟.
وحينئذ يقال : إنّ هذه الحرمة الشرعية ، تارة يفرض ثبوتها بملاك قبح التجري ، بقانون الملازمة بين حكم العقل ، وحكم الشرع.
وأخرى يفرض ثبوتها بملاك من نوع ملاكات حرمة الخمر.
فإن فرض ثبوتها بالأول ، إذن فهذه الحرمة لا تنافي الوجوب الواقعي ، لا بلحاظ عالم الملاكات ، ولا بلحاظ عالم الامتثال.
أمّا الأول ، فلتغاير الملاك سنخا ، لأنّ الوجوب الواقعي ملاكه عالم الحب والمصلحة ، والحرمة ملاكها ، القبح ، ولا تنافي بين كون الشيء قبيحا ، وبين كونه ذا مصلحة.
وأمّا الثاني ، فمن الواضح عدم التنافي ، لأنّ الوجوب محجوب عن المكلّف ، فلا محركيّة له.
نعم لو كانت هذه الحرمة الشرعيّة لها ملاك يدخل في عالم الحب والبغض ، والمصلحة والمفسدة ، حينئذ ، يقع التنافي ما بين الوجوب الواقعي وبين هذه الحرمة ، لكنّه مجرّد فرض.
٢ ـ التنبيه الثاني :
وفيه نتعرّض لثمرة ذكرها المحقّق العراقي «قده» (١) للقول بقبح التجري ، حيث ذكر أنّ هنا ثمرة عملية فقهية تترتب على افتراض القبح إثباتا ونفيا ، وقد صوّرها في موارد التجري الاحتمالي.
وذلك كما لو فرض أنّه قامت عند المكلّف إمارة على حرمة الجمعة ، فصارت الحرمة منجزة عليه بالاحتمال المعتبر ، لكن مع هذا ، يحتمل أنّه غير حرام في الواقع ، ويحتمل وجوبها العيني.
فلو فرض انّ هذا المكلّف أتى بالجمعة برجاء أن تكون واجبة
__________________
(١) منهاج الأصول : الكرباسي ، ج ٣ ، ص ٧٥ ، ٧٦.
بالوجوب العيني ، ثمّ أنّه بعد الإتيان بها انكشف له انّ هذه الجمعة واجبة عينا ، فهل يجتزئ بما أتى به ، أو أنّه لا بدّ له من الإعادة؟.
وهنا قال «قده» : إنّ المسألة مبنية على قبح الفعل المتجرّى به ، وعدمه ، فإن بنينا على قبح التجري ، فيكون ما أتى به ليس صحيحا ، ولا بدّ من إعادته ، وذلك لأنّ ما وقع كان تجريا قبيحا عقلا ، ومع كونه قبيحا لا يصلح للمقربيّة إلى المولى ، إذن فلا يقع على وجه عبادي.
وأمّا إذا بنينا على أنّ الفعل المتجرّى به ليس قبيحا ، فحينئذ يمكن أن يقع الفعل على وجه عبادي ، ويكون صحيحا ، وحينئذ ، لا يحتاج إلى إعادته.
وتفصيل الكلام في المقام هو ، أنّ فكرة هذه الثمرة ، تارة تفترض في الواجبات التوصلية ، وأخرى ، في الواجبات العبادية.
والمحقّق العراقي «قده» ، افترضها في الواجب العبادي دون التوصلي ، من قبيل ما لو فرض أنّ أمرا من الأمور كان بحسب الواقع واجبا بالوجوب التوصلي ، وقامت الإمارة على حرمته ، ثمّ أتى به المكلّف رغم كونه منجز الحرمة ، وكان إتيانه به تمردا وليس برجاء وجوبه ، ثمّ انكشف له أنّه واجب.
فهنا يأتي نفس السؤال ، وهو ، هل انّ ما أتى به مجز أم لا؟.
والميزان في الأجزاء هنا ، في الواجبات التوصلية هو ، استيفاء الملاك ، فإن دلّ دليل على أنّ الملاك قد استوفي بهذا الفعل وأنّه موجود حتّى في الفرد المحرم ، فيكون مجزيا ، سواء قلنا بقبحه أم لا إن كان واجبا توصليا في الواقع وإن كان قبيحا ومحرما في الظاهر ، وإن كان هذا الفعل غير مستوف للملاك ، فلا يكون ما أتى به مجزيا ، سواء قلنا بالقبح أم لا.
ولعلّ المحقّق العراقي «قده» لأجل هذا ، لم يصوّر الثمرة في الواجبات التوصلية ، بدعوى ، أنّ وجوب الإعادة وعدمها ليس مربوطا بقبح الفعل المتجرّى به وعدمه ، بل هو مربوط باستيفاء الملاك وعدمه.
وأمّا في حالة الشكّ ، وعدم قيام دليل ، فلا بدّ من الرّجوع حينئذ إلى الأصول العمليّة ، من دون فرق بين القول بالقبح وعدمه.
نعم يمكن أن يكون للقول بالقبح وعدمه دخل في التوصليات ، باعتبار تأثير ذلك في إحراز الملاك وعدمه.
فإنّه لو قلنا بقبح الفعل المتجرّى به ، وقلنا إنّ القبح ينافي مع الوجوب الواقعي ، إذن فسوف نسقط إطلاق الخطاب الواقعي لهذه الحالة ، وإذا سقط فلا يبقى دليل على وفائه بالملاك.
وهذا بخلاف ما لو قلنا بعدم قبح الفعل المتجرّى به ، فإنّه لا موجب حينئذ لسقوط إطلاق الخطاب الواقعي لهذا الفرد ، فيثبت بهذا الإطلاق وفاؤه بهذا الملاك ، إذن ، فالقول بالقبح وعدمه ، يكون له تأثير ، لتوسطه في إمكان إثبات الملاك وعدمه.
وأمّا في التعبّديات ، كما في فرضية «الجمعة» ، فلا إشكال أنّ «الجمعة» محل الكلام ، على القول بالقبح تقع باطلة ، إذ أنّه بناء على القبح وأنّه ظلم للمولى ، فلا يعقل أن يكون ظلم المولى مقربا نحو المولى ، وبهذا يقع الفعل باطلا وتجب الإعادة.
وأمّا بناء على القول بعدم القبح ، فالعراقي «قده» كأنّه يرى صحة صلاة الجمعة.
لكن هذا محل إشكال ، بل يمكن القول ببطلانها في المقام.
وذلك لأنّه من المعلوم عندهم ، أنّ عبادية العبادة متقومة بأمرين.
أحدهما : صلاحية العبادة للتقرّب نحو المولى ، بحيث يكون العمل منسوبا إلى المولى بنحو من أنحاء النسبة.
وثانيهما : هو أن يؤتى بالفعل بداعي المولى ومن أجله ، فمثلا : إكرام عدو المولى لا يمكن أن يكون عبادة وتقربا نحو المولى ، لأنّ هذا الفعل ليس مضافا إلى المولى بوجه ، إذن فالشرط الأول مختل ، بينما إكرام ابن المولى لكن دون قصد التقرب نحو المولى ، فأيضا الشرط الثاني مختل فيه ، لأنّه لم يؤتى به من أجله وبداعيه ، لأنّ حال المولى في فرض الفعل ليس أحسن منه على تقدير ترك الفعل ، إذن ، فلا تقع الجمعة عبادة وصحيحة. بينما العراقي «قده» لأنّه كان يبني على عدم قبح الفعل المتجرّى به وعدم كونه ظلما للمولى ، إذن فالشرط الأول متحقّق عنده ، ولذا ذهب إلى صحة العبادة وأنّها صالحة للتقرّب إلى المولى.
ولكن لم يلتفت العراقي «قده» إلى أنّه لا بدّ وأن يكون الداعي حقيقة للإتيان بالفعل هو المولى وقصد التقرّب منه ، وهذا أمر يستحيل تحقّقه من هذا المكلّف قبل انكشاف الخلاف ، لأنّه حين العمل كانت الحرمة منجزة عليه ، وهذا يعني ـ أنّه حتّى بناء على عدم القبح ـ أنّه يحتمل انّ هذا الفعل فيه هتك للمولى وظلم له ، لأنّه يحتمل مطابقة الإمارة للواقع ، ولا يحتمل أن يكون تركه ظلما ، إذن ، كيف يعقل أن يكون ترجيحه للفعل على الترك من أجل المولى.
وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يكون الداعي لترجيح الفعل على الترك هو المولى نفسه ، كما لو أمر عبده بإكرام فلان ، لكن العبد يرى أنّه خلاف مصلحة مولاه ، فيتجرأ على عصيانه حفظا لمصلحة المولى.
إلّا أنّ هذا لا يكون في المولى الحقيقي الّذي لا يتصور بحقّه أن يكون له مصلحة في الواجبات.
إذن ، فالظاهر أنّ الصّلاة تقع باطلة على كلا القولين ، إذ على فرض كون صلاة الجمعة واجبة ، فليس لله تعالى مصلحة فيها ، بل المصلحة فيها للعبادة ، وحينئذ لا تظهر ثمرة من هذه الناحية إذن فهذه الثمرة غير تامة.
والخلاصة هي أنّ العراقي «قده» ذكر ثمرة للقول بقبح التجري تظهر في العبادات مفادها : أنّه إذا تنجز على المكلّف حرمة عبادة من العبادات ، كصلاة الجمعة بالحرمة الذاتية ، ومع ذلك صلّاها المكلّف برجاء صحتها وعدم حرمتها ، ثمّ انكشف له عدم حرمتها ، فهنا ذهب العراقي «قده» إلى بطلان هذه الصّلاة ، بناء على قبح التجري ، وذلك لعدم إمكان التقرب بما هو قبيح وإن لم يكن محرما شرعا ، وأمّا بناء على عدم القبح ، فتقع صلاته هذه صحيحة عنده.
وهذه الثمرة غير تامة ، إذ الفعل العبادي يقع باطلا هنا على كلا التقديرين ، لأنّ المقصود من التقرّب والإتيان بالفعل هو من أجل المولى وبداعي المولى ، بحيث يكون حال المولى بحسب نظره ـ على تقدير إتيانه بالفعل ـ أحسن منه على تقدير ترك الإتيان به ، ولكن مع فرض تنجز الحرمة عليه ، لا يتأتّى للمكلّف أن يأتي بالفعل بداعي المولى ، إذن فهذه الثمرة غير تامة.
٣ ـ التنبيه الثالث :
هو أنّه قد بيّنا أنّ ضابط التجري هو ، وجود المنجز ، لا خصوص القطع ، فمتى ما كان منجز ، فالتجري موجود ، ومتى ما كان مؤمن فالتجري غير موجود.
وهذان المطلبان قد يتخيّل استثناء صورة من كل منهما.
فيستثنى ممّا كان منجزا ، صورة ما إذا كان هناك منجز احتمالي ، كما لو قامت إمارة على كون هذا المائع خمرا ، لكن هو لا يعلم بخمريته ، فيشربه برجاء أن لا يكون كذلك.
فهنا : مثل هذا الرجاء لا يفيده ، إذ بمجرد تنجز حرمته عليه ، يكون إقدامه على شربه ظلما للمولى ، إذن ، فمثل هذا الاستثناء واضح البطلان حيث لا فائدة بذلك الرجاء.
ويستثنى من صورة وجود مؤمّن ، كما لو قام دليل شرعي على انّ هذا المائع حلال ، لكن المكلّف شربه برجاء أن يكون حراما ، فحينئذ ، قد يقال : إنّ هذا تجر.
لكن الظاهر أيضا ، انّ هذا المكلّف لا يستحقّ العقاب ، وهذا له صورتان.
١ ـ الصورة الأولى : هي أن يكون شربه لهذا المائع ، مستندا إلى المؤمّن بحيث لولاه لما شربه ، وإنّما شربه بعد وجود المؤمّن لاحتمال حرمته ، وهذا واضح في عدم كونه تجريا لا في نفسه ، ولا في فعله.
٢ ـ الصورة الثانية : هي أن يفرض أنّه ملتفت إلى وجود المؤمن ، لكن هو مصرّ وبان على شربه على كلّ حال ، سواء وجد مؤمّن أم لا ، لشدّة حبّه للمسكر ، لكن مع هذا ، هو ملتفت إلى الترخيص من قبل الشارع بشربه.
فهنا يوجد تجري ، لكن تجري نفسي ، باعتبار أنّ قصده لم يكن مربوطا بالمولى ، بل مستقلا عنه.
وهذا خلاف ناموس العبودية ، باعتبار أنّه يجب عليه أن يبني مواقفه على أساس مواقف المولى ، وإن كان في الخارج لم يتحقّق منه تجر أصلا ، لأنّه شرب ما أذن به المولى ملتفتا لإذنه ، فحاله ، حال من يشرب المباحات الواقعية ، وهو يبني على شربها حتّى لو حرّمها المولى ، فهذه جرأة نفسية فيه لا خارجية. وبهذا تمّ الكلام في التجري.
الجهة الثالثة :
أقسام القطع وأحكامه
قسّم القطع في كلمات الشيخ الأنصاري «قده» إلى قسمين.
١ ـ القسم الأول : القطع الطريقي.
٢ ـ القسم الثاني : القطع الموضوعي.
فأمّا القطع الطريقي ، فهو عبارة عن القطع الّذي لا يكون له دخل ثبوتا في تحقّق الحكم ، بل يكون الحكم ثابتا في مورده مع قطع النظر عنه سواء كان قطعا بصغرى الحكم فيكون القطع طريقا محضا إمّا إلى الصغرى ـ موضوع الحكم ـ من قبيل قطعنا بخمرية هذا المائع ، فإنّ الحرمة مترتبة واقعا على واقع الخمر فيكون القطع بالخمرية كاشفا محضا.
وإمّا أن يكون قطعا وطريقا إلى كبرى الحكم ، من قبيل قطعنا بتحريم شرب كل خمر ، وأمّا القطع الموضوعي ، فهو ما كان للقطع دخل في تحقّق الحكم ثبوتا كما لو أوجب المولى إكرام مقطوع العدالة بحيث يكون القطع بالعدالة دخيلا في وجوب الإكرام ثبوتا ، ومن هنا يظهر أنّه يمكن أن يمكن أن يكون قطع واحد طريقا إلى حكم وموضوعا لحكم آخر غيره ، وهذا لا إشكال فيه.
وإنّما صار البحث في عدّة مقامات.
١ ـ المقام الأول : في أقسام القطع الموضوعي :
وقد قسّم الشيخ الأنصاري «قده» القطع الموضوعي إلى قسمين.
١ ـ الأول : قطع مأخوذ موضوعا بما هو طريق إلى الواقع ـ على نحو الطريقيّة ـ.
٢ ـ الثاني : قطع مأخوذ موضوعا بما هو صفة في النّفس ـ على نحو الصفتيّة ـ وذلك أنّ القطع الّذي يؤخذ في موضوع الحكم ويجعل الحكم منوطا به ، فهو تارة يكون الحكم منوطا به باعتبار كشفه عن الواقع ، بما هو كشف عن الواقع.
وأخرى يكون الحكم منوطا به بما هو صفة خاصة في عالم النّفس ، حيث أنّ القطع فيه حيثيّتان ، إحداهما ، كشفه عن الواقع ، والأخرى ، انّه صفة نفسانية معينة ، فحينما يؤخذ في موضوع الحكم ، تارة يؤخذ باللحاظ الأول ، أي بما هو كاشف ، وأخرى ، يؤخذ باللحاظ الثاني ، أي بما هو صفة نفسانية خاصة. فالأول ، نسميه بالقطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقيّة ، والثاني ، نسميه بالقطع الموضوعي المأخوذ على وجه الصفتية.
وكل من القسمين المذكورين له قسمان ، لأنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، تارة ، يكون تمام الموضوع للحكم ، بحيث سواء كان المقطوع ثابتا في الواقع ، أو لم يكن فإنّه يترتب الحكم عليه ، وأخرى يكون القطع المأخوذ جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو وجود الواقع المقطوع به ، كما لو قال : إن كان زيد عادلا وكنت قاطعا بعدالته فأكرمه فيكون الموضوع مركبا من جزءين ، نفس القطع ، والواقع المقطوع ، إذن فهذه أربعة أقسام للقطع الموضوعي كما ذهب صاحب الكفاية (١).
__________________
(١) كفاية الأصول : المحقق الخراساني ، ج ٢ ، ص ٥.
ثمّ إنّهم قالوا : بأنّ ظاهر الدليل حين أخذ القطع في الموضوع ، هو أنّه مأخوذ على وجه الطريقية ، كما أنّ مقتضى إطلاق الدليل هو أنّ القطع هو تمام الموضوع ، لا جزؤه ، سواء أصاب الواقع أو أخطأه.
فالمستظهر من هذه الأقسام هو ، القطع الموضوعي الطريقي ، وأنّه تمام الموضوع ، فرفع اليد عن ذلك ، يحتاج إلى قرينة.
وقد وقع الكلام حول ذلك في جهات :
١ ـ الجهة الأولى : في أصل تصوير انقسام القطع الموضوعي إلى صفتي وطريقي :
حيث أشكل على هذا التقسيم فقيل : بأنّ كاشفية القطع لو كانت صفة زائدة في القطع وليست داخلة في أصل قوامه ، من قبيل صفة الثقل في الجسم ، فحينئذ هذا أمر معقول ، فيقال : إنّ القطع تارة يؤخذ في الموضوع بلحاظ هذه الصفة الزائدة القائمة به ، وهي صفة الكاشفية ، وأخرى يؤخذ في الموضوع بقطع النظر عن هذه الصفة الزائدة من قبيل الجسم فقط ، فتارة يؤخذ بلحاظ حيثيّة الثقل ، وأخرى بما هو جسم فقط ، «فهنا تقاس الكاشفية بالثقل».
والخلاصة ، هي انّ القطع الموضوعي لا يؤخذ إلّا بما هو كاشف ، ولا يمكن أخذه بما هو صفة وبقطع النظر عن حيثيّة الكشف ، لأنّ الكاشفية ذاتية للقطع بل هي عين حقيقة القطع ، إذ ليس القطع شيئا زائدا على الكشف كي يمكن أخذه بما هو صفة وبقطع النظر عن كاشفيته لأنّ معنى عدم لحاظها هو أنّه لا يلحظ نفس القطع ، وهذا تهافت.
نعم غايته أنّه تارة يؤخذ بنحو تمام الموضوع للحكم ، وأخرى يؤخذ بنحو جزء الموضوع ، ويكون الواقع جزؤه الآخر.
وهذا الإشكال هو ، الّذي دعا صاحب الكفاية «قده» (١) ، كي يقرب إمكانية انقسام القطع الموضوعي إلى ، قطع موضوعي صفتي ، وإلى قطع موضوعي طريقي ، فاستعمل عبارتين في مقام تصوير الصفتي ، في مقابل الطريقي. كلتاهما غير تامة.
١ ـ العبارة الأولى : هي أنّ القطع والعلم نور في نفسه نور لغيره.
وحينئذ يكون فيه حيثيّتان.
أ ـ الحيثيّة الأولى : أنّه نور في نفسه.
ب ـ الحيثيّة الثانية : أنّه نور لغيره.
وحينئذ : فتارة يؤخذ القطع في موضوع الحكم بلحاظ الحيثيّة الأولى ، وهذا هو القطع الموضوعي الصفتي.
وتارة أخرى ، يؤخذ القطع في موضوع الحكم ، بلحاظ الحيثية الثانية ، وهي كونه نورا لغيره ، وهذا هو القطع الموضوعي الطريقي.
إلّا أنّ هذا الكلام يحتاج إلى تمحيص ، إذ صحيح أنّ العلم نور في نفسه ، ونور لغيره ، إلّا أنّ مقصودهم من هذه العبارة ، وهي كونه نور في نفسه ، يعني أنّه ظاهر بذاته للنفس ، ومقصودهم من كونه نورا لغيره ، يعني أنّه مظهر لغيره.
وتوضيحه : هو أنّ الأشياء تظهر للنفس وتحضر لديها ، «بالعلم» ، فمظهرها ومنوّرها هو العلم ، وأمّا نفس العلم فيحضر بنفسه للنفس ، لا بمحضر له ، ولهذا يعبر عنه بأنّه معلوم بالعلم الحضوري ، كالحب والبغض وغيره من الصفات النفسية التجريدية ، لكن هو مظهر لغيره دون الحب وأمثاله.
__________________
(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ١٩ ـ ٢٠.
وحينئذ نأتي إلى محل الكلام فنقول : إنّ القطع الموضوعي الصفتي ، المقابل للقطع الموضوعي الطريقي ، ما هو؟ فإن قيل : هو القطع الملحوظ بما هو نور في نفسه بقطع النظر عن كونه نورا وإنارة لغيره ، حينئذ ، إن أردتم بهذا أنّ القطع مأخوذ في موضوع الحكم باعتباره حاضرا لدى النّفس ، إذن ، فيلزم منه أن تكون كل صفة حاضرة لدى النّفس ، محقّقة لموضوع الحكم ، كالحب ، والبغض لأنّه صفة حاضرة لدى النّفس إذن فيكون الموضوع مطلق ما يحضر في النّفس من المجردات ، وهذا خلاف الفرض ، وإن أردتم أنّ القطع المأخوذ في الموضوع ، بما هو صفة حاضرة لدى النّفس ، أنّه لوحظ خصوصية هذه الصفة ، إذن ما هي هذه الخصوصية غير كونه كشفا وإراءة حيث لا خصوصية له تميّزه إلّا ذلك إذ خصوصية النّورية هي عين الكاشفية ، إذن ، فهذه العبارة لا تفي بتصوير شقين متغايرين.
٢ ـ العبارة الثانية : هي أنّ القطع صفة حقيقيّة متأصلة ، وليست صفة اعتبارية ذات إضافة ، فهي ليست كالأعراض تحتاج إلى موضوع فقط ، بل تحتاج إلى ما تضاف إليه وتتعلق به أيضا ، فإن أخذ القطع في موضوع الحكم بما هو صفة حقيقية بقطع النظر عن إضافته إلى متعلقه ، كان قطعا موضوعيا صفتيا ، وإن أخذ بما هو مضاف إلى متعلقه ، كان قطعا موضوعيا كاشفيا طريقيا.
وتوضيحه : هو أنّ الصفات على قسمين.
١ ـ القسم الأول : هو الصفات المقولية الحقيقية ، أي الّتي لها وجود في نفسها.
٢ ـ القسم الثاني : هو الصفات الإضافية الاعتبارية ، أي الّتي حقيقتها عين الإضافة.
فالأولى : هي عبارة عن المقولات العرضية الثمانية ، باستثناء مقولة
الإضافة ، في قبال مقولة الجوهر ، فهذه الثمانية هي مقولات حقيقيّة ذات وجود مستقل ، كمقولة ، الكيف ، والأين ، الخ ...
والثانية : هي الصفات الاعتبارية الإضافية الّتي تدخل تحت مقولة الإضافة ، وهذه ، حقيقتها عين الإضافة ، وروحها عين النسبة الموجودة في الأبوة ، والبنوة ، والفوقية ، والتحتية.
ثمّ إنّ القسم الأول ، ينقسم إلى قسمين.
أ ـ القسم الأول : هو صفة حقيقية ذو إضافة.
ب ـ القسم الثاني : هو صفة حقيقية ليس ذو إضافة.
فالحقيقية غير ذي الإضافة ، من قبيل البياض ، والحرارة ، فإنّه ليس لها إضافة غير موضوعها.
والصفة الحقيقية ذات الإضافة ، هي عبارة عمّا كان من قبيل العلم ، والحب ، والبغض ، فهذه الأمور صفات حقيقية وليست عبارة عن مجرد نسب ، بل لها إضافة إلى غير موضوعها ، فإنّ الحب يحتاج إلى محبوب ، لا إلى محب فقط ، وهكذا البغض ، والعلم ، فهذه صفات حقيقية ذات إضافة ، وهذه الإضافة ، أمر طارئ عليه ، ولهذا يختلف عن القسم الثاني ، الّذي هو صفات حقيقية بحتة ، كالأبوة ، والبنوة ، فإنّ الإضافة عين حقيقتها.
فالقطع ، صفة ذات الإضافة ، إن أخذ في موضوع الحكم بما هو صفة حقيقية بقطع النظر عن إضافته إلى متعلقه فيكون صفتيا ، وإن أخذ بما هو مضاف إلى متعلقه ، كان موضوعيا طريقيا كاشفيا.
وبهذا البيان الثاني ، يدفع الإشكال ، لأنّ أخذ القطع في الموضوع على وجه الكاشفية ، معناه : أخذه مضافا ، أي بلحاظ إضافته إلى معلومه ، وهذه الإضافة ليست داخلة في حقيقة العلم ، لأنّ العلم ليس
من مقولة الإضافة ، بل هو صفة حقيقية ثابتة ، والإضافة تتعلق به ، وهذه الإضافة أمر قد يؤخذ ، وقد لا يؤخذ ، فالأول طريقي ، والثاني صفتي.
إلّا أنّ هذا البيان الثاني غير تام ، لأنّه لا يحلّ الإشكال.
وتوضيح ذلك يكون ببيان نكتتين.
١ ـ النكتة الأولى : هي أنّ الإضافة على قسمين.
أ ـ القسم الأول : هو الإضافة المقولية الّتي هي عين مقولة الإضافة ، والّتي هي أمر طارئ على الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة.
والإضافة المقولية ، عبارة عن نسبة قائمة بين شيئين ، لكل منهما وجود مستقل عن الآخر في نفسه ، غايته أنّه أخيف أحدهما إلى الآخر وارتبط به ، فتسمى بالإضافة المقولية ، من قبيل ، الأبوة ، والبنوة ، فالأب له وجود مستقل في نفسه ، والبنوة لها وجود مستقل في نفسها ، ثمّ وقعت إضافة بينهما.
ب ـ القسم الثاني : ويسمّى بالإضافة التحليلية ، وقد يسمّى بالإضافة الإشراقية لبعض الاعتبارات ، ونريد بالتحليلية ، أنّ المضاف والمضاف إليه ليس لكل منهما وجود مستقل غير الآخر ، بل المضاف إليه قد يكون وجوده بنفس المضاف ، من قبيل إضافة الوجود إلى الماهية ، فيقال : الإنسان موجود ، فهذا الوجود ، وجود للإنسان ، فيضاف الوجود للإنسان ، إذ ليس للإنسان وجود مستقل في مقابل هذا الوجود ، بل هذا الوجود هو عين تحقق الإنسان خارجا ، أي أنّه بحسب الواقع ليس هناك إلّا شيء واحد نحلّله إلى ماهية ، ووجود ، ثمّ نوقع الإضافة بينهما ، فهذه إضافة تحليلية اعتبارية وليست مقولية.
٢ ـ النكتة الثانية : هي أنّ العلم له إضافتان ، إضافة إلى المعلوم بالذات ، وإضافة إلى المعلوم بالعرض ، والعلم قد يكون مطابقا للواقع ، وقد لا يكون مطابقا.
وعلى الأول ، يكون له في الخارج مطابق ، وهذا المطابق يسمّى معلوما بالعرض.
وعلى الثاني ، لا يكون له مطابق في الخارج ، لكن على كلا التقديرين ، سواء كان مطابقا وله معلوم ، أو كان خطأ وليس له معلوم في الخارج ، فعلى كلا التقديرين ، العلم لا بدّ له من معلوم ، ووراء هذا المعلوم في الخارج ، معلوم نسمّيه بالمعلوم بالذات ، وهو نفس الصورة الذهنية القائمة في أفق النّفس.
ومن هنا صحّ القول : إنّ العلم له إضافتان : إضافة إلى المعلوم بالذات ، أي إلى الماهية الحاضرة في عالم النّفس بهذا العلم ، وإضافة إلى المعلوم بالعرض ، أي للموجود الخارجي في حالة كون العلم مطابقا للواقع وثابتا في نفس الأمر ، وهذا يسمّى بالمعلوم بالعرض.
وحينئذ نأتي إلى كلام الآخوند «قده» ، حيث أنّه يقول : بأنّ ، القطع ، تارة يؤخذ في الموضوع مع إضافته للمعلوم ، وأخرى يؤخذ في الموضوع بقطع النظر عن المعلوم.
فهنا نسأل : ما ذا يريد بإضافته إلى المعلوم؟ هل يريد إضافته إلى المعلوم بالذات الّذي هو عبارة عن الماهية القائمة في أفق النّفس والحاضرة بهذا العلم ، أم أنّه يريد إضافته إلى المعلوم بالعرض ، أي إلى الواقع الخارجي في حال كون العلم له معروض بالعرض في الخارج؟.
فإن أراد الأول ، أي إضافته إلى المعلوم بالذات ، فهذه الإضافة ليست إضافة مقولية عرضية طارئة على العلم ، بل هي مقومة لحقيقة العلم في مرتبة ذات العلم ، ولا يمكن سلخها وأخذ العلم بدونها في موضوع الحكم ، لكي نتصور الصفتية ، لأنّ العلم بالنسبة إلى المعلوم بالذات ، كالوجود بالنسبة إلى الماهية ، فهي إضافة تحليلية لا مقولية ، إذ لا يمكن
أن يكون للعلم ثبوت حتّى في مرتبة ذاته منسلخا عن إضافته إلى المعلوم بالذات ، إذن ، فهذه الإضافة ليست مقولية عرضية ، بل هي ذاتية تحليلية ثابتة في مرتبة ذات العلم ، بمعنى أنّ الماهية توجد في عالم النّفس بوجود علمي ، فيسمّى علما ، وبوجود حبّي فيسمّى حبا ، وهكذا ، فالعلم مع المعلوم بالذات ، من قبيل الوجود مع الماهية.
وأمّا إذا أراد بالإضافة ، الإضافة إلى المعلوم بالعرض ، فهذه إضافة عرضية مقولية ، لأنّ المعلوم بالعرض له وجود مستقل في الخارج ، والعلم له وجود مستقل في النّفس ، وحصل بينهما علاقة ، وهي ، انّ هذا انكشاف لذاك ، وذاك منكشف لهذه ، فهذه الإضافة بين العلم والمعلوم بالعرض تكون إضافة عرضية يمكن أخذها ، ويمكن سلخها ، فحينما يؤخذ القطع في الموضوع ، فقد يؤخذ معها ، وقد يؤخذ بدونها ، لكن لا يمكن تنزيل القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، إذ لا يمكن تنزيله على القطع الّذي لوحظ مع إضافته للمعلوم بالعرض ، فإنّ تنزيله على ذلك لا يمكن مبنيا على ما تقدّم من الخصوصيات الّتي ذكروها لكل من القسمين ، الصفتي والطريقي.
فإنّه أولا : إذا فسّرنا القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، بالقطع الّذي أخذ فيه إضافة للمعلوم بالعرض ، فحينئذ يختصّ القطع الطريقي بما كان مطابقا للواقع ، إذ من الواضح أنّه إذا لم يكن مطابقا فليس له معلوم بالعرض ، إذ الإضافة إلى الموجود بالعرض فرع أن يكون هناك معلوم بالعرض ، إذن ليس له إضافة إلى المعلوم بالعرض ، والعلم الّذي لا يكون مصيبا ، لا يكون له معلوم بالعرض في الخارج ، إذن لا يكون له إضافة في الخارج ، لعدم وجود أحد طرفي النسبة في الخارج ، فلو كان القطع الموضوعي الطريقي ، عبارة عن القطع الّذي يكون فيه ، بإضافته ، إضافة للمعلوم بالعرض ، يلزم اختصاصه