بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

الآخوند «قده» ، وقد قلنا ويقال : إنّه بناء على هذه الصيغة ، تأتي الشبهة فيقال : بأنّ ما هو متعلق للشوق لم ينطبق على هذا الفعل ، وما هو منطبق على هذا الفعل ، وهو عنوان ـ «شرب مقطوع الخمرية» ـ لم يكن هو موضوع الشوق ومتعلّقه ، إذن ، فالفعل غير اختياري في المقام.

حينئذ يأتي الأمر الثاني بالصيغة الثانية ، وهي أن يقال : بأنّ اختيارية الفعل مربوطة بالإرادة ، لكن ليس اختيارية الفعل بذلك ، بمعنى أن يكون عنوان الفعل متعلقا للإرادة في عالم النّفس ، بل بمعنى انّ الفعل يكون معلولا للإرادة وناشئا في طولها ، فإن افترضنا انّ هذا هو الميزان ، فانّه حينئذ يقال : بأنّ كل إرادة في عالم النّفس تعرض على عنوان لا محالة ، وهذا العنوان يكون بتشخيص المريد ، فهو الّذي يشخص انّ هذا العنوان منطبق على هذا الفرد ، وبعد تشخيص انطباق ذاك العنوان على ذاك الفرد يتحرك نحو هذا الفرد ، والمحرك نحوه هو الإرادة بعد تمامية التشخيص ، فالإرادة هي المحركة ، سواء كان تشخيصه مطابقا للواقع أو غير مطابق ، فمثلا : هو يريد أن يشرب ماء مطلقا ، فهذا هو معروض الإرادة ، ثمّ يشخص انّ هذا ماء مطلق ، وفي طول هذا التشخيص يتحرك نحو هذا الفرد الخارجي ، والمحرك له هو الإرادة ، لأنّه يرى انّ هذا مصداق الإرادة ، والإرادة هي المحركة ، سواء كان تشخيصه مطابقا للواقع أو لا ، إذن فهذا الفعل الصادر منه ، المحرك له هو الإرادة لا محالة ، وعلى هذا يكون الفعل اختياريا في كلتا الحالتين.

وبناء على هذه الصيغة الثانية ، وهي كون المحرك له الإرادة وإن كان في مورد خطأ التشخيص فالصيغة الأولى غير منطبقة ، لأنّ ما هو محبوب له هو عنوان «الماء المطلق» ، وهو غير منطبق على هذا ، وما هو منطبق عليه. وهو عنوان «ماء الورد» مثلا ليس متعلقا للإرادة ، إذن ، فالصيغة الأولى غير منطبقة.

١٢١

لكن الصيغة الثانية منطبقة ، لأنّ هذا الفعل منشؤه هو الإرادة ، وهو يكفي في الاختياريّة.

وهنا في مورد التجري ، تعلقت إرادة هذا الإنسان بشرب الخمر ، فتشخّص انّ هذا الخل خمر فشربه ، فهنا ، لو لاحظنا الصيغة الأولى ، فهو لم يصدر منه فعل ذو عنوان اختياري لما مرّ معنا ، لكن لو لاحظنا الصيغة الثانية ، فهذا الفعل منه اختياري ، لأنّه بعد تشخيص انّه خمر ولو خطأ ، فالّذي حرّكه نحوه هو الإرادة ، إذن فهذا الفعل نشأ عن الإرادة ، وهذا يكفي في اختياريته.

والحاصل هو ، انّ هذا الفرد الخارجي قد صدر منه باختياره بعد أن طبّق مراده عليه وشخّصه فيه ، إذن ، فتحركه نحو إيجاد ذلك الفرد المشخّص بإرادته واختياره اختياري ، سواء أخطأ في تشخيصه ، أو كان تشخيصه مطابقا للواقع.

وبهذا ، نكون في الصيغة الثانية قد وفّقنا بين وجداننا وبينها.

٤ ـ البرهان الرابع : لصاحب الكفاية «قده» (١) نذكره مع شيء من التنقيح ، وحاصله هو ، انّ هذا المتجري لو فرض أنّه رأى شخصا يغرق ، فتخيّله عدوا للمولى ، لكن تجرّى وأنقذه ، فتبيّن أنّه ابن المولى ، ففي مثل ذلك ، هل يقال : بانّ هذا الإنقاذ أمر محبوب أم لا؟ فإن قيل انّه ليس بمحبوب للمولى ، فهذا خلاف الوجدان ، وإن قيل انّه محبوب للمولى ، فحينئذ لو التزم بقبح الفعل المتجرّى به مع كونه محبوبا للمولى لزم اجتماع الضدين ، وهو مستحيل.

وهذا الوجه يتضح جوابه ممّا ذكرناه سابقا ، فانّ هذا خلط بين باب الحسن والقبح وبين باب المصالح والمفاسد ، وعلى كلّ ، فنحن

__________________

(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ١ ، ص ٢٦١ ، ٢٦٢.

١٢٢

نختار انّه فعل محبوب وفيه مصلحة للمولى ، ولكن مع هذا هو فعل قبيح ، لأنّ الحسن والقبح ليسا حكمين مجعولين بلحاظ عالم المصالح والمفاسد حتّى يلزم من كونه قبيحا كونه ذا مفسدة ، ومن كونه محبوبا كونه ذا مصلحة.

وعليه فالصحيح انّ الفعل المتجرّي به قبيح بحكم العقل ، وقبحه بدرجة قبح المعصية.

__________________

(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ١٣.

١٢٣

المقام الثاني :

استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به

وقد اتضح ممّا ذكرناه ، انّ مسألة قبح الفعل غير مسألة استحقاق العقاب عليه ، بل هما مسألتان طوليتان إحداهما مترتبة على الأخرى ، الأولى هي قبح الفعل ، وهو ما لا ينبغي فعله ، والثانية هي مسألة استحقاق العقاب عليه.

والصحيح على ما ذكرناه ، انّه يستحقّ العقاب على الفعل المتجرّى به ، عقابا تأديبيّا من قبل العقلاء ، وعقابا قصاصيّا من قبل المولى ، لأنّه كالعاصي استلب من حق المولوية الّذي تقدّم انّ موضوعه الجامع بين العصيان والتجري ، وهذا يستنبط ممّا ذكرناه في المقام الأول ، وإنّما عقدنا له مقاما مستقلا باعتبار أنّ العلماء تعرّضوا لوجوه مستقلة لإثبات استحقاق العقاب.

وعلى طريقتنا يستنبط استحقاق العقاب من المقام الأول ، وعلى طريقتهم لا بدّ من التعرّض لما ذكروه.

وقد ذكر الميرزا «قده» انّ الشيرازي الكبير «قده» ذكر برهانا مركبا من أربع مقدّمات على استحقاق العقاب (١) ، وكانت المقدّمة الأولى

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٢٨ ، ٢٩.

١٢٤

والثانية لا ربط لها بمسألة استحقاق العقاب ، نعم المقدّمة الثالثة والرابعة يصلح كل منهما أن يكون وجها لإثبات استحقاقه.

إذن ، هذا البرهان ليس مركبا من أربع مقدّمات ، بل هو مركب من الثالثة والرابعة كما عرفت.

ونحن هنا نضيف إليهما الوجه الّذي ذكره الشّيخ الأنصاري «قده».

ومعه يتحصل لدينا ثلاثة براهين على استحقاق المتجري للعقاب.

١ ـ البرهان الأول : وهو المقدّمة الثالثة من برهان الشيرازي «قده» (١) ، وحاصله هو.

إنّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب إنّما هو ارتكاب ما يعلم مخالفته لتكليف المولى ، لا ما يكون مخالفا للواقع ، إذ المهم هو العلم بالتكليف لا إصابة هذا العلم للواقع ، وذلك لأنّه لو كانت الإصابة قيدا في الملاك ودخيلة فيه ، إذن لتعطّل باب المعصية ولما أمكن إحراز الإصابة في أيّ مورد ، لأنّ الإصابة ليست مضمونة إلّا للمعصومين ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا انّ حكم العقل بالاستحقاق ، تمام ملاكه هو العلم بلا دخل الإصابة ، إذ بناء على ذلك يكون الأمر أوضح ، حيث أنّ المتجري والعاصي يكونان على حد واحد لأنّ مناط استحقاق العقاب الّذي هو العلم متوفر فيهما معا.

وقد أجاب الميرزا «قده» عن ذلك بما حاصله : إنّا لو سلّمنا انّ تمام المناط في حكم العقل إنّما هو العلم ، لكن نقول : إنّ المتجري ليس بعالم حقيقة ، بل هو جاهل ، وجهله مركب في الواقع ، إذن غاية ما تثبتون هو ، انّ تمام الملاك هو العلم وهذا غير موجود في المتجري.

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٢٢٨ ، ٢٢٩.

١٢٥

وبرهان الشيرازي «قده» وجواب الميرزا «قده» لا محصل لهما.

أمّا برهان الشيرازي «قده» فلا محصل له ، لأنّنا نختار الشق الأول ، وهو أن تكون المصادفة دخيلة في ملاك حكم العقل باستحقاق العقاب ، وحينئذ يلزم تعطيل باب المعصية كما ذكر صاحب هذا البرهان.

ولكن هذا غير صحيح ، لأنّ المصادفة للقاطع محرزة ، لأنّه لا يحتمل هو في قطعه انّه غير مصادف ما دام قاطعا.

فإن قيل : بأنّ المصادفة غير محرزة لغير القاطع.

قلنا : لا بأس بذلك ، ولكن لا يلزم منه تعطيل باب المعصية ، لأنّ المهم إحراز نفس القاطع.

وإن شئت قلت : ننكر أن يكون العلم بالتكليف هو المناط ، وإنّما نختار أن تكون إصابة الواقع هي المناط ، والمفروض أنّها محرزة عند القاطع والمتجري ، لأنّ القاطع يرى أنّ قطعه مطابق للواقع ، فهو دائما يحرز التكليف ، كما انّه يرى نفسه مستحقا للعقاب على تقدير المخالفة ، إذن فلا يلزم تعطيل الأحكام.

وأمّا جواب الميرزا «قده» ، فكأنّ الميرزا «قده» أراد أن يختار الشق الثاني ، وهو أنّ تمام الملاك هو العلم ، لكنّه قال : إنّ العلم في المتجري غير موجود لأنّ علمه جهل مركب ، فكأنّ إيراده وجوابه نقاش لفظي ، يرجع إلى أنّ كلمة العلم لأيّ شيء موضوعة ، هل للقطع المصادف للواقع ، أو لما يشمل القطع في صورة الجهل ، وهو كما ترى ، إذ ليس الكلام استظهاريا ليردّ جواب الميرزا «قده» ، بل صاحب البرهان الشيرازي «قده» يريد البرهنة على أنّ إصابة القطع للواقع غير دخيلة في ملاك حكم العقل باستحقاق العقاب ، فعبّر الشيرازي «قده» بالعلم وهو يريد بالعلم ذات القطع ، والميرزا «قده» هنا طعّم القطع

١٢٦

بالإصابة وانّ القاطع غير المصيب ليس بعالم ، فأخذ المصادفة قيدا في العلم ، وهذا خلاف مقصود صاحب هذا البرهان ، وإلّا فيمكن التعبير بالقطع بدلا عن العلم.

وغرابة هذه المطالب من هؤلاء الأعاظم ، تدعو لاحتمال أن لا تكون صادرة عنهم ، أو لاحتمال شيء آخر كانوا يقصدونه.

٢ ـ البرهان الثاني : وهو المقدّمة الرابعة في برهان الشيرازي «قده» ، والّتي قلنا إنّها يمكن جعلها برهانا.

وحاصلها : انّ الميزان في استحقاق العقاب ، إمّا القبح الفعلي وإمّا القبح الفاعلي ، والأول باطل ، إذ يلزم منه أنّ المكلّف لو ارتكب حراما بتخيّل أنّه حلال ، يلزم منه أن يكون مستحقا للعقاب ، لأنّ القبح الفعلي محفوظ ، مع أنّ هذا لا يستحق العقاب ، وحينئذ يتعيّن الشق الثاني ، وهو أن يكون ملاك حكم العقل باستحقاق العقاب هو القبح الفاعلي ، وهذا محفوظ في العاصي والمتجري معا ، وإنّما يختلفان في القبح الفعلي فقط.

وقد ناقش الميرزا «قده» فيه ، بأنّه يوجد شق ثالث (١) وهو ، إنّا لا نقول بأنّ مناط استحقاق العقاب هو القبح الفعلي ليردّ النقض ، ولا القبح الفاعلي على إطلاقه ليلزم إشراك المتجرّي مع العاصي ، بل نقول : بأنّ الملاك هو القبح الفاعلي الناشئ من القبح الفعلي ، أي من مجموع القبحين ، لأنّ القبح الفاعلي ، تارة ينشأ من سوء السريرة ، وأخرى ينشأ من قبح الفعل ، وبهذا يفرّق بين العاصي والمتجري ، وحينئذ لا يردّ النقض ، لأنّ المتجري وإن كان له قبح فاعلي ، لكن لأنّه غير ناشئ من الفعلي فلا عقاب له ، بل يختصّ العقاب بالعاصي.

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٢٩.

١٢٧

وكلا الكلامين ، البرهان مع ردّه ، تلفيق من الكلام ، مبني على تخيّل أنّ القبح على نحوين ، فاعلي وفعلي ، والفعلي معناه : حصة قائمة بالفعل بذاته وبقطع النظر عن إضافة إلى فاعله ، وهذا مبني على خلط بين الحسن والقبح ، وباب المصالح والمفاسد.

وقد بيّنا سابقا ، انّ باب الحسن والقبح إذا نحن أرجعناهما إلى المصالح أمكننا أن نتعقل قبحان ، قبحا في الفعل بذاته ، وقبحا من حيث انتسابه إلى الفاعل ، فنسمي الأول فعليا ، والثاني فاعليا.

لكن بعد أن بيّنا انّ الحسن والقبح بابهما باب مستقل ، فحينئذ ، دائما يكون معروض الحسن والقبح هو الفعل بما هو مضاف إلى صاحبه وفاعله ، وحينئذ ، فلا قبح فعلي مستقل عن فاعله الفاعلي ليتأتّى مثل هذا الكلام.

٣ ـ البرهان الثالث : وهو ما ذكره في الرّسائل الشيخ الأعظم «قده» (١) حيث يقال : انّه لو اختصّ استحقاق العقاب بالعاصي ، للزم إناطة الاستحقاق بأمر غير اختياري ، وهذا مستحيل.

وإن شئت قلت : لو كان عدم استحقاق المتجرّى للعقاب عدم إصابته للواقع ، كان معنى استحقاق العقاب للعاصي هو ، إصابة قطعه للواقع ، وحينئذ لا يكون فرق بين العاصي والمتجري ، وتكون الإصابة وعدمها أمرا غير اختياري ، وحينئذ ، فكيف يمكن أن تناط به العقوبة.

وقد أجيب عن هذا البرهان في الرّسائل (٢) بما يرجع حاصله : إلى التفكيك بين المقتضي لاستحقاق العقاب ، وبين المانع عن تأثير هذا

__________________

(١) فرائد الأصول : الأنصاري ، ص ٥ ، ٦.

فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ٣٨.

(٢) المصدر السابق.

١٢٨

المقتضي ، حيث أنّ الاستحقاق علّة مركّبة من مقتضي وعدم مانع ، فالمقتضي يجب أن يكون أمرا اختياريا دائما ، وأمّا المانع عن الاستحقاق فلا يلزم كونه اختياري ، وهذا أمر لا بدّ من الالتزام به ، إذ هناك أمور غير اختيارية تكون مانعة عن الاستحقاق جزما كالعجز مثلا ، كما لو فرض أنّه حدّث نفسه بشرب الخمر لكنّه كان عاجزا عنه ، فهنا لا عقاب ، لوجود المانع الّذي هو غير اختياري ، وهذه كبرى.

وحينئذ نقول : انّه لو فرض أنّنا نقول : بأنّ نفس المصادفة هي المقتضي لتمّ ما ذكر ، وأمّا إذا فرض أنّ المقتضي للاستحقاق كان عبارة عن نفس تصدّيه لعصيان المولى ـ وهذا قد وقع منه بمحض اختياره ـ إذن ، فهذا المعنى أمر اختياري محفوظ في المتجري والعاصي معا ، غايته أنّه في العاصي ، المقتضي أثّر أثره ، لعدم اقترانه بالمانع ، وأمّا في المتجري ، فقد اقترن هذا المقتضي بالمانع ، وهو خطؤه في التشخيص ، وهذا المانع وإن كان غير اختياري لكن لا يضرّ في كونه مستحقّا للعقاب.

وهذا الجواب على مستوى هذا البيان صحيح : إلّا أنّ هذا الّذي ذكره الشّيخ الأعظم «قده» (١) لو صيغ بالعبارة الّتي صغناه بها لانطبق على مسلكنا ، فإنّ المتجري والعاصي كلاهما هتك المولى وستر المولويّة وتحدّاه ، ولا فرق بينهما من هذه الناحية ، ومجرد إصابة هذا ، وعدم إصابة ذاك ، لا دخل لها في مقدار التحدّي ، بل نسبة التحدّي واحدة ، وحيث أنّ حقّ المولويّة مرجعه إلى حقّ احترامي ، فنسبة هتك هذا الحق إليهما على حدّ سواء ، فلا بدّ أن يشتركا في العقاب ، وحينئذ ، بهذا البيان يكون هذا البرهان صحيحا.

__________________

(١) فرائد الأصول : الأنصاري ، ص ٥ ، ٦.

١٢٩

المقام الثالث :

في حرمة الفعل المتجرى به شرعا

والاستدلال عليها تارة يكون بلحاظ نفس إطلاقات أدلّة الأحكام الواقعية ، بمعنى أنّنا نثبت حرمة مقطوع الخمرية بنفس خطاب «لا تشرب الخمر» ، وأخرى يكون بلحاظ قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فإنّ كل ما حكم العقل بقبحه ، حكم الشرع كذلك بحرمته ، وثالثة يكون بلحاظ الإجماع ، ورابعة بلحاظ الرّوايات ، إذن فهناك أربعة مسالك يدخل منها لإثبات حرمة الفعل المتجرّى به.

١ ـ المسلك الأول : هو التمسك بإطلاقات الأدلّة الأولية الدالة على حرمة شرب الخمر قبلا.

ولا شكّ انّ هذه الاستفادة تحتاج إلى عناية ، لأنّ الدليل لو خلّي وطبعه ، لاقتضى تعلّق الحرمة بالموضوع بوجوده الواقعي وهو الخمرية ، لأنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها بوجوداتها الواقعية من دون دخل للعلم والشك فيها ، فالخمر اسم للمسكر المخصوص ، لا لما قطع بأنّه كذلك ، إذن ، فالتصرف في مدلول العبارة وإخراجه من ذاك إلى هذا يحتاج إلى عناية.

وهذه العناية يمكن بيانها بأحد بيانين.

١٣٠

١ ـ البيان الأول : وهو الّذي سلكناه في التعبير عن مثل هذه العناية الموهومة في المقام ، وذلك بأن يقال : انّ الخطاب إذا فرض أنّ موضوعه كان هو الخمر الواقعي ، فهذا معناه ، استبطان متعلّق التكليف للمصادفة ، إذ من الواضح انّ هذا لا يكون شرب خمر واقعي إلّا في فرض المصادفة ، بحيث لو صادف الواقع يكون حينئذ متعلقا للتكليف ، وإلّا فلا ، والمصادفة باعتبارها أمرا غير اختياري كما تقدّم ، إذن فلا يعقل أخذها في متعلق التكليف ، إذن ، فلا يعقل القول بأنّ شرب الخمر الّذي يكون مصادفا للواقع حرام لعدم اختيارية المصادفة ، وحينئذ ، لا بدّ وأن يكون متعلق التكليف معرّى عن قيد المصادفة ، ومعنى ذلك : أنّ التكليف متعلق بالجامع بين المصادفة وغيرها ، وهذا الغير يشمل مقطوع الخمرية عند المتجري.

وهذا البيان هو صورة مغالطة.

وحلّها هو أن يقال : انّ المصادفة لا تؤخذ متعلقا للتكليف ، بحيث يكلّف الإنسان بأن يكون خمره خمرا حقّا ، ولكن المصادفة تؤخذ موضوعا للتكليف وشرطا ، ويصاغ هذا بشكل القضية الشرطية فيقال : إذا كان ما تراه خمرا ، مصادفا للواقع ، فهو حرام ، فالمصادفة الراجعة إلى مفاد كان الناقصة لا يتعلّق بها التكليف ، بل يتعلّق بمفاد كان التامة ، فالمصادفة الّتي تؤخذ في مفاد كان الناقصة تؤخذ شرطا في التكليف بنحو مفاد كان التامة كما عرفت ، وحينئذ ، لا يلزم أن يكون التكليف تكليفا بالمصادفة ، وبالتالي بأمر غير اختياري.

٢ ـ البيان الثاني : وقد نقله الميرزا «قده» (١) ، وبيانه يتوقف على شرح بعض مصطلحات الميرزا «قده» ، وعنده هنا ثلاثة أمور :

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ١٥ ـ ١٦.

١٣١

الأول هو الإرادة ، وهو واضح ، والثاني هو الفعل ، وهو واضح أيضا ، وهناك شيء ثالث بين الإرادة والفعل ، وهو ما يسميه بالاختيار ، وهو فعل نفساني يأتي بعد الإرادة وقبل الفعل ، ولهذا يقال : «أراد ، فاختار ، ففعل» ، وهذا الفعل النفساني حقيقته بتحرك النّفس على طبق الإرادة الّذي ينتج قيامها بالفعل خارجا ، وهو «قده» يرى أنّ الإرادة مهما كانت قوية لا تكون علّة حتميّة لوقوع الفعل في الخارج كما يتصور الفلاسفة ، بل بعد تماميتها فالإنسان يبقى له الاختيار وعدمه ، ومعنى الاختيار هو أن يحرك نفسه نحو المراد ، وعليه : فعندنا إرادة ، واختيار ، وفعل خارجي ، والإرادة تكون متعلقة بما يلائم قوّة من قوى الإنسان ، فهو يشتهي الماء لأنّه عطشان ، فالإرادة تتعلق بالعناوين الواقعية الّتي هي تتطابق ، ـ حينما يتصورها الإنسان ـ مع شهوة من شهواته ، فالإرادة تتعلق بشرب المسكر ، وأمّا الاختيار فهو تحرك نفسي نحو المراد خارجا ، وهذا الاختيار يكون محركا نحو ما يراه الإنسان مصداقا لشرب الخمر ، إذ من الواضح أنّ الإنسان بعد اشتياقه للمسكر الواقعي ، يصير في مقام التحرك ، فالنّفس تحمله إلى ما يراه هو خمرا ، ولهذا قد يفرض أنّ الخمر أمامه لكن لا يتوجه نحوه ، لأنّه لا يراه خمرا ، فلو أراد شرب الخمر وتخيّل انّ هذا الماء خمرا فسوف تحمله نفسه عليه ، لأنّه يعتقده مصداقا لمراده ، سواء كان مصداقا للمراد في الواقع أم لا.

وبعد هذه المقدّمة ، حينئذ نأتي إلى بيان الميرزا «قده» ، وهو مركب من أمرين :

١ ـ الأمر الأول : هو أنّ التكليف حيث أنّه من أجل تحريك اختيار المكلّف ، لهذا فهو لا يتعلق إلّا بالأمور الاختيارية ، إذن فمتعلقه نفس الاختيار ، أو لا أقل ، انّ متعلقه هو بما يتعلق به الاختيار ، لأنّ التكليف ميزانه وملاكه هو ، تحريك اختيار المكلّف سلبا أو إيجابا ، فلا

١٣٢

بدّ وأن يتعلق التكليف إمّا بنفس الاختيار ، أو أنّه يتعلق بما يتعلق به الاختيار.

٢ ـ الأمر الثاني : هو أنّ الاختيار يتعلق بما يعتقد كونه خمرا ، لا بالخمر الواقعي ، سواء كان خمرا مصداقا لمراده أو لم يكن.

وهذا قد فهم من المقدّمة ، لأنّ الاختيار يتعلق بما يراه الإنسان مصداقا لمراده كما عرفت.

وحينئذ ، إذا جمعنا بين الأمرين وقلنا : انّ التكليف يتعلق بالاختيار ، أو بما يتعلق الاختيار به ، وقلنا : بأنّ ما تعلق به الاختيار ـ وهو عبارة عمّا يراه الإنسان خمرا ـ فحينئذ ينتج أن التكليف متعلق بما يراه الإنسان خمرا ، سواء كان خمرا في الواقع أو لم يكن.

وقد اعترض الميرزا «قده» (١) على هذا البيان بتقريب يرجع حاصله : إلى أنّ الاختيار وإن كان يتعلق بما يعمل الإنسان انّه خمر ، لكن هذا العلم الّذي يؤخذ في موضوع الاختيار ، ليس مأخوذا على وجه الصفتية ، بل على وجه الطريقيّة ـ أي قطع موضوع ـ فهذا القطع لو كان مأخوذا في موضوع الاختيار على وجه الصفتية بلا نظر لمقطوعه أصلا ، لتمّ هذا الكلام ، لكن ليس الأمر كذلك ، لأنّ القطع بكون هذا خمرا ، إنّما يحرك الإنسان باعتباره كاشفا عن متعلقه ، إذن ، فمتعلقه دخيل في موضوع الاختيار ، فيصير موضوع الاختيار هو القطع مع المقطوع ، أي القطع الموضوعي الطريقي ، وهذا يلزم منه عدم شمول الخطاب للمتجري ، لأنّ القطع بالنسبة إليه موجود ، لكن المقطوع غير موجود.

وهذا الكلام من الميرزا «قده» مبني على مطلب سوف يأتي في القطع الموضوعي ، فإنّ القطع الموضوعي ينقسم إلى قطع موضوعي

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ١٥ ـ ١٦.

١٣٣

طريقي ، وقطع موضوعي صفتي ، فهناك كلام للميرزا «قده» في القطع إذا أخذ في الموضوع على وجه الطريقية ، ولا يعقل أخذه في تمام الموضوع من دون أن يكون للمقطوع دخل ، لأنّه لو كان مأخوذا على نحو الطريقية ، فلا بدّ من فرض كون نظره إلى ذي الطريق ، وحينئذ ، فرض عدم دخله ، يعني فرض عدم النظر وهو تهافت.

ولهذا قال : إنّ القطع الّذي يؤخذ في الموضوع على وجه الطريقية يجب أن يكون مأخوذا جزءا ، والجزء الآخر هو ذو الطّريق ، ولا يصحّ أن يكون تمام الموضوع ، لأنّه تهافت ، لأنّ معناه : أنّه لا نظر لذي الطّريق ، ومعنى أخذه على وجه الطريقية ، يعني : انّ النظر لذي الطّريق وهو تهافت.

إذن ، فكلامه هنا مبني على كلام هناك ، حيث يقول هنا انّ القطع المأخوذ في موضوع الاختيار ، لو كان مأخوذا على وجه الصفتية لكان الكلام تاما ، لأنّه يكون هو تمام الموضوع ، لكن القطع إنّما يحرك للاختيار بما هو طريق ، إذن فهو مأخوذ على وجه الطريقية والموضوعي الطريقي ، بحيث أنّه يؤخذ جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو المقطوع ، أي الخمرية.

وبناء عليه ، لا يكون الخطاب شاملا لمقطوع الخمرية وهو ليس بخمر.

وهذا الكلام غير صحيح ، لأنّ مبناه غير صحيح كما سوف يأتي ، فإنّ القطع الموضوعي سواء الصفتي منه أو الطريقي ، يعقل أخذه تمام الموضوع كما يعقل أخذه جزء الموضوع.

إلّا أنّ الجواب الحاسم ، هو حلّ المغالطة ، وذلك بأن يقال : انّ التكليف لا يلزم أن يكون متعلقا لا بنفس هذا الاختيار ولا بنفس

١٣٤

موضوع هذا الاختيار ، وإنّما يلزم بقانون استحالة تكليف العاجز ، أن يكون متعلقا بما يكون قابلا لأنّ يتعلق به الاختيار ويحركه نحوه.

والعناوين الواقعية لها هذه القابلية ، باعتبار قابلية وصولها إلى المكلّف وتحريكه نحوها ، فكون التكليف مشروطا بالقدرة والاختيار شيء ، وكونه متعلقا للاختيار شيء آخر ، فالمهم أنّ التكليف لا يتعلق بأمر لا يقبل بأن لا يتعلق به الاختيار ، إذ لا بدّ من كون موضوعيهما متطابقين تماما.

٢ ـ المسلك الثاني : لإثبات حرمة الفعل المتجرى به ، هو التمسك بقاعدة الملازمة بين حكم العقل ، وحكم الشرع.

وهذا المسلك له صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : فهي أنّ العقل يحكم بقبح التجري. وبالتالي يحكم بقبح الفعل المتجرّى به.

وأمّا الكبرى : فهي انّ كل ما حكم العقل بقبحه ، حكم الشرع بحرمته ، للملازمة.

أمّا الصغرى ، فقد تقدّم الكلام عنها في المقام الأول.

وأمّا الكبرى ، وهي قاعدة الملازمة ، فسوف يأتي الكلام عنها عند الكلام عن الدليل العقلي.

والآن لو افترضنا تمامية الكبرى ، بعد أن افترضنا تمامية الصغرى ، حينئذ ، يبقى في المقام انّ هذه الكبرى ـ وبغض النظر عمّا يرد عليها من إشكالات ـ إنّما تجري في مورد قابل لجعل الحكم من قبل الشارع ، وأمّا في مورد لا يعقل فيه جعل الحكم من قبل الشارع ، فالقاعدة هذه لا تجري.

١٣٥

إذن ، فالبحث ينحصر في انّ هذا المورد قابل لجعل الحكم الشرعي ، أم أنّه يوجد مانع عقلي ومحذور ثبوتي في جعل الحكم الشرعي؟.

فإن كان هناك مانع ومحذور ، فقاعدة الملازمة لا تجري ، وحينئذ لا يتمّ هذا المسلك ، وإن تبيّن أنّه لا محذور ، فحينئذ تجري هذه القاعدة ويتم هذا المسلك.

وهنا يمكن أن يقرب وجود المحذور الثبوتي بعدّة وجوه.

١ ـ الوجه الأول : وهو ما سجله السيّد الخوئي «قده» (١) في دراساته.

وحاصله : هو انّ هذه الحرمة المفروض ثبوتها تبعا لحكم العقل بقبح التجري ، هل هي مخصوصة بخصوص الفعل المتجرّى به ، أي الفعل غير المصادف للواقع ، المقطوع الحرمة ، أو أنّها تشمل مطلق مقطوع الحرمة ، سواء صادف الواقع أم لا؟ ، وكلا الشقين باطل.

أمّا الشق الأول : فلأنّ هذه الحرمة إنّما ثبتت باعتبار قبح التجري ، والعقل يحكم بقبح التجري والعصيان معا ، ولا يفرق بينهما ، لأنّهما بملاك واحد ، إذن فلا موجب لاختصاص الحرمة الناشئة من هذا القبح بخصوص موارد التجري ، في حين أنّ القبح والحرمة على حدّ واحد.

وأمّا الشق الثاني : وهو أن تكون هذه الحرمة متعلقة بجامع مقطوع الحرمة ، فإنّ هذا مستحيل عقلا لاستلزامه التسلسل ، وذلك لأنّ هذا التحريم بنفسه هو خطاب سوف نقطع به ، وحينئذ يتولد منه خطاب آخر ، وهو حرمة مقطوع هذا الخطاب ، لأنّ الحرمة على طبيعي مقطوع الحرمة ، وهكذا تأتي منه حرمة أخرى تحرّم مقطوعها وهكذا يتسلسل.

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٣٨.

١٣٦

وهذا البرهان غير تام : لأنّا يمكن أن نختار الشق الأول والثاني بلا أيّ محذور.

فأولا : نسلم انّ هذا الخطاب الّذي نريد إثباته للمتجري ، موضوعه ، هو طبيعي مقطوع الحرمة ، أي أنّنا نختار الشق الثاني ولا يلزم التسلسل في التحريمات ، وذلك لأنّ كل تحريم فعليته تابعة لفعلية موضوعه ، وموضوع الحرمة في هذا الخطاب هو القطع بحرمة سابقة ، لأنّ موضوعه هو مقطوع الحرمة ، فإذا التفت إلى الحرمة الجديدة وإلى كبراها وصغراها ، إذن سوف يحصل القطع بها ، وبعد حصول القطع ، يصبح الموضوع فعليا.

وأمّا حصول حرمة ثانية إذا التفت لها وإلى كبراها وصغراها ، يحصل له قطع بها ، ثمّ تأتي حرمة أخرى ، وهكذا كلّما حصل له التفات إلى الحرمة الجديدة مع صغراها وكبراها يتولد عنده قطع جديد واستتبع هذا القطع الجديد حرمة جديدة. فهذا أمر غير معقول إذ لا يعقل أن يصدر من المكلّف التفاتات وقطوع غير متناهية ، بل انّ هذه عملية جولان عقلي ، إذ لا يمكن أن يصدر من المتناهي قطوع غير متناهية ، إذن ، فهذه عملية تنتهي ، لأنّ نشوء كل حرمة عن سابقتها يكون عن التفات من المكلّف إلى الصغرى والكبرى ، فترتب الحرمة الثانية على الأولى ، لالتفات المكلّف دخل فيه.

وكأنّ صاحب هذا الكلام يتوهم انّ كل حرمة تولد حرمة بلا التفات من المكلّف ، وهذا غير صحيح.

وثانيا : لو سلّمنا انّ هذا الشق الثاني يلزم منه محذور التسلسل ، حينئذ نقول باختيار الشق الأول ، أو على الأقل نختار أن يكون موضوع الحرمة كل ما هو مقطوع الحرمة من غير ناحية هذا الخطاب ، ففي هذا الخطاب الجديد المستكشف بقانون الملازمة يقول : أحرّم عليك كل

١٣٧

مقطوع الحرمة من غير ناحية هذا الخطاب ، وإنّما كان استثناء هذا الخطاب ، لئلا يقع محذور التسلسل ، مضافا إلى إشكالات أخرى.

٢ ـ الوجه الثاني : للبرهنة على استحالة ذلك ، هو للميرزا «قده» ، وهو أحسن من سابقه (١).

وحاصله هو : انّ هذا التحريم الّذي يثبت للتجري بقانون الملازمة المزبورة لا يخلو من أحد شقوق ثلاثة ، فإنّه إمّا أن يكون مجعولا بنفس خطاب «لا تشرب الخمر» ، وإمّا أن يكون مجعولا بخطاب آخر ، وحينئذ ـ أي على الثاني ـ يحتاج إلى موضوع ، وموضوعه حينئذ ، إمّا أن يكون هو خصوص مقطوع الحرمة غير المصادف ، وإمّا أن يكون جامع مقطوع الحرمة ، فهنا شقوق ثلاثة.

والشق الأول منها باطل ، لأنّ حرمة التجري في طول التجري ، والتجري في طول وصول حرمة شرب الخمر إلى المكلّف ، إذ لو لم يصل هذا الحكم إلى المكلّف لا يكون متجريا ، إذن فحرمة التجري متأخرة رتبة عن وصول حرمة شرب الخمر ولا يعقل أن يؤخذ المتأخر مع المتقدم في خطاب واحد ، فكيف يعقل أن تحصل في عرضها وبجعل واحد.

وأمّا الشق الثاني ، وهو أن يكون حرمة التجري مجعولة بخطاب مستقل وموضوعه مقطوع الحرمة غير المصادف ، فهذا غير معقول ، لأنّ مثل هذا الخطاب لا يعقل وصوله إلى المكلّف وتنجيزه في وقت واحد ، لأنّه إن لم يكن قاطعا بخمرية شيء ، إذن فلا موضوع ، وإن قطع ، فهو يرى أنّ قطعه مصيب للواقع ، فحينما يقول له مولاه : حرّمت عليك المقطوع الخطئي ، فسوف يقول : إنّ مقطوعي صحيح ، وحينئذ فلا يعقل

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ١٧.

١٣٨

فعليته وتنجيزه على المكلّف في آن واحد ، وكل خطاب يستحيل تنجزه يستحيل جعله.

وأمّا الشق الثالث : وهو أن يقال للمكلّف : إنّ مقطوع الخمرية حرام سواء كان مصيبا أم لا ، حينئذ ، هذا الخطاب يمكن وصوله إلى المكلّف ، لكن هذا الخطاب غير معقول أيضا ، وذلك ببيان أمرين.

١ ـ الأمر الأول : هو انّ هذا الخطاب ، النسبة بينه وبين خطاب «لا تشرب الخمر» من حيث الموضوع ، هي العموم من وجه ، لأنّ الخمر قد يكون مقطوعا وقد لا يكون ، ومقطوع الخمرية ، قد يكون خمرا وقد لا يكون ، لكن في نظر القاطع تكون النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، لأنّه هو يرى انّ مقطوعاته دائما مصيبة ، فمقطوع الحرمة أخصّ مطلقا في نظره من الخمر الواقعي وحينئذ يلزم اجتماع المثلين بحسب نظره وهو محال ، وإن كانت النسبة العموم من وجه أو التباين ، فيعقل تعددهما بلحاظ موردي الافتراق.

٢ ـ الأمر الثاني : هو انّ جعل خطابين وجوبيين ، أو حرمتين وبينهما مادة اجتماع ، إن كان أحدهما مع الآخر بينهما عموم من وجه ، فيعقل جعل خطابين متماثلين في مادة الافتراق ، لأنّه في مادة الاجتماع يستحيل تعدد الخطاب ، لاستحالة وجود المثلين في مورد واحد ، فلا بدّ من الالتزام فيه بوحدة الخطاب حينئذ ، ويبقى لكل من الخطابين مجاله في مادة الافتراق ، فيكون تعدد الخطاب هنا معقول ، لكن إذا كانت النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فتعدد الخطاب غير معقول لما عرفت من اجتماع المثلين حينئذ ، إذن فلا بدّ من التأكد ، ومعه فأيّ شيء يبقى للأخص مطلقا ، إذ أنّه سوف يستهلك في الخطاب الأعم ، إذن يستحيل تعدد الخطاب ، وعلى هذا الأساس ، إذا ضممنا الأمرين إلى بعضهما ، فيلزم من خطاب «لا تشرب الخمر» ، مع خطاب «لا تشرب

١٣٩

مقطوع الخمرية» ـ حيث انّ النسبة بينهما هي العموم المطلق في نظر القاطع ـ يلزم اجتماع المثلين وهو محال كما يراه المكلّف ، إذن فجعل مثل هذا الخطاب يكون مستحيلا وبهذا يبطل الميرزا «قده» هذه الشقوق الثلاثة.

ولكن هذه المحاولة من الميرزا «قده» غير تامة ، لأنّ ما ذكره فيها في الفروض الثلاثة ، ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

أمّا ما أفاده «قده» بالنسبة للفرض الأول ، من كون الحرمتين طوليتين فلا تجعلان بجعل واحد ، لأنّه يلزم من جعلهما بجعل واحد ، أخذ التحريم المتأخر مع المتقدم.

وقد قلنا في محله : إنّ الملحوظ في هذا المحذور ، تارة هو دعوى انّ هذين الأمرين حيث أنّهما طوليان ، فلا يعقل تصور مفهوم جامع بينهما لينصبّ جعل الحكم على الجامع فيما بينهما ، لاستحالة تصور مفهوم جامع بين الطوليّين ، ليحكم عليه بحكم من الأحكام.

فإن كان هذا هو الملحوظ :

فجوابه : انّ مجرد الطولية بين الفردين لا يمنع عن تصور جامع مفهومي بينهما ، إذ قد تقرّر في بحث حجيّة الخبر مع الواسطة ، انّه بلحاظ عالم المجعولات والأحكام الفعلية ، لا مانع من تأخر بعضها عن بعض وأخذ بعضها في موضوع البعض الآخر ، مع كونها جميعها مجعولة بخطاب واحد وجعل واحد ، فمثلا : أخبار المفيد «قده» خبر ، وأخبار الطوسي «قده» عن خبر المفيد «قده» خبر آخر ، والثاني في طول الأول مع أنّه يوجد جامع بينهما ، وهو مفهوم الخبر.

إذن ، ففي المقام ، يكون وصول الحرمة الفعلية للخمر الواقعي الّذي يريد شربه ، مأخوذا في موضوع الحرمة الفعلية للتجري ، ولا محذور من جعلهما بخطاب واحد.

١٤٠