بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

وبهذا التقريب ينبغي أن يبين مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن جريان الأصول.

٢ ـ الأمر الثاني : في تحقيق حال هذه المانعية ، فنقول :

إنّ وجوب الالتزام فيه احتمالات.

١ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون وجوب الالتزام بالأحكام ، حكما عقليا في طول تنجز التكليف ، بمعنى أنّ كل تكليف يتنجز امتثاله العملي وموافقته العملية في طول ذلك الحكم العقلي بلزوم الالتزام الجنائي به ، فيكون وجوب الموافقة الالتزامية حكما عقليا في طول تنجز التكليف من ناحية امتثاله العملي.

ومن الواضح ، انّه بناء على هذا الاحتمال لا يعقل مانعية وجوب الالتزام عن جريان الأصول ، لأنّ وجوب الالتزام هنا فرع تنجز التكليف ، ومع جريان الأصل لا يتنجز التكليف ، لأنّه بجريان الأصل يرتفع تكوينا موضوع وجوب الموافقة الالتزامية.

وينبغي أن يعلم أنّه بناء على هذا العلم الإجمالي ، يختصّ وجوب الموافقة الالتزامية بالأحكام الإلزامية دون الترخيصية ، لأنّ الأحكام الترخيصية لا تنجز لها ، ويختصّ بالأحكام الإلزامية الواصلة أيضا ، لأنّ غير الواصل لا تنجز له ، ويختص بالأحكام الإلزامية الواصلة بوصول منجز لا بوصول غير منجز كالعلم الإجمالي ونحوه الدائر أمره بين المحذورين ، إذن فلا موضوع لوجوب الموافقة الالتزامية في هذه الموارد ليتصور مانعيته عن جريان الأصول.

٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون وجوب الموافقة الالتزامية متنجزا في عرض التنجز العملي ، يعني : انّ للحكم الشرعي تنجزان في عرض واحد ، أحدهما تنجز عملي ، والآخر تنجز التزامي ، والعقل

٣٠١

يحكم إذا وصل التكليف بوجوب الموافقة العملية ، وهذا هو التنجز العملي ، ويحكم بوجوب الموافقة الالتزامية ، وهذا هو التنجز الالتزامي ، وهذان حكمان عقليان ، وتنجزان عقليان عرضيان ، وكلاهما فرع وصول الحكم الشرعي ، فإذا لم يصل ، فكلاهما غير منجز.

وفرق هذا الاحتمال عن الأول ، هو أنّ التنجز الالتزامي هنا ليس في طول التنجز العملي ولذا يعقل الانفكاك بينهما ، بأن يكون حكم من ناحية التنجز العملي غير منجز ، لكن من ناحية الالتزام منجز ، لعدم الطولية بينهما ، وبناء عليه : قد يتنجز الحكم التزاما ولا يتنجز عملا.

وحينئذ يقال : إذن ، ما هو المقدار الواصل من التكليف هنا؟ فيقال : إنّ المقدار الواصل في موارد العلم الإجمالي هو الجامع بين الوجوب والحرمة وهو الإلزام ، إذ من الواضح انّ إباحة كل منهما بالخصوص غير واصلة في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، بل الواصل هو جنس الالتزام ، وهناك ، الواصل جامع الإباحة ، وحينئذ ، وحيث أنّنا قلنا إنّ وجوب الموافقة الالتزامية فرع الوصول ، إذن فتجب الموافقة الالتزامية بمقدار ما وصل ، وما وصل هو الجامع ، إذن يجب الالتزام بالجامع ، وهذا لا ينافي جريان الأصول في كلا الطرفين ، إذن ، فتجري أصالة البراءة في هذا الطرف وفي ذاك الطرف ، لكن يلتزم بالجامع ، ولا يؤدّي جريانها في كليهما إلى الترخيص في الموافقة الالتزامية القطعية ، كما يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة العملية القطعية ونكتة الفرق هي أنّه في باب المخالفة العملية القطعية نقول : إنّ التكليف المنجز هو الجامع ، لكن لا تجري الأصول في أطراف المعلوم بالإجمال ، لأنّ جريانها في تمامها يؤدّي إلى الترخيص في ترك الجامع رأسا ، لأنّه موجود في أحدهما ، ومع الترخيص في كليهما يلزم منه ترخيص بترك الجامع ، إذن جريانها يوجب الترخيص في المخالفة العملية

٣٠٢

القطعية للجامع ، لأنّ الإتيان بالجامع مع ترك الطرفين غير معقول ، إذ ليس له وجود إلّا بهما ، فإذا تركا ترك.

وهذا بخلافه في الموافقة الالتزامية القطعية ، فإنّ جريان الأصل المؤمن في الأطراف يستدعي عدم وجوب الالتزام بكل منها ، وهو لا ينافي وجوب الالتزام بالجامع ، لأنّ الالتزام به لا يوجد في ضمن الالتزام بأحدهما ، بل يمكن للالتزام أن يقف على الجامع ولا يسري إلى هذا الطرف أو ذاك ، وذلك لأنّ الجامع هنا أمر نفساني يوجد بوجود مستقل دون أن يسري إلى أحد الطرفين ، كما انّ نفس العلم لم يسر إلى أحدهما ، فكذلك الالتزام به ، لأنّ الجامع غير منحصر لا بهذا ولا بذاك.

والحاصل : هو أنّ الترخيص في ترك الالتزام بهذا بالخصوص أو بذاك بالخصوص ليس معناه ترك الالتزام بالجامع ، ومن هنا كان جريان الأصول في تمام الأطراف يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة العملية القطعية ، ولكن لا يؤدّي إلى الترخيص في الموافقة الالتزامية القطعية ، وعليه ، لا مانع من جريان الأصول من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية ، بمعنى أنّ وجوب الموافقة الالتزامية لا يكون مانعا عن جريان الأصول بناء على هذا الاحتمال.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو أن يفرض انّ وجوب الموافقة الالتزامية حكم شرعي مستقل لا عقلي ، كما لو حكم الشارع بأنّه «كلّما ثبت الجامع يجب الالتزام به» ، وهذا معناه : انّ العلم الإجمالي بإباحة أحد الأمرين ، يستوجب علما إجماليا بوجوب الالتزام بأحدهما ، وحينئذ نسأل : هل يوجد محذور في جريان الأصول من ناحيته أم لا؟

وقد ذكرنا في الأمر الثاني ، انّ وجوب الموافقة الالتزامية له عدّة الاحتمالات كما تقدّم ، والاحتمال الثالث منها هو ، أن يكون وجوب

٣٠٣

الموافقة الالتزامية حكما شرعيا مترتبا على واقع الحكم الشرعي الأولي ، بمعنى أنّ هناك حكم شرعي أولي ، هو الوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، وهناك حكم شرعي ثانوي مترتب على الأول ، هو وجوب الالتزام بالحكم الشرعي الأولي ، فيكون هذا الوجوب حكما مترتبا على واقع الحكم الأول سواء كان معلوما أو مشكوكا ، واصلا أو غير واصل ، وكأنّ كل حكم يجب الالتزام به سواء وصل أم لا ، وبناء على هذا الاحتمال ، يوجد عندنا في المقام إباحة واقعية غير واصلة بخصوصيتها في أحد الطرفين ، وهذه الإباحة تقع موضوعا لوجوب الالتزام الشرعي بناء على عدم اختصاصه بالحكم الواصل ، بل يهم غير الواصل ، إذن الإباحة الواقعية المشخصة تقع موضوعا لوجوب الالتزام ، ومن هنا قد يتوهم أنّ جريان استصحاب النجاسة في كل من الطرفين موجب لنفي الإباحة الواقعية ظاهرا ، ويترتب على ذلك نفي أثرها ، وهو وجوب الالتزام ، وهذا ترخيص في المخالفة الالتزامية القطعية ، وعليه : فلا يجوز إجراء الأصول لئلّا يؤدّي جريانها إلى تلك المخالفة.

وهذا التوهم غير صحيح لوجهين.

١ ـ الوجه الأول : هو أنّه لا يعقل القول بوجوب الموافقة الالتزامية للحكم الواقعي غير الواصل بعنوانه التفصيلي ، لأنّه يلزم منه التشريع حيث أنّ عنوانه التفصيلي مع عدم الوصول ممّا لا يعلم ، والالتزام بحكم غير معلوم تشريع محرم ، وعليه : فبناء على أنّ وجوب الالتزام المترتب على التكليف الواقعي غير الواصل لا يمكن أن يكون متعلقه هو الالتزام بالعنوان التفصيلي ، فيجب حينئذ أن يكون متعلق وجوب الموافقة الالتزامية هو الحكم الشرعي الواقعي بعنوانه الإجمالي ، ومن الواضح حينئذ ، انّ وجوب الالتزام بالحكم الواقعي بعنوانه الإجمالي موضوعه معلوم الثبوت وجدانا ، لأنّ كل واقعة لا تخلو من حكم ، وهذا الحكم يستدعي وجوب الالتزام الإجمالي ، سواء كان

٣٠٤

وجوبا أو حرمة أو غيرهما ، فإنّ اللازم المشترك فيها واحد ، وهو الالتزام الإجمالي ، وجريان الأصول في أطراف المعلوم بالإجمال إنّما يوجب نفي الطهارة أو الإباحة ، ولا يلزم منه نفي موضوع وجوب الالتزام ، لأنّ موضوعه طبيعي الحكم ـ الحكم على إجماله ـ لا خصوص الإباحة ، ومن الواضح انّ طبيعي الحكم ، أو الحكم على إجماله ، معلوم الثبوت في كل واقعة بالوجدان.

٢ ـ الوجه الثاني : هو أن نفرض انّ الواجب هو الالتزام بالعنوان التفصيلي للحكم الواقعي المشكوك حتّى لو كان تشريعا ، فحينئذ نقول : بأنّ الأصول العملية تجري ، لأنّ هذه الأصول إمّا أن تكون أصولا تنزيلية ، تتعبدنا بالآثار الشرعية لمؤدّاها ، وإمّا أن تكون أصولا غير تنزيلية فتتعبدنا بالوظيفة العملية لمؤدّاها فقط ، فإن كانت الأصول الجارية في أطراف المعلوم بالإجمال أصولا غير تنزيلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان الّتي تعبدنا بالوظيفة العملية لمؤدّاها فقط ، فمن الواضح حينئذ انّ مثل هذه القاعدة لا يترتب على جريانها نفي وجوب الالتزام ، لأنّ الالتزام أثر شرعي مترتب على الحكم بالإباحة ، والأصل الجاري لنفي الإباحة لمّا لم يكن تنزيليا ، فلا يترتب على نفي الإباحة بالأصل غير التنزيلي نفي آثار الإباحة والّتي منها وجوب الالتزام.

وإن كانت الأصول الجارية في أطرافه أصولا تنزيلية ، حينئذ ، يقال : إنّ إطلاق الأصل لهذا الأثر غير معقول ، لأنّ هذا الأصل التنزيلي مفاده التعبّد بمؤداه لتمام آثاره ، لكن شموله لهذا الأثر لا يمكن ، فنرفع اليد عن إطلاقه لا عن أصله ، وعليه : فلا مانعية حينئذ لوجوب الموافقة الالتزامية عن جريان الأصول ، وممّا ذكرنا يظهر حال الاحتمال الرابع.

٤ ـ الاحتمال الرابع : هو أن يكون وجوب الموافقة الالتزامية حكما عقليا ، موضوعه مطلق الحكم الشرعي ولو لم يصل ، فهو عين

٣٠٥

الاحتمال الثالث ، لكن الوجوب هنا عقلي لا شرعي كما في الثالث ، وحينئذ ، ممّا ذكرناه في الوجه الأول في الجواب عن الاحتمال الثالث يأتي هنا في المقام ، وهو أنّه إذا كانت تجب الموافقة الالتزامية للحكم الواقعي وإن لم يصل فلا بدّ وأن يكون المقصود وجوب الالتزام بالحكم الواقعي بعنوانه الإجمالي لا التفصيلي ، وذلك لأنّ الالتزام به بعنوانه التفصيلي مستلزم للتشريع ، وهو قبيح عقلا حرام شرعا ، فيكون وجوب الموافقة الالتزامية موضوعه عبارة عن الحكم الشرعي على إجماله ، فكأنّه قال : كل موافقة ثبت لها حكم شرعي على إجماله ، فإنّه يجب الالتزام به ، وإذا كان موضوع الالتزام الحكم الشرعي على إجماله ، فهو معلوم الثبوت وجدانا وواقعا ، لأنّ كل واقعة لا تخلو من حكم ، وليس موضوعه خصوص الإباحة ليقال : نرفعه باستصحاب النجاسة ويلزم الترخيص في المخالفة الالتزامية القطعية.

ومن مجموع ما تقدّم ، يتضح أنّ الموافقة الالتزامية على تقدير وجوبها لا تكون مانعة عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

٣ ـ الأمر الثالث : في وجوب الموافقة الالتزامية وعدمه ، وفي الحقيقة انّ هذا بحث فقهي ، ومن الواضح أنّه إن كان المراد من الالتزام البناء على انّ هذا حكما صادرا من الشارع وأنّه من أحكام الله سبحانه ، فمن الواضح انّ هذا البناء ليس من الواجبات ، فإنّ الإنسان لا يجب عليه أن يبني على أنّ كل حكم من الأحكام يكون صادرا من الشارع ، وإن كان المراد من الالتزام البناء على أنّ كل ما جاء به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو من عند الله تعالى ، فهو ممّا لا بدّ من أن يتعبّد به ، لأنّ إنكار مثل هذا تكذيب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يمكن أن يجتمع الإنكار مع التصديق بنبوّته.

وبعبارة أخرى : هناك مرحلتان ، مرحلة نفرغ فيها عن انّ هذا

٣٠٦

الحكم جاء به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله تعالى ، وفي هذه المرحلة يجب أن نتعبّد بذلك ، لأنّ هذا معناه الاعتقاد بالنّبوّة.

وهناك مرحلة قبلها ، وهي أنّه هل يجب التعبّد بأنّ هذا حكم جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا؟ فهذا لا دليل على وجوبه.

نعم الواجب على المكلّف أن يجزم بأنّ سلوكه لا يخالف ما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو من باب الاحتياط ، إذن فالالتزام بمعنى التسليم والانقياد والخضوع لأحكام الله تعالى ممّا جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نحو الإجمال مع تطبيق الخضوع على ما يحرز كونه مصداقا لهذه القضية الاحتمالية ، هو واجب ، وهو من شئون الإيمان عقلا وشرعا ، إلّا أنّه لا دخل له فيما هو محل الكلام ، وبهذا ننهي البحث في الموافقة الالتزامية.

٣٠٧

الجهة السادسة :

حجية الدليل العقلي

بعد الفراغ عن حجيّة القطع في نفسه بلا حاجة إلى جعل جاعل ، وقع البحث بينهم في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، أي من الأدلة العقلية ، فذهب فريق من علمائنا إلى إنكار حجيّة الدليل العقلي في مقام استنباط الأحكام الشرعية ، ولتوضيح الحال في تحرير محل النزاع ينبغي إيراد مقدمتين.

١ ـ المقدّمة الأولى : هي أنّ النزاع الواقع في حجيّة الدليل العقلي نزاعان لا ينبغي الخلط بينهما.

أحدهما : النزاع بين الإمامية وغيرهم ، وهو نزاع في الدليل العقلي الظني المبني على الظن كالرأي ، والقياس ، والاستحسان ، وسدّ الذرائع ، والمصالح المرسلة ، وغيرها من الأدلة العقلية الظنيّة الّتي بنى جمهور علماء المسلمين غير الإمامية على العمل بها ، وأجمع علماء الإمامية تبعا لأئمتهم عليهم‌السلام على عدم جواز التعويل عليها في أنفسها.

وثانيهما : هو نزاع بين علماء الإمامية أنفسهم ، في جواز استنباط الأحكام الشرعية من الدليل العقلي حتّى ولو كان قطعيا.

وقد ذهب المشهور من علمائنا إلى حجيّة الدليل العقلي القطعي في

٣٠٨

استنباط الحكم الشرعي ، وذهب جملة منهم إلى عدم حجيته وعدم جواز التعويل عليه في ذلك ، والنزاع الثاني هو محل الكلام.

وينبغي أن يعلم أنّ المقصود من الحكم العقلي ليس هو حكم القوّة العاقلة بمعناها الفلسفي الّذي يتميّز عن باقي قوى النّفس ، بل المقصود به هو الحكم الّذي يصدره الإنسان على وجه الجزم واليقين غير مستند إلى آية ، أو رواية.

ثمّ انّ محل النزاع في حجيّة الأدلة العقلية إنّما هو في حجيّة الأدلة العقلية الّتي يراد استنباط الأحكام الشرعية منها في عرض الكتاب والسنّة.

وأمّا الدليل العقلي الواقع في مبادئ التصديق بالكتاب والسنّة ، فلا إشكال في حجيته ، فإنّ الكتاب والسنّة ينتهي التصديق بهما إلى دليل عقلي ، إذ لا يمكن الاستقلال بالكتاب والسنّة للتصديق بالكتاب والسنّة.

كما انّ الحكم العقلي الواقع في طول الكتاب والسنّة كحكم العقل بوجوب الامتثال ، وقبح المعصية ، واستحقاق العقاب ونحوه ممّا هو واقع في طول الأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنّة ، فهذا أيضا ممّا لا خلاف ولا إشكال فيه ، وإنّما مورد الخلاف والنزاع إنّما هو في الحكم العقلي الّذي هو في عرض الكتاب والسنّة بحيث يكون مصدرا ومرجعا في مقام استنباط الأحكام الشرعية منه ، على حدّ مرجعية الكتاب والسنّة.

٢ ـ المقدّمة الثانية : هي انّ الأحكام العقلية على قسمين.

١ ـ القسم الأول : أحكام عقلية نظرية.

٢ ـ القسم الثاني : أحكام عقلية عملية.

وقد قيل بأنّ العقل النظري هو إدراك ما هو واقع.

٣٠٩

وقيل بأنّ العقل العملي هو إدراك ما ينبغي أن يقع.

والأحسن تبديل هذا التعبير فيقال : إنّ العقل العملي بحسب الدقة هو أيضا إدراك ما هو واقع ، وذلك لأنّ العقل العملي يدرك حسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح حيثيتان واقعيتان ثابتتان في لوح الواقع ، فكما انّ العقل النظري يدرك الإمكان والاستحالة ، وهما ثابتان في لوح الواقع ، فكذلك العقل العملي يدرك الحسن والقبح ، «وأنّ هذا ممّا ينبغي ، وهذا ممّا لا ينبغي» ، ونفس الانبغاء واللّاانبغاء أمر ثابت في لوح الواقع ، لكن الفرق بينهما هو ، أنّ الأمر الواقعي المدرك للعقل ، إن كان لا يستدعي بذاته جريا على طبقه فهو من مدركات العقل النظري ، وإن استدعى بذاته وبلا ضميمة الجري على طبقه فهو من مدركات العقل العملي ، إذن ، مدركات العقلين أمور واقعية لكنّها تختلف من حيث استدعائها للجري على طبقها بذاتها ، وعدم استدعائها ذلك.

ثمّ انّ تشكيل الدليل العقلي على الحكم الشرعي ، تارة ، يكون مقتنصا من العقل النظري ، وأخرى يكون مقتنصا من العقل العلمي ، إذن ، فهنا قسمان من الأدلة العقلية.

١ ـ القسم الأول : الدليل العقلي المقتنص من العقل النظري ، وهذا الدليل يرجع إلى أحد بابين.

أ ـ الباب الأول : باب الإمكان والاستحالة ، فإنّ العقل حاكم في هذا الباب ، وهو كما يدرك الإمكان والاستحالة بحسب عالم التكوين كذلك يدركهما بحسب عالم التشريع أيضا ، فالعقل يحكم مثلا باستحالة اجتماع الوجوب والحرمة ، ويحكم باستحالة الخطاب الترتبي ـ على مبنى الكفاية ـ ويحكم بالإمكان على مبنانا.

وهذه الأحكام ، يمكن أن تشكل أدلة عقلية على الحكم الشرعي ، لكن بمعنى أنّها يمكن أن تشكل بمفردها أدلة نافية للحكم الشرعي ، لكن

٣١٠

لا يمكن أن تشكل بمفردها أدلة مثبتة للحكم الشرعي ، لأنّ العقل إذا حكم بالاستحالة في مورد فهذا يكفي وحده لنفي الحكم والتكليف الشرعي فيه ، لكنّه إذا حكم بالإمكان أو الاستحالة ، فحكمه حينئذ ، لا يكفي في إثبات الحكم الشرعي ، بل يحتاج إثبات الحكم حينئذ إلى ضم ضميمة خارجية إليه.

ب ـ الباب الثاني : باب العلية والمعلولية ، من قبيل أن يفرض أنّ العقل النظري أدرك الملاك التام والمصلحة الملزمة التامة في «فعل» فيستكشف استكشافا لمّيا ـ أي أنّه ينتقل من العلّة إلى المعلول ـ وجود الحكم في مورد وجدت فيه تلك العلّة ، وكذلك في موارد الأولوية ، كما لو ثبت بقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) حرمة هذا الكلام ، فهنا يستقل العقل ويحكم بأنّ تمام المحذور الموجود في هذا الكلام موجود بنحو أتمّ في الضرب ، والشتم ، إذن بقانون العليّة ، يحكم العقل بأنّ المساوي للعلّة علّة لا محالة ، وكذلك علية وجوب الشيء لوجوب مقدمته أو لحرمة ضده ، فإنّ هذه العلية على فرض ثبوتها يدركها العقل النظري.

وقد يدرك العقل معلولية شيئين لعلّة واحدة بحيث إذا ثبت أحد المعلولين ثبت الآخر لا محالة ، فكل هذه الأحكام المدركة بالعقل النظري ترجع إلى باب العلية.

ومن هنا يظهر أنّ العقل النظري قد يستقل أحيانا في إثبات هذه الأحكام ، وقد لا يستقل في إثباتها أحيانا أخرى.

٢ ـ القسم الثاني : الدليل العقلي المقتنص من العقل العملي ، فإنّ العقل العملي لا ينهض وحده ولا يكفي لاستنباط الحكم الشرعي ، بل لا بدّ من أن ينضم إليه العقل النظري كي تتم عملية الاستنباط ، فالعقل العملي في المقام قد يدرك قبح الكذب ، ولكن هذا الإدراك وحده لا يكفي لاستنباط الحكم الشرعي بحرمة الكذب ما لم نضم إليه عقلا نظريا

٣١١

يدرك ويحكم بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فإنّ هذه الملازمة من مدركات وأحكام العقل النظري لا العملي ، وكذلك قد يدرك ويحكم العقل العملي بقبح تكليف العاجز ، ولكن هذا لا يستنبط منه حكم شرعي ما لم يضم إليه عقل نظري يدرك استحالة صدور القبيح من المولى ، إذن ، فالعقل العملي دائما يحتاج إلى ضم عقل نظري في مقام استنباط الحكم الشرعي.

وهذا بخلاف العقل النظري فإنّه لا يحتاج في هذين البابين إلى ضم عقل عملي إليه.

هذه نبذة عن حكم الدليل العقلي في كل من قسمي الدليل العقلي ، والنظري ، والعملي.

وحيث اتضح موضوع هذا البحث وحيثيّاته ، نبدأ في الحديث عن حجيّة الدليل العقلي وعدمها ، فنقول :

إنّ الكلام حول الدليل العقلي يقع في ثلاث مقامات :

لأنّ القصور المدّعى في الدليل العقلي ، إمّا أن يكون بلحاظ عالم الجعل ، وإمّا أن يكون بلحاظ عدم صلاحيته للكشف ، وإمّا أن يكون ـ بعد الفراغ عن عدم القصور في عالم الجعل وفي عدم القصور في صلاحيته الدليل العقلي للكشف ، بلحاظ قصوره في المنجزية والمعذرية ، وانّ الدليل العقلي قاصر عن تنجيز الحكم أو التأمين عنه.

المقام الأول :

هو أن يقال : بأنّ قصور الدليل العقلي نشأ من ضيق في عالم الجعل وأخذ قيدا في الحكم الشرعي من قبل المولى ، وهذا القيد يختل بقيام الدليل ، وقد يصور هذا المعنى بعدّة وجوه نذكرها مع ذكر الخصوصيات الّتي تميّز بعضها عن بعض ومن ثمّ نذكر ما يعقب عليها من تعقيبات عامة.

٣١٢

١ ـ الوجه الأول : هو أن يقال : بأنّ المولى أخذ في موضوع الحكم الشرعي العلم بالجعل ، لكن لا كل علم بالجعل ، بل خصوص العلم الناشئ من تبليغ الحجّة ، الناشئ من الأدلة الشرعية بناء على ما أوضحناه سابقا من أنّه يعقل أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول دون أن يلزم محذور الدور ونحوه ، إذ كما يعقل أخذ طبيعي العلم بالجعل في موضوع المجعول ، كذلك يمكن أن يؤخذ حصة خاصة من العلم بالجعل في موضوع المجعول ، وهو العلم الناشئ من الأدلة السمعية والشرعية ، وحينئذ ، متى ما وصل الجعل بدليل عقلي بحت ، لا يكون المجعول فعليا وإن كان الجعل ثابتا ، وذلك لأنّ فعلية المجعول مقيدة بالعلم الخاص بالجعل ، وهذا العلم الخاص لم يتحقّق ، ومعه لا يكون المجعول فعليا ، إذن فالقصور في الدليل العقلي ينشأ من نقص وضيق في عالم الجعل (١).

وهذا الوجه لو فرضت تماميته فهو ، ينتج أكثر ممّا يريد إثباته هذا المنكر لحجيّة الدليل العقلي ، وذلك لأنّه ينتج ربط الحكم بالعلم السمعي ، فلو لم يعلم المكلّف بالتكليف لا بدليل سمعي ولا بدليل عقلي ، فمقتضى هذا الوجه حينئذ ، انّ المجعول ليس فعليا في حقّه ذلك لأنّ فعلية المجعول أنيطت بالعلم السمعي ، وحيث لا علم سمعي ، إذن ، لا فعلية للمجعول ، إذن فكما انّ حالات العلم العقلي تخرج عن نطاق فعلية المجعول ، فكذلك حالات اللّاعلم مطلقا تخرج عن نطاق فعلية المجعول ، ويلزم عدم كون الشاكّ مكلفا.

٢ ـ الوجه الثاني : هو أن يفرض أخذ عدم العلم العقلي بالجعل ، في موضوع المجعول ، بناء على ما أوضحناه سابقا من أنّه كما يمكن أخذ العلم بالجعل شرطا ، يمكن أخذ العلم بالجعل مانعا ، ـ أي أخذ

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٠.

٣١٣

عدمه قيدا ـ فيؤخذ عدم العلم العقلي بالجعل ، في موضوع المجعول ، وحينئذ ، سوف يكون القصور في الدليل العقلي ناشئا من ضيق في عالم الجعل ، لا من كاشفيته ومنجزيته.

وهذا الوجه يتميّز عن الوجه الأول ، أنّه يتلاءم مع ثبوت التكليف للشاكّ ، لأنّه أخذ في موضوعه عدم العلم العقلي بالجعل قيدا في المجعول ، ولذا لو لم يعلم أصلا كان الحكم ثابتا عليه ، ولكن لا بدّ من تقييد هذا القيد ، فيقال : إنّ القيد ليس هو عدم العلم العقلي مطلقا ، وإلّا لزم في حال قيام دليل عقلي ودليل سمعي معا على حكم عند المكلّف ، لزم أن لا يثبت الحكم عليه ، لأنّه يصدق على مثل هذا الشخص حينئذ ، انّه قام عنده دليل عقلي ، مع أنّه لا يلتزم أحد بعدم ثبوت الحكم في مثل هذا المورد ، إذن ، فلا بدّ من تقييد هذا القيد فيقال : إنّ الشارع أخذ في موضوع الحكم عدم العلم العقلي وحده ، وهذا يناسب صورتي قيام الدليل الشرعي وحده ، أو منضما إلى الدليل العقلي ، إذ في صورة قيام الدليلان معا يصدق أنّه لم يقم الدليل العقلي وحده ، ومعه يكون الشرط متحققا لأنّ الشرط هو عدم قيام وتفرّد الدليل العقلي وحده ، وهذا الشرط محفوظ في هذه الصورة.

٣ ـ الوجه الثالث : هو أن يؤخذ عدم العلم العقلي بالمجعول في موضوع الحكم المجعول بناء على ما أوضحناه في التنبيه السابق ، من أنّ العلم بالمجعول لا يعقل أخذه شرطا في المجعول ، لكن يعقل أخذه مانعا خلافا لمدرسة النائيني «قده» الّتي ساقت المطلبين سياقا واحدا دون أن تبرز نكتة فرق بين أخذ العلم بالمجعول شرطا ، وبين أخذه مانعا.

ونحن قد ذكرنا أنّه إذا أخذ شرطا يلزم منه محذور ما يشبه الدور ، بخلاف ما لو أخذ مانعا فإنّه لا يلزم منه محذور.

٣١٤

٤ ـ الوجه الرابع : لو تعذرت كل هذه الوجوه ، أو أنّه لم يلتفت إلى إمكان نكاتها وأنّه لا يعقل أخذ العلم بالجعل ، ولا العلم بالمجعول لا شرطا ولا مانعا في الجعل الأول ، فحينئذ ، يصور هذا القيد بنتيجة التقييد على مسلك الميرزا «قده» بأن يقال : بأنّ الحكم يقيد بنفس ما قيّد به في الوجوه السابقة ، لكن على نحو نتيجة التقييد ـ أي بجعلين لا جعل واحد ـ.

وقد قلنا سابقا إنّ هذا غير معقول ، وإن بنى عليه الميرزا «قده» (١).

٥ ـ الوجه الخامس : هو أن يؤخذ العلم الناشئ من الدليل الشرعي قيدا في متعلق الوجوب وليس في موضوع الوجوب ، أي في المأمور به لا في نفس الأمر ، بخلاف الوجوه السابقة المفترضة لأخذه قيدا في موضوع الوجوب ، بحيث لا وجوب بلا علم ، وذلك انّ الأمر بالعام أو بالصّلاة مثلا ، متعلق بالفعل المأتي به بقصد القربة ، وقصد امتثال الأمر في المقام موقوف على أن يكون هناك أمر قد وصل إلى المكلّف ليقصد امتثاله ، وحينئذ ، المولى ، يخصص نفس قصد الامتثال الّذي هو داخل تحت الأمر ومتعلقا له بحصة خاصة ، وهي قصد امتثال الأمر الّذي وصل إلى المكلّف بالدليل الشرعي ، فيقصد القربة الّذي هو متعلق الأمر ، فيؤخذ منه حصة خاصة ، وهو قصد التقرّب بلحاظ أمر واصل بالدليل الشرعي.

وهذا الوجه ذكره المحقّق العراقي «قده».

وميزة هذا الوجه عن الوجوه السابقة هي ، انّ الوجوب فيه فعلي على كلّ حال حتّى في حقّ من قطع بالحكم عن طريق الدليل العقلي ، غاية الأمر أنّ الصّيام أو الفعل لا يصحّ منه لعدم تحقّق حقّ الامتثال منه ما دام قد وصله الحكم بدليل عقلي لا شرعي.

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٤٠.

٣١٥

نعم هذا الوجه فيه جهة قصور عن الوجوه السابقة ، وهو أنّه يختصّ بأبواب العبادات الّتي أخذ في متعلق الأمر فيها قصد القربة ، ولا يجري في التوصليات البحتة المستغنية عن أخذ قصد القربة فيها ، فلا تحصص بحصة خاصة.

إلّا أنّ هذا الوجه إنّما يتعقل فيما لو فرض أنّ تحصيل العلم بالدليل الشرعي كان تحت قدرة المكلّف واختياره ، وأمّا إذا لم يكن تحت قدرته واختياره ، وكان أمرا اتفاقيا قد يحصل بلا اختيار وقد لا يحصل ، حينئذ يكون هذا القيد من قيود الواجب ، يجب أخذه في الوجوب أيضا لا الواجب ، لما برهنّا عليه في بحث مقدّمة الواجب من أنّ قيود الواجب إذا كانت اختيارية فيعقل أخذها في الواجب وعدم أخذها في الوجوب ، ويكون اللازم حينئذ إيجادها من المكلّف ، وأمّا إذا كانت غير اختيارية «كالوقت» مثلا ، فإذا أخذت في الواجب وجب أخذها في الوجوب أيضا ، وإلّا لزم البعث نحو تحصيلها وهو محال ، لاستحالة التحريك نحو غير المقدور ، إذ أنّ قصد القربة مقيّد بالعلم الشرعي بالأمر ، إذن فهذا العلم الشرعي بالأمر يكون قيدا في الواجب ، وحينئذ ، فإن لم يكن هذا العلم تحت القدرة ، فيجب أخذه في الوجوب ، إذن فيرجع إلى أحد الوجوه السابقة مع شيء من التغيير.

هذه وجوه خمسة يمكن أن تذكر في المقام لإثبات قصور الدليل العقلي الناشئ من قصور في عالم الجعل.

وبما بيّناه فيما تقدّم ، حينئذ ، لا يرد ما أورده الشيخ الأعظم «قده» في الرّسائل ، من أنّ هذا القيد الّذي هو ـ «تبليغ الحجّة» ـ حاصل حتّى في حقّ من قام عنده الدليل العقلي ، لأنّ من قام عنده هذا الدليل العقلي على انّ الله سبحانه أوجب صوم شهر رمضان مثلا ، يستكشف من نفس هذا الدليل العقلي دليلا شرعيا وحكما سمعيا ، لأنّ كل ما حكم به الله

٣١٦

سبحانه قد بيّنه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام وبلّغوه ، إذن ، فالتبليغ محفوظ ، فإن قيل : بأنّ الأحكام الشرعية مقيدة بكون التبليغ من الحجج عليهم‌السلام ، فهنا عند ما يقوم دليل عقلي على حكم شرعي وانّ هذا الحكم شرّعه الله تعالى ، حينئذ نستكشف التبليغ من الحجج وأنّه وقع منهم عليهم‌السلام ، وحينئذ يكون القيد محرزا ، ومعه لا يردّ الإشكال الّذي أورده الشيخ الأعظم «قده» (١) لأنّه مبني على كون القيد المأخوذ هو ، عنوان تبليغ الحجج عليهم‌السلام لا عنوان الوصول من قبل الحجج عليهم‌السلام ، مع أنّه يمكن له «قده» أن يقول : بأنّ القيد المأخوذ إنّما هو الوصول من الحجج عليهم‌السلام وليس تبليغهم عليهم‌السلام كما في الرّواية ، «انّه إن كان قد صام نهاره ، وصلّى ليله ، وتصدّق بجميع ماله ، ولم يكن ذلك بدلالة وليّ الله تعالى ، لم يقبل منه ذلك» ، الدالة على انّ العبرة بالوصول من الإمام عليه‌السلام ، لا بالتبليغ الواقعي الثبوتي ، والوصول من الحجّة عليه‌السلام غير متحقّق ، كما أنّه لا يردّ عليه ما أورده الميرزا «قده» ، من أنّ الوصول أو التبليغ من الحجج متحقّق ، لأنّ العقل هو أيضا حجّة ، لأنّه الرّسول الباطني فإذا استفاد الحكم من الدليل العقلي فيكون قد وصل إليه من قبل الحجّة ، فهذا لا يردّ أيضا ، وذلك لأنّ الكلام ليس في لفظة حجّة ومدلولها العقلي كي يقال : بأنّ مفهوم حجّة ينطبق على الدليل العقلي والعقل ، وإنّما الكلام في الحجج الأئمّة عليهم‌السلام المعصومين كما هو منصرف اللفظ ، فإنه منصرف إلى الأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

نعم يردّ عليه ، انّ هذا المطلب غير تام لا إثباتا ولا ثبوتا.

أمّا إثباتا ، فلأنّ هذه الوجوه لو كانت معقولة فهي تحتاج إلى دليل يدلّ عليها ، لأنّ تقييد الوجوب أو الواجب بهذا القيد على خلاف مقتضى إطلاقات الأدلة ، والّذين ذهبوا إلى عدم حجيّة الدليل العقلي

__________________

(١) الرّسائل : ص ٩ ـ ١٠.

٣١٧

تمسكوا بروايات ذكرها الشيخ في الرّسائل ، وهذه الرّوايات لا تتم دلالة وحجيّة شيء منها في إثبات هذا التقييد ، لأنّها لا تخلو من أحد أمور ثلاثة.

١ ـ الأمر الأول : هو أن تكون مسوقة لبيان عدم جواز التعويل على الأدلة العقلية الظنية الّتي يعول عليها فقهاء غير الإمامية في استنباط الأحكام الشرعية ، ولأجل ذلك شدّد الأئمّة النكير على من كان يعوّل على مثل هذه الأدلة من القياس والاستحسان ، وسد الذرائع والمصالح المرسلة وغيرها.

ولكن معه تكون هذه الرّوايات أجنبية عن محل النزاع بناء على ما ذكرناه في المقدّمة الأولى ، من مقدمتي هذا البحث ، إذن ، على هذا الوجه يحمل قسم من الرّوايات.

٢ ـ الأمر الثاني : هو أن يكون قسما آخر من هذه الرّوايات دالا على اشتراط الولاية في صحة العمل ، بمعنى أنّ العمل من دون معرفة الإمام عليه‌السلام والإيمان به لا يقع صحيحا.

وهذا مطلب نحن نقول به ونفتي به أيضا ، وأنّ العبادة لا تقع صحيحة إلّا مع الإسلام والإيمان ، أي الولاية ، فإذا اختل أحد الشرطين بطلت.

ولكن هذه الرّوايات الدالة على ذلك خارجة عن محل النزاع.

٣ ـ الأمر الثالث : هو أن يكون قسما ثالثا من هذه الرّوايات دالا على التأنيب على ترك الفحص عن الأدلة الشرعية والتوغل في أخذ المطالب والأحكام من الأدلة العقلية كما هو الحال في رواية أبان المعروفة (١) ، الّتي يقول فيها الإمام عليه‌السلام : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدّين».

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٩ ، كتاب الديات ، باب ٤٤ ، ص ٢٦٨ ، ح ١.

٣١٨

والرّواية صحيحة ، وليس كما ادّعي ، ولكنّها ناظرة إلى ما ذكرنا ، لأنّ أبان حينما سمع بذلك الحكم ، حصل له اطمئنان سريع بأنّ هذا حكم غريب لا يحتمل ثبوته وذلك لأنّه لم يلتفت إلى الأدلة الشرعية ، بينما لو فحص في الأدلة لما حصل عنده قطع واطمئنان بغرابة الحكم ، بل ولزال من نفسه هذا القطع كما هو الحال في كل الأمور الّتي لا يراجع الصغار فيها الكبار ، بينما لو راجعوا أو سألوا لم يحصل لهم الاطمئنان فضلا عن القطع في جلّ ما قطعوا به ، وهذا ما يعبّر عنه بالتقصير في مقدّمات الدليل.

فالرّوايات الّتي استدلوا بها على التقييد المذكور لا تخلو من أحد هذه المضامين الثلاثة ، واستيعابها مفصلة يخرجنا عن طور علم الأصول ، هذا محصل الكلام في مقام الإثبات ، إذن فهذه الوجوه الخمسة غير تامة إثباتا ، حتّى لو فرض أنّها ممكنة ثبوتا.

والخلاصة هي أنّ الوجوه الخمسة لدعوى القصور في الدليل العقلي الناشئ من النقص في عالم الجعل ، يقع تارة إثباتا ، وقد عرفت أنّها غير تامة.

وبقي الكلام ثبوتا ، ولنا حوله ثلاث تعليقات.

١ ـ التعليق الأول : هو انّ هذا الكلام لو تمّ وصحّت هذه الوجوه الخمسة ، وفرض أنّ العلم بالجعل مأخوذ في موضوع المجعول ، لكن هذا لا يعني أنّ فقيها أصوليا إذا لم تثبت عنده هذه الوجوه ولو اشتباها ، وتمسك بإطلاقات الأدلة ، يكون القطع العقلي حجّة بالنسبة إليه تنجيزا وتعذيرا.

إذن ، فالنزاع بين الأصوليين والإخباريين بناء على هذا ، يكون نزاع تخطئة وليس نزاع اتهام ، من قبيل النزاع في نجاسة الخمر وطهارته ، أو

٣١٩

النزاع في حليّة لحم الأرنب وحرمته ، إذن فهذه الوجوه تنتج أنّ النزاع على مستوى التخطئة لا الاتهام.

وهذا بخلاف ما لو قيل بأنّ الدليل العقلي لا ينتج القطع إلّا مع التقصير في المقدّمات كما هو معنى المقام الثاني ، وانّ الإنسان الّذي لا يقصر في المقدّمات لا يحصل له القطع من الدليل العقلي ، لأنّ هذا يعني ؛ انّ الّذي يعتمد على القطع العقلي لا يكون معذورا وليس مخطئا فقط ، وكذا لو قيل بأنّ القطع العقلي ليس منجزا ولا معذرا بحكم العقل.

٢ ـ التعليق الثاني : هو انّ تصوير أخذ العلم الشرعي في موضوع المجعول ، أو أخذ عدم العلم العقلي بالجعل في موضوع المجعول ، وتصويرها بأحد الوجوه الخمسة ـ خصوصا الوجه الأول لأنّه أحسنها ـ إنّما يريد به أصحاب هذه الوجوه بيان ، أنّهم لا ينكرون حجيّة القطع الذاتية ، وإنّما ينكرون حصول قطع بالحكم الشرعي ، وذلك لأنّ الحكم الشرعي مقيد بالعلم الشرعي ، أو بعدم العلم العقلي به ، فإنّه بناء على مبناهم لا يحصل مع العلم العقلي قطع بفعلية المجعول ، إذن ، فمدّعاهم إنكار حصول القطع وليس إنكار حجيته ، ويتمّ لهم ذلك ـ حسب مدّعاهم ـ بتحويل القطع من طريقي إلى موضوعي بأخذه في موضوع الحكم بأحد الوجوه الخمسة ، ومعه لا يحصل القطع بفعلية المجعول خارجا.

هذا هو الغرض من الوجوه الخمسة ، وهذا الغرض لا يمكن تحقيقه في المقام ، لأنّ من قام عنده البرهان العقلي على وجود العلّة التامة للحكم يستحيل أن يصدّق بأنّ هذا الحكم منوط بأمر آخر هو عدم العلم العقلي وراء هذه العلّة التامة الموجودة بالفعل ، لأنّه خلف قيام البرهان على وجود العلّة التامة بالفعل على الحكم الشرعي ، فمثلا : من

٣٢٠