بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

يرى الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، يرى انّ وجوب ذي المقدّمة علّة تامة لوجوبها بالبرهان ، ومعه يستحيل أن يصدّق بهذه الوجوه الخمسة ، لأنّ التصديق بها خلف العليّة التامة لما وقع مع قيام البرهان عليها.

وبتعبير آخر : انّ من حصل عنده علم عقلي ، هل يحتمل أن يكون هناك شيء آخر وراء ما هو موجود عنده من دليل له دخل في فعلية الحكم؟. أو أنّ البرهان العقلي قام عنده على عدم دخل ذلك في فعليته؟ والأول أي إن كان يحتمل ذلك ، يلزم منه أن لا قطع لهذا الإنسان بالحكم من أول الأمر وحينئذ ، لا حاجة إلى هذه الوجوه الخمسة ، والثاني أي إن كان لا يحتمل ، يلزم منه حصول القطع له بالحكم الشرعي ، وحينئذ يستحيل له التصديق بتقييد الحكم الشرعي بعدم العلم العقلي ، إذن فحال تقييد العلم الشرعي بالعقلي حال سائر التقييدات الأخرى الممكنة ، فمثلا : إذا كان يقطع بوجود مصلحة بالإحسان إلى الفقير ، فحينئذ ، إن كان يرى انّ هذا هو العلّة التامة ، إذن ، فلا يمكنه أن يصدّق انّ عدم العلم العقلي مانعا ، وإلّا احتمل أن يكون فسق الفقير هو المانع ، إذن فهذا الوجه غير تام ، إمّا بالبيان الأول أو الثاني.

٣ ـ التعليق الثالث : هو انّ الدليل العقلي قد يكون برهانا على عدم الحكم ونفيه وليس على وجوده ، وحينئذ ، في مثله ما ذا يصنع؟ ، فإنّه لو كان الدليل العقلي برهانا على ثبوت الحكم تقولون انّ الحكم يؤخذ في موضوعه شرعا عدم الوصول عقلا ، وهذا قد وصل عقلا ، إذن ، فلا يكون فعليا في حقّه ، لكن لو قام الدليل العقلي برهانا على نفي الحكم ، كما لو قطع المكلّف بعدم وجوب الصّلاة بالخطاب الترتبي ، لاستحالة الترتب عنده مثلا ، فهنا لا يوجد جعل ليؤخذ عدم الوصول العقلي شرطا في فعليته ، وحينئذ ، فهل يلزم على المولى أن

٣٢١

يؤسس جعلا بالوجوب المقطوع الاستحالة بحيث أنّه متى قطع الإنسان عقليا باستحالة الوجوب ، بجعل المولى الوجوب في حقّه ، ليردعه عن العمل بقطعه؟.

من الواضح انّ هذا مستحيل ، لأنّه مع قطع المكلّف باستحالة الوجوب ، كيف يجعل الشارع الوجوب في حقّه ، فإنّ من قطع بالوجوب يمكن أن نردعه بما ذكرنا سابقا من أخذ عدم العلم العقلي في موضوع المجعول ، لكن من قطع بعدم الوجوب واستحالته ، كيف نردعه؟ هل نحكم عليه بالوجوب؟ هذا مستحيل ، وعليه : فهذا الكلام لو تمّ فإنّما يتم في طرف الإثبات وقيام الدليل العقلي على ثبوت حكم ، لا على نفي حكم ، وبهذا اتضح انّ هذه الوجوه الخمسة غير تامة ، لا ثبوتا ولا إثباتا.

ثمّ انّه لو قطعنا النظر عن كل ما قلناه ، وفرضنا تمامية هذه الوجوه ثبوتا وإثباتا ، إمكانا ووقوعا ، وفرضنا أنّ الحكم الشرعي مقيد ـ كما تزعمون ـ بأن يكون واصلا من ناحية الأئمّة عليهم‌السلام حينئذ نقول : إنّ الصغرى هنا موجودة ، وهي أنّ الحكم متى وصل بالدليل العقلي فقد وصل إلينا عن طريق المعصومين عليهم‌السلام ، لا ببيان الشيخ الأعظم «قده» في الرّسائل حيث عرفت عدم تماميته ، بل ببيان آخر ، وهو أنّ الكتاب والسنّة أمرانا باتباع العقل ، وعلى الأقل العقل الفطري الخالي من شائبة الوهم ، إذن ، فإذا ثبت شيء بالعقل ، وثبتت الكبرى بالكتاب والسنّة ، أي ثبت الرّجوع إليه بالكتاب والسنّة ، حينئذ يثبت وصول ذلك الشيء إلينا عن طريق الكتاب والسنّة فيشمله إطلاق الدليل ، فمثلا : لو أمرنا المعصوم عليه‌السلام بالقرعة ، ثمّ قرعنا وعيّنا المسألة بها ، حينئذ نسأل ، هل هذا اتباع للأئمّة عليهم‌السلام ، أو اتباع للقرعة؟ لا إشكال في أنّه اتباع للأئمّة عليهم‌السلام ، لأنّهم هم جعلوها حجّة وأمرونا باتباعها ، وفي المقام

٣٢٢

الأئمّة عليهم‌السلام أمرونا باتباع العقل ، وحينئذ يكون ما وصلنا عن طريقهم محقّقا صغرى لتلك الكبرى ، فيشمله إطلاق الدليل أيضا وخلاصة كل ما تقدّم أنّه لا يعقل فرض القصور في الدليل العقلي من ناحية عالم الجعل ، هذا حاصل الكلام في المقام الأول من المقامات الثلاثة.

المقام الثاني :

هو في تصوير كون القصور المدّعى في الدليل العقلي من ناحية عدم صلاحيته للكشف في مقام إثبات حقيقة «ما» ، بمعنى أنّ الدليل العقلي لا يصلح لتكوين اليقين بالحكم الشرعي ، وهذا المعنى هو المناسب لظاهر جملة من كلمات المحدّثين ، خصوصا المحدّث الأسترآبادي في فوائده (١) المدنية حيث ذكر هو وغيره من المحدّثين أنّ الدليل العقلي لا يصلح التعويل عليه في مقام الكاشفية كما يذكر في هذا المقام كلمات للأسترآبادي والجزائري «ره» أثاروا فيها نقطة انّ الدليل العقلي إذا لاحظناه في حياة الإنسان ، نرى شيوع الخطأ فيه والاشتباه ، إذ كم من إنسان برهن على مدّعاه عقليا ثمّ أبطله آخر ببرهان عقلي آخر ، وقد يستثنى من ذلك جملة من فروع الرياضيات.

وقد فسّر المحدّث الأسترآبادي نفسه هذا ، بأنّ هذه الجملة من الفروع إنّما تكون مستثناة باعتبار انّ موادها قريبة من الحس ومحسوسة فلا يقع فيها الخطأ ، بينما غيرها يكثر فيها شيوع الخطأ والاشتباه كما في الفلسفة الإلهية وعلم الكلام والأصول ، ومع شيوع الخطأ فيها كيف يمكن التعويل على الدليل العقلي.

وكأنّ التعويل في نظر هؤلاء لا يكون إلّا على الحس والأمور البديهية والأولية ، وأمّا النظريات العقلية ، فلا يمكن الاعتماد على العقل فيها.

__________________

(١) الفوائد المدنية : المحدّث الأسترآبادي ، ص ٢٢٠.

٣٢٣

وهذا المدّعى لا يفرق فيه ـ من زاوية غرضنا البحثي ـ بين أن يقال : إنّ الخطأ يقع في قوّة واحدة من قوى النّفس الدرّاكة ، أو انّ قوى النّفي الدرّاكة لو لوحظت كل قوّة قوّة ، لا يقع فيها خطأ ، بل الخطأ يقع من حيث تلفيق النّفس وإصدار أحكام ناتجة عن التلفيق بين مدركات القوى الدرّاكة كما يدعي الفلاسفة ، كما لو رأينا شخصا أسودا وحكمنا عليه بأنّه إفريقي وهو ليس كذلك ، فإنّ هذا خطأ في الحكم ، لكن مردّ هذا الخطأ إلى حكمين لقوّتين درّاكتين كلاهما صواب في نفسه صحيحا ، أحدهما أنّه أسود ، وهو حكم لقوّة الإدراك الحسّي ، وهو مطابق للواقع ، وحكم آخر ، وهو انّ هذا الأسود ـ على نحو القضية الكلية الغالبية ـ إفريقي ، وهذا حكم عقلي صحيح ، صدر من العقل ، وهو مطابق للواقع ، ولكن وقع الاشتباه من قبل النّفس في مقام استنتاج حكم ثالث من هاتين القوّتين فأخطأت.

وعلى كلّ حال ، فهذا بحث فلسفي سواء أكان صحيحا أم لا ، لا ندخل فيه ، وإنّما تحقيقه في الفلسفة ، ولا دخل له في غرضنا سواء كان الخطأ يقع في قوّة دراكة واحدة ، أو من التلفيق من قوّتين.

كما أنّه لا يفرق في غرض الإخباريين ، حيث أنّ الدليل هو حصيلة هذه المدركات ، حينئذ قالوا : بأنّ الدليل العقلي حيث يقع فيه الخطأ كما عرفت ، فكيف يمكن أن يعوّل عليه؟

وقد نقل عن السيّد البروجردي «قده» قوله : انّ هذه النزعة الّتي ظهرت على أيدي الإخباريين ـ من عدم التعويل على الدليل العقلي وحصر المعرفة بالحس ـ يحتمل أن تكون قد تسربت إليهم من الاتجاه والنزعة التجريبية والحسية في الفلسفة الأوروبية ، لأنّ هذه النزعة الإخبارية كانت قد ظهرت عقيب تلك النزعة التجريبية الحسية ، فكما أنّ تلك النزعة رفضت العقل وحصرت المعرفة بالحس ،

٣٢٤

فالأخباريون ، وبالخصوص المحدّث الأسترآبادي «قده» كذلك فعلوا.

وهذه الملاحظة رغم حسنها ومعقوليتها بحدّ ذاتها ، إلّا أنّها على فرض صحة صدورها عن البروجردي «قده» ، فهي غير تامة ، فإنّه قد أشرنا في محله من كتابنا «المعالم الجديدة» بأنّ هذا الاتجاه الممثل للنزعة الحسية التجريبية جاء بعد اتجاه الإخباريين والأسترآبادي «قده» بمائة سنة تقريبا ، فإنّ الأسترآبادي «قده» عاش في أوائل القرن الحادي عشر ، بينما هذه المدرسة الحسية الأوروبية عاشت في أواخر القرن الثاني عشر ، ومن هنا يحتمل أن تكون أفكار الأسترآبادي «قده» ومدرسته هي الّتي تسربت إلى أوروبا والمدرسة الحسيّة فيها ، وكل هذا حكم على فرض أن نتعامل مع مدّعيات الأسترآبادي «قده» على أساس أنّ مدرسته هذه تمثل نزعة حسيّة.

إلّا أنّ هذا الافتراض غير واضح من كلماته ، وإن كان يقول بأنّ الحس معتبر ، وانّ العلوم العقلية الّتي تكون موادها حسيّة هي الثانية معتبرة ، إلّا أنّه مع هذا ليس واضحا أنّ غرضه نفس غرض المدرسة الحسيّة الأوروبية ، بل الظاهر أنّ غرضهم كان حصر المعرفة بالدليل الشرعي اللفظي وإلغاء حجيّة الدليل العقلي ، سواء كان عقليا قبليا ، أي غير مستمد من التجربة والاستقراء ، أو عقليا بعديا ، أي مستمدا من التجربة والاستقراء ، وهذا يكفي بمدرسة الإخباريين بعدا عن المدرسة الحسيّة التجريبيّة الّتي ألغت العقل القبلي وحصرت المعرفة بالدليل الحسي الاستقرائي ، بينما الأسترآبادي ألغى القبلي والبعدي واعترف بالشرعي على أساس أنّه محسوس ، وهذا اعتراف منه بالحس بالجملة لا بالحس الّذي تتبناه المدرسة الحسيّة الأوروبية.

وعلى أيّ حال فالكلام في مدّعى الإخباريين المذكور يقع في مقامين.

٣٢٥

١ ـ المقام الأول : في العقل النظري :

وقد عرفت انّ جوهر الكلام من قبل المشكّكين في كاشفية الدليل العقلي ، مردّه إلى دعوى كثرة الأخطاء الواقعة في العقل النظري ، وهذه الكثرة في الخطأ تمنع من حصول اليقين منه ، وحينئذ لا يكون مشمولا لدليل الحجيّة ، وحيث أنّ هذا الكلام لا يخلو من غموض ، فلا بدّ من مقام حلّه وتحقيقه من الكلام حول هذا اليقين فيقال : انّ اليقين له معنيان.

١ ـ المعنى الأول : هو أن يراد باليقين اليقين بالمعنى الأصولي ، وهو الجزم والانكشاف التام الّذي لا يستبطن أيّ تردّد وشكّ وهذا اليقين هو الّذي وقع موضوعا للحجيّة والمنجزية والمعذرية.

٢ ـ المعنى الثاني : هو أن يراد به اليقين بالمعنى المنطقي المأخوذ من كتاب البرهان والصناعات الخمس ، وهو غير الأول ، فإنّ المناطقة البرهانيين لا يسمون كل جزم يقينا ، وإلّا فالصناعات الأخرى غير صناعة البرهان قد تؤدّي إلى الجزم ولكنّه ليس يقينا ، بل اليقين هو الجزم المضمون الحقانية الّذي يكون مطابقا للواقع بالضرورة ، فتكون حقانيته ومطابقيته للواقع هي المقومة ليقينيته ، ومقصود المحدّثين في المقام عند ما يقولون إنّ الدليل العقلي لا يورث اليقين ، تارة يكون إنكار اليقين الأصولي في الأدلة العقلية ، وأخرى ، يكون إنكار اليقين المنطقي ، فأيّ اليقينين يريدون ، الأصولي أو المنطقي؟ فإن كان مراد إنكاركم هو اليقين الأصولي ، فحينئذ إن تمّت صغراه تمّت كبراه ، بمعنى أنّه إن تمّ أنّ اليقين بالمعنى الأصولي غير موجود ، بل الشك هو الغالب فيه وحينئذ ، مثل هذا لا ينتج جزما ، ومعه يتبين أنّه لا موضوع للحجيّة في الأدلة العقلية ، لأنّ الحجيّة بمعنى المنجزية والمعذرية موضوعها الجزم واليقين الأصولي الّذي لا يحتمل فيه الخلاف ، ومع عدم وجوده ولا حجّة أصلا.

٣٢٦

والحاصل انّ كبرى وقوع الأخطاء في الاستدلالات العقلية هل يمنع عن حصول الجزم واليقين أم لا؟

وهنا عادة قبل الحل ينقض على هذا المدّعى نقضا وحلا.

أمّا نقضا : فينقض عليه بنقضين.

١ ـ النقض الأول : هو انّه إذا لم يكن الدليل العقلي معتبرا في إيجاد اليقين ، باعتبار كثرة الأخطاء فيه ، وانحصر الدليل بالأدلة الشرعية ، حينئذ ما ذا تصنعون بالأدلة العقلية الّتي تثبتون بها أصل الشرع ـ أصول الدّين ـ حيث أنّه لا يمكن إثباته بالدليل الشرعي ، مع أنّكم تستدلون بالأدلة العقلية في أصول الدّين ويحصل لكم الجزم على أساسها.

٢ ـ النقض الثاني : هو النقض بنفس الاستدلال بالأدلة الشرعية ، فإنّه في هذه الأدلة وعمليات الاستدلال بها والملابسات الّتي تحيط بالدليل الشرعي والأخطاء الّتي تقع فيه ، هي أيضا تشكّل نفس ما كان يقع في الدليل العقلي ، خاصة إذا لاحظنا عالم الدلالة والسند ، فلو كان مجرد حصول أخطاء كثيرة من هذا القبيل يوجب التوقف عن الجزم ، إذن ينبغي أن لا يحصل جزم للمستدل بالأدلة الشرعية أيضا ، إذ كثيرا ما يقع الخطأ في مقام الاستدلال بها.

وكلا هذين النقضين إنّما يردّان على المحدّثين ، «خصوصا النقض الأول» فيما إذا افترض أنّ المحدّث الأسترآبادي كان يريد إنكار كاشفية الدليل العقلي جملة وتفصيلا ، أي كل دليل عقلي على الإطلاق.

وأمّا إذا كان ينكر كاشفية خصوص تلك الأدلة العقلية ذات الطابع النظري التجريدي المستعملة في مثل علم الكلام والفلسفة والأصول ، بمعنى أنّه ينكر حجيّة ذلك العقل البرهاني الّذي ينتج نظريات فقه وقضايا أخرى ، فإنّه حينئذ لا يردّ عليه النقض الأول حيث أنّه ليس بحاجة لمثل

٣٢٧

هذا العقل في إثبات «النّبوّة أو الله» ، فإنّ إثبات هذه الأصول وإن استدل عليها ببراهين عقلية ، إلّا أنّها هي بحسب الحقيقة تثبت بأدلة استقرائية أيضا ، وحالها حال أي قضية عرفية تثبت بأدلة استقرائية ، وإن استدل عليها ببراهين عقلية ، وكذا النقض الثاني لا يردّ عليه ، لأنّ كثرة الأخطاء هذه إنّما تمنع عن كاشفية خصوص العقل البرهاني ، إذن ، فهذان النقضان غير واردين على المحدّث حينئذ.

وأمّا حلا : فنطرح بادئ ذي بدء هذا السؤال ، وهو أنّه ، لما ذا كان الاطلاع على كثرة الأخطاء في الاستدلالات العقلية موجبا لعدم حصول اليقين منها؟ وللجواب عن ذلك يمكن للأخباريين ذكر تقريبين.

١ ـ التقريب الأول : هو انّه إذا فرض أن استعرضنا مجموعة الاستدلالات العقلية ، وافترضنا أنّ جزءا معينا منها ثبت خطؤه ، فمثلا لو فرض أنّ مجموع الاستدلالات العقلية مائة ، وفرضنا انّ خمسا وعشرين منها ثبت خطؤه ، حينئذ مقتضى ذلك انّ أيّ استدلال نلحظه يكون نسبة احتمال عدم الخطأ فيه مطابقة مع نسبة مجموع الاستدلالات الصحيحة إلى مجموعة الاستدلالات ، فإن كان مجموع الاستدلالات الصحيحة خمسة وسبعون من مائة ، أي ثلاثة من أربعة ، إذن يكون احتمال عدم الخطأ فيه ثلاثة على أربعة.

وبتعبير آخر ، إذا كان في كل أربعة عراقيين يوجد عراقي واحد مريض ، حينئذ إذا وجدت عراقيا واحدا ، يكون احتمال كونه مريضا ، واحدا على أربعة ، واحتمال عدم كونه مريضا واحدا على أربعة ، فإذا كان هناك نسبة معينة من المجموع ، حينئذ ، بمقتضى قانون حساب الاحتمال يستحيل أن يكون احتمال عدم مرضه أكبر من تلك النسبة ، ومن هنا لا يمكن أن يحصل الجزم من الدليل العقلي.

والحاصل : هو أنّه لو فرض أنّ مجموع الاستدلالات في الدليل

٣٢٨

العقلي كانت مائة ، وقد ثبت خطأ ربعها ، فحينئذ ، كل دليل عقلي يكون احتمال صحته ثلاثة من أربعة ، ومثله لا يمكن الجزم بصحته حيث لا موجب لهذا الجزم ، ومعه : فلا يمكن حصول الجزم من الدليل العقلي ، ومعه لا يكون حجّة.

وجواب هذا التقريب : هو أنّ هذا التقريب بهذه الطريقة إنّما تصح في تقييم استدلال عقلي يمارسه غيرنا ويكون نظرنا مجرد نظر المشاهد للنتائج ، كما لو فرض أنّنا أردنا أن نعرف قيمة صواب نظرية «انّ الجزء لا يتجزأ» وقد استدلّ عليها بدليل عقلي فحينئذ نقول : بما أنّ نسبة الخطأ عند المستدل هي واحد على أربعة من مجموع استدلالاته ، حينئذ تكون نسبة احتمال الصحة في نظريته ثلاثة على أربعة ، ومعنى هذا أنّه لا مدرك لهذا الحكم إلّا النسبة ، إذن فمثل هذا الاستدلال لا ينتج إلّا الاحتمال.

لكنّ هذا الحال يختلف عمّا لو فرض أنّنا بأنفسنا عشنا ومارسنا عملية البرهان والاستدلال العقلي بوجداننا العقلي ، ورتبنا مقدّماته واحدة بعد الأخرى ، حينئذ ، لا تتحكم نظرية حساب الاحتمال والنسبة وحدها في تقرير احتمال حجيّة هذا البرهان ، لأنّ مدرك صحته لا يستمدّ من حساب النسبة ، وإنّما مدركه هو الفحص وما يسمّى بالوجدان العقلي ، وحينئذ ، لا معنى لإجراء حساب الاحتمالات في هذا الوجدان ، إذ نفس هذا الوجدان بنفسه امارة وله درجة من الكاشفية قد تصل أحيانا إلى درجة الجزم والقطع حسب وثوق الإنسان بنفسه ، مضافا إلى خصوصيات جسمية وروحية وملابسات أخرى كلها تتدخل في مقدار فاعلية هذا الوجدان العقلي ، وعليه فهذا التقريب غير تام ، وإنّما يصحّ عند ما نريد أن نقيّم صحة نظرية يثبتها شخص آخر.

٢ ـ التقريب الثاني : وهو ينصبّ على نفس ما سمّيناه هناك بالوجدان العقلي ، فيقال : بأنّ كثرة وقوع الأخطاء في العقل بحيث لا

٣٢٩

يلتفت إلى الشيء مرّة بعد مرّة ، فإنّ هذا يؤدّي إلى زوال الثقة منه بهذا الوجدان العقلي ، ومعه لا يحصل للمستدلّ العقلي يقين.

والحاصل هو أنّ كثرة وقوع الأخطاء في الاستدلالات العقلية يوجب زوال الثقة بهذا الوجدان العقلي ، ومعه لا يحصل للمستدل يقين.

وهذا التقريب يفرق عن التقريب السابق ، بأنّه في التقريب السابق كان يتصور بأنّ مدرك التصديق هو ملاحظة النسبة الرياضية للصواب وللخطإ ، ولهذا قلنا بأنّ مدرك التصديق بالنسبة لنفس المباشر لعملية الاستدلال ليس هو النسبة ، بل هو الوجدان العقلي ، بينما في هذا التقريب يعترف بأنّ مصدر التصديق هو هذا الوجدان العقلي ، لكن يقال : بأنّ هذا الوجدان لا يولد اليقين بسبب ما يراه صاحب هذا الوجدان من كثرة وقوع الأخطاء.

ويردّ على هذا الكلام نقضا وحلا.

أمّا نقضا : فإنّه يقال : بأنّ مرجع هذه الدعوى إلى أنّ العقل يرى انّ كثرة الأخطاء مانعة من تأثير هذا الوجدان العقلي في حصول اليقين.

وهذه الدعوى بنفسها من مدركات العقل ، إذ ليست هي مفاد آية ولا رواية ، بل هي من مدركات العقل الّذي يقع فيه هذا الخلاف ـ النفي والإثبات ـ وعليه : فكيف يعقل أن يدّعي الطرف المقابل هذه الدعوى في مقام إلزامنا برفع اليد عن الدليل العقلي ، لأنّه إن ادّعى هذه الدعوى بنحو اليقين والجزم ، فهذا بنفسه تكذيب للدعوى ، لأنّه حصل له يقين بإدراك عقلي ، وهو خلف دعواه نفسها ، وإن فرض أنّه لم يدّع حصول اليقين والجزم بها ، فحينئذ ، هو وشأنه ، ولكن دعواه لا تصلح دليلا ملزما للغير برفع اليد عن التعويل على الدليل العقلي.

ويردّ عليه حلا بأن يقال : إنّ بطلان يقين بسبب ظهور الخطأ في يقين آخر له ثلاث حالات.

٣٣٠

١ ـ الحالة الأولى : هي أن يفرض وجود تلازم بين القضية الثانية والأولى اللّتين نعتقد بهما ، ثمّ بعد ذلك يظهر خطأ اعتقادنا بالقضية الأولى ، حينئذ ، لا محالة يزول اعتقادنا بالقضية الثانية.

وهذا مبني على التلازم الموضوعي الخارجي بين المعتقد به في القضية الأولى والمعتقد به في القضية الثانية ، لأنّنا فرضنا أنّ القضية الثانية ـ الّتي هي موضوع الاعتقاد الثاني ـ تستلزم القضية الأولى الّتي هي موضوع الاعتقاد الأول ، فإذا زال اعتقادنا الأول ، فلا محالة يزول اعتقادنا الثاني.

وهنا استدعاء ظهور الخطأ في الاعتقاد الأول لزوال الاعتقاد في القضية الثانية هو ، استدعاء منطقي قائم على أساس التلازم بين الموضوعين حتّى لو لم يكن هناك استلزام من الأول على الثاني ، أي حتّى لو كان هذا الاستدعاء من طرف واحد.

٢ ـ الحالة الثانية : هي أن يفرض عدم التلازم بين الموضوعين في البطلان والصحة ، لكن ظهور بطلان الاعتقاد بالقضية الأولى يوجب زوال البرهان على الاعتقاد بالقضية الثانية وإن لم يكن استلزام بين القضيتين ، ونمثل لذلك بمثالين :

١ ـ المثال الأول : هو أنّ قدماء الفلاسفة كانوا يعتقدون بقضيتين.

إحداهما : قضية وجود الأفلاك التسعة طبقا لنظرية كونية قديمة.

والأخرى : قضية وجود عقول عشرة تطبيقا لقانون «انّ الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد» ، ومع الاعتقاد بكون الأفلاك تسعة وكونها متغايرة سنخا وذاتا فلا بدّ وأن يكون هناك عقول بعدد هذه الأفلاك مع زيادة عقل لما هو تحت فلك القمر ، أي لعالم العناصر الأربعة ، ثمّ بعد ذلك ثبت خطأ الاعتقاد بالقضية الأولى ، لأنّه ليس هناك أفلاك تسعة كما

٣٣١

كانوا يتصورون ، وخطأ هذا الاعتقاد لا يستلزم خطأ الاعتقاد بقضية العقول العشرة ، أي بالقضية الأخرى ، إلّا أنّه بعد ثبوت بطلان القضية الأولى ـ أي العقول العشرة ـ يبطل برهان القضية الثانية ، وهو انّ الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد ، أي أنّ برهان «انّ الواحد لا يصدر منه إلّا واحد» لا يمكنه أن يثبت عقولا عشرة ، بل عقل واحد لا غير.

٢ ـ المثال الثاني : هو أن يخبرك شخص بإخبارات متعددة ، ثمّ بعد ذلك تطلع على كذبه في عدد كبير منها ، فانّه حينئذ يزول تصديقك له فيما يأتي به من أخبار جديدة ، وإن لم يكن تلازم بين الصدق والكذب في تلك الأخبار ، لأنّ الكذوب قد يصدق أحيانا ، لكن رغم هذا ، يزول الاعتقاد بصحة كلامه كلّه ، لأنّ برهان هذا الاعتقاد كان حساب الاحتمال ، فتضيق نسبة الصدق في مجموع الكلام ، إذ كنت تصدقه في أكثر ما يقول ، ثمّ بعد الاطلاع على كذبه في جملة من الإخبارات السابقة تهبط حينئذ هذه النسبة ، ومعها يهبط الاعتقاد بكلامه الجديد وهذا معناه زوال البرهان على تصديق أخباره الجديدة.

٣ ـ الحالة الثالثة : هي أن يفرض وجود حالة نفسية ـ وليست حالة منطقية كما هو الحال في الأولى ـ تمنع من حصول اليقين بالقضية الثانية بعد ظهور خطأ اليقين بالقضية الأولى ، وهذا من قبيل : ما حصل لجملة من الفلاسفة الشكّاكين ـ من عدم حصول اليقين في القضية الثانية ـ بسبب تذبذب البراهين في أفكارهم ولما كان يتراءى لهم من أخطاء في القضية الأولى أوجبت بطلان الثانية ، فهنا ، زوال الاعتقاد ببعض القضايا ، كان نتيجة لزوال الاعتقاد بقضايا أخرى ، ولم ينشأ من التلازم بين القضيتين كما في الحالة الأولى ، ولا من ناحية فقدان البرهان كما في الثانية ، بل هي حالة نشأت من سبب نفسي.

ولا إشكال انّ محل الكلام ليس من قبيل الحالة الأولى ، فإنّا لا

٣٣٢

نتكلم عن استدلالات عقلية على قضايا تستلزم أمورا ثبت بطلانها ، إذ أنّ مثل هذا لا إشكال في بطلانه ، فإنّ ما يستلزم الباطل باطل.

كما انّ محل الكلام ليس من الحالة الثانية ، فإنّا لا نتكلم في اعتقادات عقلية يزول البرهان العقلي فيها بظهور الخطأ في أمور أخرى ، لأنّ البرهان هنا ليس النسبة ، بل هو الوجدان العقلي ، إذ هذا الوجدان بالمقدار الملحوظ منطقيا لا علاقة له بالوجدانات الأخرى.

نعم الحالة الثالثة داخلة في محل الكلام ، فيقال : ما دمت قد أخطأت عشرة إخطاءات ، إذن لا يبقى لي ثقة بهذا الوجدان ، وحصول هذه الحالة النفسية الّتي تمنع من حصول الثقة باليقين العقلي أمر وجداني ، فقد يحصل عند شخص أخطاء يقينية عدّة مرّات ومعها لا يبقى له ثقة بوجدانه العقلي بعد ذلك ، وهذا أمر معقول قد يتفق لإنسان ، لكنّه قد لا يتفق لإنسان آخر ، وذلك لأنّ هذا أمر وجداني ، والقضية فيه ليست مبنية على ترابط منطقي أو تلازم موضوعي بين هذه القضية والقضية الأخرى ، بل هو مبني على أمور نفسية قد تحصل بموجبها القريحة النفسية الّتي توجب زوال الثقة بالوجدان العقلي ، وقد لا تحصل بموجبها تلك القريحة الّتي توجب زوال الثقة به ، فهي تختلف باختلاف الأشخاص ، وعلى كلّ حال لا ملازمة بين هذه التفصيلات.

إذن فروح هذا المطلب ، يرجع إلى التجربة ، لأنّ هذه الحالة سببها سرعة التصديق وتكرار حالة «ما» ، وهكذا.

ولا إشكال في أنّ العلماء الّذين استندوا إلى الأدلة العقلية وجدت عندهم قناعات كاملة بذلك ، وعلى أساسه ترتبت هذه النتيجة بعد أن كانوا لا يرون حجيّة الظنون.

هذا كله إن كان المراد من اليقين الّذي لا يعطيه الدليل العقلي لكثرة الأخطاء ، هو اليقين الأصولي.

٣٣٣

وأمّا إن كان المراد منه اليقين المنطقي ، «وهو الجزم المضمون الحقّانيّة» ، هو الّذي يزول لكثرة الأخطاء ، حيث يقال : إنّ الدليل العقلي قد يخطئ فلا تكون الأدلة العقلية حينئذ مضمونة الحقّانيّة.

وهذا الكلام وان تمّت صغراه ، لكن الكبرى لا تتم ، لأنّ الحجيّة بمعنى المعذرية والمنجزية موضوعها الجزم واليقين الأصولي الّذي ليس معه شك ، وليس موضوعها اليقين المنطقي البرهاني المضمون الحقّانيّة ، إذ الأصولي لا شغل له باليقين البرهاني ، بل شغله بالقطع والظن والشك ، فانكفاء وتعثر اليقين البرهاني لا يضرّ بغرض الأصولي.

هذا ما ينبغي قوله في مقام التعليق على هذا الكلام ، إلّا أنّ الموجود في الكتب في مقام التعليق على هذه النقطة ، اتجاه آخر ، حيث ذكروا في مقام الجواب على مسألة «انّ كثرة الخطأ يوجب زوال اليقين» فقالوا : إنّ كثرة الخطأ إنّما تقع لعدم مراعاة قواعد وعلم المنطق وضمان تفادي هذا الخطأ يكون بمراعاة علم المنطق ونحن نتكلم عن الأدلة العقلية الّتي روعي فيها علم المنطق ، وكأنّهم افترضوا انّ الكلام في اليقين المنطقي ، فلم يميزوا بصورة واضحة بين اليقين الأصولي واليقين المنطقي.

ولذلك أشكل المحدّث الأسترآبادي على هذا الكلام ، حيث قال : بأنّ علم المنطق يعصم من الخطأ من ناحية الصورة ، ولا يعصم من ناحية المادة.

وقد أجاب العلماء على هذا الكلام : بأنّ الخطأ في المادة لا بدّ وأن ينتهي إلى الخطأ في الصورة ، وذلك بعد أن نستبطن طريقة القوم المتعارفة عند هؤلاء في المنطق الأرسطي ، فهم يقولون أنّه توجد معارف أولية هي أساس المعرفة البشرية وهذه المعارف تستنبط منها كل معرفة بطريقة البرهان ، وهذه الطريقة يحدّدها علم المنطق ، وحينئذ ، إذا جئنا

٣٣٤

إلى كل قضية وقلنا بأنّه حصل خطأ في هذا الاستدلال ، فإن كان في الصورة ، فالمنطق هو الّذي يعصم ، وإن كان في المادة ، فإن كانت أولية فلا معنى للخطإ فيها ، وإن كانت ثانوية ، إذن فهي بحاجة إلى برهان ، ثمّ ننقل الكلام إلى هذا البرهان ، فإنّ له صورة ، ومادة ، والخطأ إمّا في صورته ، وإمّا في مادته ، وهكذا ، ولكي لا يلزم التسلسل ، لا بدّ وأن ينتهي إلى الأوليات ، وعليه : فالخطأ إنّما يرجع إلى الصورة ، وبهذا أبطلوا كلام المحدّث الأسترآبادي «قده».

والحاصل : هو أنّ الأعلام من الأصوليين عند ما تصدوا للجواب عن الشبهة ، افترضوا الكلام في اليقين المنطقي البرهاني ، وحينئذ ، قالوا : إنّ هذه الشبهة غير واردة ، لأنّ كثرة الأخطاء إنّما وقعت بسبب عدم مراعاة قواعد المنطق العاصم عن الخطأ ، فلو أنّ قواعد المنطق روعيت لما وقع الخطأ ، وذلك لأنّ المعرفة البشرية تنقسم إلى عقلين.

١ ـ العقل الأول : هو عقل أوّلي ، وهو عبارة عن إدراك المعارف الأولية الّتي هي أساس معرفة الإنسان ، وهذه المعارف الأولية هي عبارة عن القضايا الست المعروفة ، وهي : الأوليات ، والفطريات الّتي قياساتها معها ، والتجريبيات ، والحدسيات ، والمحسوسات ، والمتواترات ، فهذه القضايا تشكل العقل الأولي ، وهي قضايا مضمونة الحقّانيّة بذاتها.

٢ ـ العقل الثاني : هو العقل الثانوي ، وهو عبارة عن البرهان واستخراج معلومات من تلك المعلومات الأولية ، وفي هذا العقل الثاني ، كل قضية ومعرفة تمّ استخراجها من قضايا العقل الأول على أساس وضوء قواعد المنطق ، تكون مضمونة الحقّانيّة ، لضمان حقّانيّة العقل الأول ، إذ أنّ القضية والمعرفة المستخرجة منه لازمة له ولازم الحق حق لا محالة ، وأمّا إذا لم يكن استخراجها منها قائما على أساس قواعد علم المنطق فإنّها لا تكون مضمونة الحقّانيّة ، وفي مثلها يكثر

٣٣٥

وقوع الخطأ ، لأنّها غير مضمونة الحقّانية لا بالذات ، ولا بانتهائها إلى ما يكون مضمون الحقّانيّة بالذات.

وبناء عليه : يمكن للمحدث الأسترآبادي «قده» أن يشكل على هؤلاء ، بأنّ قواعد علم المنطق الّتي تعصم الفكر عن الخطأ ، هل هي ضرورية بديهية كبرى وتطبيقا ، أو انّها ليست بديهية كذلك ، أو انّها على الأقل بعضها ليس بديهيا؟.

فإن قالوا : بأنّ القواعد المذكورة بديهية كبرى وتطبيقا ، قلنا : انّ هذا خلاف الوجدان بالضرورة ، لأنّها لو كانت كذلك لما وقع خطأ بحسب الخارج أصلا كما هو الحال في كثرة الأخطاء في العلوم النظرية البرهانية ، وهذا يبرهن على عدم بداهتها كبرى وتطبيقا.

وإن قالوا : انّها ليست بديهية كبرى ، قلنا : إذن سوف يقع الخطأ في نفس القواعد العاصمة.

وإن قالوا : انّها ليست بديهية تطبيقا ، قلنا : إذن سوف تحتاج إلى عاصم آخر في مرحلة التطبيق غير القاعدة المنطقية ، بعد فرض عدم عصمتها في مرحلة التطبيق ، وحيث لا عاصم آخر ، إذن فتنشأ الأخطاء الكثيرة.

هذا غاية ما يمكن أن يجيب به الأخباري على كلام الأصوليين بناء على التصور المعروف للمعرفة البشرية.

وهذا الجواب هو أفضل ممّا ذكره المحدث الأسترآبادي ، من أن علم المنطق يعصم صورة لا مادة ، إذ قد ذكرنا سابقا ، أنّ الخطأ يمكن إرجاعه إلى الصورة أيضا.

ولكن هذا التصور للمعرفة البشرية أساسا غير صحيح ، وقد كانت هذه المسألة هي الّتي فتحت علينا أبواب التفكير وكانت المفتاح لتأليف

٣٣٦

كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، وحيث انّ الخوض فيها تفصيلا يخرجنا عن غرض بحثنا فلا بدّ من ذكر شيء ولو إجمالا يتمثل في نظرية أخرى يقع مجملها في مقامين.

١ ـ المقام الأول : في العقل الأول :

وخلاصته : هو أنّ منطق أرسطو يرى انّ القضايا الست وهي القضايا العقلية الأولية هي أساس المعرفة البشرية ، وتكوّن المواد الرئيسية لكتاب البرهان ، لأنّها مضمونة الحقّانيّة.

ونحن لا نسلم ذلك في كل هذه القضايا ، بل إنّ ما نسلمه قسمين من هذه القضايا الست ، وهما الأوليات ، من قبيل «استحالة اجتماع النقيضين» ، والفطريات الّتي هي عبارة عن القضايا الّتي قياساتها معها من قبيل ، «انّ الأربعة زوج لأنّها تنقسم إلى متساويين» ، بينما لا نسلم كون القضايا الأربعة الأخرى من التجريبيات ، والحدسيات ، والمتواترات ، والمحسوسات ، انّها قضايا أولية لا تعتمد على قضايا قبلية ، وذلك لأنّه لو أخذنا على سبيل المثال التجريبيات ، نرى أنّ المنطق الأرسطي عند ما يجري تجارب عدّة على قطع عديدة من الحديد ، ويرى أنّه يتمدد بالحرارة فالعقل يحكم حينئذ ، بأنّ كل حديد يتمدد بالحرارة ، فهذه قضية تجريبية خارجية ، حيث جرّبنا مائة قطعة حديد فوجدناها تتمدد بالحرارة ، وبعد ذلك لم نصدر الحكم على خصوص المتمدد بالحرارة ، بل عمّمنا الحكم على كل حديد.

وحينئذ في بادئ النظر يخطر على بال الإنسان العرفي أنّ مدرك هذا الحكم هو هذه التجارب العديدة ، ومن هنا يقال : بأنّ النتيجة هنا أكبر من المقدّمات ، لأنّ المقدّمات في الدليل محصورة بعدد معين ، بينما النتيجة تشمل كل حديد في العالم ، والحال على عكس ذلك في الاستنباط والقياس من الشكل الأول ، فإنّ النتيجة إمّا مساوية للمقدّمات

٣٣٧

أو أصغر منها ، ومن هنا يقال : إنّ الفكر له سيران ، أحدهما سير من العام إلى الخاص ، كما في باب الشكل الأول من القياس ، وثانيهما ، سير من الخاص إلى العام ، كما في باب الاستقراء المنطقي.

والمنطق الأرسطي لم يقبل السير من الخاص إلى العام في الاستنتاج لأنّ مسألة السير هذه أوجدت مشكلة منطقية لم تحل وهي زيادة الحكم على التجربة حيث يقال : ما هو مبرر الانتقال من الخاص إلى العام؟.

وفي مقام حل هذا الإشكال قال المنطق الأرسطي : إنّ الاستقراء والتجربة بحسب الدقة هي ، سير من العام إلى الخاص ، وذلك لأنّه يوجد عند العقل قبل التجربة والاستقراء قضية عقلية قبلية ، وهي أنّ الاتفاق لا يكون دائميا ولا أكثريا في عالم الطبيعة والخارج ، بمعنى أنّ الصدفة لا تتكرر ، والاتفاق لا يستمر ، وهذه قضية يعتبرها أرسطو قضية أولية في العقل.

ونحن : إذا افترضنا انّ هذه القضية قضية أولية نأتي إلى مثالنا فنقول : بأنّه في مائة حالة تجربة وجدت فيها الحرارة ، وجد التمدد أيضا ، فإن لم تكن الحرارة سببا للتمدد ، إذن ، يكون اجتماع الحرارة مع التمدد في المائة مرّة اتفاقيا ، لكن قلنا : إنّ الاتفاق لا يتكرر ولا يكون دائميا ، بقانون تلك القضية العقلية المتقدّمة ، إذن فيتبرهن أنّ الحرارة هي سبب التمدد في الحديد ، وإذا كانت سببا وعلّة ، فيجب أن لا يتخلّف عنها معلولها ، إذن ، فتسري هذه العلّة إلى كل حديد آخر ، إذا تعرّض للحرارة ، ومعه يسري حكم التمدد إلى كل حديد تعرّض للحرارة.

وبهذا أرجع القضية التجريبية إلى السير من العام إلى الخاص ، وبهذا يعرف أنّ القضية العقلية الأولية هي عبارة عن قضية «انّ الاتفاق لا يتكرر وليس دائميا ، وأمّا قضية الحرارة والتمدد فهي قضية ثانوية.

٣٣٨

ونفس هذا الكلام الّذي قالوه في التجريبيات ، قالوه أيضا في الحدسيات ، فذكروا انّ نور القمر مستمد من ضوء الشّمس ، لأنّ ضوءه دائما يتشكل بشكل يناسب مع نسبة مكان الشّمس إليه ، فإن لم يكن ضوؤه مستمد منها ، فهذه صدفة ، والقضية العقلية الأولية تقول بأنّ الصدفة والاتفاق لا يتكرر ، إذن يتبرهن أنّ ضوءه مستمد من ضوء الشّمس ، إذن فضوؤها علّة لضوئه ، فتسري إلى دائمية ضوئه.

وكذلك قالوا في المتواترات : فإنّ التواتر على ما عرفوه ، عبارة عن اجتماع عدد من النّاس وتوافقهم على الإخبار عن قضية يكونون بنحو من الكثرة بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب ، وامتناع تواطؤهم ، باعتبار أنّه لو كان كل واحد منهم يكذب لكان صدفة ، وهي لا تتكرر وليست دائمية ، إذن فيثبت صدقهم.

فالمتواترات ، والحدسيات ، والتجريبيات ، أقاموها على أساس هذه القضية العقلية القبلية.

وقد ناقشنا هذا المطلب في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، وأثبتنا بسبعة براهين ، انّ هذه القضية العقلية الأولية ، وهي كون «الاتفاق لا يكون دائميا ، وانّ الصدفة لا تتكرر» أثبتنا انّها ليست قضية عقلية ثابتة قبل التجربة ، كاستحالة اجتماع النقيضين ، وإنّما هي قضية مبنية على الاستقراء والتجربة وحساب الاحتمالات ، فمثلا : عند ما نعطي مريضا قرصا من الأسبرين فيشفى ، نقول : يحتمل أن يكون سبب شفائه ذلك القرص ، ولكن يبقى احتمال آخر وهو أن يكون سبب شفائه حادثة أخرى اقترنت مع الأسبرين صدفة ، لكن إذا أعطي الأسبرين لشخص آخر مريضا بنفس المرض وشفي فاحتمال أن يكون سبب شفائه أمر آخر غير ذلك القرص لاحتمال أن تكون الصدفة قد تكررت في هذا الأمر الثاني احتمال ضعيف ، وهو أضعف من الفرض الأول ، وهكذا يضعف

٣٣٩

هذا الاحتمال أكثر لو أعطينا شخصا ثالثا قرصا من الأسبرين ، حيث يضعف احتمال كون حادثة أخرى اقترنت صدفة مع الأسبرين ، وهكذا يضعف أكثر لو أعطينا قرص الأسبرين شخصا رابعا وشفي ، إلى أن يصبح احتمال استناد الشفاء لأمر آخر غير قرص الأسبرين ضعيف جدا بحيث لا يؤثر على احتمال استناد الشفاء إلى قرص الأسبرين الّذي أعطيناه للمريض ، لأنّه لو لم يكن الأسبرين هو سبب شفائه لكان معناه اجتماع ثلاث أو أربع صدف وهذا بحسب حساب الاحتمالات ضعيف ، فإنّه كلّما تكاثرت التجربة وكانت النتيجة واحدة ضعف احتمال الصدفة ، لأنّ ضرب مجموع الاحتمالات ببعضها يضعفها ، إذن ، فقضية «انّ الاتفاق لا يكون دائميا ليست قضية قبلية بديهية ، بل هي قضية بنفسها استقرائية ثبتت بحساب الاحتمالات ، وبهذا يثبت أنّ المتواترات والتجريبيات ، والحدسيات ، ليست قضايا ضرورية بديهية كما انّها ليست مضمونة الحقّانيّة ، وإن كانت قضايا قطعية بالقطع الأصولي ، لكنّها ليست كذلك منطقيا ، لقيامها على أساس حساب الاحتمال ، بل هذا المطلب قلناه بعينه في المحسوسات أيضا ، كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

والخلاصة هي أنّ الكلام في تحقيق الصورة الّتي ذكروها يقع في مقامين وكان الكلام في المقام الأول حول تحقيق حال العقل الأول ، حيث يقولون أنّه عبارة عن المعرفة الأولى الّتي تشكّل الأساس في المعرفة البشرية ، وانّ هذه المعرفة تتكوّن من ستّ قضايا كلها أوليّة ، وقد قبلنا اثنتين منها انّها كذلك ، وهما : الأوليات ، والفطريات ، وأمّا الأربعة الباقية منها ، وهي التجريبيات ، والحدسيات ، والمتواترة ، والمحسوسات ، فلم نقبل بأوّليتها ، وقد ذكرنا انّها قائمة على أساس قاعدة ، وهي «انّ الصدفة والاتفاق لا يتكرر» ، وهذه القاعدة بنفسها قائمة على حساب الاحتمالات.

٣٤٠