بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

الأطهار عليهم‌السلام ويفتون النّاس دون أن يكون عندهم علم بذلك ، ودون أن يرجعوا إلى الإمام المعصوم من أهل البيت عليهم‌السلام رغم أنّهم كانوا معاصرين له ، وهكذا ، تكون هذه الرّوايات أجنبية عن محل الكلام.

ثمّ إنّه لو سلّم دلالة هذه الرّوايات ، بمعنى أنّه سلّم أنّ عنوان الرأي المذكور فيها مطلق يشمل الرأي الظني والرأي القطعي ، إذن ، فتكون دالة على عدم حجيّة الدليل العقلي القطعي بالإطلاق ، فتقع المعارضة بينها وبين بعض الطوائف من الرّوايات الدالة على لزوم اتباع العلم والدالة على براءة العالم إذا عمل بعلمه (١) ، من دون تقييد بأن يكون مصدر هذا العلم العقل أو الشرع ، وحينئذ ، تكون النسبة بين هاتين لطائفتين ، العموم والخصوص من وجه ، لأنّ هذه الطائفة الثانية تدلّ على أنّ من قضى بالواقع وهو يعلم فهو في الجنّة ، أي سواء كان علمه عقليا أم شرعيا ، وتلك الطائفة تدلّ على أنّ من أفتى برأيه فهو في النّار ، أي سواء كان رأيه ظنيا أو قطعيا ، ومعه : فيتعارضان في مادة الاجتماع ، وهو مورد العلم العقلي ، ومع عدم المرجح ، يتساقطان فيه ، ومعه : لا يبقى دليل على الردع عن العمل بالعلم العقلي.

ثمّ إنّ هناك طائفة من الرّوايات ، ذكرها في أصول الكافي (٢) ، كما أشار إليها الشيخ الأعظم «قده» (٣) ، تحثّ على العمل بالعقل ، وهذه الرّوايات لو تمّت سندا ودلالة ، لوقعت طرفا للمعارضة مع تلك الرّوايات المدّعى دلالتها على النهي عن العمل بالعقل أو الرأي.

وقد يقال : بأنّ ما دلّ على حرمة العمل بالرأي ، مقدّم على هذه

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ، ص ٤٢ ـ ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) أصول الكافي : الكليني ، ج ١ ، باب النهي عن القول بغير علم ، ص ٤٢.

(٣) الرّسائل : الأنصاري ، ص ١١ ـ ١٢.

٣٦١

الطائفة الّتي تحثّ على العمل بالعقل ، وذلك لأنّ روايات حرمة العمل بالرأي مطلقة ، تشمل العقل النظري البرهاني والعقل الفطري بينما الرّوايات الّتي تحثّ على العمل بالعقل ، فإنّ المقصود بها هو العقل الفطري الخالي من شوائب الأوهام ، وبهذا تكون مخصصة لتلك الرّوايات ، ومعه تبقى دالة على حرمة العمل بالعقل النظري.

لكن قد يقال : انّ هذه الرّوايات إذا لوحظت من ناحية أخرى ، وجدنا أعميّة في عنوان «الرأي» بحيث أنّها تشمل الرأي الظنّي والرأي القطعي ، بينما روايات الحثّ على العمل بالعقل ، لا تقتضي حجيّة الرأي الظنّي ، وإنّما هي في مقام إمضاء العقل على طبقه ، إذ من الواضح أنّ العقل لو خلّي وطبعه لأدرك بنفسه عدم حجيّة الظن ، إذن فالنسبة بينهما عموم من وجه أيضا ، إذ أنّ روايات النهي عن العمل بالرأي أخصّ ، لعدم شمولها الفطريات ، لكنّها أعمّ لشمولها الظنون العقلية ، ومع كون النسبة بينهما العموم من وجه ، إذن ، تتعارض الطائفتان ثمّ تتساقطان في مادة الاجتماع ، وكل هذا لو فرض صحة هذه الطائفة.

إلّا أنّه عند مراجعة هذه الرّوايات ـ روايات الحثّ على العمل بالعقل ـ يتضح عدم تماميتها سندا أو دلالة ، فالمهم ، التعويل على الطائفة الأولى الدالة على براءة ذمّة العالم إذا عمل بعلمه (١) ، حيث أنّها وافية بالغرض مع كونها طرفا للمعارضة بنحو العموم من وجه مع تلك الطائفة الّتي احتجّ بها الأخباريون من النهي عن العمل بالرأي بالنحو الّذي بيّناه ، وبعد التساقط لو سلّم التساقط لا يبقى دليل على الردع ـ مدّعى الأخباري ـ لا بالوجه المنقول عنهم ، ولا بغيره.

والحاصل هو أنّ الأهم هو ، إيقاع المعارضة بين أخبار الرأي ،

__________________

(١) أصول الكافي : الكليني ، باب استعمال العلم ، ص ٤٤ ـ ٤٥.

٣٦٢

وبين الطائفة الثانية الدالة على جواز التدين والقول بعلم لأجل حجيّة سندها ، وتكون المعارضة بينهما بنحو العموم من وجه ، لاجتماعهما في العقل القطعي ، وافتراق أخبار الرأي بالعقل الظنّي ، وافتراق أخبار العلم بالقطع الناشئ من الأدلة اللفظية ، وبعد التساقط ، لو سلّمنا به ، لا يبقى دليل على مدّعى الأخباري.

٣٦٣

في مخالفة العلم التفصيلي

بقي هناك فروع تعرض لها الشيخ الأعظم «قده» (١) ، بعنوان أنّه قد يستدل بها الأخباريون ، ليوهموا بها إثبات إمكان الردع عن العمل بالقطع ، بدعوى أنّ الاختيارات الفقهية في هذه الفروع تستدعي أمر الشارع بطرح علم تفصيلي ، وقد ذكروا فروعا نقتصر فيها على التعرّض للفروع الستة الّتي ذكرها السيّد الخوئي «قده» (٢) تبعا للشيخ الأعظم «قده» ، بحيث تكون أنموذجا للباقي. ولكن ليس بملاك تتميم النقاش مع الإخباريين ، بل باعتبار ما في تحقيقها من نكات صناعية ، ومن تمرين على الصناعة.

١ ـ الفرع الأول : هو أنّه لو علم الإنسان بجنابة نفسه أو جنابة شخص آخر ، فإنّ مثل هذا العلم الإجمالي غير منجز ، باعتبار أنّه علم إجمالي بتكليف متوجه إلى العالم أو إلى شخص آخر ، والعلم الإجمالي إنّما يتنجز إذا كان علما إجماليا بالتكليف الفعلي للعالم كي يدخل حينئذ في عهدته ، وإن كان تكليف الغير لا يدخل في عهدته ، فإذا لم يكن هذا العلم منجزا ، ففي مثله لا مانع من جريان الأصول المؤمنة في كل

__________________

(١) الرّسائل : الأنصاري ، ص ١٦ ـ ١٧.

الرّسائل : تحقيق النورابي ، ج ١ ، مؤسسة النعمان ـ بيروت ، ص ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٥٧ ـ إلى ص ٦٢.

٣٦٤

الأطراف حيث لا تعارض بينها ، فيستصحب بقاء طهارته وعدم وجوب الغسل عليه ، كما أنّه يجري استصحاب بقاء طهارة الرجل الآخر.

وهذان الاستصحابان إنّما يجريان معا لعدم تنجيز العلم الإجمالي ، مع انّ جريانهما معا قد يؤدّي إلى طرح علم تفصيلي في بعض الأحيان.

فمثلا : تارة يفرض انّ هذا الإنسان يستصحب طهارته ويصلّي فرادى ، فهنا لا يكون مخالفا لعلم تفصيلي ، وقد يفرض أنّه اغتسل وصلّى خلف الآخر ، فكذلك لا مخالفة تفصيلية ، وأمّا إذا لم يغتسل ، وكذلك الشخص الآخر لم يغتسل ، وصلّى خلفه ، فحينئذ ، تكون صلاته صحيحة بمقتضى الاستصحابين ، ولكنّها معلومة البطلان وجدانا وتفصيلا ، لأنّها إمّا أنّها صلاة جنب ، وإمّا لأنّها صلاة خلف الجنب ، إذن ، فهنا قد طرح علم تفصيلي باعتبار إجراء الأصلين ، فإذا جاز ذلك ، إذن فكيف يقال لا يجوز الردع عن العمل بالعلم.

وقد أجيب عن هذه الشبهة بأجوبة مترتبة.

١ ـ الجواب الأول : هو أن يدعى انّ صحة الائتمام موضوعها واقعا هو ، الأعم من صحة صلاة الإمام واقعا ، أو اعتقادا ، أو ظاهرا ، بمعنى أنّ الصحة الظاهرية لصلاة الإمام ، أو الصحة الاعتقادية لصلاته هي ، موضوع للحكم الواقعي ، فتصح صلاة المأموم حتّى لو لم تكن صلاة الإمام صحيحة في الواقع ، وبناء على ذلك ، فحينئذ لا بأس في المقام بجريان الأصلين معا ، ولا يلزم من إعمالهما في حال ائتمام أحدهما بالآخر ، طرح علم تفصيلي ببطلان الصّلاة ، إذ لا علم تفصيلي للمأموم ببطلان صلاته ، لأنّه لو كان هو الجنب فصلاته باطلة ، وإن كان الإمام هو الجنب فصلاة المأموم صحيحة ، لأنّ صلاة الإمام بحسب الحكم الظاهري ، أو بحسب اعتقاد المأموم صحيحة ، وهذه موضوع للصحة الواقعية عند المأموم ، إذ لا علم تفصيلي للمأموم ببطلان صلاته

٣٦٥

على كلّ حال ليلزم المحذور ، نعم هو يعلم ببطلانها على تقدير كونه هو الجنب.

ولكن هذا الجواب غير تام مبنى ، لأنّ ظاهر الأدلة هو إناطة جواز الائتمام بصحة صلاة الإمام واقعا ، وكون صحة صلاة الإمام ظاهرا هي الموضوع للحكم بجواز الائتمام واقعا ، يحتاج إلى دليل ، مع أنّه لا دليل في المقام على ذلك.

٢ ـ الجواب الثاني : هو أنّ هذين الاستصحابين المؤمّنين لا يجريان في المقام ـ حتّى بقطع النظر عن هذا

العلم التفصيلي ـ وذلك ، لأنّ هذين الأصلين على خلاف علم إجمالي منجز ، وليس كما ادّعى أنّه غير منجز.

وتوضيح ذلك : هو أنّ المكلّف إذا علم إمّا بجنابة نفسه ، وإمّا بجنابة الغير ، فتارة : يفرض أنّ ذلك الغير ممّن يجوز الائتمام به لو كانت صلاته صحيحة ، وأخرى : يفرض أنّه ممّن لا يجوز الائتمام به حتّى لو كانت صلاته صحيحة ، فإذا فرض انّ هذا الغير كان ممّن يجوز الصّلاة خلفه ، إذن ، سوف يتشكل لدينا علم إجمالي منجز ، وذلك ، لأنّ هذا المكلّف يعلم إجمالا ، إمّا ببطلان صلاته الّتي يصلّيها فرادى قبل أن يغتسل ، وإمّا ببطلان صلاته الّتي اقتدى بها خلف الشخص الآخر ولو بعد أن يغتسل ، وذلك لأنّه إن كان هو الجنب ، كانت صلاته باطلة سواء اقتدى أم صلّى فرادى ، وإن كان الإمام هو الجنب ، فلا يجوز الاقتداء به ، وحينئذ ، تبطل صلاته لو اقتدى وإن اغتسل ، وحينئذ ، فهذا علم إجمالي منجز يوجب تعارض الأصلين والاستصحابين وتساقطهما فلا يجريان ، ومعه لا تصل النوبة إلى ما ادّعي من لزوم طرح علم تفصيلي.

ومن هنا قلنا في تعليقتنا على منهاج الصالحين إلّا إذا كانت جنابة

٣٦٦

أحدهما موضوعا لحكم إلزامي لآخر كما في الكلام المتقدّم في الجنابة الدائرة بين شخصين وقد ذكر هنا دعويان (١).

١ ـ الدعوى الأولى : هي انّ العلم الإجمالي هنا ينحل باستصحاب عدم الجنابة في كل منهما ، وباعتبارهما أصلين من سنخ واحد فيسقطان ، فتصل النوبة إلى أصالة الصحة في صلاة الإمام مثلا ، وأصالة الاشتغال من ناحية إحراز الطهور من الحدث الأكبر لكونه شكّا في المحصل.

وهذه الدعوى مدفوعة : بأنّ أصالة الصحة دليلها لبّي لا إطلاق فيه لمثل هذه الحالات.

٢ ـ الدعوى الثانية : هي انّ جواز الائتمام مرجعه إلى إمكان تحمل الإمام القراءة عن المأموم ، أي عدم وجوب القراءة عليه ، وهذا بخلاف شرطية الطهور من الحدثين ، إذ بعد تساقط الاستصحابين يكون الأصل الحكمي الجاري في أحد الطرفين هو أصالة الاشتغال ، وفي الآخر أصالة البراءة عن وجوب القراءة ، لأنّه من الشكّ في الجزئية.

وهذه الدعوى مدفوعة أيضا ، لأنّ الائتمام بحسب ما يستفاد من أدلته ، أمر وجودي ، وهو الاقتداء بمن تكون صلاته صحيحة ، ومعه يعلم حينئذ بوجوب الجامع بين القراءة في الصّلاة ، والاقتداء بالغير الّذي تكون صلاته صحيحة ، فيكون هذا من الشكّ في تحصيل هذا الجامع المعلوم وجوبه ، ومعه تبقى منجزية العلم الإجمالي قائمة بدون ردع عنها.

٣ ـ الجواب الثالث : هو أنّه لو سلّم جريان الأصلين الموضوعيين

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٥٨ ـ ٥٩.

٣٦٧

في حقّ الشخصين معا وعدم تعارضهما وغفل عن هذا العلم الإجمالي ، نقول حينئذ : إنّ الأصلين الجاريين هنا ، يستحيل أن يكونا شاملين للأثر المعلوم بطلانه ، فإنّ كل أصل عملي إنّما يصحح محتمل البطلان ، ولا يعقل أن يصحح معلوم البطلان ، فيترتب على استصحاب طهارة هذا الإنسان ، وعلى استصحاب طهارة ذاك الرجل ، كل آثارها غير ما يعلم بعدمه ، وحينئذ نلتزم بجريان الاستصحابين معا ، ـ بقطع النظر عن ذاك العلم الإجمالي ـ ونلتزم بأنّهما لا يؤدّيان إلى الترخيص بائتمام أحد الشخصين بالآخر بدون غسل من الاثنين ، لأنّ هذه الصّلاة معلومة البطلان ، والاستصحاب لا يتعبّدنا بمثل هذه الآثار ، إذن فيلتزم بجريان الاستصحابين والتبعيض في الآثار المترتبة على جريانهما بين ما لا يقطع بعدم ترتبه ، وما يقطع بذلك.

٢ ـ الفرع الثاني : هو ما لو اختلف شخصان ، فقال أحدهما ، قد بعتك هذا الكتاب بدينار ، فقال الآخر ، بل وهبته لي ، ففي مثل ذلك حكم الفقهاء بعدم ثبوت البيع ولا الهبة ، وبرجوع الكتاب لصاحبه ، باعتبار التهافت ، وحينئذ ، فلو فرض ان انتقل الكتاب إلى شخص ثالث بالشراء ونحوه ، فهو يعلم تفصيلا أنّه انتقل إليه من غير مالكه ، لأنّه يعلم انّ مالكه الأول إمّا باعه لذلك الشخص ، أو وهبه له ، فإذا حكم في المقام بانفساخ ما وقع ، سواء كان بيعا أو هبة ، فمعنى هذا أنّه قد حكم على خلاف الواقع ـ لأنّنا نعلم بتحقيق أحد الأمرين ـ ومعه يلزم من ذلك مخالفة علم تفصيلي.

وقد أجاب السيّد الخوئي «قده» عن ذلك ، بأنّ الهبة المدعاة ، تارة تكون جائزة ، وأخرى تكون لازمة ، فإن فرض أنّها كانت جائزة ، فحينئذ نفس دعوى صاحب الكتاب تكون سببا في رجوع الكتاب إليه على كلّ حال ، سواء كان الواقع هو الهبة ، أو البيع ، لأنّه إن كان الواقع هو البيع

٣٦٨

والمفروض أنّ البائع لم يقبض ثمنه ، والمشتري ممتنع عن دفع الثمن ، إذن ، يثبت للبائع حقّ الفسخ حينئذ ، واسترجاع الكتاب ، وإن كان الواقع هو الهبة ، فالمفروض أنّها جائزة ، وحينئذ ، فنفس إنكارها يعدّ رجوعا فيها ، وبهذا يكون الكتاب قد رجع رجوعا واقعيا إلى مالكه الأول ، وحينئذ ، لو فرض أنّ شخصا ثالثا أخذه ، إذن فقد أخذه من مالكه الواقعي.

وأمّا إذا كانت الهبة لازمة ، فحينئذ ، يكون كل منهما منكرا لما يدّعيه الآخر ، فيصير المورد من موارد التحالف ، والتحالف من أسباب انفساخ المعاملة واقعا ، وبه يرجع الكتاب إلى مالكه الأول واقعا ، ولا إشكال.

والجواب : هو انّ ما أفاده بالنسبة إلى ما إذا كانت الهبة جائزة ، فصحيح ، وأمّا بالنسبة إلى ما إذا كانت الهبة لازمة فهو غير صحيح ، بل الصحيح هو انّ المورد ليس من موارد التحالف لأنّ مورد التحالف (١) إنّما يكون فيما لو ادعى كل من المتخاصمين شيئا على الآخر ، والآخر ينكره ، والمقام ليس من هذا القبيل ، لأنّ المدّعي هو صاحب الكتاب فقط ، حيث يدعي شيئا بالبيع على مدّعي الهبة ، أمّا مدّعي الهبة ، فإنّه لا يدّعي شيئا على صاحب الكتاب ، وإنّما ، صاحب الكتاب ، وصاحب الهبة كلاهما ، متفقان فعلا على انّ الكتاب ملك لمدّعي الهبة ، ويختصّ صاحب الكتاب بدعوى استحقاقه الثمن في ذمّة الآخر ، فهو مدّعي والآخر ينكر ، كما انّ صاحب الكتاب يدّعي حقّ استرجاع الكتاب ، لأنّه لم يقبض الثمن من الآخر ، والآخر ينكر ذلك ، إذن فهناك حقّان يدّعيهما الأوّل على الثاني ، وأمّا مدّعي الهبة ، فهو يدّعي ملكيته للكتاب ، وهذا شيء لا ينكره الأوّل.

__________________

(١) اللّمعة الدمشقية : الشهيد الثّاني ، ج ٣ ، ص ٥٣٩.

٣٦٩

وبهذا يتضح ، انّ الأوّل يكون مدّعيا ، والثّاني منكرا ، فإذا لم تكن للأوّل بيّنة ، ثمّ حلف الثّاني على عدم البيع ، تثبت في المقام ، نتيجة الهبة بالنسبة إليه ، وتسقط إلزامات الأوّل حينئذ.

وهنا لا تردّ شبهة الأخباري ، لأنّ مالكية الثّاني للكتاب أمر مفروغ عنه حدوثا ، ومحتمل بقاء ، إذن فلا علم تفصيلي ليلزم طرحه بتطبيق تلك القواعد الشرعية.

٣ ـ الفرع الثالث : هو أنّه قال الفقهاء : إنّه لو أقرّ زيد بعين لعمرو ، حكم لعمرو بها ، تنفيذ القاعدة حجيّة الإقرار ، فلو قال زيد بعد ذلك ، إنّ هذه العين ليست لعمرو ، بل هي لخالد ، فأيضا ينفذ هذا الإقرار وذلك بأن يغرّم زيد قيمة العين إن كانت قيمية أو مثلها لخالد إن كانت مثلية باعتبار أنّها في حكم التالفة بعد أن أعطيت لعمرو ، مع أنّه يعلم إجمالا انّ أحدهما لا يستحقّ ما أخذه ، وحينئذ ، فلو انتقلت كلا العينين إلى ثالث ، فهذا الثالث يحصل له علم إجمالي بحرمة التصرف في إحداهما ، وقد ينتهي الأمر إلى مخالفة علم تفصيلي ، كما لو جعل كلا العينين معا ثمنا لعين أخرى ، فإنّه هنا يعلم تفصيلا بعدم استحقاقه لهذه العين ، وحينئذ يقال : أنّه هنا قد طرح علم إجمال منجز ، بل علم تفصيلي ، وهذا يدلّ على أنّه يمكن الردع عن العمل بالعلم.

وفي مقام الجواب هنا ذكر السيّد الخوئي «قده» (١) ، بأنّ ما ذكره الفقهاء هو على مقتضى القاعدة ، فإنّ مقتضى القاعدة هو شمول حجيّة الإقرار للإقرار الأوّل ، كما أنّ الإقرار الثّاني مشمول لدليل حجيّة الإقرار ، ومقتضى حجيّة الثّاني هو ثبوت ملكية العين للمقرّ له ثانيا ، لكن

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٦١.

مصباح الأصول : بحر العلوم ، ج ٢ ، ص ٦٥.

٣٧٠

حيث أنّها صارت تالفة على المقر له ثانيا من قبل المقر بسبب إقراره الأوّل ، أو بحكمها ، فينطبق عليها حكم التلف ، فينتقل حينئذ إلى بدلها من المثل أو القيمة لا محالة ، ويلتزم بتمام آثار حجيّة هذين الإقرارين ، ما لم يلزم مخالفة علم إجمالي منجز أو علم تفصيلي.

والخلاصة ، انّ السيّد الخوئي «قده» أفاد ، بأنّ مقتضى القاعدة هو ، شمول دليل حجيّة الإقرار لكلا هذين الإقرارين ، فنلتزم بتمام آثارهما ما لم يلزم مخالفة علم إجمالي منجز ، أو علم تفصيلي.

والتحقيق انّ ما ذكره الفقهاء في المقام من العمل بالإقرارين صحيح كما أفاد السيّد الخوئي «قده» ، ولكن تخريج ذلك ليس كما ذكر آنفا على ما يبدو من ظاهر كلام السيّد الخوئي «قده» (١) ، وعليه : فلا بدّ من تخريج آخر لما أفاده ، بناء على قاعدة حجيّة الإقرارين ، فإنّه ربّما يقال : إنّ كلام زيد الثّاني له مدلولان ، مطابقي وهو ، انّ هذه العين ملك لخالد ، والتزامي ، وهو أنّه مشغول الذمّة لخالد لأنّه فوّت عليه ماله والمدلول المطابقي ليس إقرارا في الواقع لأنّه إقرار بالعين الخارجة عن ملك المقر ، لأنّها أصبحت ملكا لعمرو بمقتضى الإقرار الأوّل ، وحينئذ ، لا يكون إقراره الثّاني بلحاظ مدلوله المطابقي مشمولا لدليل حجيّة الإقرار لأنّه إقرار بما هو ملك الغير بمقتضى إقراره الأوّل ، فإنّ الإقرار إنّما يكون حجّة بمقدار ما يكون على الشخص ، بحيث لو أخذ المقر به منه لخسر ، ولو لم يؤخذ لاستفاد ، ولذا قيل : «إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ» ، وهنا لو أخذنا بإقراره الثّاني بلحاظ مدلوله المطابقي لم يخسر المقرّ شيئا ، لأنّ العين ليست ملكا له ، ولو رفضنا إقراره لم يربح شيئا ، وبهذا يتبين انّ الكلام الثّاني بلحاظ مدلوله المطابقي غير مشمول

__________________

(١) المرجع السابق : ص ٦١.

٣٧١

لدليل حجيّة الإقرار ، بل هو ادّعاء ، وعنوان الإقرار يطبق ابتداء على مدلوله الالتزامي ، وهو كونه مشغول الذمّة لخالد ، فيكون دليل حجيّة الإقرار شاملا له ابتداء ، وحينئذ ، يضمن المقر المثل أو القيمة ، ولا مانع أن يكون كلام واحد بلحاظ مدلوله المطابقي ادّعاء ، بلحاظ مدلوله الالتزامي إقرار ، والمفروض انّ الحجيّة يكون بلحاظ مقدار الإقرار ، ولا يتوهم انّ هذا على خلاف المتفق عليه من حيث تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجيّة ، وذلك ، لأنّ التبعية إنّما تكون ، في مورد تكون فيه الدلالة المطابقية حجّة ابتداء ، وبتبعها تكون الحجيّة شاملة للدلالة الالتزامية ، كما لو كان موضوع دليل الحجيّة عنوانه الإخبار ، كما في خبر الواحد ، والخبر ينطبق على الدلالة المطابقية ولا ينطبق على الالتزامية إلّا بتبع ذلك ، ففي مثله ، إذا سقط الخبر عن الحجيّة بلحاظ الدلالة المطابقية ، حينئذ نلتزم بسقوطه عن الحجيّة بلحاظ مدلوله الالتزامي ، وهنا محل كلامنا ليس من هذا القبيل ، فإنّ دليل الحجيّة من أوّل الأمر أخذ في موضوعه عنوان لا ينطبق إلّا على الدلالة الالتزامية ، إذن ، فالحجيّة من أوّل الأمر لم تشمل المطابقية ، وشملت الالتزامية ، وبهذا لم تكن حجيّة الالتزامية بتبع المطابقية ، إذ أنّه لم تكن المطابقية مشمولة لدليل الحجيّة من أوّل الأمر أصلا ، لا أنّها أسقطت عن الحجيّة.

والحاصل هو ، أنّه لا يصحّ تطبيق حجيّة الإقرار على الإقرار الثّاني بلحاظ مدلوله المطابقي كما عرفت ، وإنّما الّذي يكون مرادا من فتوى الفقهاء هو ، انّ الإقرار الثاني له مدلولان ، ومدلوله المطابقي هو انّ العين لخالد ، ومدلوله الالتزامي هو أنّه قد فوّت على خالد ماله بعد أن حكم به لعمرو ، ولهذا يكون مشغول الذمّة له فإنّ إخباره بأنّه فوّت على خالد ، أمر مشغل لذمّته ، وإلزام لنفسه بشيء ، يكون إقرارا ، هذا حاصل تخريج فتوى الفقهاء في المقام.

٣٧٢

وأمّا تمسك الأخباري بذلك ، وكونه ملازما لمخالفة علم إجمالي منجز أو تفصيلي ، فجوابه كما ذكر السيّد الخوئي «قده» من عدم الالتزام بمخالفة علم إجمالي أو تفصيلي.

٤ ـ الفرع الرابع : هو أنّه لو اختلف المتبايعان في تشخيص البيع أو الثمن ، كما لو قال البائع ، بعتك هذا الكتاب بدينار ، فقال المشتري : بل بعتني قلما بدينار ، ففي مثله : حكم الفقهاء بالتحالف (١) ، لأنّ كلا منهما يدّعي شيئا ينكره الآخر.

أمّا البائع ، فلأنّه وإن كان أصل ملكيته للثمن ـ الدينار ـ معلوما ، إلّا أنّه يدّعي على المشتري حقّ الإلزام بدفعه بمجرد إعطائه الكتاب.

وأمّا المشتري ، فيدّعي على البائع ملكيته للقلم وبالتالي حقّ إلزامه بدفعه بمجرد تقديم الثمن إليه ، وحينئذ ، هنا يتحالفان ، وبعد التحالف قد يحكم ظاهرا بعدم كلا الأمرين ، وحينئذ ، يأخذ كل منهما ماله ، مع انّ إعمال ذلك يلزم منه علم إجمالي ، إمّا بخروج الكتاب أو القلم عن ملك البائع ، كما يعلم تفصيلا بخروج الثمن عن ملك المشتري ، مع انّ إعمال هذا يؤدّي إلى طرح إجمالي منجز ، بل طرح علم تفصيلي.

وقد ذكر السيّد الخوئي «قده» (٢) في مقام التعليق ، أنّه إن بني على انّ التحالف يوجب الانفساخ الواقعي ، إذن ، فبالحلف لا يبقى وجود للمعاملة بحكم الشارع ، ومعه لا يلزم ما ذكر ، وإذا لم نبن على انّ التحالف موجب للانفساخ الواقعي ، وإنّما يوجب ترتيب الآثار ظاهرا ، فإنّه حينئذ ، يبنى على ترتب كل أثر لا يلزم منه مخالفة علم إجمالي منجز أو علم تفصيلي.

__________________

(١) اللّمعة الدمشقية : الشهيد الأوّل ، ج ٣ ، ص ٥٣٩.

(٢) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٦١.

٣٧٣

وتحقيق الحال في هذه المسألة ، أنّه بعد الفراغ عن كون المورد من موارد التحالف ، يقع الكلام في مقامين.

١ ـ المقام الأوّل : هو في انّ التحالف هل يوجب انفساخ العقد واقعا أو لا؟ وعلى تقدير أنّه لا يوجبه ، فهل هناك نكتة أخرى تقتضي انفساخه الواقعي أم لا؟

٢ ـ المقام الثّاني : هو في جواب الأخباري ـ الّذي ينقض بهذا الفرع ـ ويكون جوابه على ضوء ما يتمّ في المقام الأوّل.

أمّا المقام الأوّل : وهو إيجاب التحالف للانفساخ الواقعي ، فقد يقرب استفادة الانفساخ من دليل اليمين بعدّة وجوه.

١ ـ الوجه الأوّل : هو أن يقال : إنّ مفاد دليل اليمين ، هو إنهاء الخصومة وسدّ بابها ، ومن الواضح إنّها الخصومة وسدّ بابها لا يتحقّق إلّا مع انفساخ العقد ، وافتراض كون العقد كأنّه لم يكن ، إذ مع بقائه على حاله ، يبقى دعوى كل من المتحالفين قائمة ، وهذا مناف لإنهاء الخصومة ، ومن هذا يعرف معنى الانفساخ ، وهو ممّا يستفاد من دليل اليمين.

وهذا الوجه غير تام : وذلك ، لأنّ إنهاء الخصومة شيء ، وإنهاء منشأ الخصومة شيء آخر ، وما يتكفله دليل اليمين هو الأوّل ، فإنّه لا شكّ في انّ دليل اليمين مفاده إنهاء نفس الخصومة ، بمعنى : أنّه لا هذا من حقّه أن يطالب ذاك ، ولا العكس ، بل قد أفتى الفقهاء في مورد اليمين ، بأنّ من حرم من ماله باليمين ، لو وجد ماله وأمكنه أخذه ولو بالسرقة ، لما جاز له ذلك ، وهذا إنهاء لفعلية الخصومة ، إذن ، ما يتكفله دليل اليمين هو إنهاء الخصومة ، أي الشق الأول ، بينما محل البحث هو الثاني ، أي منشأ الخصومة.

٣٧٤

وفيه يقال : إنّ منشأ الخصومة الّذي هو العقد ، لا يستفاد من دليل اليمين حلّه إذ كون دليل اليمين يتكفل إنهاء الخصومة ، ولا يتكفل إنهاء منشئها لا ملازمة بينهما.

٢ ـ الوجه الثّاني : هو أن يقال : إنّ مفاد دليل اليمين ، وإن كان إنهاء الخصومة ، ولا ملازمة بين إنهائها ، وزوال منشئها ، لكن بقاء العقد ، لغو عرفي بعد نفوذ اليمين ، وهذا اللغو باعتبار لغويته ، يراه العقلاء كأنّه المجمل ، إذ ما فائدة بقاء عقد لا يترتب عليه الأثر خارجا ، كيف وقد أشرنا سابقا إلى انّ الفقهاء أفتوا بأنّ الشخص لو عثر على ماله المحروم منه باليمين ، لا يجوز له أخذه ، إذن ، فأيّ أثر في إبقاء العقد في عالم الجعل.

وهذا الوجه يمكن مناقشته ، وذلك بمنع اللغوية ، حيث أنّه من جملة الثمرات لبقاء العقد هو ، أنّه لو تاب المعاند من المدّعيّين ، وأقرّ بكذب يمينه ، فحينئذ يجب عليه أن يرتب آثار العقد ، لأنّ اليمين إنّما ينفذ مفعولها إذا لم يقرّ صاحبها بكذبها ولكن إذا أقرّ بالحق يكون إقراره حاكما على اليمين.

٣ ـ الوجه الثالث : هو انّ هذا التحالف يكون إتلافا للمال قبل قبضه ، كما هو الحال في محل الكلام ، حيث أنّ البائع أنكر أن يكون باع المشتري قلما وحلف على إنكاره ، وبذلك يكون قد فوّت القلم على مشتريه ، وهذا التفويت بحكم تلف القلم قبل قبضه ، وقد حكم الفقهاء بأنّ كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ، ومحل الكلام : بحكم التلف ، لأنّ التحالف إتلافا للمال على من انتقل إليه قبل قبضه ، فيتعدّى بالمناسبات العرفية من التلف بعنوانه ، إلى محل الكلام.

أمّا إذا كان الدليل على الانفساخ لفظيا ، فلا بدّ حينئذ من التعدّي بالمناسبات العرفية ، من مورد الرّواية إلى محل الكلام.

٣٧٥

وأمّا إذا لم يكن لفظيا ، بل كان عبارة عن الارتكازات العقلائية الممضاة شرعا ، فإنّه حينئذ يقال : بسعة هذه الارتكازات والتعدّي بها أيضا إلى غير البيع من سائر المعاوضات ، لأنّ روح المعاوضة عقلائيا هو التسليم والتسلّم ، فإذا تعذّر ذلك ، انفسخت المعاملة.

وهذا الوجه مفيد ولو في الجملة ، فمن يقتصر في حكم تلف المبيع قبل قبضه على مورد النصّ ، وهو البيع في خصوص المبيع ، فيكون هذا الوجه مفيدا له في خصوص مورد النصّ ، وأمّا لو كان التحالف داخلا في باب الصلح ، فلا يتمّ هذا الوجه بالنسبة للتحالف ، لأنّه لا يكون من مورد النصّ.

نعم لو كان التعدّي من مورد التلف إلى ما نحن فيه ، ولم يكن مستندا ـ بالنسبة لحكم التلف قبل القبض ـ إلى دليل لفظي ـ الرّواية ـ بل كان مستندا إلى المرتكزات العرفية العقلائية القائلة : بأنّ روح المعاوضة عبارة عن التسليم والتسلّم لا مجرد الإنشاء ، فإذا تلف قبل التسليم تبطل روح المعاوضة ، حينئذ ، بناء على ذلك يمكن التعدّي من مورد البيع إلى الصلح ، ومن مورد المبيع ـ المثمن ـ إلى الثمن ، وحينئذ ، يكون شاملا لمحل الكلام.

والحاصل هو ، أنّه في كل مورد تمّ فيه الوجه الثالث ، حينئذ يثبت الانفساخ بالتحالف ، وفي كل مورد لم يتم فيه الوجه الثالث ، إمّا لعدم تمامية الدليل ، وإمّا لعدم إمكان التعدّي ، فحينئذ ننتهي إلى السؤال الثاني ، وهو أنّه هل هناك نكتة أو سبب آخر غير نفس التحالف يقتضي انفساخ العقد أم لا؟

والجواب على ذلك هو ، انّ هناك سبب آخر يقتضيه ، وذلك لأنّ كل متعاوضين ، المحقّ منهما له خيار الفسخ بلا إشكال ، لأنّ كل متعاوضين إذا تصدّى أحدهما لدفع وتسليم ما بيده ممّا وقعت عليه

٣٧٦

المعاوضة ، وامتنع الآخر عن التصدي لذلك ، يكون للمتصدي خيار الفسخ ، وفي محل الكلام ، المحق من المتداعيين له خيار الفسخ ، لأنّه متصدي لدفع ما وقعت عليه المعاوضة ، وحينئذ ، فمع امتناع الآخر يكون له خيار الفسخ ، فإذا ضممنا إلى ذلك ، انّ نفس ظهور حال المتداعيين دال عرفا على انّ المحقّ لا يرضى بهذه المعاملة على فرض أن لا يسلم إليه ما اشتراه ، فإذا كان للمرافعة ظهور عرفي في ذلك ، فهذا معناه : انّ هذه المعاملة قد انفسخت ، هذا حاصل الكلام في المقام الأول ، وعلى ضوئه نأتي إلى المقام الثاني.

٢ ـ المقام الثاني : هو في جواب الأخباري الّذي ينقض بهذا الفرع.

وحاصل جوابه هو ، أنّه إذا ثبت انّ قانون التحالف يوجب الفسخ الواقعي ، إذن لا موضوع للنقض ، لأنّه مع الفسخ يرجع كل مال إلى صاحبه ، كما أنّه إذا ثبت الفسخ الواقعي ، بملاك إعمال الخيار بالنحو الّذي أشرنا إليه ، فأيضا لا موضوع للنقض ، ولا إشكال.

وأمّا إذا لم نقل بالفسخ الواقعي بأحد الملاكين ، بل قلنا انّ المترتب على التحالف وغيره أحكام ظاهرية ، فحينئذ ، نلتزم بهذه الأحكام ما لم يلزم منها مخالفة علم إجمالي منجز أو علم تفصيلي ، فإنّها حينئذ تسقط بمقدار المخالفة ، فلا نقض إذن.

٥ ـ الفرع الخامس : وهو فيما لو أودع إنسان عند الودعي درهما ، وأودع إنسان آخر عنده درهمين ، فضاع أحد الدراهم الثلاثة ، إمّا مع الاحتياط ، أو مع عدمه ، ولم يميّز الودعي انّ الضائع من أيّ من الوديعتين ، وفي هذا الفرع قولان للفقهاء.

١ ـ القول الأول : هو قول مشهور ، بأنّه يعطى درهما لصاحب الدرهمين ، لأنّه يعلم أنّه قد بقي له درهم ، والدرهم الثاني الباقي يصبح

٣٧٧

مردّدا بينهما ، فينصّف بينهما نصفين ، لكلّ نصف جمعا بين الحقّين ، فيكون لصاحب الدرهمين ، درهما ونصف ، ولصاحب الدرهم نصف ، وذلك عملا براوية السكوني (١).

٢ ـ القول الثاني : وهو ما استقرّ به الشهيد الثاني في المسالك ونسب الميل إليه إلى الشهيد الأول في الدروس ، وقيل انّه أحد أقوال العلّامة.

والحاصل : انّ الدرهمين الباقيين تقسمان أثلاثا ، فيعطى ثلثاهما لصاحب الدرهمين ، ويعطى ثلثهما لصاحب الدرهم.

وهذا القول ، مبني على استضعاف رواية السكوني ، وتحكيم القاعدة ، واعتقاد انّ الاختلاط بين الدراهم يوجب الشركة قبل الضياع ، وحينئذ ، إذا تلف درهم ، توزع الخسارة بالنسبة ، تطبيقا لقواعد الشركة.

والجواب هو أنّه إذا كان نقض الإخباري بلحاظ القول الأول ، فهو مبني على انّ رواية السكوني ـ الّتي هي الأصل ـ إنّما هي بصدد بيان أحكام ظاهرية ، وحينئذ ، نلتزم بتلك الأحكام ما لم يلزم منها مخالفة علم إجمالي منجز أو علم تفصيلي كما عرفت ، وأمّا إذا كانت هذه الرّواية بصدد بيان تعين الصلح بينهما واقعا كما احتمل الفقهاء ذلك ـ ولذا أدخلوا هذه المسألة في باب الصلح ـ فإنّه حينئذ لا وجه لنقض الأخباريّين ، لأنّ كلا من المودعين يملك ما أعطي له واقعا.

وأمّا إذا كان نقض الإخباري بلحاظ القول الثاني ، فدفعه واضح ، لأنّه بناء على حصول الشركة الواقعية ، إذن يحدث انقلاب واقعي في الملكية ، ومعه لا موضوع للنقض ، فكل منهما يملك ما أعطي له.

وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من الفروع الّتي نقض بها الأخباري على الأصولي ، ظانا أنّها فروع ردع بها عن العمل بالعلم.

__________________

(١) الرّسائل : الأنصاري ، ص ١٧.

٣٧٨

مباحث منجزية العلم الإجمالي

وقد تعرّض الأصوليون لبحث العلم الإجمالي في موضعين.

١ ـ الموضع الأول : في مباحث القطع ، حيث تكلموا هناك في منجزية العلم الإجمالي باعتباره فردا من أفراد العلم.

٢ ـ الموضع الثاني : في مباحث الأصول العملية ، في أحكام الشكّ في المكلّف به ، حيث تكلموا عن جريان الأصول في أطرافه كلا أو بعضا ، وقد حصل تكرار في بعض الجهات بحسب الواقع الخارجي ، إلّا أنّ لكل من الموضعين حصته المناسبة له من الكلام ، ولو أنّه اقتصر في كل منهما على الحصة المناسبة له لما لزم التكرار.

وتوضيح ذلك هو ، انّ الكلام في منجزية العلم الإجمالي يقع على مرحلتين.

١ ـ المرحلة الأولى :

هي في تأثير العلم الإجمالي في التنجيز بلحاظ مرتبة المخالفة القطعية ، بمعنى انّ العلم الإجمالي ، هل يستدعي بطبعه حرمة المخالفة القطعية عقلا ، أو لا يستدعي ذلك؟ إذن ، في هذه المرحلة يبحث عن أصل استدعاء العلم الإجمالي وتأثيره في حرمة المخالفة القطعية ، فإذا أفرغ عن استدعائه لذلك ، يقع الكلام في انّ هذه المؤثرية للعلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية وتنجيزها عقلا ، هل هي على نحو

٣٧٩

الاقتضاء فقط ، أو على نحو العليّة ، بمعنى انّ العلم الإجمالي هل يكون بنفسه علّة تامة لمنجزية هذه المرتبة ، كما تكون العلّة مع المعلول ، بحيث يستحيل أن يقترن بما يمنعه عن التأثير ، وحينئذ يكون من نتائج ذلك ، امتناع ورود ترخيص من قبل الشارع في المخالفة القطعية ، أو يكون تأثير العلم الإجمالي في تنجيز هذه المرتبة على نحو المقتضي بالنسبة لمقتضاه ، ومعه يمكن حينئذ أن يقترن المقتضي بما يمنعه عن التأثير في التنجيز ، ومن نتائجه حينئذ ، إمكان ورود الترخيص من قبل الشارع في المخالفة القطعية ، فيمنع عن تأثير المقتضي ، بدعوى انّ فعلية تأثير المقتضي ، معلقة على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع ، ثمّ إنّه إذا ثبت انّ العلم الإجمالي مؤثر في تنجيز حرمة المخالفة القطعية ، حينئذ ، يقع الكلام في مرحلة الثانية.

٢ ـ المرحلة الثانية : هي أنّه بعد الفراغ عن تأثير العلم الإجمالي ، في تنجيز حرمة المخالفة القطعية ، فهل يكون العلم الإجمالي مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية عقلا ، بحيث أنّه لا بدّ للمكلّف من رعاية تمام الأطراف ، أم لا؟ فإن لم يثبت له تأثير أصلا في وجوب الموافقة القطعية ، فلا كلام ، وإن ثبت تأثيره في وجوب الموافقة القطعية أيضا ، يقع الكلام حينئذ في انّ تأثيره هذا في ذلك ، هل هو بنحو العليّة ، بحيث يستحيل تخلف المعلول عنه ، ومعه يستحيل ورود ترخيص ظاهري من الشارع ولو بطرف واحد ، انّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية يكون على نحو تأثير المقتضي في مقتضاه ، وحينئذ ، يكون تأثير المقتضي الفعلي معلّق على عدم المانع ، كما في الترخيص الشرعي في بعض الأطراف؟.

وحينئذ ، كل من هاتين المرحلتين ينبغي أن يتكلم عنهما بحسب المنهجية في بحث القطع ، لأنّه بحث عن شئون العلم حينما يصبح العلم إجماليا.

٣٨٠