بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

تواجدها في الامتثال التفصيلي بأشدّ وأبرز من تواجدها في الامتثال الإجمالي ، كما يشهد عليه الوجدان.

وأمّا ما ذكره في أجود التقريرات كبرهان لتلك الدعوى فيرد عليه :

أولا : إنّ كلا الامتثالين ، التفصيلي والإجمالي ليسا منبعثين عن شخص الأمر ، لأنّ شخص الأمر بوجوده الواقعي التشريعي النّفس الأمري لا يكون محركا ، وإنّما يكون محركا بوصوله للمكلّف ، ولهذا لو بقي الأمر في لوح التشريع ، والمكلّف غافل عنه ، لما حركه بوجه من الوجوه ، وإنّما يكون محركا بوصوله ، وهذا الوصول على نحوين ، وصول احتمالي ، ووصول تفصيلي ، فالامتثال الإجمالي انبعاث عن احتمال الأمر ، والامتثال التفصيلي انبعاث عن العلم بالأمر ، وكلاهما انبعاث عن حالة وجدانية متعلّقة بالأمر ، لا أنّ أحدهما انبعاث عن شخص الأمر ، والآخر انبعاث عن احتمال الأمر ليتمّ ما ذكره ، ومعه تكون صورة البرهان غير تامة ، لأنّ الأمر ليس منشئا للانبعاث ، وإنّما يكون منشئا بتوسط أحد الأمرين ، وكلاهما بمرتبة واحدة ، إذن فلا موجب لتقدّم أحد الانبعاثين على الآخر فضلا عن عدم كون التقدّم بالتفصيلية والتأخر بالاحتمالية ، بمعنى أنّ الاحتمال والتفصيل ليس مرجحا لأحدهما على الآخر ، بل هو تقدّم وتأخر رتبي في عالم التكوين ، هذا مضافا إلى إنّ كون احتمال الأمر في طول الأمر لا يلزم منه كون الانبعاث عن احتمال الأمر في طول الانبعاث عن شخص الأمر ، وهذا إشكال ثاني.

ويرد عليه وثانيا : أنّه لو سلّمنا انّ الامتثال الإجمالي انبعاث عن احتمال الأمر ، والامتثال التفصيلي انبعاث عن شخص الأمر ، لكن لم يعرف السبب بعد ، وكيف صار هذا الانبعاث من مصدريه موجبا لتقديم الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي ، لأنّ المطلوب في باب

٤٦١

العبادة هو انتساب العبادة إلى المولى ، وهذا المعنى محفوظ فيهما معا ، سواء تعدّدت الوسائط أو اتحدت ، وكون احتمال الأمر في طول الأمر تكوينا ، لو سلّم فهو تأخر وتقدّم رتبي في عالم التكوين لا دخل له ليكون نكتة في وجوب تأخر الامتثال الإجمالي في عالم التشريع عن الامتثال التفصيلي بحيث أنّ العقل العملي لا يرى حسن هذا إلّا إذا تعذّر ذاك.

ثمّ انّ الميرزا «قده» (١) ذكر في الجزء الثاني من كلامه ، أنّه لو أبيت عن التصديق بما ذكرناه أولا ، فلا أقل من حصول الشكّ في حصول الحسن العقلي في الامتثال الإجمالي في ظرف التمكن من الامتثال التفصيلي ، إذ حينئذ يكون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّه يدور بين وجوب الامتثال التفصيلي تعيينا ، أو التخيير بينه وبين الامتثال الإجمالي ، وفي هذه الموارد تجري أصالة الاشتغال ، فيتعيّن الامتثال التفصيلي.

وهذا الجزء من كلامه غير تام ، ويرد عليه.

أولا : بأنّ هذا الجزء الثاني من كلامه «قده» لا يتناسب مع الجزء الأوّل من كلامه ، حيث أنّ الجزء الأول يناسب إرجاع الشكّ إلى الشكّ في المحصل ، لا إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير الراجع إلى الشكّ في أصل جعل الشارع وكيفيته والّذي هو مجرى للبراءة كما ستعرف ، والوجه في ذلك هو أنّ ما ذكره في كلامه الأول قد خرجناه على أساس المسلك الأول ، وهو أنّه العبادة يجب فيها تحصيل عنوان حسن عقلا ، وهو يتوقف على التفصيلية في الامتثال ، وعند عدم تحصيل هذا العنوان كما لو فرض أنّ أصل الواجب لا إشكال فيه ولكن يشكّ في المحصل

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٣ ، ص ٧٢ ـ ٧٣.

٤٦٢

لهذا العنوان ، فإنّه حينئذ يكون الشكّ في المحصل ، حينئذ لا إشكال في جريان أصالة الاشتغال فكان المناسب مع الجزء الأول من كلامه أن يدّعي أنّ الشكّ هنا هو شكّ في المحصل ، وتجري في مثله أصالة الاشتغال ، لا انّ الشكّ راجع إلى الدوران بين التعيين والتخيير ، فإنّه لا يناسب كلامه الأول.

وثانيا : هو أنّه لو فصلنا الجزء الثاني من كلامه عن الجزء الأول منه ، وتعاملنا مع الجزء الثاني وحده على أساس أنّ الشكّ في أصل جعل الشارع ، وانّ الشكّ هنا يرجع إلى الدوران بين التعيين والتخيير ، فإنّه هنا أيضا لا يتمّ ما ذكره ، لأنّه بناء عليه يرجع الشكّ إلى الشكّ في أصل جعل الشارع لوجوب التفصيليّة في الامتثال وعدمه ، فيرجع إلى الشكّ في وجوب شرط زائد على شرطية قصد القربة في العبادة ، وفي مثله لا إشكال في جريان أصالة البراءة.

وبعبارة أخرى : هي أنّه إن أرجعنا وجوب التفصيليّة إلى توقف الطاعة العقلية عليه ، كان الشكّ حينئذ في التفصيلية شكّا في المحصل ، ولكن إذا تنزلنا وقلنا أنّه يدّعى وجوب مستقل للتفصيلية ، فإنّه حينئذ ، يكون الشكّ في شرط زائد ، وفي مثله لا إشكال في جريان البراءة.

وثالثا : هو أنّه لو سلّمنا أنّ المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فأيضا تجري البراءة عن التعيين ، لأنّه إذا فرض أنّه لم نفرغ عن عنوان واجب ونشكّ في حصوله بالامتثال الإجمالي ، لكن نحتمل ابتداء أن تكون التفصيليّة في المقام أمرا معتبرا ، حينئذ يكون هذا الشكّ شكّا في الشرط الزائد ، لأنّ التفصيليّة في الامتثال أمر زائد على قصد القربة ، وحينئذ يكون هذا من موارد الشك في الشرطية ، فتجري البراءة عنها ، سواء قلنا بالبراءة في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، أو قلنا بالاشتغال.

٤٦٣

والحاصل أنّه لو سلّم انّ المقام من موارد التعيين والتخيير ، فهنا أيضا نقول بجريان البراءة.

إلّا أنّ ظاهر الميرزا «قده» في أجود التقريرات ، كأنّه يريد أن يبين بيانا آخر ، غير ما ذكره في الفوائد ، ولذلك فهو لم يعبّر بأنّ المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بل ذكر أنّ التفصيلية في مقام الامتثال شيء يحتمل اعتباره في الطاعة الّتي يحكم العقل باعتبارها فالشك هنا ليس على حدّ الشك في الطهارة في الصّلاة على الميت ، لأنّ هذا شك في اعتبار الطهارة في الواجب الشرعي ، وفي مثله لا تجري البراءة عن اعتبار التفصيلية ، وأمّا في المقام ، فالشك ليس في اعتبار التفصيلية في الواجب الشرعي ، وإنّما الشك في اعتبار التفصيلية في الطاعة اللازمة والّتي مرجعها حكم العقل ، ومن الواضح أنّ أدلة البراءة غير ناظرة لما يحتمل اعتباره عقلا في الطاعة ، بل هي ناظرة إلى ما يحتمل اعتباره في الواجب شرعا ، ثمّ يقول «قده» ، وليس معنى هذا انّ الشارع لا يمكنه التصرف في باب الطاعة فيما يعتبر فيها عقلا ، بل يمكنه ذلك كما في الرياء ، فإنّ الشارع اعتبر الخلوص في الطاعة ، فالشارع يمكنه التوسيع والتضييق ، إلّا هذا التصرف يحتاج إلى دليل يثبته ولا دليل في المقام حيث أنّ دليل البراءة غير ناظر إلى ذلك كما عرفت ، بل هو ناظر إلى ما يحتمل اعتباره في الواجب شرعا.

وهذا الكلام منه «قده» أقرب ما يكون إلى الجزء الأول من كلامه لأنّه يمكن تخريجه على أساس كون الشك شكّا في المحصل ، وحينئذ لا يرد عليه الإشكال الأول الّذي أورد على ما ذكر في الفوائد من أنّ المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، إلّا أنّه مع ذلك لا يتمّ هذا الكلام.

لأنّه إن أريد التفصيلية في الامتثال ممّا يحتمل اعتبارها في

٤٦٤

الطاعة ، يعني أنّ عنوان الطاعة لا يتحقّق بدونها ، فهذا معناه انّ الشك فيها يكون شكّا في المحصل ، وفي مثله لا إشكال في جريان البراءة سواء كان ذلك الواجب الّذي احتمل دخالة التفصيلية فيه شرعيا أو عقليا ، وحينئذ لا معنى لما ذكره من أنّ البراءة في المقام لا تجري باعتبار انّ الشك إنّما هو فيما يحتمل اعتباره عقلا لا شرعا ، بينما دليل البراءة غير ناظر للواجبات العقلية وإنّما هو ناظر إلى الواجبات الشرعية ، فضم مثل هذا الكلام لا موضوع له في المقام لما عرفت من أنّ الشك في المحصل مجرى لقاعدة الاشتغال حيث لا يفرق الحال فيما تتحقّق به الطاعة بين أن يكون ممّا يعتبر عقلا أو شرعا في الطاعة.

وإن كان المراد من كون التفصيلية في الامتثال ممّا يعتبر في الطاعة ، بمعنى انّ العقل يحكم بوجوب التفصيلية مستقلا وأنّها قيد زائد على الطاعة ، ففيه أنّه لا موجب للالتزام بلزوم ذلك في خصوص العبادات ، لأنّ عبادية العبادة قد تثبت بالإجماع في أغلب الأدلة أو بما يكون مفاده مفاد الإجماع ، والقدر المتيقن من الإجماع هو أن يصدق على العمل عنوان الطاعة ، وأمّا ما زاد عن ذلك ـ كعنوان التفصيلية في مقام الامتثال ـ لم يثبت اعتباره.

ولعلّ مقصود الميرزا «قده» من كلامه كما ستعرف ، من أنّ عنوان التفصيلية ، كقصد القربة أو أي جزء أو شرط ممّا لا يمكن أخذه قيدا في متعلق الأمر للزوم الدور ، فإذا شكّ في اعتباره ، فتجري فيه قاعدة الاشتغال كما تجري في قصد القربة وسنتعرض لذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ثمّ انّه لو تمّ ما ذكره الميرزا «قده» من انّ الانبعاث عن احتمال الأمر في طول الانبعاث عن شخص الأمر ، أو عن الأمر المعلوم المتأخر عنه رتبة ، لو تمّ هذا ، فإنّه يقال : إنّ هذا إنّما يفيد في إبطال

٤٦٥

عرضية الامتثال الاحتمالي للامتثال التفصيلي ، ولا يبطل عرضية الامتثال الإجمالي للامتثال التفصيلي.

إذ تارة يكون الامتثال احتماليا بلا علم ، لا تفصيلي ولا إجمالي كما لو شكّ في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، وبدل أن يفحص المكلّف عن الحكم أتى بالدّعاء لاحتماله وجوبه ، حينئذ يكون انبعاثه انبعاثا عن احتمال التكليف ، وفي مثله يتم كلام الميرزا «قده» ، فإنّ الانبعاث عن احتمال الأمر كان في طول الانبعاث عن شخص الأمر أو الأمر المعلوم ، إذ كان الواجب في مقام الاحتمال هذا الفحص عن دليل الوجوب ، فإذا لم يعثر على دليله ، يمكنه حينئذ الإتيان بالفعل لاحتمال وجوبه ، وتارة أخرى يكون الامتثال إجماليا لأنّ المورد من موارد العلم الإجمالي ، كما في محل الكلام ، حيث يعمل إجمالا بوجوب أحد الفعلين ، فيأتي بهما معا ، كما لو علم إجمالا بوجوب الظهر ، أو الجمعة من يوم الجمعة ، فأتى بهما دون أن يفحص ، فهنا يكون الانبعاث انبعاثا عن العلم الإجمالي بالأمر وليس انبعاثا عن احتمال الأمر ، غايته أنّه انبعاث عن معلوم بالإجمالي لا بالتفصيلي ، وحينئذ في مثله لا يتم كلام الميرزا «قده» ، إلّا إذا ضمّ إليه كلام آخر ، وهو أنّ التحرك عن نفس الأمر المعلوم بالتفصيل مباشرة مقدّم على التحرك عن احتمال الأمر المعلوم بالإجمال ، حينئذ لا يرد عليه هذا الإيراد.

وتوضيح الحال في هذا الإيراد على الميرزا «قده» هو أنّه في موارد العلم الإجمالي ، الأمر وإن كان معلوما ، إلّا انّ هذا الأمر المعلوم ولو حدوثا ـ بما هو معلوم لا يكفي في أن يكون محركا نحو أحد الطرفين ، وإنّما محركيته نحو أحد الطرفين تكون بعد ضمّ احتمال انطباق المعلوم الإجمالي عليه ، وحينئذ يجعل هذا حالة ثالثة وسطا بين الحالتين بحسب تصورات الميرزا «قده» ، إذ تارة يكون التحرك عن شخص الأمر المعلوم

٤٦٦

مباشرة ، وهذا يكون في موارد العلم التفصيلي ، وتارة أخرى يكون المتحرك عن احتمال الأمر بلا توسيط أيّ علم كما هو الحال في موارد الشّبهات البدوية ، كما في مثال الشك في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، وثالثة يكون الأمر ممزوجا بكلا الأمرين ، بأن يكون التحرك عن احتمال انطباق الأمر المعلوم على هذا الطرف.

وهذا القسم الوسط لا إشكال فيه ، لأنّه في موارد العلم الإجمالي لا يكفي نفس العلم للتحريك نحو أحد الطرفين إلّا إذا ضمّ إليه احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، وحينئذ ، ففي مثله يكون التحرك نحو الطرف ناشئا عن احتمال انطباق الأمر المعلوم بالإجمال على هذا الطرف.

وحينئذ ، قد يقال هنا : إنّ وجدان الميرزا أو دليله الّذي أقامه على أنّ الانبعاث عن احتمال الأمر في طول الانبعاث عن شخص الأمر أو الأمر المعلوم ، يجري هنا أيضا ، فإنّ الوجدان أو البرهان القائم في أصل المدّعى ، وهو كون احتمال الأمر في طول الأمر يساعد على ذلك ويجري في محل الكلام ، حيث يقال : إنّ الانبعاث عن احتمال الأمر المعلوم في طول الانبعاث عن نفس الأمر المعلوم مباشرة ، لأنّ احتمال الأمر المعلوم في طول الأمر المعلوم ، وحينئذ يكون ما أورد على الميرزا «قده» غير تام من هذه الناحية.

هذا حاصل الكلام في الوجه الأول ممّا استدلّ به على عدم كفاية الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

٢ ـ الوجه الثاني : هو أن يدعى انّ عنوان التفصيلية في مقام الامتثال واجب شرعي بنفسه وعنوانه إمّا خطابا ، أو ملاكا بناء على عدم إمكان أخذه في متعلق الأمر ، وهذا الوجه ينطبق على المسلك الثاني كما هو واضح.

٤٦٧

وهذا الوجه قد يستدلّ عليه تارة بالإجماع ، والاستدلال بالإجماع حينئذ يتناسب مع هذا المسلك ، حيث أنّ الوجوب المدّعى شرعي ، وفي مثله ـ إذا تمّ الإجماع ـ يكون حجّة عليه تعبّدا فيثبت به حكم شرعي ، نعم لو كان احتمال اعتبار التفصيلية باعتبار توقف الطاعة عليها عقلا كما هو حال الوجه الأول ، لما أمكن الاستدلال عليه بالإجماع ، لأنّ مثل هذا المدّعى يكون مسألة عقلية ، والإجماع غير حجّة فيها ، والحاصل هو أنّه قد يستدلّ بالإجماع على هذا المدّعى.

إلّا أنّ هذا الاستدلال غير تام ، لأنّه لا يمكن تحصيل مثل هذا الإجماع في مثل هذه المسألة الّتي لم يتعرّض لها أكثر الفقهاء القدماء ، خصوصا وأنّ أكثر القائلين لا يرون الوجوب الشرعي فيها كالميرزا «قده» ، بل يرون الوجوب بما هم عقلاء باعتبار الوجه الأول ، وهو توقف أمر واجب عقلا عليه ، إذن فالاستدلال بالإجماع ساقط.

وقد يستدلّ على هذا الوجه تارة أخرى بدليل آخر ، فيقال ، انّه لو تنزلنا عن الإجماع ، نقول : انّه لا أقل من أنّ فتوى جملة من العلماء بوجوب التفصيلية في الامتثال توجب احتمال اعتبارها شرعا ، وحينئذ يمكن ترتيب صغرى وكبرى يترتب عليها وجوب عنوان التفصيلية.

أمّا الصغرى فهي ، انّ التفصيلية في الامتثال لا يمكن أخذها قيدا في متعلق الأمر ، لأنّ مرجعها إلى تحصيص الانبعاث وقصد القربة بحصة خاصة من القربة ، وهي القربة الناشئة عن العلم بالأمر وحيث ان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر غير معقول ، فكذلك أخذ حصة خاصة منه في متعلّق الأمر غير معقول ، وبهذا يثبت ان التفصيلية لا يعقل أخذها في متعلّق الأمر.

وأمّا الكبرى ، فهي انّ كل القيود الّتي لا يعقل أخذها في متعلّق

٤٦٨

الأمر ، إذا شك في اعتبارها ودخلها في غرض الشارع ، مثل هذه القيود لا يمكن نفيها ، بالإطلاق ولا بالبراءة.

أمّا عدم إمكان نفيها بالإطلاق ، فلما عرفت من أنّه فرع التقييد ، وقد عرفت انّ التقييد مستحيل فالإطلاق مثله ، بل يكون من باب السالبة بانتفاء موضوعها.

وأمّا عدم إمكان إجراء البراءة ، فلأنّ دليلها ناظر إلى القيود الشرعية المنظورة من قبل الشارع لا إلى ما حكم العقل بوجوبه ، إذن فهذه القيود غير شرعية ، لأنّها لا تؤخذ في متعلق الخطاب الشرعي ، إذن فلا تجري البراءة فيها.

وحينئذ ، فإذا تمّت الصغرى والكبرى ، أنتجت انّ عنوان التفصيلية الّذي هو مشكوك الاعتبار ، لا يمكن نفي اعتباره لا بأصل لفظي ، ولا بأصل عملي ، ومعه يتعيّن مراعاته مهما أمكن ، ولعلّ هذا هو مقصود الميرزا «قده» عند ما ادّعى انّ المورد من موارد أصالة الاشتغال ، لا البراءة لما ذكرنا.

وخلاصة هذا الوجه ، هو انّ التفصيلية في الامتثال هي من القيود الّتي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر ، وإنّما وجوبها على فرض اعتبارها إنّما هو بحكم العقل ، وحينئذ ، نفي اعتبارها غير ممكن ، لا بالإطلاق اللفظي ، ولا بالأصل العملي ، فتجري فيها حينئذ أصالة الاشتغال كما عرفت.

وهذا الكلام غير تام ، لا بلحاظ الإطلاق ، ولا بلحاظ الأصل العملي.

أمّا كونه غير تام بلحاظ الإطلاق ، فلأنّه يرد عليه إيرادان.

الإيراد الأول : هو منع الصغرى ، بمعنى أنّنا لا نسلّم انّ التفصيلية

٤٦٩

لا يمكن أخذها قيدا في متعلق الأمر ، أمّا بناء على مسلك من يقول بإمكان أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، فالمطلب واضح.

وأمّا بناء على مسلك من يحيل أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، فنقول : إنّ هذه الاستحالة لا تعني استحالة أخذ التفصيلية قيدا فيه ، والوجه في ذلك هو ، انّ الامتثال التفصيلي يقابله الامتثال الإجمالي ، والامتثال الإجمالي ينحل إلى أمرين ، أحدهما ، قصد القربة ، والثاني ، هو اقتران العمل عند امتثاله بالعلم الإجمالي والشك في وجوبه حين الإتيان به ، بينما الامتثال التفصيلي ينحل إلى أمرين أيضا ، أحدهما قصد القربة ، والثاني هو أن يكون الفعل حين الإتيان به معلوم الوجوب ، إذن ، فقصد القربة هو الجزء المشترك بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي ، فما به امتياز الإجمالي هو الإجمال ، وما به امتياز التفصيلي هو عدم الإجمال ، وحينئذ لا محذور في أن يؤخذ في متعلق الأمر ، عدم الشك في وجوب الفعل حين الإتيان به ، فيقال مثلا : ائت بهذا الفعل مقيدا بأن لا يكون مشكوك الوجوب حين الإتيان به ، فيؤخذ الشك مانعا ، وعدمه قيدا ونتيجة ذلك أخذ التفصيلية شرطا في الامتثال ولا محذور في ذلك أصلا حينئذ ممّا كان يرد على أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، وحينئذ ، لأنّه إذا أمكن التقييد بهذا ، أمكن التمسك بالإطلاق لنفيه وعدم اعتباره عند الشك.

٢ ـ الإيراد الثاني : وهو ما أشير إليه في الكفاية (١) ، في بحث التعبّدي والتوصلي ، من أنّه إذا سلّمنا الصغرى وقلنا باستحالة التقييد ، فغاية ما يقتضيه ذلك هو تعذّر الإطلاق اللفظي ، وأمّا الإطلاق المقامي فيبقى ممكنا ، لأنّ الشارع بصدد بيان ما له دخل في غرضه ، والحال أنّه

__________________

(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ١ ، ص ١١٢.

٤٧٠

لم يذكر هذا الدخيل ، وهذا يوجب مع عدم ذكر القيد انعقاد إطلاق مقامي في المقام ، وإطلاق في الرّوايات الّتي هي بصدد بيان تمام كل ما له دخل في غرضه بالنسبة إلى كل قيد يشكّ في دخالته ، وحينئذ ، يمكن أن ينفى مثل هذا القيد بهذا الإطلاق.

وأمّا كونه غير تام بلحاظ الأصل العملي فلأنّه يرد عليه ثلاثة إيرادات.

١ ـ الإيراد الأول : هو أنّنا نمنع الصغرى الّتي بني عليها استدلال عدم أخذ التفصيلية قيدا في متعلق الأمر ، وذلك لما عرفت من إمكان أخذ عدم الشك قيدا في متعلق الأمر في مورد العلم الإجمالي ، وحينئذ ، لا يرد محذور أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر.

٢ ـ الإيراد الثاني : هو أنّه لو سلّمنا الصغرى ، وانّ هذا لا يعقل أخذه قيدا في متعلق الأمر.

إلّا أنّه هنا مغالطة ، وهي انّ هذا واجب ، بحكم العقل ، ودليل أصل البراءة غير ناظر لذلك.

لكن مع ذلك ، فنحن نمنع ما جاء في الكبرى ، من عدم إمكان نفي التفصيلية بالبراءة ، باعتبار أنّ وجوبها عقلي ، لا شرعي.

والوجه في هذا المنع هو ، أنّ وجوبها شرعي ، لأنّ غاية ما يحكم به العقل هو وجوب استيفاء غرض المولى ، وأمّا ما هو الدخيل في غرضه ، فهذا من وظيفة المولى إذ هو الّذي يلزم به ، غاية الأمر ، انّ هذا الإلزام تارة يكون غرضيا فقط ، بحيث لا يمكن أخذه قيدا في متعلق الأمر ، وأخرى يكون خطابيا فيما إذا أمكن أخذه قيدا في متعلق الأمر ، إذن ، فالإلزام شرعي على كلّ حال ، فإذا ثبت أنّ وجوب التفصيلية شرعي ، فلا مانع حينئذ من إجراء البراءة عنها عند الشك في اعتبارها.

٤٧١

نعم ، في طول إلزام الشارع بها ، يحكم العقل بلزومها من باب وجوب الطاعة والامتثال ، والحاصل انّ وجوب هذه الخصوصية شرعي ، وحينئذ لا يفرق الحال في جريان البراءة ، بين أن يكون التحميل خطابيا ، أو غرضيا بعد ان كانت هذه الكلفة من قبل الشارع ، وحينئذ يشملها دليل البراءة.

٣ ـ الإيراد الثالث : هو أنّه لو سلّمنا دعوى انصراف أدلة البراءة الشرعية إلى خصوص ما كان بيانه بالخطاب ، وقلنا انّ التفصيلية لا يعقل أخذها في متعلق الخطاب ، فحينئذ لا يمكن إجراء البراءة الشرعية.

إلّا أنّه لا مانع في المقام من إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان بناء على مسلكهم لأنّ هذه الكلفة من قبل الشارع لا العقل ، إذن فوجوبها شرعي ، وحينئذ يقبح من الشارع العقاب عليها بلا بيان هذه الكلفة ، ولو بجملة خبرية إن لم يتمكن من بيانها بجملة إنشائية.

وبهذا تعرف انّ هذا الوجه غير تام.

٣ ـ الوجه الثالث : هو دعوى انّ العقل يحكم بعدم جواز الامتثال الإجمالي ، بقطع النظر عن كون التفصيلية في نفسها دخيلة في غرض الشارع ، ومن الواضح انّ هذا الحكم العقلي ليس من تبعات حكمه بوجوب امتثال التكليف الأصلي ، إذ من الواضح انّ كل تكليف لا يستدعي إلّا استيفاء غرضه ، إذن فلا موجب لحكم العقل بلزوم التفصيلية ما لم يكن غرضه متوقفا على التفصيلية بعنوانها ، ومن هنا قيل : بأنّ حكم العقل بذلك إنّما كان باعتبار انطباق عنوان قبيح على الامتثال الإجمالي ، بل لعلّه محرّم شرعا ، لأنّه حينئذ يكون لعبا وسخرية بأمر المولى ، بل المولى نفسه ، وهو قبيح عقلا ، وحينئذ لا بدّ من الالتزام ببطلان العبادة ، باعتبار أنّه مع حرمتها شرعا لا يمكن الالتزام بصحتها خارجا.

٤٧٢

والخلاصة هي أنّ العقل يحكم بعدم جواز الامتثال الإجمالي ، باعتبار انطباق عنوان قبيح عليه ، وهو كون هذا الامتثال لعبا بأمر المولى ، واللعب بأمر المولى قبيح عقلا ، بل محرّم شرعا ، ومعه لا بدّ من الالتزام ببطلان العبادة الممتثلة إجمالا ، لأنّها تكون محرّمة بهذا العنوان ، ومعه لا يمكن أن تكون مصداقا للواجب ، لعدم إمكان التقرّب بها ، والّذي هو شرط في صحة العبادة.

وهذا الوجه غير تام ، ويرد عليه حلا ونقضا.

أمّا نقضا : فلأنّه لو تمّ بهذا البيان لسرى إلى الواجبات التوصلية ، فإنّ الواجب التوصلي وإن كان لا يشترط فيه قصد القربة ، لكن يشترط فيه أن لا يكون حراما لاستحالة اجتماع الأمر والنهي ، بناء على الامتناع ، فلا يعقل كونه مصداقا للواجب ، لأنّه لا يعقل كون مصداق الواجب التوصلي حراما ، إذ الأصل في الحرام أن لا يسقط الواجب ، لأنّ ما تعلّق به النهي لا ينبسط عليه الأمر أو الوجوب ، وأمّا أجزاؤه في بعض الموارد مع كونه حراما فإنّما هو لدليل خاص ، مع أنّه لا إشكال في إجزاء الواجب التوصلي في موارد الامتثال الإجمالي.

والحاصل : انّ الواجب التوصلي وإن كان يشترط فيه قصد القربة ، لكن يشترط فيه أن لا يكون حراما لاستحالة اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع ، إذ لا يعقل كون مصداق الواجب التوصلي حراما ، إذ الأصل في الحرام أن لا يسقط الواجب ، لأنّ ما تعلّق به النهي لا ينبسط عليه الأمر أو الوجوب وإذا رأيت إجزاء الواجب التوصلي في بعض الموارد مع كونه حراما فإنّما ذلك لدليل خاص ، مع أنّه لا إشكال في أجزاء الواجب التوصلي في موارد الامتثال الإجمالي ، وحينئذ ، إذا قيل بأنّ هذا لعب في أمر المولى ، حينئذ يلزم أنّه في موارد التوصليات إذا احتاط المكلّف في مورد الاحتياط ، إذن يصدّق عليه أنّه يتلاعب ويسخر

٤٧٣

بأمر المولى ويكون هذا قبيحا وحراما لما عرفت ، مع أنّه لا إشكال في أجزاء الواجب التوصلي في مورد الامتثال الإجمالي.

وأمّا حلا : فبثلاثة وجوه.

١ ـ الوجه الأول : هو ما أفاده صاحب الكفاية «قده» (١) ، من أنّه لا لعب في الامتثال الإجمالي ، إذ كثيرا ما يتفق وجود داعي عقلائي شخصي في تفضيل الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي من قبيل أن يكون الفحص عند المكلّف ، وتعيين الامتثال ، أصعب من الاحتياط ، كما في تعيين القبلة ، فحينئذ يكون الامتثال الإجمالي لداع عقلي شخصي ، وليس لعبا ، وهذا جواب صحيح.

ولكن قد اعترض على هذا الوجه ، بأنّه لا يكفي في صحة العبادة أن يكون الداعي غير داعي اللعب ، بل يشترط في صحتها أن يكون الداعي هو قصد القربة ، لأنّ العبادة لا تصح بالداعي الشخصي ، وهذا الوجه لا يثبت ذلك ، فيبقى الإشكال.

وهذا الاعتراض غير تام ، وجوابه واضح ، لأنّ أصل برهان الخصم كان يعترف فيه أنّ الداعي القربي موجود ، لكن كان يقول : بأنّ هناك داع آخر موجود معه ، وهذا الداعي الآخر يوجب تعنون الفعل بعنوان قبيح عقلا ، وهذا الوجه قد أثبت عدم وجود هذا الداعي الآخر أو العنوان الآخر ، إذن الداعي غير القبيح يكفي ومعه لا يبقى مانع من صحة العبادة ، لأنّ أصل جامع العبادة وقع صحيحا ، وحينئذ تطبيقه على مصداقه بداعي شخصي لا يضرّ بصحته ، وعليه ، فلا يرد هذا الإيراد على صاحب الكفاية ، بل ما أفاده «قده» صحيح.

__________________

(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ٤٠.

٤٧٤

٢ ـ الوجه الثاني : هو أنّه لو سلّم أنّ الامتثال الإجمالي لعب ، ولا يوجد داعي عقلائي ، لكن هذا اللعب ليس لعبا بأمر المولى ولا سخرية به ، وإنّما هو لعب في نفسه ، وليس كل لعب في نفسه يكون قبيحا أو حراما شرعا ، وإذا لم يكن كذلك وانطبق على العبادة فلا يعنونها بعنوان قبيح ، إذ فرق كبير بين اللعب بما هو لعب في نفسه ، واللعب بأمر المولى ، إذ اللعب في نفسه حتّى لو انطبق على العبادة ، فإنّه لا يعنونها بعنوان قبيح عقلا.

٣ ـ الوجه الثالث : هو أنّه لو سلّم انّ هناك لعبا ، وأنّه لعب بأمر المولى ، لكن هذا اللعب لا يوجب البطلان ، لأنّه لعب في كيفية الطاعة والأداء ، وليس لعبا بأصل الطاعة وأصل الأداء ، فإذا كان هذا اللعب يوجب تعنون الفعل بعنوان قبيح ومحرّم ، فإنّما يوجب تعنون الكيفية لا أصل الطاعة.

إلّا أنّ هذا الوجه غير تام ، لأنّه إذا كانت كيفية الطاعة متحدة وجودا مع أصل الطاعة فحينئذ يتعنون أصل الطاعة بعنوان قبيح ، ومعه يبطل الفعل ، نعم يصحّ هذا الوجه إذا كانت كيفية الطاعة مقارنة لنفس الطاعة وأصلها لا متحدة معها ، وعلى أيّ حال ، فإنّه يكفينا في مقام الجواب الوجهان الأول والثاني المتقدّمان ، وبهذا يثبت انّ الصحيح هو أنّ الامتثال الإجمالي ليس في طول الامتثال التفصيلي ، بل هو في عرضه.

٤٧٥

تنبيهات المسألة

١ ـ التنبيه الأول : هو أنّه لو بني على أنّ الامتثال الإجمالي في طول الامتثال التفصيلي ، فهل هذه الطولية تختصّ بخصوص الامتثال التفصيلي الوجداني ، أو تعمّ الامتثال التعبّدي؟ فإنّ المكلّف تارة يكون متمكنا من الامتثال التفصيلي الوجداني ، بمعنى أنّ المكلّف يتمكن من تعيين الوظيفة واقعا ووجدانا ، وأخرى يكون متمكنا من تعيين الوظيفة تعبّدا بواسطة قاعدة من القواعد الظاهرية أو أصل من الأصول.

والجواب هنا يختلف باختلاف المدارك الّتي حاولوا بها إثبات هذه الطولية ، فعلى بعضها ، ينبغي إسراء الطولية إلى الامتثال التفصيلي التعبّدي ، وعلى بعضها الآخر ينبغي عدم إسرائها ، بل تختصّ بخصوص الامتثال التفصيلي الوجداني.

وتوضيحه : هو أنّه إذا استندنا في إثبات طولية الامتثال الإجمالي ـ بالنسبة للامتثال التفصيلي ـ على الوجه الأول ، فحينئذ يقال :

إنّ الطولية لا تثبت بالنسبة للامتثال التفصيلي التعبّدي ، بل تختصّ بخصوص الامتثال التفصيلي الوجداني ، والوجه في ذلك هو أنّ إثبات الطولية بالوجه الأول كان بدعوى انّ الانبعاث عن احتمال الأمر في طول الانبعاث عن شخص الأمر ، بمعنى انّ حسن الانبعاث عن احتمال الأمر منوط بعدم التمكن من الانبعاث عن نفس الأمر.

وهذا الكلام إنّما يثبت الطولية بين الامتثال الإجمالي ، والامتثال

٤٧٦

التفصيلي الوجداني ، لأنّه يقال : إنّ المكلّف إذا كان متمكنا من تحصيل العلم الوجداني بالوظيفة ، إذن فهو متمكن من الانبعاث عن شخص الأمر ، وحينئذ تتم الطولية لما ذكر من أنّ الانبعاث عن شخص الأمر متقدّم على الانبعاث عن احتمال الأمر.

وأمّا إذا فرض انّ المكلّف غير متمكن من الامتثال التفصيلي الوجداني ، وكان متمكنا من الامتثال التفصيلي التعبّدي فحينئذ لا تتم الطولية لأنّ الانبعاث في صورة تعيين الوظيفة تعبّدا سوف يكون عن احتمال الأمر حتّى بعد قيام هذه الحجّة التعبّديّة ومهما كان لسان حجيّتها كما في الامتثال الإجمالي ، لأنّ وظيفة الحجّة الّتي عيّنت الوظيفة العملية هي جعل الاحتمال منجزا ، والاحتمال الآخر مؤمّنا عنه ، فالمكلّف على أيّ حال هو ينبعث عن الاحتمال المنجز في المقام ، لا عن شخص الأمر كما في موارد العلم التفصيلي الوجداني ، وذلك لأنّه يحتمل عدم وجود شخص الأمر لاحتمال خطأ الامارة ، ومعه لا يمكن الانبعاث عن شخص الأمر.

وهذا الكلام يصدق حتّى بناء على مسلك الميرزا «قده» في جعل الطريقيّة من أنّ مفاد جعل الحجّة هو جعل الامارة علما وطريقا ، لأنّ هذا الجعل إنّما يعطي للامارة صفة المنجزية والمعذرية ، ولا يعطيها خصائص وصفات العلم التكوينيّة الّتي منها كون العالم ينبعث عن شخص الأمر.

وعليه : فلمّا كان الانبعاث في موارد العلم التفصيلي التعبّدي عن احتمال الأمر لا عن شخصه ، يكون حاله حال العلم الإجمالي ومعه لا معنى للطولية وانّ الأمر دائر بين الانبعاث عن احتمال الأمر وشخص الأمر ليقدّم الثاني على الأول ، إلّا أن يدّعى دعوى أخرى فيقال :

إنّ الوجدان قاض بأنّ حسن الانبعاث عن احتمال لم يجعل علما

٤٧٧

بنظر الشارع ، كما في موارد الامتثال الإجمالي ، هو في طول الانبعاث عن احتمال جعل علما بنظره ، كما في موارد الامتثال التفصيلي التعبّدي.

وهذه الدعوى مبنية على أنّ مفاد جعل الحجّة هو جعل الامارة علما.

إلّا أنّ هذه دعوى جديدة لا ربط لها بأنّ الانبعاث عن المتأخر في طول الانبعاث عن المتقدّم كما جاء في الوجه الأول.

وأمّا إذا استند في إثبات الطولية إلى الوجه الثاني ، فحينئذ تتم الطولية حتّى بالنسبة إلى الامتثال التفصيلي التعبّدي ، فإنّ الوجه الثاني قد استدلّ عليه تارة بالإجماع ، وأخرى بجريان أصالة الاشتغال بالتقريب المتقدّم ، وفي كلتا الحالتين تتمّ الطولية.

أمّا انّها تتمّ إذا استدلّ بالإجماع ، فلأنّه قد نقل هذا الإجماع على بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد أو التقليد ، ومن الواضح انّ التقليد عبارة عن الامتثال التفصيلي التعبّدي ، وكذلك الاجتهاد في أغلب الأحيان ، فلو سلّم انعقاد إجماع على ذلك لكان شاملا لمورد الكلام ، من أنّه إذا أمكن الامتثال التفصيلي التعبّدي فلا يكفي الامتثال الإجمالي.

وأمّا إذا استدلّ بأصالة الاشتغال فأيضا تتمّ الطولية في مورد العلم التفصيلي التعبّدي فيقال : إنّ فتوى العلماء بالطولية ببركة هذا الإجماع المنقول يوجب احتمال اعتبارها بالنسبة للتفصيلي التعبّدي ، وحيث لا يمكن نفي ذلك بالإطلاق ولا بالبراءة كما تقدّم ، وحينئذ تجري أصالة الاشتغال ، إذن فالوجه الثاني بكلا تقريبيه لا يبعد جريانه في المقام.

وأمّا إذا استند في إثبات الطولية إلى الوجه الثالث ، وهو كون الامتثال الإجمالي لعبا بأمر المولى ، فحينئذ لا تتمّ الطولية بالنسبة إلى الامتثال التفصيلي التعبّدي وذلك لعدم انطباق «اللعب بأمر المولى» ، على الامتثال الإجمالي حينئذ ، وذلك لأنّ العدول من التفصيلي التعبّدي ، إلى الإجمالي ، إنّما هو لداع عقلائي يرجع بالفائدة على

٤٧٨

المولى ، لأنّه بالامتثال الإجمالي الموجب للتكرار يحصل الجزم بالإتيان بالواجب وتحصيل غرض المولى ، بينما في صورة تعيين الوظيفة تعبّدا إذا أتى بتلك الوظيفة فإنّه لا يحرز الإتيان بالواجب واقعا لاحتمال خطأ الدليل الّذي عيّن تلك الوظيفة وإن كان معذرا.

فإن قيل : لما ذا لا يعيّن الوظيفة فيأتي بها ، ثمّ يأتي بالمحتمل الآخر احتياطا فيجمع بذلك بين الامتثال التفصيلي التعبّدي والاحتياط مثلا كما صلاة الظهر والجمعة من يوم الجمعة؟ ففيه : انّ العدول عن مثل ذلك إلى الإتيان الامتثال الإجمالي أيضا فيه داع عقلائي وهو أنّ التعيين والاحتياط بعد ذلك ، فيه مضافا إلى التكرار مشقة الفحص ، والعدول إلى ما ليس فيه هذه مشقة أمر عقلائي.

أو قل : إنّ هذا العدول باعتباره أخف مئونة ، لأنّ ذاك يستبطن الفحص والاحتياط ، بينما الامتثال الإجمالي يستبطن الاحتياط فقط ، إذن ، فالعدول عن الأصعب إلى الأخف صعوبة ليس لعبا بأمر المولى ، بل هو تصرف عقلائي فضلا عن أنّه في الأصعب لا يحصل فيه إلّا احتمال إصابة الواقع ، وبهذا ظهر أنّ الطولية لا تتمّ بالنسبة للعلم التفصيلي التعبّدي بناء على الوجه الثالث.

٢ ـ التنبيه الثاني : هو انّ الّذين استشكلوا في جواز الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي استشكلوا من ذلك عدّة موارد جوّزوا فيها الاجتزاء بالامتثال الإجمالي.

١ ـ المورد الأول : فيما إذا كان الامتثال التفصيلي متعذّرا ، وملاك هذا الاستثناء واضح وحينئذ لا ينبغي الاستشكال في صحة هذا العدم ورود الوجوه الثلاثة الّتي ذكرت في مقام إثبات الطولية في المقام ، لا الأول ، ولا الثاني ولا الثالث ، أمّا الإجماع ، فلأنّ مورده التمكن من الاجتهاد ، أو التقليد ، بل الإجماع قائم على الخلاف في المقام ، وأمّا

٤٧٩

ملاك اللهو واللعب بأمر المولى ، فلأنّ داعي التكرار هو الاحتياط وإحراز الامتثال ، وأيّ داع عقلائي أوضح منه ، وأمّا الطولية ، فلأنّ موردها هو ما إذا كان الانبعاث عن شخص الأمر ممكنا لا ممتنعا كما في المقام.

٢ ـ المورد الثاني : هو ما إذا كان الحكم غير منجز الامتثال على المكلّف ، بحيث كان يمكنه تركه رأسا ، وهذا له مصداقان.

أ ـ المصداق الأول : هو باب المستحبات ، كما لو علم باستحباب الصّلاة يوم العذير وشكّ في أنّها ثنائية ، أو رباعية فهنا بإمكانه ترك الصّلاة ولكن أراد أن يصلّي ، فبدلا من الرّجوع إلى الدليل لتعيين المستحب ما هو ، أتى بالصّلاتين رجاء لاحتمال أن يصيب المطلوب ، وقد حكموا فيه بكفاية هذا الامتثال الإجمالي.

ب ـ المصداق الثاني : في الواجبات كما لو كان الواجب العبادي محتملا لاحتمال مؤمّن عنه غير منجز ، فهو مردّد بين عملين بحيث يمكنه رفع هذا التردّد بالرّجوع إلى الدليل لتعيينه ، وذلك كما في صلاة يوم العيد ، حيث يشكّ في أنّها ثنائية أو رباعية فيأتي بهما معا لعلّه يصيب الواقع ، فهنا يقال بجواز الامتثال الإجمالي وذلك بالإتيان بالصّلاتين احتياطا أو رجاء ، والحكم بكفاية الامتثال الإجمالي في هذا المورد الّذي كان المكلّف فيه متبرعا محتاطا وإن كان واضحا على الوجه الأول والثاني ، إلّا أنّه لا يخلو من غموض بناء على الوجه الثالث ، باعتبار أنّ العلب بأمر المولى لا يفرق فيه الحال بين أن يكون ملزما بالتكليف ، أو أن يكون مستحبا ، أو أن يكون منجزا أو غير منجز ، ونفس هذا الغموض يمكن أن يجعل نقضا على الوجه الثالث باعتبار أنّ صاحبه يعترف بالإجزاء في المقام مع أنّ دليله يقتضي ثبوت الطولية وعدم كفاية الامتثال الإجمالي فيه.

٤٨٠