بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

والخلاصة : هي انّ تنزيل المؤدى منزلة الخمر الواقعي لا بدّ وأن ينظر فيه إلى حكم ثابت للخمر ، إمّا فعلي ، أو تعليقي ليسري بالتنزيل إلى المؤدّى ، إذن ، فلا بدّ أن يكون نظر دليل التنزيل إلى حكم ثابت للخمر الواقعي يكون المقصود إسراؤه إلى المنزل عليه ، وإلّا فالتنزيل غير معقول لما عرفت ، والحكم الثابت في المنزل عليه هنا ، إن كان هو الحكم المعلق المستفاد من الجعل الأولي للحكم على الخمر المقطوع الخمرية ، فهذا خلف أيضا ، لأنّه معلق على انضمام الجزء الأصلي الآخر ، فلو أريد إسراؤه لما أنتج المقصود كما عرفت ، بل هو في نفسه غير معقول في خصوص المقام ، لأنّ الجزء المعلق عليه في المقام هو القطع بالخمرية ومع حصوله لا يبقى موضوع التنزيل الظاهري في المؤدّى.

وإن كان هو الحكم المعلق على القطع التنزيلي الثابت ببركة التنزيل الثاني ، فهذا أيضا خلف ، فإنّ هذا معناه : إنّ التنزيل الثاني قد ضم فيه الجزء التنزيلي الثاني ـ وهو القطع بالواقع التنزيلي ـ لا الجزء الأصلي من الآخر ـ وهو الخمر الواقعي ـ بل يلغو التنزيل الأول حينئذ ، لأنّ الجزء التنزيلي الثاني دائما ـ في خصوص المقام ـ يكون مع التنزيل الأول لكونه في طوله ، فلا يبقى إلّا أن يكون التنزيل بلحاظ حكم غير ثابت للمنزل عليه ، بل يثبت بنفس دليل التنزيلين ، وهذا محال ، لأنّه لو أريد فيه النظر إلى إسراء الحكم الثابت في نفس هذا الدليل ، فهو محال في نفسه ، لأنّ معناه : افتراض ثبوته قبل ثبوته ، وإن أريد فيه عدم النظر إلى حكم موضوع أصلا ، فهو خلف فرض التنزيل.

٣ ـ الاعتراض الثالث : على العراقي «قده» هو أنّه حينما نريد تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، يعني نأخذ

٢٤١

القطع بالواقع الجعلي في موضوع الحكم المذكور الّذي هو حكم شرعي واحد والقطع بالواقع الجعلي والتنزيلي معناه : حكم الشارع على طبقة بما يماثل حكمه الأولي ، وهذا هو معنى التنزيل.

والمفروض أنّه عندنا حكم واحد ، إذن ، فقد أخذنا القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم وهو محال عندهم.

أو قل : إنّ تنزيل القطع بالواقع التنزيلي الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي معناه : أخذ القطع بالواقع الجعلي في موضوع الحكم المذكور الّذي هو حكم شرعي واحد ، وهذا معناه أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه ، وهو محال عندهم.

نعم الإشكال غير وارد على مبنانا ، لأنّا وجّهنا إمكان أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه وذلك بأن يؤخذ القطع بالجعل في موضوع المجعول وذلك كما لو كان الحكم متعدد ، والتنزيل متعدد ، فالمأخوذ في أحد الحكمين هو العلم بالحكم الآخر ، ولا مانع من ذلك ، وإن كان مانعا على مبنى العراقي والكفاية.

وأمّا كلام صاحب الكفاية ، فيردّ عليه أربع إشكالات.

١ ـ الإشكال الأول : هو بطلان المقدّمة الثانية ، أي انّنا لو سلّمنا المقدّمة الأولى ، وهي تعدّد التنزيل ، فإنّا لا نسلّم عدم معقولية تعدد التنزيل بلحاظ حكم واحد ، وذلك لما بيّناه في أول مناقشة المحقّق العراقي ، من أنّ التنزيل ليس أمرا ثبوتيا راجعا إلى جعل الحكم في عالم الثبوت ونفس المولى ، بل مرجعه إلى لسان من ألسنة الأدلة الإثباتية ، فتنزيل مؤدّى الامارة منزلة الخمر الواقعي ، وتنزيل القطع الجعلي منزلة القطع الحقيقي ، هما لسانان إثباتيان من ألسنة الأدلة ، لا ثبوتيين ليردّ كلامه ، إذ الحكم الواحد ، تارة ، يراد توسعته بقرينة متصلة فيعبر ، «بأو» ، وأخرى ، بقرينة منفصلة ، وذلك لسان من ألسنة التنزيل ، وليس هذا

٢٤٢

التنزيل جعلا ، إذ من الواضح أنّه ليس المقصود جعل حكم آخر وراء الأول ، وإلّا للزم تعدّد الأحكام ، بل المقصود توسعة دائرة موضوع الحكم الأول ، وهذه التوسعة لم تبيّن بالدليل الأول ، إذن فتبيّن بدليل ثاني ، إذن ، فالتنزيلان ألسنة إثباتية ، لا جعول ثبوتية ، فتعدّدها من باب تعدّد القرائن المنفصلة الكاشفة عن جعل الحكم على موضوع مركب واحد ، وهذا لا مانع منه ، وليس بابه باب الجعول المتعدّدة لحكم واحد.

والحاصل : هو انّ المقدّمة الثانية ـ القائلة باستحالة الطولية بين التنزيلين لجزأي الموضوع الواحد ـ باطلة ، إذ التنزيل كما عرفت هو مجرد لسان إثباتي ، ولا يعني إسراء حقيقيّا للحكم ، إلّا بلحاظ المدلول التصديقي الجدي ، إذن ، فتعدد التنزيل ليس إلّا من باب تعدد القرينة المنفصلة الكاشفة عن جعل الحكم على الموضوع المركب.

٢ ـ الإشكال الثاني : هو بطلان دعوى الطولية بين التنزيلين في كلامه ، فإنّ تنزيل الأول ، وهو تنزيل المؤدّى منزلة الخمر ، وتنزيل الثاني ، وهو تنزيل القطع بالخمر منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، ليس في طول تنزيل المؤدّى ، فهما ليسا طوليين ، بل بالإمكان جعلهما في إنشاء واحد ، ذلك بأن ينزل المجموع المركب من المؤدّى والقطع بالخمرية الجعلية منزلة المجموع المركب من الخمر الواقعي والقطع بالخمرية الواقعية ، وذلك بعد أن يكون المراد من القطع بالواقع الجعلي هو القطع بهذا الجعل الّذي يراد به إنشاء التنزيلين ، حينئذ يكون مرجعه إلى وجود جعل واحد أخذ في موضوعه جزءان ، أحدهما ، قيام الامارة ، والآخر القطع بنفس هذا الجعل ، وسوف يأتي أن أخذ القطع بالجعل في موضوع فعلية المجعول أمر معقول ، إذن ، فالجمع بين هذين التنزيلين أمر معقول ولا يلزم أن يكونا طوليين ومتعددين.

٢٤٣

وبعبارة أخرى : إنّ تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ليس في طول تنزيل المؤدّى ، لأنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر لا يتوقف على وجود المنزل خارجا ، بل يتوقف على مجرد افتراضه ، فيصحّ تنزيل النبيذ أو الفقاع منزلة الخمر حتّى لو لم يوجد فقاع أو نبيذ خارجا ، إذ تنزيل القطع بالمؤدّى التنزيلي لا يتوقف على أكثر من فرض وجود النبيذ مثلا ، فمرجعه حينئذ إلى وجود جعل واحد أخذ في موضوعه جزءان ، قيام الامارة ، والقطع بنفس هذا الجعل.

أو قل : إنّ مرجعه إلى أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه حيث أنّ التنزيلين بلحاظ حكم واحد وإسراء واحد.

وقد عرفت وسوف يأتي ، انّه يعقل أخذ القطع بالجعل في موضوع فعليّة المجعول ، إذ الجمع بين هذين التنزيلين أمر معقول ، ولا يلزم أن يكونا طوليين ومتعددين.

٣ ـ الإشكال الثالث : هو أنّه لو سلّمنا كلتا المقدّمتين ، فمع هذا يمكن تتميم كلام حاشية الآخوند على رسائل الشيخ «قده» ، وذلك لأنّنا قلنا سابقا بأنّ الدلالة الالتزامية الّتي ادعاها في الحاشية لها أحد وجهين : فهي إمّا أن تكون دلالة التزامية عرفية ، وإمّا أن تكون عقلية بدلالة الاقتضاء.

فإن كان مدرك هذه الدلالة هو الملازمة العرفية ، من باب أنّ العرف ـ لعدم دقته ـ يرى انّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يساوق تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، وحينئذ ، نحن لا نتكلم في مورد تكون الخمرية فيه جزء الموضوع ، ويكون القطع بالخمرية هو الجزء الآخر ليلزم الإشكال ، بل نتكلم في مورد يكون الخمر فيه تمام الموضوع لحكم واقعي وهو حرمة الشرب ، ويكون القطع بالخمرية تمام الموضوع لحكم واقعي آخر «كوجوب الإراقة» مثلا ، إذن يوجد حكمان واقعيان.

٢٤٤

أو قل : تنزيلان مستقلان لا ربط لأحدهما بالآخر ، ويكون القطع بالواقع التنزيلي الأول بلحاظ الحكم الأول وبلا توقف على الثاني ، والقطع بالواقع التنزيلي الثاني بلحاظ الحكم الثاني ، وملاك الدلالة الالتزامية العرفية ـ وهو المسامحة وعدم الفرق بين القطع بالواقع الحقيقي ، والقطع بالواقع التنزيلي ـ إذا بني عليها ، فهي جارية في محل الكلام لأنّها نكتة خفاء المطلب ، ولأنّه لا يفرق بين أن يكون الخمر موضوعا مستقلا أو لا.

وعلى ضوء هذا لا بأس إذن بوجود تنزيلين ، ولا يلزم حينئذ وحدة التنزيل لوحدة الحكم ، وبهذا يتمّ المطلوب.

وإن كان الوجه في الدلالة الالتزامية هو دلالة الاقتضاء ، حينئذ نقول : بأنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يوجب بدلالة الاقتضاء ـ وصونا لكلامه عن اللغوية ـ أن يكون المولى قد نزّل شيئا آخر منزلة الجزء الآخر ـ وهو القطع بالخمرية الواقعية ـ لئلّا يلزم لغوية التنزيل الأول.

لكن دلالة الاقتضاء لا تعين ما هو المنزل منزلة الجزء الآخر ، وإنّما عيّنه الآخوند «قده» بالمناسبات العرفية والفهم العرفي حيث قال : «المناسب أن يكون المنزل منزلة الخمرية هو القطع بالواقع الجعلي ، وإلّا فيمكن أن يكون أمرا آخر ، وهو الظن بالواقع الحقيقي ، وبذلك يتم رفع اللغوية.

إذن هذا الإشكال الّذي يشكله منشأ من طولية التنزيلين ، وهذه الطولية نشأت من افتراض انّ المنزل هو القطع بالواقع الجعلي الّذي هو في طول التنزيل ، أمّا لو كان المنزل هو الظن بالواقع الحقيقي ، إذن لا طولية بين التنزيلين.

وحينئذ نقول : إنّ إشكال الآخوند «قده» تمام ما يبطل هو ، المناسبات العرفية ، ولا يبطل أصل دلالة الاقتضاء ، إذ عندنا دالان : دلالة الاقتضاء ، وهي تنزيل شيء ، والمناسبة العرفية تعيّنه في القطع

٢٤٥

بالواقع الجعلي ، وبرهان الكفاية يبرهن على استحالة ذلك ، إذن تسقط المناسبة العرفية ، لا دلالة الاقتضاء ، فإنّ دلالة الاقتضاء لم تكن تعيّن ابتداء ما هو المنزل منزلة الجزء الثاني ، وإنّما عيّنّا ذلك بالمناسبة العرفية ، إذن ، بضم دلالة الاقتضاء إلى دليل الكفاية وهو الظن بالخمرية الواقعية لا القطع بها ، ومعه لا طولية.

وإن شئت قلت : لو فرضنا انّ تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي مستحيل ، فيستكشف انّ أمرا آخر هو الّذي نزل منزلة القطع بالواقع ، فإنّ دلالة الاقتضاء لم تكن تعيّن ابتداء ما هو المنزل منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، ـ أي الجزء الثاني ـ وإنّما عيّنّا ذلك بالمناسبات العرفية ، فإذا كان ذلك محالا ، فليكن المنزل الظن بالواقع أو أمر آخر ملازم.

والخلاصة : هي انّ كلام الكفاية يرد عليه :

أولا : بطلان المقدّمة الثانية ، لأنّ التنزيل ليس من جنس الجعل ثبوتا ليقال : أنّه بناء على وحدة حكم المنزل عليه لا يتصور إلّا تنزيل واحد ، بل التنزيل مرجعه إلى عالم الإثبات ، إذن ، لا محذور في تعدّد القرائن الإثباتية بالنسبة إلى دليل واحد كما عرفت.

ويرد ثانيا : بطلان المقدّمة الأولى ، لأنّه يشترط في معقولية التنزيل فعليّة المنزل ، فتنزيل القطع بالواقع التنزيلي ليس في طول أن يوجد واقع تنزيلي خارجي ، بل في طول افتراض ذلك في عالم الجعل كما تقدّم ، ولا مانع من أن يفترض الأمران معا في جعل واحد ، فيقول مثلا : «نزلت المؤدّى بالقطع بالواقع الجعلي منزلة الجزءين الواقعيين» ، وقد عرفت ما يرد ثالثا فيما مرّ.

٤ ـ الإشكال الرابع : هو أنّ المحقّق الخراساني «قده» ، كان يريد

٢٤٦

أن يقول : بأنّ هذين التنزيلين طوليان كما ذكر في المقدّمة الأولى ، والطولية كان يدعيها من هذا الطرف ، بمعنى أنّ التنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي في طول تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، بينما إذا دقّقنا النظر ، نجد أنّ الطولية في المقام ـ لو تعقلنا هذين التنزيلين ـ ثابتة ، لكن بعكس ما كان يترقبه صاحب الكفاية ، فإنّ التنزيل الأول في طول التنزيل الثاني لا العكس ، وطولية التنزيل الأول ، وهو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، طوليته ليس باعتبار خصوصية المنزل هنا والمنزل هناك ، بل أيّ شيء كان المنزل هنا وهناك ، فالطولية محتومة في المقام ، بمعنى أنّ التنزيل الأول في طول التنزيل الثاني ، وذلك لنكتة ترجع إلى طبيعة التنزيل نفسه لا إلى خصوصية أنّ المنزل ما هو ، كما كان يلحظ ذلك في الكفاية ، وذلك أنّ التنزيل الأول بحسب حقيقته هو تنزيل ظاهري ، والتنزيل الثاني بحسب هويته هو تنزيل واقعي ، وكل التنزيلات الظاهرية في طول التنزيلات الواقعية المنصبّة على حكم واحد ، يعني حكم واحد إذا تحقّق له تنزيلان ، أحدهما واقعي والآخر ظاهري ، فيكون الظاهري في طول الواقعي.

وتوضيح ذلك يكون ببيان أمرين.

أ ـ الأمر الأول : هو أنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ظاهري ، وذلك لأنّ مرادنا من التنزيل الظاهري ، يعني التنزيل الّذي يكون مضمونه حكما ظاهريا وإسراء ظاهريا لحكم المنزل عليه إلى المنزل مع حفظ الواقع على واقعه ، بحيث أنّه قد ينكشف الخلاف ، إذن فالتنزيل الظاهري مرجعه إلى حكم ظاهري أخذ في موضوعه الشك في حكم المنزل عليه.

والمقصود بهذا التنزيل هو إسراء حكم المنزل عليه إلى المنزل ، لكن إسراء ظاهريا ، لأنّه حكم في الشك ، كما لو قال المولى : «المائع

٢٤٧

المظنون الخمرية والّذي أخبر الثقة عن خمريته ، منزل منزلة الخمر الواقعي» ، فهذا التنزيل ظاهري لأخذ الشك في موضوع المنزل عليه ، والمقصود منه إسراء حكم المنزل عليه إلى المنزل ، ولأنّ مفاد هذا التنزيل جعل الحجيّة.

إذن يتضح انّ ما هو المجعول في هذا التنزيل بحسب الحقيقة ليس هو إسراء الحكم الواقعي حقيقة ، لأنّ هذا خلف أخذ الشك في موضوعه ، وخلف كوننا نتكلم عن دليل الحجيّة وهو الحكم الظاهري ، وإنّما مفاد هذا التنزيل هو إنشاء حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي ، فإن كان الخبر مصيبا للواقع فالحكم الظاهري مماثلا للحكم الواقعي ، وإن كان الخبر مخطئا ، فالحكم الظاهري غير مماثل للحكم الواقعي ، ولكن نكون قد أنشأنا حكما ظاهريا به.

ب ـ الأمر الثاني : هو أنّ تنزيل القطع أو أيّ شيء آخر منزلة القطع الموضوعي هو تنزيل واقعي ، ومفاده جعل حكم واقعي ، وذلك لأنّ هذا التنزيل لم يؤخذ في موضوعه الشك ، فمثلا حينما يقول : «نزلت الظن منزلة القطع بالخمرية» فيما لو فرض أنّ القطع بالخمرية كان موضوعا لوجوب الإراقة ، فهنا : حينئذ لا يوجد شك في وجوب الإراقة ، بقطع النظر عن هذا التنزيل ، بل هو معلوم العدم ، لأنّ موضوعه القطع إذن ، فالشك منتف وجدانا ، إذن ، هذا التنزيل هو إنشاء حكم واقعي وتوسعة واقعية للحكم بوجوب الإراقة.

وهذا معنى انّ هذا التنزيل يكون تنزيلا واقعيا ، وسوف يأتي أنّ تنزيل الامارات منزلة القطع الموضوعي نسميه بالحكومة الظاهرية ، إذن فهذان التنزيلان مختلفان جوهرا وحقيقة ، لأنّ الأول ظاهري ، والثاني واقعي ، وحينئذ : يترتب على ذلك.

أولا : الطولية بين التنزيلين بعكس ما كان يترقبه صاحب الكفاية ، فإنّ

٢٤٨

الطولية ستكون بمعنى أنّ التنزيل الظاهري الّذي هو التنزيل الأول في طول التنزيل الثاني الّذي هو الواقعي ، لأنّ الظاهري هو جعل الحكم المماثل للواقعي ، إذن لا بدّ وان يفترض في مرتبة سابقة حكم وتنزيل واقعي.

ويترتب على ذلك ثانيا : انّه هنا ، تعدد التنزيل الّذي استشكل فيه ، لا موجب للاستشكال فيه ، باعتبار وجود حكمين هنا حقيقة ، أحدهما واقعي ، والآخر ظاهري ، إذن ، فالقول انّه لا يعقل تعدّد التنزيل لطولية التنزيلين مع وحدة الحكم ، هذا القول إنّما يعقل ويتصور لو كان التنزيلان واقعيين معا ، وأمّا إذا كان أحدهما مفاده الحكم الظاهري ، والآخر مفاده الحكم الواقعي ، فحينئذ لا استحالة بتعدد التنزيل ، بل يكون شيئا معقولا على كلّ حال لما عرفت ، ويكون كلام الكفاية بلا موضوع.

ويترتب ثالثا : انّه يتبين انّ التنزيل الأول هنا في نفسه غير معقول ، وذلك لأنّا فرضناه تنزيلا ظاهريا ، وانّ المجعول فيه هو الحكم الظاهري ، وهذا الحكم الظاهري ، المجعول فيه لا بدّ وأن يفرض أنّه معلق على جزء آخر أولا ، فإن فرض أنّه غير معلق على جزء آخر ، إذن فلا يمكن مطابقته للواقع ، إذ الظاهري إن لم يكن معلقا ، إذن فهو خلف كونه حكما ظاهريا ، لأنّ الظاهري يجب أن يكون مماثلا للحكم الواقعي ، والمفروض أنّ الحكم الواقعي منوطا بالجزء الآخر ، فإذا لم يكن الحكم الظاهري معلقا على جزء آخر ، إذن ، فهو غير مماثل للحكم الواقعي حينئذ.

وإن فرض أنّه منوطا بالجزء الآخر ، حينئذ ، فإن كان هذا الجزء الآخر الأصلي هو القطع بالخمرية الواقعية ، فهذا مستحيل ، لأنّه لا يعقل إناطة الحكم الظاهري بالقطع بالخمرية الواقعية ، لأنّ هذا يوجب رفع موضوعيته ، وإن كان هذا الجزء الآخر هو البدل التنزيلي للقطع بالحرمة

٢٤٩

الواقعية ، وأيّ شيء فرضنا هذا البدل ـ فهذا خلف كونه ظاهريا ، لأنّ الحكم الواقعي في المقام غير معلق على الجزء الآخر بحسب الفرض ، إذن لا يمكن أن نفرض أنّ الحكم الظاهري معلقا على الجزء الآخر ، إذ الظاهري لا يمكن تعليقه على طرف لا يكون الواقعي معلقا عليه ، والمفروض انّ هذا البدل التنزيلي لا يفي بالحكم الواقعي لو ضم إلى الجزء الأصلي الآخر ، لأنّ الحكم الظاهري لا بدّ وأن يجعل بنحو يحتمل مطابقته للواقع ، هذا حاصل الإشكالات الأربعة على الكفاية.

ثمّ ننتقل إلى ما ذكره صاحب الكفاية في حاشيته على رسائل الشيخ الأعظم «قده» ، فقد ذكر فيها ، أنّه بدليل الحجيّة نثبت بالمطابقة تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وبدلالة الالتزام نثبت تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، وهنا لنا تعليقان.

١ ـ التعليق الأول : هو انّ هذه الدلالة الالتزامية غير مقبولة ، لأنّ مدركها كما عرفت هو أحد وجهين : إمّا مسامحة العرف ، وإمّا دلالة الاقتضاء ، وكلاهما غير صحيح.

أمّا الأول : فمن الواضح انّ الدلالة الالتزامية العرفية إنّما تكون حجّة فيما إذا فرض أنّ المدلول الالتزامي ـ إمّا في مرحلة المدلول التصوري أو في مرحلة المدلول التصديقي ، كان قريبا من الذهن العرفي جدا بحيث انّ العرف حينما يلتفت إلى مدلول هذا الكلام ينتقل منه بسرعة عرفية إلى ذلك المدلول الالتزامي ، حينئذ في مثله ، يكون حجّة ، لأنّه يرجع إلى باب ظهور اللفظ ، وأمّا إذا كان مدلولا التزاميا بحاجة إلى تفكير عميق كي يلتفت إلى تصور هذا المدلول الالتزامي ، وبعد ذلك يفترض الملازمة ، فالذهن العرفي حينئذ لا ينتقل بسرعة من المدلول المطابقي إلى المدلول الالتزامي ، وحينئذ مثل هذه الدلالة الالتزامية لا تشكل ظهورا في اللفظ ليكون حجّة ، وبالتالي هي غير عرفية.

٢٥٠

وأمّا الثاني : وهو دلالة الاقتضاء ، فالجواب عليه أوضح ، وذلك لأنّه تارة يكون أصل كلام الحكيم لغوا لو لا الالتزام بهذا اللازم كما لو ورد دليل الحجيّة في خصوص هذا المورد وقال : «نزلت مظنون الخمرية منزلة الواقع» مع أنّه لا أثر للواقع ، فهنا لا بأس بالقول انّ هذا الكلام لو لا اللازم لكان لغوا ، فيستكشف اللازم حينئذ ، وأمّا إذا فرض انّ هذا الاستكشاف كان بلحاظ إطلاق الكلام لا أصله ، لأنّ دليل الحجيّة لم يرد في خصوص هذا المورد ، بل في سائر الموارد ، وحيث لا أثر لهذا الكلام ، فيكون لغوا ، فيستكشف هذا الإطلاق ، لأنّ دليل الحجيّة قد أخذ في موضوعه الأثر العملي ، وحيث لا أثر عملي فلا إطلاق لدليل الحجيّة في نفسه ، إذن ، فأين الإطلاق لنحافظ عليه ونصونه عن اللغوية بإثبات اللازم ، لأنّ دليل الحجيّة ككل دليل أخذ في موضوعه ، وجود الأثر العملي ، ومع عدمه فلا إطلاق ، إذن فلا معنى للتمسك بدلالة الاقتضاء.

٢ ـ التعليق الثاني : على كلام الحاشية هو أن يقال : إنّ كلام الحاشية لا يتم لإفادة قيام الامارة مقام القطع الموضوعي فيما إذا كان القطع تمام الموضوع للحكم الشرعي ولم يكن المؤدى موضوعا لحكم شرعي ، فإنّه في مثل ذلك لا يكون المؤدّى منزلا منزلة الواقع لتكون الامارة منزلة منزلة القطع ، فلو فرض أنّه قال : «إذا قطعت بخمرية المائع حرم شربه ، ووجبت إراقته» بنحو يكون تمام الموضوع لحرمة الشرب ووجوب الإراقة هو ، القطع بالخمرية ، أمّا واقع الخمرية فلا يكون موضوعا لحكم ولا دخيلا في جزء الموضوع أيضا ففي مثل ذلك لا يتم كلام الحاشية ، لأنّه فيها أريد استكشاف التنزيل الثاني من التنزيل الأول ، إذ لا بدّ أولا من إثبات تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، ثمّ بالملازمة نستكشف بالدلالة الالتزامية أو بدلالة الاقتضاء انّ القطع بالواقع التنزيلي ، منزل منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، إذن فلا بدّ قبل كل شيء

٢٥١

من أن يتم تنزيل المؤدى منزلة الواقع ليترتب عليه الدلالة الالتزامية ، وفي محل الكلام ، فإنّ تنزيل المؤدى منزلة الواقع غير معقول ، لأنّ الواقع ليس له أثر ولو ضمنا ، إذن فلا يعقل تنزيل المؤدى منزلته ولو بلحاظ الأثر الضمني والتعليقي ، وإذا لم يكن بالإمكان تنزيله كذلك ، فلا يتم المدلول المطابقي ليتم المدلول الالتزامي ، وهو تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، إذن ففي أمثال ذلك ، لا يتم هذا البيان ، بل لو تمّ فإنّما يتم فيما فرضه صاحب الحاشية.

٣ ـ التعليق الثالث : وهو نظري ، حيث يقال : إنّ صاحب الحاشية ما دام أنّه كان يبحث بحثا نظريا ثبوتيا ، فلو قلب المطلب وافترض دليلا مفاده تنزيل الظن منزلة القطع ، أي إقامة الامارة مقام القطع الموضوعي ، ويستفيد منه بالملازمة العرفية قيام الامارة مقام القطع الطريقي ، ومقتضى هذا القيام حينئذ ، أنّها ترفع موضوع البراءة ، لأنّ أصالة البراءة حكم شرعي جعل موضوعه عدم العلم ، والعلم هنا نسبته إلى البراءة نسبة القطع الموضوعي ، وإن كان نسبته إلى التكليف الواقعي نسبة القطع الطريقي ، فإذا فرض انّ الامارة القائمة على حرمة التتن نزلت منزلة القطع بحرمة شرب التتن في رفع موضوع البراءة ، فيمكن القول : بأنّه نفهم من ذلك بالدلالة الالتزامية العرفية انّه حجّة ومنجز لأنّ العرف يفهم من كونه رافعا لموضوع البراءة ، أنّه منجز وحجّة ، وإن كان لا ملازمة عقلية ، إذ قد يرفع شيء موضوع البراءة ، ولكن لا ينجز ، بل تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان على رأي المشهور.

ويرد حينئذ على هذه الاستفادة بعض ما أوردنا سابقا على استفادة الحاشية نفسها ، وبذلك اتضح انّ الامارات لا تقوم مقام القطع الموضوعي ، لعدم إيفاء دليل حجيّة الامارة بقيامها مقام القطع الموضوعي.

وبهذا يكون قد تمّ هيكل البحث الّذي بني من إشكال صاحب

٢٥٢

الكفاية على تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي ، ومن تعليقنا على الكفاية والحاشية ، والمعلّق عليها ، وقد تبيّن ما عرفت.

نعم أشرنا في أول البحث إلى انّ هذا الكلام والإشكال في قيام الامارات مقام القطع الموضوعي ، إنّما يرد فيما إذا كان القطع مأخوذا في موضوع الدليل بما هو قطع كما هو ظاهر صاحب الكفاية «قده» (١) ، بحيث يحتاج إقامة الامارة مقامه إلى حاكمية دليل حجيّتها ونظره إليه.

وأمّا إذا استفدنا من أخذ القطع في الموضوع أنّه مأخوذ بما هو حجّة ، فحينئذ لا يأتي في المقام إشكالنا السابق ، وهو أنّ دليل الحجيّة ليس له نظران ، لأنّ دليل الحجيّة حينئذ يكون واردا على القطع الموضوعي لا حاكما ، وبذلك يتحقّق مصداق حقيقي لموضوع دليل القطع الموضوعي بالتعبّد ، وقد أوضحنا أنّ الدليل الوارد لا يحتاج إلى نظر نحو الدليل المورود ، لكن ذلك على تفصيل حاصله : أنّه يوجد هنا ثلاث صور :

الأولى : هو أن يفرض انّ المؤدّى ، أي المقطوع ليس له أثر شرعي أصلا ، وإنّما تمام الأثر مترتب على القطع.

الثانية : هي أن يفرض انّ الأثر يكون مترتبا على المجموع المركب من القطع والمقطوع.

الثالثة : هي أن يفرض انّ تمام الموضوع هو القطع.

فإن كان تمام الموضوع هو القطع ، ففي مثله لا يعقل قيام الامارة مقام القطع ، إذ لا يعقل حجيتها في نفسها ، لأنّ حجيتها فرع أن تكون قابلة للتنجيز والتعذير بلحاظ مؤدّاها ، والمفروض أنّها غير قابلة لذلك

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٥٣

بلحاظ مؤدّاها ، لأنّ مؤدّاها ليس موضوعا لحكم شرعي في نفسه لا ضمنا ولا استقلالا ، ومعه لا يتحقّق فرد من موضوع الدليل.

وإن كان القطع مع المقطوع كلاهما جزءين لموضوع حكم شرعي واحد ، فهنا أيضا لا يعقل جعل الحجّة كما ذكرنا سابقا من أنّ تنزيل شيء منزلة الواقع ظاهرا مع كون الجزء الآخر هو القطع ، أمر غير معقول ، وإنّما ينحصر هذا المطلب بما إذا كان للمؤدّى أثر شرعي في نفسه قابل للتنجيز ، وكان هناك أثر آخر مترتب على القطع ، فحينئذ ، دليل الحجيّة يشمل المؤدّى بلحاظ أثر المؤدّى في نفسه ، وبهذا يتحقّق أثر وجداني لموضوع دليل القطع الموضوعي ، فيشمله دليل القطع الموضوعي.

هذا تمام الكلام في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وبقي الكلام في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي الصفتي.

٤ ـ الجهة الرابعة : في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي الصفتي :

وليس في هذه الجهة مزيد كلام بعد أن اتضحت حيثيّات البحث في الجهة السابقة ، إذ بناء على مسلكنا في الجهة السابقة ، وهو عدم قيام الامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي ، يكون عدم قيام الامارات مقام القطع الموضوعي الصفتي بطريق أولى ، وبنفس النكات الّتي تقدّمت في الطريقي ، لكن بنحو أوضح.

وأمّا بناء على مسلك الميرزا «قده» الّذي يقول بقيام الامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي تبعا للشيخ الأنصاري «قده» ، فحينئذ ينفتح الكلام في قيام الامارات مقام القطع الموضوعي الصفتي وعدمه.

وهنا ينبغي القول : بأنّ مجرد افتراض تلك العناية الّتي بذلها الميرزا «قده» في تتميم قيام الامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي هناك ، فإنّها لو بذلت لتنتج المطلوب هنا ، أو ما أنتجته هناك ، لا تكفي

٢٥٤

ما لم يضف إليها عناية أخرى ، وذلك لأنّ تلك العناية كانت عبارة عن دعوى جعل الطريقية وأنّ مفاد دليل الحجيّة جعل الامارة علما وكاشفا ، فيترتب عليه كل ما يترتب على العلم من الآثار والّتي منها الأحكام المجعولة على القطع الموضوعي الطريقي ، فهذه العناية لا تفيد بناء على ما ذكرنا في الجهة الأولى ، حيث ذكرنا ، انّ التفسير العرفي للقطع الموضوعي الصفتي هو عبارة عن كون القطع مأخوذا في موضوع الحكم بلحاظ معلولاته النفسانية من إزالة القلق وإيجاد الاستقرار ونحوه ، بينما القطع الموضوعي الطريقي عبارة عن أخذ العلم بما هو ، بلا ضمّ لحاظ معلولاته النفسانية إليه ، وحينئذ ، لو تمّ كون مفاد دليل الحجيّة هو جعل الامارة علما ، وتمّت شروط الحاكميّة في دليل الحجيّة على دليل القطع الموضوعي ، فمن الواضح أنّ غاية ما يصنعه دليل الحجيّة هو ، أنّه يجعل الامارة علما وكاشفا ، لكن لا يجعلها كذلك بلحاظ معلولات العلم ، إذ انّ هذا هو القدر المتيقن ممّا يصنعه دليل الحجيّة.

إذن فإقامة الامارة مقام القطع الموضوعي الصفتي بحاجة إلى عناية أزيد اعتبارية على اصطلاح الميرزا «قده» ، أو أزيد تنزيليّة على اصطلاح آخر كي يكمل ذلك الاعتبار النفساني ، وهو غير موجود في دليل الحجيّة ، سواء كان لفظيا أو كان السيرة.

هذا تمام الكلام في الجهة الرابعة.

وقد اتضح بهذه المسألة ، انّ الامارات والأصول تقوم مقام القطع الطريقي الصرف ، ولكن لا تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي ، فضلا عن القطع الموضوعي الصفتي ، خلافا للمشهور.

٢٥٥

تنبيه

ينبغي التنبيه ، على أنّه بناء على ما عليه المشهور والميرزا «قده» من قيام الامارات مقام القطع الطريقي والموضوعي معا ، ينبغي التنبيه على أنّ حاكمية دليل الحجيّة على أدلة الأحكام الواقعية بلحاظ القطع الطريقي ، تكون حاكمية ظاهرية ، مرجعها إلى توسعة دائرة التنجيز والتعذير فقط ، لا حاكمية واقعية ، فمثلا : الامارة القائمة على أنّ زيدا عادل ، هذه الامارة تقوم مقام القطع الطريقي بعدالته بلحاظ جواز الائتمام به ، وقيامها مقام القطع الطريقي مرجعه إلى توسعة دائرة التنجيز والتعذير اتجاه الأحكام الواقعية ، وهذا ما نسميه بالحكومة الظاهرية على الأحكام الواقعية ، ومن شئون كونها ظاهرية ، إنّ لها انكشاف الخلاف ، لأنّه يوجد واقع محفوظ في نفس الأمر مشترك بين العالم والجاهل ، فهذه التوسعة لها انكشاف الخلاف :

وأمّا قيامها مقام القطع الموضوعي الّذي مرجعه إلى كونها حاكمة على أدلة القطع الموضوعي ، فهذه الحاكمية حاكمية واقعية ، وإن كانت مدرسة الميرزا «قده» غير واضحة في هذا التمييز بين كونها واقعية أو ظاهرية ، فهنا يثبت الحكم الواقعي حقيقة بالاعتبار أو التنزيل على الاختلاف.

ونكتة كونها واقعية هي ، أنّه لم يؤخذ في موضوع هذه الحاكمية الشك ، وإنّما أنشئ هذا الحكم إنشاء بنفس الدليل الحاكم ، فبقطع النظر

٢٥٦

عن هذه الحاكمية لم يحتمل وجود الحكم ، لأنّ الحكم مترتب على القطع ، وهو منتف وجدانا ، فلم يكن هناك شك في وجود هذا ، وإنّما أنشئ هذا الحكم بنفس الدليل الحاكم ، فحاكمية دليل الحجيّة على دليل القطع الموضوعي من قبيل حاكمية دليل «الطواف بالبيت صلاة» على دليل «لا صلاة إلّا بطهور» ، أي حاكمية واقعية ، ولهذا لا يتصور لها انكشاف الخلاف ، كما أنّه لا يتصور بعد أن يقول : «الطواف بالبيت صلاة» انكشاف الخلاف ، لأنّ هذا التنزيل واقعي ، والواقعي لا يتبدل ، فلا معنى لانكشاف الخلاف فيه.

وهناك نكتة أخرى لا بدّ من التنبيه عليها وهي : انّه لو قلنا بقيام الامارات مقام القطع الطريقي ، ومقام القطع الموضوعي معا ، فالميرزا «قده» حينئذ ، هل يقول : بأنّ هذين التنزيلين أو القيامين مترابطان بحيث أنّ أحدهما موقوف على الآخر؟ بمعنى أنّ قيام الامارة مقام القطع الموضوعي فرع قيامها مقام القطع الطريقي ، أو أنّه لا تلازم بينهما؟ ويترتب على ذلك بعض الثمرات.

منها : مثلا لو فرض أنّ الفقيه أراد أن يستنبط حكم الحائض الّذي هو خارج عن محل ابتلائه واستند إلى الامارة في ذلك ، فهذه الامارة بالنسبة للفقيه لا تقوم مقام القطع الطريقي ، لأنّ هذا الحكم لا يقبل التنجيز بالنسبة للفقيه حتّى لو قطع به فكيف بالامارة ، إذن ، فلا معنى للقول : بأنّ هذه الامارة حجّة على الفقيه بلحاظ قيامها مقام القطع الطريقي.

وإنّما هي حجّة على الحائض باعتبار قيامها مقام القطع الطريقي للحائض ، وهذا شيء آخر.

نعم لو أريد تسجيل حجيتها على الفقيه ابتداء ، فهذه لا تكون بقيامها مقام القطع الطريقي ، بل يكون بقيامها مقام القطع الموضوعي ، لأنّ جواز

٢٥٧

الإفتاء حكم مترتب على القطع ، لأنّه لا يجوز الإفتاء إلّا بعلم ، فالعلم موضوع لجواز إفتاء الفقيه لا طريق ، وحينئذ ، الامارة تقوم مقام قطع الفقيه بلحاظ جواز الإفتاء ، فكما أنّ الفقيه لو قطع بحرمة دخول الحائض إلى المسجد يجوز له إفتاؤها بذلك ، فكذلك عند قيام الامارة على ذلك. فيجوز له أن يفتيها ببركة قيام الامارة مقام القطع الموضوعي.

ولكن هنا نسأل : بأنّ هذه العملية صحيحة أم لا؟.

وهذه العملية على مبنانا من عدم قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ، غير صحيحة ، أمّا كيف يستند الفقيه إلى هذه الامارة فقد تقدّم الكلام فيه.

وخلاصته هي ، انّ لهذه الامارة أثر بلحاظ نفس العلم بها الواقع موضوعا للحكم بجواز الإفتاء الّذي هو الحكم الداخل في ابتلاء الفقيه ، ويفرض أنّه يطبق الامارة على إفتاء الحائض فيفتيها بها.

وأمّا على مبنى قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ، فإن قيل بأنّ قيام الامارة مقام القطع الموضوعي في طول قيامها مقام القطع الطريقي ، فالامارة الّتي تقوم مقام القطع الطريقي هي الّتي تقوم مقام القطع الموضوعي ، إذن لا تصح هذه العملية ، لأنّ هذه الامارة بالنسبة للفقيه لا تقوم مقام القطع الطريقي كما عرفت ، وعليه ، فلا تقوم مقام القطع الموضوعي أيضا ، وذلك للطولية بينهما.

وإن فرض أنّ كلا منهما مستقل عن الآخر ، فحينئذ ، تصح هذه العملية ، فيطبق الفقيه دليل حجيّة الامارة القائمة على حرمة دخول الحائض إلى المسجد على نفسه مباشرة ، لكن لا بلحاظ قيام الامارة مقام القطع الطريقي ، بل بلحاظ قيامها مقام القطع الموضوعي ، وحينئذ ، هذا الفقيه يفتي المرأة بحرمة دخولها إلى المسجد.

والّذي يبدو ، انّ هذه المسألة ـ وهي أنّ قيام الامارة مقام القطع

٢٥٨

الموضوعي هل هو في طول قيامها مقام القطع الطريقي أم لا ـ تختلف باختلاف المدارك.

فإن بنينا على مبنى الميرزا «قده» من أنّ مفاد دليل الامارة هو جعل الامارة علما ويترتب عليه حينئذ كل آثار العلم ، حينئذ ، قيام الامارة مقام القطع الموضوعي يكون في عرض قيامها مقام القطع الطريقي ، وحينئذ ، لو فرض ان تعطل أحدهما فلا بأس بإعمال الآخر.

وأمّا لو بنينا على مشرب حاشية الآخوند «قده» وقلنا : بأنّ دليل الحجيّة يدلّ بالمطابقة على قيام الامارة مقام القطع الطريقي ، وبالالتزام على قيامها مقام القطع الموضوعي ، حينئذ ، تكون هناك طولية بينهما ، فلا يجري التنزيل الثاني ليعقل التنزيل الأول كما عرفت.

ومن هنا لا يمكن قيام الامارة مقام القطع الموضوعي فيما إذا لم يكن للمقطوع أثر أصلا ، إذ في هذه الحالة لا يعقل تنزيل المؤدّى منزلة المقطوع والواقع ، وما دام هذا التنزيل بحاجة الأثر للواقع المقطوع ، فلا تصل النوبة إلى تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، إذ مع عدم الأثر للمنزل عليه ، لا يعقل تنزيل المؤدّى منزلة الواقع لتصل النوبة إلى تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، ومن هنا : كلّما كان القطع بالخمرية مثلا ، تمام الموضوع للحكم ولم يكن للخمرية حكم أصلا ، حينئذ ، لا يعقل قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ، إذ لا يعقل تنزيل المؤدّى منزلة الخمر الواقعي ، لأنّه لا أثر شرعي للخمر الواقعي.

وهناك توهم ، وهو أنّ الأثر موجود ، وهو قيد للقطع ، باعتبار أنّ الحرمة مترتبة على القطع بالخمرية لا على القطع بشيء آخر ، فالخمرية قيد للقطع ، وعليه فالخمرية تكون قيدا في موضوع الحكم الشرعي ، وهذا يكفي لقيام الامارة مقامه.

٢٥٩

ولكن هذا غير صحيح ، وذلك ، لأنّ القيد هنا عنوان الخمرية لا واقعها خارجا ، لأنّ المفروض أنّ القطع بالخمرية هو تمام الموضوع ، أي سواء كان خمرا في الواقع أم لا ، إذن الخمرية بوجودها الخارجي ليست قيدا ، بل هي قيد بوجودها اللحاظي التصوري في عالم جعل الحكم ، وهذا لا ربط له بتنزيل المؤدى منزلة الواقع الّذي هو ناظر إلى الخمر الخارجي.

وعليه : فبناء على الطولية لا يمكن قيام الامارة مقام القطع الموضوعي.

ومن مجموع هاتين النكتتين يتوجه على الميرزا «قده» إشكال لا يمكن لمدرسة الميرزا الالتزام به ، وهو منبه فقهي إلى بطلان الأصول الموضوعية الّتي أساسها قيام الامارة مقام القطع الموضوعي.

وحاصل هذا الإشكال هو ، أنّ الفقيه إذا قامت عنده الحجّة على حكمين إلزاميّين ، كحرمة دخول الحائض إلى المسجد وقامت عنده حجّة أخرى على حرمة مقاربتها ، فكل من الامارتين سوف تقوم مقام القطع الموضوعي بلحاظ جواز الإفتاء كما عرفت ذلك ، فلو فرض انّ هذا الفقيه كان يعلم إجمالا بكذب إحدى الامارتين ، وانّ أحد التحريمين غير ثابت في الواقع ، فحينئذ ، نقول : بأنّه لا إشكال في أنّ هذا العلم الإجمالي يقتضي عدم جواز إفتائه بكلتا الحرمتين ، وذلك لوقوع التعارض ما بين الامارتين ، ولكن إذا بنينا حسب التصورات الأخرى ، وفرضنا أنّ الامارة حجّة على الفقيه بلحاظ قيامها مقام القطع الموضوعي ، إذن ، فيكون دليل حجيّة هذه الامارة حاكما على دليل جواز الإفتاء وموسعا لدائرته ، فإنّ موضوع دليل جواز الإفتاء هو القول بعلم ، فدليل الحجيّة يوسع العلم ويقول : هذا قول بعلم ، وهذه الحاكمية ، حاكمية واقعية ، ومن نتائجها أنّه معها لا انكشاف للخلاف ، فلو فرض أنّ الامارة كانت

٢٦٠