بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

في كل من الموردين تقوم مقام القطع الموضوعي ، فلا يلزم منه طرح تكليف واقعي معلوم بالإجمال ، بخلافه في موارد إعمال الامارة مقام القطع الطريقي ، فإنّه لو علم إجمالا بكذب إحدى الامارتين ، فحينئذ ، يلزم منه طرح التكليف المعلوم بالإجمال ، وعليه : فلما ذا لا يجوز للفقيه أن يفتي بحكمين للمرأة الحائض مع علمه أنّ إحدى الامارتين غير مطابقة للواقع في صورة قيامها مقام القطع الموضوعي؟ وإنّما يضرّ لو كانت الحاكمية ظاهرية ، وأمّا إذا كانت الحاكمية واقعية فلا يضرّ؟.

والصيغة النهائية لهذا النقص ، هي أنّه يلزم على مبنى الميرزا من قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ـ بعد الالتفات إلى كون الحاكمية حاكمية واقعية ـ يلزم أن لا يكون مبطلا لإقامة الثانية مقام القطع الموضوعي في موارد كون الأثر مترتبا على القطع فقط ، لأنّه قد وجد تمام الموضوع في كل من الواقعتين ، ومعه يكون دليل الحجيّة شاملا لكل منهما على هذا المبنى.

وبهذا التنبيه تمّ البحث في أقسام القطع وما يقوم من الامارات والأصول مقامه.

٢٦١

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم

القطع الموضوعي تارة يكون قطعا بشيء خارجي ، من قبيل أن يؤخذ القطع برجوع الحج موضوعا لحكم شرعي كوجوب الصدقة ، وأخرى يؤخذ القطع بالحكم موضوعا للحكم ، وعلي الثاني ، فتارة يكون هذان الحكمان إمّا متخالفين ، وإمّا متضادين ، وإمّا متماثلين ، ورابعة متحدين.

أمّا القسم الأول : ـ وهو أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم يخالفه ـ فهو ممّا لا إشكال في إمكانه ، كما لو قال : «إذا قطعت بوجوب الصدقة ، فصم» فأخذ القطع بوجوب الصدقة في وجوب الصوم.

وأمّا القسم الثاني : وهو أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم مضاد له ، كما لو قال : «إذا قطعت بوجوب الصّلاة حرمت الصّلاة عليك» ، أو إذا قطعت بحرمة الخمر رخّصتك بشربه ، وهذا بحسب الحقيقة عبارة أخرى عن جعل حكم رادع عن طريقية القطع وكاشفيته ، وهذا عين ما ذكرناه سابقا ـ لكن بعنوان آخر ـ من أنّه لا يعقل الردع عن القطع من قبل الشارع ، لأنّه إذا أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مضاد ، فمعناه : انّ الشارع أعمل مولويته في الردع عن العمل بالقطع ، وهذا غير معقول لنفس البيان السابق والّذي كان حاصله :

إنّ هذا الحكم المضاد الّذي أخذ في موضوعه القطع بالحكم

٢٦٢

المضاد له ، إمّا أن يكون حكما حقيقيا ، أو طريقيا ، فإن كان حكما حقيقيا ـ بمعنى كون الحكم ناشئا من مبادئ وملاكات في متعلقه ـ إذن يلزم اجتماع الضدين واقعا في طرفي الإصابة ، لأنّ كلا من الحكمين حقيقي ، بمعنى كونه واجدا لمبادئ حقيقية في متعلقه ، وقد ثبت في محله ، انّ الأحكام الحقيقية متضادة بحسب عالم الملاكات.

وإن كان هذا الحكم المترتب في المقام حكما طريقيا ـ أي الحكم الّذي لم ينشأ من مبادئ في متعلقه ـ بل نشأ من أجل التحفظ على مبادئ موجودة في متعلقات أحكام أخرى ـ وبهذا سوف نجمع بين الأحكام الواقعية والطريقية ونرفع شبهة ابن قبّة ـ إذن فهذا لا يضاد الحكم الحقيقي ، لكن الحكم الطريقي هنا غير معقول ، لأنّه لا يعقل إلّا مع الشك في تلك الملاكات الّتي يراد حفظها بهذا الحكم الطريقي ، وأمّا مع القطع والعلم ، فلا يعقل جعله ، كما تقدّم بيانه سابقا.

وأمّا القسم الثالث : وهو أن يكون القطع بالحكم مأخوذا في موضوع حكم مماثل له ، كما لو قال : «إذا قطعت بحرمة الخمر حرمته عليك» لكن بحرمة أخرى ، وهذا بحسب الحقيقة عين ما بحثناه في التجري من جعل خطاب للحرمة على المتجري بعنوان مقطوع الحرمة بنحو يشمل المتجري والعاصي ، إذ هناك ذكرنا أنّه هل يعقل أن يجعل الحرمة على المتجري؟ لكن بعنوان أعم منه ومن العاصي ، غايته أنّ ذاك كان في خصوص الأحكام الإلزامية ، وهو هنا أعم.

وحينئذ ، نفس تلك البراهين المدعاة هناك على استحالة جعل حرمة على المتجري بعنوان مقطوع الحرمة ، تأتي هنا مع أجوبتها ولكن هنا نضيف مطلبا جديدا على ما تقدّم.

وحاصله : هو أنّه قد يبرهن على استحالة أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مثله بما حاصله :

٢٦٣

إنّه إذا أخذ القطع بالحرمة في موضوع الحرمة ، فحينئذ ، إمّا أن نلتزم في مورد اجتماع الحرمتين بتعدّد الحرمة حقيقة وإمّا أن نلتزم بالتوحد والتأكد ، وكلاهما محال ، إذن فالمقدم مثله محال.

أمّا بطلان التعدّد فلمحذور اجتماع المثلين ، لأنّ هاتين الحرمتين عرضان متماثلان على موضوع واحد.

وأمّا بطلان التأكد فهو مستحيل ببيانين.

أ ـ البيان الأول : هو أنّ هاتين الحرمتين طوليتان ، حيث أخذ في موضوع إحداهما القطع بالأخرى ، وباعتبار هذه الطولية بينهما يستحيل أن تتوحد الحرمتان والحكمان ، لأنّ الحرمة المترتبة أخذ في موضوعها القطع بالحرمة الأولى ، إذن فهي في طول الأولى ، ففرق بين حرمتين من هذا القبيل ، وبين حرمتين من قبيل : «لا تغصب ، ولا تشرب العصير العنبي» ، فهنا لا بأس باجتماعهما ، حيث أنّه يكون شيء عصير عنبي ، ومغصوب ، فتجتمع الحرمتان بنحو التأكد ، لأنّ الحرمتين هنا ليستا طوليتين ، وأمّا في محل الكلام فإنّه لا يعقل توحدهما ، لأنّ إحداهما في طول الأخرى ، وإلّا فلو وجدا بوجود واحد لزم تقدم المتأخر ، وتأخر المتقدم.

وهذا البيان سنخ ما تقدّم في بحث المقدّمات الداخلية ، حيث قيل فيها : بأنّ المقدّمات الداخلية تتصف بالوجوب الغيري كالمقدّمات الخارجية.

ونوقش ذلك ، لكن تارة بعدم المقتضي ، وأخرى بوجود المانع ، وهو أنّ المقدّمات الداخلية معروضة الوجوب النفسي ، فلو اتصفت بالوجوب الغيري لزم اجتماع المثلين ، وحينئذ ، قيل : بأنّه نلتزم بالتأكد.

وقد قلنا هناك : بأنّ التأكد مستحيل باعتبار الطولية بينهما ، فإنّ

٢٦٤

الغيري في طول النفسي ، وحينئذ لا يعقل التأكد ، وحينئذ ، فسنخ ذلك الإشكال يأتي في المقام ، فإنّ الحكمين هنا طوليان فلا يعقل التأكد.

ب ـ البيان الثاني : لإبطال التأكد هو أن يقال : بأنّه لو قطعنا النظر عن الطولية ، والتزمنا بالتأكد ، فالتأكد بحسب عالم الجعل لا يعقل أن يكون بمعنى أنّ أحد الجعلين يتحرك ويندفع عن الجعل الآخر ويتوحد معه ، بل لا بدّ وأن يكون بمعنى أنّ مادة الاجتماع للجعلين يكون الحرمة فيها مجعولة بجعل ثالث ، لكن بنحو شديد بحيث أنّ المولى في عالم الجعل يخرج مادة الاجتماع عن كل من الجعلين ، ويجعلها محرمة بجعل ثالث بنحو أكيد ، ومادة الاجتماع هي الحرام المقطوع الحرمة ، وإخراجه من دليل «لا تشرب الخمر» ، بأن يقيّد دليل «لا تشرب الخمر» بغير مقطوع الحرمة ، ومن خطاب «لا تشرب مقطوع الحرمة» يستثني ما إذا كان مقطوع الحرمة حراما في الواقع ومصادفا له ، ويبقى تحته مقطوع الحرمة الّذي يكون قطعه غير مصادف للواقع ، ويجعل بجعل ثالث على مادة الاجتماع ، وهو الحرام المقطوع الحرمة ، وقد استشكل في كلا هذين الجعلين.

والحاصل : هو أنّه اتضح استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع مثله.

وكان خلاصة برهان الاستحالة هو ، أنّه في مورد الاجتماع ، إمّا أن يلتزم بتعدد الحكم ، أو بالتأكد ، والتعدد معناه ، اجتماع المثلين ، والتأكد محال باعتبار الطولية بين الحكمين المتماثلين.

والجواب على ذلك : هو أنّ الكلام إن كان بلحاظ عالم الحكم والجعل ، فالمتعيّن هو الالتزام بالشق الأول ، وهو القول بتعدد الحكم ، ولا يلزم منه محذور اجتماع المثلين ، لأنّ هذا المحذور إنّما يكون في الصفات الحقيقية الخارجية الاعتبارية.

٢٦٥

وإن كان الملحوظ هو عالم ملاكات الحكم الّتي هي من الصفات الحقيقية ، فالمتعين هو الالتزام بالشق الثاني ، وهو التأكد ، ولا محذور.

ودعوى أنّه لا يعقل التأكد في المقام ، لأنّ أحد الحكمين متأخر رتبة عن الآخر ، فكيف يعقل وجودهما بوجود واحد؟.

هذه الدعوى يكفي في جوابها أن يقال : إنّ التأخر والتقدم بين الحكمين من سنخ التأخر والتقدم بالطبع ، حيث أنّ الحكم الثاني أخذ في موضوعه القطع بالحكم الأول ، فكأنّه لا تصل النوبة إلى الثاني إلّا وقد فرغ عن الأول ، فهو تقدم بالطبع لا بالعليّة ، لوضوح أنّ الأول لم يجعل علّة للثاني ، وإنّما القطع به أخذ موضوعا للثاني ، فتقدّم الأول على الثاني إنّما هو بالطبع ، والمتقدم بالطبع مع المتأخر بالطبع قد يوجدان بوجود واحد كما في الجزء والكل ، فإنّ الجزء موجود بنفس وجود الكل ، إلّا أنّ الجنس متقدم على النوع بالطبع ، بمعنى أنّ كل ما فرض للنوع وجود فرض للجنس وجود دون العكس ، وهذا هو ميزان التقدم بالطبع.

نعم التقدم والتأخر بالعلية ينافي التوحد في الوجود ، لأنّ أحد الشيئين إذا كان علّة والآخر معلولا لا يوجدان بوجود واحد ، بل هو محال ، لأنّه يلزم أن يكون وجودا واحدا علّة لنفسه ، إذن ، أخذ القطع بالحكم في موضوع مثله معقول.

وأمّا القسم الأخير وهو أخذ القطع بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم ، فالكلام فيه في مقامين :

المقام الأول : هو في أخذ القطع بالحكم شرطا في موضوع شخص ذلك الحكم ، بحيث يناط ثبوت الحكم بالعلم به.

المقام الثاني : في أخذ العلم بالحكم مانعا في موضوع شخص ذلك الحكم ، بحيث يناط الحكم بعدم العلم به.

٢٦٦

أمّا المقام الأول : وهو أخذ العلم بالحكم شرطا في موضوع شخص ذلك الحكم ، فالمعروف بينهم استحالة ذلك.

ولعلّ الأصل في دعوى الاستحالة هو العلّامة «قده» ، فإنّه في بحوثه الكلاميّة ، وفي مقام الردّ على العامّة القائلين بالتصويب ، وبأنّ التصويب محال قال «قده» لأنّ معناه ، انّ الأحكام مخصوصة بمن يعلم بها ، ومن لم يعلم بها لا يكون مخطئا ولا يكون جاهلا ، لأنّ الجاهل هو أن يثبت له حكم وهو لا يدري ، فإذا فرض أنّ الأحكام مختصة بالعالم ، إذن فالجاهل نسميه جاهل ، وإلّا فهو بحسب الحقيقة لم يجهل ما هو ثابت في حق نفسه ، فأشكل عليه العلّامة «قده» (١) ، بأنّ هذا يلزم منه المحال ، وهو أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه وهو دور ، لأنّ الحكم إذا أخذ في موضوعه العلم به ، يكون الحكم متوقف على العلم توقف الحكم على موضوعه ، والعلم بالحكم في طول الحكم ، فيتوقف العلم على معلومه ، فيلزم التوقف من الجانبين ، وهذا دور ، إذن فالتصويب باطل.

ثمّ انّ المسألة دخلت علم الأصول تحت صياغة ، انّه هل يعقل أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه أم لا؟ وترتب على هذا ثمرات كثيرة كما سوف يأتي.

وتحقيق الحال هو أن يقال : ان أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه ، تارة يكون بنحو بحيث يكون المأخوذ في الموضوع هو القطع والمقطوع معا ، أي أنّه يؤخذ في موضوع شخص الحكم ، القطع به ، ومصادفة هذا القطع للواقع الّذي معناه أخذ المقطوع أيضا.

والتعبير الآخر عن هذا الافتراض ، هو أن يقال : إنّ القطع بشخص

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : الحلي ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

٢٦٧

الحكم له معلوم بالذات ، وهو الصورة القائمة في أفق نفس العلم ، وله معلوم بالعرض ، وهو المطابق الخارجي ، فحينما نأخذ القطع بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم ، فتارة ، نأخذه بما هو مضاف إلى معلومه بالعرض ، حيث أنّ كل علم له إضافة لمعلومه بالذات ، وإضافة إلى معلومه بالعرض إن كان له ذلك ، أي كان مطابقا للواقع ، فأخذ القطع بالحكم بما هو مضاف إلى معلومه بالعرض ، مساوق لأخذ نفس المعلوم بالعرض في الموضوع ، وحينئذ يكون القطع والمقطوع معا مأخوذين في موضوع شخص نفس الحكم ، وهذا واضح الاستحالة ، فإنّه دور ، بل أشدّ ، لأنّه لا يحتاج إلى دوران ، إذ يلزم منه بالعبارة الواحدة توقف الشيء على نفسه ، لأنّ المفروض انّ القطع والمقطوع كلاهما أخذا في موضوع شخص الحكم ، والمقطوع هو شخص الحكم ، إذن قد أخذ شخص الحكم في موضوع شخص الحكم ، وهذا توقف للشيء على نفسه مباشرة بلا دوران ، فيكون مستحيلا.

وتارة أخرى ، يفرض أنّ العلم بالحكم يكون مأخوذا في موضوع شخصه ، لكن لا بما هو مضاف إلى معلومه بالعرض ، بل نفس العلم يكون دخيلا في موضوع العلم بالحكم ، وفي مثله ، الصياغة الفنية للدور بحسب عالم الحكم الّتي أشرنا إليها فيما سبق يكون موردا للمناقشة.

وذلك : لأنّ هذا الحكم موقوف على العلم توقف الحكم على موضوعه ، لأنّ المفروض أنّ العلم أخذ موضوعا للحكم ، فالحكم متوقف على الموضوع ، وهو العلم ، لكن العلم غير متوقف على الحكم ، فإنّ كل علم بحسب وجوده التكويني إنّما يتقوم بمعلومه بالذات لا بمعلومه بالعرض الّذي هو الحكم ، فالمعلوم في الحقيقة هو الصورة الذهنية القائمة في أفق نفس العالم ، أمّا مطابقها الخارجي ، وهو الحكم الشرعي ، فهذا لا يتقوم العلم به ، وإنّما يستحيل أن يكون العلم متقوما به ، لأنّ العلم لا يتقوم بما هو خارج أفق عالم النفس ، ولهذا قد يفرض

٢٦٨

أنّ العلم ليس له معلوم بالعرض كما هو الحال في موارد عدم إصابة العلم للواقع ، فإنّ هناك علما لكنّه متقوم بالمعلوم بالذات لا بالعرض ، فهنا العلم بالحكم لا يتوقف على وجود الحكم الشرعي وثبوته الخارجي ، أي على المعلوم بالعرض ، بل يتوقف على صورة ذهنية لهذا الحكم الشعري ثابتة في أفق نفس العالم ، أي أنّه يتوقف على المعلوم بالذات ، إذن فلا دور ، لأنّ الحكم الشرعي بوجوده الخارجي يتوقف على العلم توقف الحكم على موضوعه ، بينما العلم ليس متوقفا على الوجود الخارجي للحكم الشرعي ، بل على صورته الذهنية القائمة في أفق نفس العالم ، وهي الّتي تسمّى بالمعلوم بالذات.

ومن هنا استشكل في محذور الدور ، ومن ثمّ صاروا بصدد التعويض عن الدور ببيان آخر يثبت الاستحالة.

وقد تمثل هذا البيان بثلاثة وجوه أخرى لتوضيح استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه.

١ ـ الوجه الأول : هو أن يقال : إنّ هذا المطلب على خلاف الطبع التكويني للقطع.

وتوضيحه هو ، انّ القطع ، من خصائصه التكوينيّة الكشف والإراءة ، ولا يعقل عزله عن هذه الخصوصية ، ومن خصائص هذه الكاشفية تكوينا هي أنّ القطع يري القاطع شيئا مفروغا عنه ثابتا بقطع النظر عن قطعه ، فالقطع دوره دور الكاشفية والمرآة ، فكما أنّ المرآة ترى صورة الشخص أنّه موجود بقطع النظر عن القطع ، بل هذه خصيصة تكوينيّة للقطع ثابتة بالوجدان ، وحينئذ ، إذا سلّمنا هذا الوجدان ، نقول : بأنّه إذا أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه ، فحينئذ هنا ، إمّا أن يحصل القطع بحكم ثابت بلحاظ هذا القطع ، وإمّا أن يحصل القطع بحكم ثابت بقطع النظر عن هذا القطع.

٢٦٩

فإن قيل بالأول ، فهذا خلف تلك الخصيصة التكوينيّة ، لأنّ هذا معناه : إنّنا بالقطع نرى شيئا يتولّد من القطع.

وإن قيل بالثاني ، فهذا معقول ، لكن هذا غير شخص الحكم ، لأنّ شخص الحكم قد قيّد بالقطع ، إذن فنحن لم نقطع بشخص ذلك الحكم ، بل بغيره ، والقطع بغيره لا يترتب عليه شخص الحكم ، لأنّ شخص ذلك الحكم إنّما يترتب على القطع بشخصه ، إذن ، فيلزم الخلف في المقام بهذا البيان ، وهذا الوجه تام.

٢ ـ الوجه الثاني : هو لزوم اللغوية ، وذلك بتقريب أنّ شخص هذا الحكم سوف يثبت لمن يقطع به ، أي أنّه في المرتبة السابقة على ثبوت هذا الحكم ، لا بدّ وأن يكون هناك قطع به ، وحينئذ ننقل الكلام إلى تلك المرتبة السابقة ونقول :

هذا اقطع بالحكم الثابت في المرتبة السابقة ، إن كان كاف لمحركيّة العبد ، إذن لا فائدة في الحكم الّذي سوف ينشأ منه ، وإن لم يكن كافيا لذلك ، وكان المكلّف بانيا على العصيان مثلا ، إذن فالحكم الناشئ منه سوف يكون حاله حال الأول ، فلا يعقل أن يكون للحكم المترتب على القطع فائدة في مقام العمل ، لأنّه في طول الوصول ، فإن كان الوصول والقطع السابق كافيا في التحريك ، إذن فلا أثر له ، وإلّا فلا يصلح للتحريك.

وسنخ هذا البرهان ذكره السيّد الخوئي «قده» (١) في بحث التجري لإثبات استحالة أخذ القطع بالحرام الواقعي في موضوع حرمة التجري ، بدعوى : أنّ القطع بحرمة الخمر الواقعية ، إن كان كافيا في التحريك ، فلما ذا تجعل حرمة التجري ، وإلّا فحال الحرمة الثانية حال الأولى.

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٢٠.

الدراسات : ج ٣ ، ص ٢٩.

٢٧٠

وهذا البرهان كان هناك غير صحيح ، ولكنّه هنا صحيح.

أمّا عدم صحته هناك ، فلأنّ المفروض أنّ الحرمة المترتبة على القطع غير الحرمة المقطوعة ، إذن فقد يقال : إنّه من اجتماعهما يلزم التأكد ، والمكلّف قد لا يتحرك عن تكليف واحد ، ولكنّه يتحرك عن التكليف الأشد الأقوى ، وحينئذ فلا يلزم محذور اللغوية هناك.

ولكن هذا بخلافه هنا في المقام ، فإنّ المفروض أنّه قد أخذ القطع بالتكليف في موضوع شخصه ، إذن ، ثبوت هذا التكليف لا بضم تكليف إلى تكليف آخر ، أي يتعيّن نفس التكليف ، فتكون صورة البرهان هنا أوضح ، لأنّ المكلّف لا يستطيع أن يحمل إلّا تكليفا واحدا ، سواء جعل عليه هذا الحكم أم لا ، وجعل هذا الحكم لا يزيد في عدد التكاليف ، فيقال : إنّ هذا القاطع إن كفاه هذا القطع للتحريك ، فلا فائدة لجعل شخص الحكم ، وإن لم يكفه فالأمر كذلك.

ولكن يرد على الوجه الثاني بأن يقال : إنّ فائدة جعل الحكم في المقام هو ، إيجاد هذا العلم.

وتوضيحه هو ، إنّ هذا البيان الّذي بين في الوجه الثاني يمكن إيراده في جميع الموارد حتّى بالنسبة إلى حكم لم يؤخذ القطع به في موضوع شخصه ، فمثلا : وجوب الصّلاة المترتب على طبيعي المكلّف ، سواء كان قاطعا أو جاهلا ، وحينئذ نقول : بأنّ وجوب الصّلاة إنّما يترقب أن يؤثر بالنسبة إلى من انكشف له الوجوب ووصل إليه بمرتبة من المراتب ، وأمّا من لم يصل إليه ، فالوجوب ليس مؤثرا ، ومن وصل إليه الوجوب ، فهو على كلّ حال سوف يتحرك ، سواء كان هناك وجوب أم لا ، إذن جعل وجوب الصّلاة لغو ، وأمّا من لم يصل إليه الوجوب ، فحينئذ سواء كان وجوب أم لا ، سوف لا يتحرك ، إذن فهذا الجعل لغو على كلا التقديرين.

٢٧١

وهذا يكشف عن انّ هذا البيان مغالطة إذن.

وحلها : هو أنّه في سائر الموارد ، جعل الوجوب بنفسه هو الّذي يحقّق العلم ، فالجعل أحد العوامل المؤثرة في تكوين القطع ، ويكفي في ذلك فائدة ، فعلمنا بوجوب الفجر إنّما هو لجعله.

ونفس هذا البيان يأتي في محل الكلام ، فلو قطع النظر عن أيّ برهان وبقينا نحن وهذا البرهان حينئذ نقول : بأنّ فائدة جعل هذا الحكم هي أنّه بدونه لا يحصل القطع ، فنحتاج لتكميل هذا البرهان إلى برهان آخر.

وإن شئت قلت : انّه يرد على هذا الوجه بأن يقال :

إنّ فائدة الجعل هنا ـ كما هي فائدته في جميع الموارد ـ هي أن يصل إلى المكلّف فيحركه ، إذن ، فالجعل بنفسه منشأ يتسبّب به لإيجاد العلم بالحكم ، كيف وهذا السنخ من الإيراد لو تمّ لأمكن أن يورد به على كل جعل ولو لم يؤخذ في موضوعه العلم به ، فمثلا يقال : إنّ وجوب الصّلاة إن أريد جعله في حق العالم به فهو لغو ، لأنّه يتحرك من علمه سواء كان هناك وجوب أم لا ، وإن أريد جعله في حق الجاهل فهو لا يتحرك عنه على كلّ حال.

والجواب واحد في الجميع ، وهو أنّ المحركيّة المصححة للجعل ، هو أن يحرك في طول وصوله ، ويكون نفس جعله من علل إيصاله.

٣ ـ الوجه الثالث : هو أن يقال : انّ أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه يلزم منه الدور ، لا في عالم الحكم فقط ، بل في عالم وصول الحكم ، بمعنى : انّ وصول الحكم دوري ، وكل جعل للحكم يكون وصوله دوريا يكون هذا الجعل مستحيلا.

وتوضيحه يكون ببيان مقدمتين.

٢٧٢

١ ـ المقدّمة الأولى : هي أنّ الأحكام الفعلية ، بمعنى المجعولات الّتي هي محل الكلام ، وصولها إنّما يكون بعد إحراز الجعل الكلّي بوصول موضوعاتها المقدرة الوجود ، فالعلم بالمجعول دائما تابع للعلم بموضوعه المقدّر الوجود ، كما في باب الأحكام المجعولة ، كوجوب الحج المجعول على المستطيع ، فإحراز وجوب الحج يكون بإحراز الاستطاعة ، ولا معنى لأن تحرز الاستطاعة بإحراز وجوب الحج ، إذ ليس للحكم المجعول صلاحية أن يدرك إدراكا مباشرا ، إذ هو ليس محسوسا بإحدى الحواس ، وإنّما إدراكه دائما يكون بلحاظ موضوعه ، فالعلم بالحكم المجعول معلول لموضوعه المقدر الوجود.

٢ ـ المقدّمة الثانية : هي أنّه إذا طبّقنا ما ذكر في المقدّمة الأولى على محل الكلام في الحكم الّذي أخذ في موضوعه القطع بشخصه ، يتضح لنا أنّ القطع بهذا الحكم موقوف على القطع بموضوعه كما عرفت في المقدّمة الأولى ، وموضوعه هو نفس القطع ، فينتج : انّ القطع بالحكم متوقف على القطع بالقطع بالحكم.

وحينئذ نقول : بأنّ القطع بالقطع بالحكم ، إمّا نفس القطع ، بدعوى أنّ هذا هو قانون كل الصفات الوجدانية ، فإنّ هذه الصفات كالقطع والظن ونحوهما معلومة بنفس وجودها لا بصورة زائدة عليها ، باعتبار أنّها بنفسها حاضرة لدى النّفس ، فعلمها الحصولي عين علمها الحضوري وليس زائدا عليه ، وحينئذ ، فالعلم بالقطع هو نفس وجود القطع لا شيء آخر وراءه كما هو الحال في العلم بزيد الّذي هو وراء وجود زيد.

فإمّا أن يقال هكذا ، أو يفرض أنّ العلم بالخصوص بالوجدان هو غير الوجدان ، بل هو علم حصولي ، بمعنى أخذ صورة عن هذا الوجدان ، كالعلم بالأمور الحسيّة ، فإنّ العلم بالأمور المحسوسة غير الإحساس ، فلو فرض ذلك ، حينئذ نقول :

٢٧٣

بأنّ هذا القطع بالصفة الوجدانية معلول للصفة الوجدانية ، وليس حاله حال القطع بالأمور الخارجية الّذي لا يتوقف على وجود معلوم بالعرض له في الخارج ، ولهذا لا يعقل الخطأ في القطع بالصفة الوجدانية.

وحينئذ إن ادّعينا أحد هذين الأمرين ، وهو أنّ القطع بالقطع هو نفس القطع ، إذن فهذا الدور واضح ، لأنّ القطع بالحكم يتوقف على القطع بموضوعه بحكم المقدّمة الأولى ، والقطع بالموضوع هو القطع بالقطع ، فإذا كان القطع بالقطع عين القطع ، نتج أنّ القطع بالحكم يتوقف على القطع بالحكم ، وهو محال.

وإن فرض أنّ القطع بالقطع شيء آخر وراء نفس القطع يكون ملازما له ، إذن فالقطع بالقطع معلول لنفس القطع فيلزم الدور مع الدوران ، لأنّ القطع بالحكم متوقف على القطع بالموضوع ، والموضوع هو القطع ، إذن القطع بالحكم يتوقف على القطع بالقطع ، والقطع بالقطع يتوقف على القطع بالحكم ، وهو دور ، وهذا دور في عالم الوصول.

وعليه : فهذا حكم يستحيل على المكلّف به خارجا ، لأنّ علمه به يتوقف على العلم به ، وإذا استحال العلم به ، معناه : إنّ استحالته فعليّة.

وهذا الوجه صحيح ، وعليه : فيتبرهن بهذا استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم بالوجه الأول والثالث ثمّ إنّه بعد ذلك يقال : بأنّه ما هو الحل في مورد يريد المولى أن يصير مصوبا ، وأراد أن يجعل حكمه بنحو يختص بالعالم دون الجاهل ، كوجوب القصر ، أو وجوب الجهر والإخفات حيث لا إشكال عقلائيا ومتشرعيا في إمكان تخصيص الحكم بالعالم به في نفسه لو أراد الشارع ذلك.

وهنا لا بدّ من افتراض عملية وجدانية تمكّن المولى من ذلك إذا

٢٧٤

أراد التصويب لنكتة من النكات وبنحو لا يردّ عليه إشكال العلّامة «قده» ، والحل يكون بأحد وجهين.

١ ـ الوجه الأول : هو أن يؤخذ العلم بالجعل في موضوع فعليّة المجعول ولا محذور ، لأنّ الجعل غير المجعول كما عرفت في بحث الواجب المشروط.

ومحل كلامنا سابقا هو في أخذ العلم بالمجعول في موضوع المجعول بحيث يكون متعلق العلم هو المجعول لا الجعل ، والمترتب على العلم هو المجعول ، فمتعلق العلم عين ما هو مترتب على العلم.

أمّا هنا في محل الكلام فإنّنا نقول : بأنّه نستفيد من الاثنينية بين الجعل والمجعول على ما عرفت من أنّ الأحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، فالمولى حينما يجعل وجوب الحج على المستطيع ، فإنّه بمجرد هذا التشريع يتحقّق الجعل دون المجعول ، لعدم استطاعة المكلّف مثلا ، لكن إذ وجد المستطيع يصبح المجعول فعليا في حقّه ، إذن ، فالمجعول تابع لفعليّة موضوعه المقدّر الوجود ، أمّا الجعل ، فهو فعلي بمجرد الإنشاء.

حينئذ : وبعد فرض هذه الاثنينية يقال : بأنّ العلم بالجعل يؤخذ في الموضوع المقدّر الوجود ، والّذي هو موضوع المجعول ، فيقول المولى مثلا : أوجبت الحج على من كان مستطيعا عالما بجعلي هذا ، وبهذا الإعلام لا يبقى أيّ محذور ، لأنّ المترتب على العلم هو غير ما يكون مكشوفا بالعلم ، فما يكون مترتبا على العلم هو فعليّة المجعول لا الجعل ، لأنّ الجعل لا يتوقف على وجود الموضوع المقدّر الوجود كما هو واضح ، والّذي يتوقف على العلم إنّما هو المجعول ، والّذي يتوقف عليه العلم هو الجعل.

٢٧٥

وقد أورد ذلك على السيّد الخوئي «قده» فأجاب : بأنّ هذا لا يؤثر في حل المشكلة (١) ، وذلك لأنّه يؤخذ العلم بجعل الحكم في موضوع الحكم المجعول ، فيؤخذ العلم بجعل على زيد في موضوع الوجوب على زيد ، فيعود الدور ، لأنّ الجعل لا يكون جعلا للوجوب على زيد إلّا إذا كان قد تحقّق موضوعه في حقّ زيد ، فجعل وجوب الحج على المستطيع لا يكون جعلا عليّ إلّا إذا كنت مستطيعا ، فالعلم الّذي يؤخذ في موضوع المجعول إذا أضيف إلى الجعل بما هو شامل لهذا المكلّف ، إذن ، شموله فرع تحقّق موضوعه ، فيلزم الدور ، بل ان أخذ بما هو جعل لآخر فهو خارج عن محل الكلام ، ويكون من باب أخذ العلم بحكم مكلف في موضوع حكم مكلف آخر ، من قبيل : ما إذا قطع بأنّ المرأة إذا وجب عليها الإخفات ، وجب عليه الجهر ، فهذا لا بأس به ، لكنّه خارج عن محل الكلام.

وجوابه : هو أنّنا نختار حلا وسطا ، فلا نقول بأنّ العلم بالجعل الشامل فعلا لهذا المكلّف ، مأخوذ في موضوع حكم ، ليلزم الدور ، ولا نقول انّ العلم بجعل مضاف إلى مكلف مأخوذ في موضوع مكلف آخر ، بل العلم بجعل يكون في نفسه شاملا لهذا الإنسان ، ولا تكون فعليّة الشمول منوطة إلّا بنفس هذا العلم.

وهذا يحل المشكلة ، لأنّ العلم هنا علم بجعل مضاف لهذا المكلّف ، لكنّه مضاف إليه على تقدير حصول العلم ، أي مضاف إليه لو حصل العلم ، فنقول : إنّ العلم بثبوت جعل لا يكون موقوفا بشموله لهذا المكلّف إلّا على مجرد العلم به.

وهذا الافتراض معقول ، ويحقّق كلا الأثرين الملحوظين

__________________

(١) الدراسات : ج ٣ ، ص ٤٠.

٢٧٦

للأصولي ، فيحقّق الأثر الأول المتمثل في إشكال العلّامة الحلّي «قده» على التصويب حيث تكون هذه صيغة معقولة للتصويب إذا دلّ عليه دليل.

ويحقّق الأثر الثاني المتمثل في إشكال التهافت القائل : بأنّه لو استحال التقييد في المقام ، أي استحال أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه ، فحينئذ يستحيل التمسك بإطلاق الخطاب لإثبات الإطلاق ، لأنّ إطلاق الخطاب لا يكشف عن سعة دائرة الملاك ، لأنّ عدم التقييد قد يكون لاستحالة التقييد لا لعدم اختصاص الملاك بالمقيد ، فلو ثبتت هذه الاستحالة ، حينئذ لا يمكن التمسك بإطلاق خطاب المولى لإثبات أنّ غرضه قائم بالمطلق لا بالمقيد ، إذ لعلّ غرضه قائم بالمقيد ، لكن لم يذكر القيد لاستحالة التقييد.

وهذا الغرض يتحقّق بهذه الصيغة المعقولة ، لأنّنا نقول : لو كان الغرض معلقا بالمقيّد لكان بإمكانه أن يقيّد ، بأن يأخذ العلم بالجعل في موضوع العلم بالمجعول ، فنستكشف من عدم أخذه قيام الغرض بالمطلق.

وإن شئت قلت : إنّ جواب السيّد الخوئي «قده» غير تام ، فإنّنا نريد بالجعل القضية الحقيقية الّتي تكون نسبتها إلى زيد وغيره على حدّ سواء.

وتوضيحه هو أن يقال : إنّ المقصود من الجعل هو الكبرى ، وهو جعل وجوب الحج على المستطيع العالم به مثلا ، وحينئذ لا يكون هناك محذور لا في عالم الجعل ، ولا في عالم فعليّة المجعول.

أمّا في عالم الجعل ، فلوضوح أنّ المأخوذ فيه هو مجرد فرض العالم بالجعل ، ولا يتوقف ذلك على فعليته.

وأمّا عدم المحذور في عالم فعليّة المجعول ، فلأنّ المكلّف يتعلق

٢٧٧

علمه بتلك القضية المجعولة لا العلم بفعليتها في حقّه ، ولا العلم بانطباقها عليه ، وتلك القضية قضية واحدة وليست أمرا إضافيا ، وإنّما العلم بالانطباق فرع العلم بالصغرى أيضا ، وهو العلم بتحقّق تمام قيود موضوع تلك القضية خارجا في حقّ المكلّف ، وهو الّذي يستحيل أخذه في فعليّة الحكم ، وهذا مطلب واضح الصحة والإمكان عقلا وعقلائيا.

وهذا التخريج لا يفرق فيه بين القول بأنّ المجعول له وجود حقيقي وراء الجعل ، أو أنّه له وجود توهمي وراء الجعل كما هو الصحيح وتقدّم في بحث المطلق والمشروط ، فحينما توجد الاستطاعة يحدث شيء حقيقة اسمه المجعول ، أو انّ هذا مجرد توهم ، فعلى كلّ حال ، ما دام هناك أمران تحليلا ، هما الجعل والمجعول ، فهذه الصيغة معقولة في المقام لرفع الإشكالات المتقدّمة ، ويترتب على هذا أثران ، أحدهما : ما تقدّم من تصحيح التصويب في المورد الّذي يقوم الدليل عليه ، والثاني : هو إمكان نفي احتمال دخالة العلم بالحكم في الغرض والملاك من الحكم ، حيث أنّه يكون التقييد به ممكنا فيكون التمسك بالإطلاق في الخطاب لنفي إطلاق الغرض والملاك ممكنا أيضا خلافا لما إذا قيل باستحالة التقييد به فلا يمكن التمسك بالإطلاق للكشف عن إطلاق الغرض والملاك بلحاظ هذا القيد الّذي هو من القيود الثانوية.

٢ ـ الوجه الثاني : هو أن يؤخذ العلم بالإبراز في موضوع الحكم ، فإنّه لا إشكال في أنّ إبراز الحكم غير نفس الحكم ، إذ أنّ الإبراز عبارة عن خطاب المولى الّذي يدلّ على جعل الحكم في نفس المولى ، فهو من مقولة الخطاب والكلام ، والحكم من مقولة مدلول الخطاب ، وحينئذ ، لا مانع من أن يجعل أحد قيود الحكم ، وصول نفس الإبراز ونفس الخطاب ، فمثلا يقول : «من يصل إليه كلامي هذا يجب عليه أن يحجّ» فيكون وجوب الحج مقيدا بإبراز هذه القضية الشرطية ، فإنّ إبراز

٢٧٨

هذا الإبراز قضية شرطية وهي وجوب الحج إذا علم بالإبراز ، وهذه الشرطية هي مدلول هذا الإبراز والخطاب ، إذن ، فقد أخذ العلم بالإبراز في موضوع الحكم المبرز ولا محذور.

وكل من هاتين الصيغتين وافية بكلا الفرضين الأصوليين اللّذين عقدت هذه المسألة لهما ، فإنّ هاتين الصيغتين وافيتين بتعقل التصويب حيث يدلّ دليل على إرادة المولى له.

والفرض الثاني هو إمكان التمسك بإطلاق الخطاب لإثبات أنّ غرض المولى قائم بالمطلق لا بالمقيد ، إذ لو كان غرضه قائما بالمقيد لأمكن أن يقيده بإحدى هاتين الصيغتين ، فإمّا أن يأخذ العلم بالجعل ، وإمّا أن يأخذ العلم بالإبراز ، وحيث لم يأخذ أحدهما فيتعين أنّ غرضه قائم بالمطلق.

إلّا أن الميرزا «قده» بعد أن بنى على استحالة تقييد الحكم بالعالم به ، فإنّه لم يتبنّ مثل هذه التخلّصات بل سلك مسلكا آخر في التخلّص فيه عناية زائدة.

وحاصل مسلكه «قده» هو ، أنّ تخلّص بالطريقة المسمّاة بمتمم الجعل (١).

وتوضيح هذه الطريقة هو أنّه يقول : بأنّ الحكم بوجوب الصّلاة يستحيل أن يكون مقيدا بالعلم بوجوب الصّلاة بالبراهين السابقة ، وإذا استحال التقييد بالعلم استحال الإطلاق أيضا ، لأنّه بنى على أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ، فالتقييد بعدم العلم مستحيل عنده ، أي تقييد الحكم بأن لا يصل ، فإذا استحال التقييد من ذاك الطرف ، أيضا استحال الإطلاق المقابل لكل منهما ، وعليه : فيكون

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٣ ، ص ١١.

٢٧٩

الحكم مهملا من جميع الجهات لاستحالة كل من التقييد والإطلاق ، مع انّ غرض المولى الواقعي هو إمّا المطلق وإمّا المقيد ، إذن كيف يصل إلى إيصال غرضه الواقعي؟

وهنا يقول الميرزا «قده» (١) ، إنّه يصل إليه عن طريق جعل ثاني وراء الجعل الأول ، ففي البداية يجعل وجوب الصّلاة بنحو مهمل دون أن يقيده بأي شيء ، لا بهذا الفرد الجاهل ، ولا بالعالم ولا بالأعم ، ثمّ بعد هذا يجعل جعلا ثانيا ، وهو وجوب الصّلاة ، لكن إن كان غرضه مقيدا فيجعله على العالم بالجعل الأول ولا دور ولا محذور فيه لتعدد الجعلين لأنّ العلم بالجعل الأول أخذ في موضوع الجعل الثاني ، وإن كان غرضه في المطلق فإنّه سوف يكون مطلقا ، لأنّ الثاني قابل للتقييد بالعلم بالجعل الأول ، فيكون قابلا للإطلاق.

وميزة الثاني على الأول هو ، انّ الثاني باعتباره غير الأول ، فأخذ العلم بالجعل الأول في موضوعه لا دور فيه ، فوظيفة الجعل الثاني إيصال المولى إلى غرضه ، ودفع الإهمال عن الأول.

وحيث انّ هذين الجعلين ناشئين من غرض واحد وملاك واحد لم يمكن للمولى إيصاله بالجعل الأول فقط ، فيتوسل بجعلين لأجل هذا الغرض ، إذن ، فالثاني مع الأول ليسا حكمين متغايرين من قبيل أخذ القطع في وجوب الصّلاة في موضوع وجوب الصوم.

بل روحه أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه ، لأنّ هذين الجعلين روحهما واحدة وملاكهما واحد ، لكن من حيث الصياغة وباعتبار تعدد الجعلين يندفع المحذور ، ونكون قد وصلنا روحيا إلى حاق الغرض ، وهو أخذ القطع بالحكم موضوع نفسه.

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٣ ، ص ١١.

٢٨٠