المولى باعتبار أنّ عنده ملاكان ، أحدهما مفسدة الخمر ، والآخر مصلحة إطلاق العنان في الخل أو لحم الطير مثلا ، وبما أنّه لم يصل ذلك إلى المكلّف ، حينئذ ، إمّا أن يحكم عليه حكما طريقيا بوجوب الاحتياط فيهما معا ، تحفظا على مفسدة الخمر ، وبهذا تفوت المصلحة الموجودة في الخل أو لحم الطير ، وإمّا أن يعكس المطلب ، وحينئذ ، يقع في مفسدة الخمر أو لحم الأرنب مثلا ، وأيّهما جعل ، فهو حكم طريقي ، لأنّ هذا الحكم لم ينشأ في صورة جعل الحرمة من مفسدة في الاثنين ، بل من مفسدة في الخمر ، لكن حفاظا على عدم الوقوع فيها يجعل تلك الأحكام ، ومن هنا قلنا : إنّ هذه الأحكام تنشأ من متعلقات ملاكات تلك الأحكام الواقعية النفسية ، وكذا الحال لو جعل الحلية للإثنين معا ، فإنّ هذا حكم طريقي لم ينشأ من مصالح في الموردين ، بل حفاظا على مصلحة الخل أو لحم الطير ، ومن هنا فالأحكام الطريقية ناشئة من ملاكات في متعلقات تلك الأحكام النفسية ، ويترتب عليها أنّها إنّما تتميّز وتعذر عن الأحكام النفسية ، وأمّا بنفسها فلا تميّز لها ولا تعذير ، فوجوب الاحتياط مثلا منجز للأحكام الواقعية المشكوكة.
وبمثل هذا البيان دفعنا التضاد بين الأحكام الواقعية والأحكام الظّاهرية في عالم المبادئ ، إذ يتضح من هذا انّ مبادئ الحكم الظاهري هي عين مبادئ الحكم الواقعي النفسي ، لا ملاكات ومبادئ أخرى يقع التضاد بينهما ، وبمثل هذا جمعنا بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية ، وبمثل هذا صوّرنا وجوب الاحتياط والبراءة وأمثالها.
وهذا البيان لا يأتي في محل الكلام ، لأنّه في محل الكلام لو فرض أنّ المكلّف كان قاطعا بأحكام ترخيصية ، والمولى يريد أن يجعل ما يشبه وجوب الاحتياط عليه أو بالعكس ، وكلاهما غير ممكن ، لأنّ
هذا الحكم الّذي يشبه وجوب الاحتياط ، إن كان نفسيا ، فيلزم حينئذ اجتماع الضدين ، لأنّ هذا حكم مستقل وله مبادئ مستقلة ، والمقطوع له أيضا مبادئ مستقلة فيلزم التضاد ، وإن كان هذا المجعول حكما طريقيا ، إذن فهو لا يتنجز بنفسه ، وإنّما يتنجز غيره ، وهي الحرمة الواقعية الّتي يقطع المكلّف بعدمها ، حيث أنّه يقطع بالترخيص.
وهذا هو فرق القاطع عن الظان والشك ، ففي موارد الظن والشك إذا حكم المولى بوجوب الاحتياط طريقيا تنجز الواقع المشكوك أو المظنون ، والمكلّف يحتمل وجوده في الواقع ، إذن فقد نجا من وجود شيء قد تنجز عليه ، فيكون وجوب الاحتياط مؤثرا في مقام العمل.
أمّا وجوب الاحتياط في محل كلامنا ، فلا ينجز غيره ، إذ لا وجود لغيره ، هذا برهان استحالة جعل ما يشبه وجوب الاحتياط.
أمّا إذا عكس المطلب ، وكان برهان استحالة جعل ما يشبه البراءة ، فيما إذا فرض أنّ المكلّف قطع بحكم إلزامي ، وذلك لأنّ المولى يرى انّ هذا القاطع سلوكه في أكثر الموارد متحفظا على الحاجات الّتي تخيّلها محرمات ، فيريد ترخيصه في تمام ما قطع به ، وهذا مستحيل ، باعتبار انّ هذا الحكم الّذي يجعله على القاطع ، إن كان نفسيا ، إذن يلزم اجتماع الضدين في تمام المبادئ كما تقدّم ، وإن كان حكما طريقيا من باب تقديم مصلحة الحلال على مفسدة الحرام ، إذن لا يكون مؤثرا في حق هذا المكلّف ، لأنّ هذا الحكم الطريقي إنّما يصدر من الشارع ، من باب عدم إمكان التحفظ على كلا الملاكين ، والعبد يرى أنّ بإمكانه التحفظ ، لأنّه يرى انّ قطعه مصيب ، فمثل هذا الترخيص الاضطراري لا يكون معذرا لمكلف يرى أنّه قادر على التحفظ على كل ملاكات الشارع ، كما لو فرض أن تعرّض للغرق كل من صديق الشارع وعدوه ، فيقول الشارع للعبد لا تنقذهما معا اضطرارا ، فلو فرض أنّ
العبد يميز بينهما ، فلا يكون هذا معذرا بالنسبة إليه ، إذن فالمولى إذا جعل ما يشبه البراءة على القاطع ، فكل قاطع يمكنه أن يعتذر عن إنشاء الحكم من قبل المولى عند ضيق الخناق.
والخلاصة هي ، أنّه لا يمكن جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به ، كما يجعل في موارد الشك والظن من الأحكام الظّاهرية. أمّا إذا كان القطع بحكم ترخيصي وأراد المولى جعل حكم ظاهري إلزامي نظير الاحتياط في الشّبهات ، فهذا الحكم ، إن فرض نفسيا ، لزم التضاد كما تقدّم توضيحه في البرهان الأول ، وإن فرض طريقيا ـ والحكم الطريقي عندنا هو الحكم الناشئ بملاك التزاحم بين الأحكام الترخيصية والإلزامية في مرحلة حفظ الملاك الأهم ، ولذا يجعل المولى حكما طريقيا يبرز به اهتمامه بما هو المهم من تلك الملاكات المتزاحمة ، ومن هنا قلنا : إنّ تلك الأحكام الطريقية هي أحكام ناشئة من مبادئ ولكن لا في نفسها ، بل في متعلقات ملاكات تلك الأحكام الواقعية النفسية ـ فلا يكون تضاد بينهما بلحاظ المبادئ ، لأنّ مبادئ الحكم الظاهري هي عين مبادئ الحكم الواقعي النفسي ، لا ملاكات ومبادئ أخرى ليقع التضاد بينها ، وبمثل هذا جمعنا بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، وبمثل هذا صوّرنا وجوب الاحتياط والبراءة وأمثالها.
إلّا انّ هذا البيان لا يعقل جعله في محل الكلام ، لأنّ الحكم الطريقي هنا غير منجز في نفسه ، وإنّما هو منجز لغيره ، أي أنّه ينجز الحكم الواقعي وملاكه النفسي كما تقدّم ، والمفروض أنّ المكلّف يقطع بعدم الملاك الإلزامي الواقعي ، حيث أنّه يقطع بالترخيص به ، ومعه لا يتنجز الحكم الإلزامي الواقعي بهذا الحكم الطريقي ، وهذا هو فرق القاطع عن الظان والشاك كما عرفت.
وأمّا إذا عكس المطلب ، وكان المكلّف قاطعا بحكم إلزامي وأراد المولى جعل حكم ظاهري ترخيصي ، فهذا مستحيل أيضا ، لأنّه إن كان ما يجعله حكما نفسيا ، إذن فيلزم اجتماع الضدين في تمام المبادئ كما تقدّم.
وإن كان طريقيا ناشئا عن التزاحم بين الملاكات الواقعية الترخيصية والإلزامية وتقديم مصلحة الترخيص على الإلزام ، فمثل هذا الحكم لا يكون مؤثرا ومعذرا للمكلّف ، لأنّ هذا الحكم إنّما يصدر من الشارع من باب عدم إمكان التحفظ على كلا الملاكين ، والقاطع يرى أنّ قطعه مصيب للواقع دائما ، إذن فهو يرى أنّه بإمكانه أن يحفظ الملاك الإلزامي للمولى من دون تزاحم ، إذن فمثل هذا الترخيص لا يكون معذرا لمكلّف يرى أنّه قادر على التحفظ على كل ملاكات الشارع ، فهو يرى عدم شمول خطاب الشارع له روحا وملاكا ، وإن كان يشمله خطابا.
فالنتيجة هي ، أنّه لا يعقل جعل الخطاب الظّاهري في مورد القطع ، لا نفسيا ، لاستلزامه التضاد ، ولا طريقيا ، لأنّ القاطع يرى نفسه مستثنى من الخطاب روحا وملاكا وإن كان مشمولا له صورة ، وكلّ خطاب يكون شموله للمكلّف هكذا ، لا يكون منجزا ولا معذرا له. هذا هو حاصل البرهان الصحيح في المقام.
الجهة الثانية :
مبحث التجري
وموضوع هذه المسألة هو ، أنّ أيّ تكليف يتنجز على المكلّف سواء كان المنجز عقليا كما في موارد القطع الوجداني أو الشك والاحتمال المنجز في موارد منجزيته ، كالاحتمال قبل الفحص ، أو الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي ، أو كان المنجز شرعيا ، كما في الإمارات والأصول المنجزة كالاستصحاب ، فإذا تنجز تكليف على هذا النحو ، فإن فرض انّ هذا التكليف المنجز كان مطابقا للواقع ، ومنجزا بالواقع ، بأن كان التكليف الواقعي الإلزامي موجودا في البين ، وخالفه المكلّف ، فهذا عصيان قبيح يستحقّ العبد على تركه العقاب في صورة مخالفته له بلا إشكال ، وأمّا إذا فرض أنّ التكليف المنجز الواقعي هذا ، لم يكن ثابتا في الواقع ، بل كان الثابت هو الإباحة الترخيص ، ولكن المكلّف خالف وتجرأ ، فهذا هو التجرّي موضوع الكلام.
وحينئذ يبحث في أنّه هل يحكم بقبحه واستحقاق المتجري العقاب عليه بل وحرمته شرعا ـ على الرغم من عدم مطابقته التكليف المقطوع للواقع وعدم ثبوته ـ أو لا؟
ومنه يظهر انّ هذا البحث لا يختصّ بخصوص موارد القطع ، بل
يشمل بروحه كل ما كان منجزا سواء كان قطعا ، أو منجزا بمنجز عقلي كالاحتمال قبل الفحص ، أو بمنجز شرعي كما عرفت.
وهناك من توهم انّ هذا البحث لا يشمل موارد المنجزات الشرعية ـ أي موارد الحكم الظّاهري ، كما لو قامت الإمارة ثابت على حرمة مائع ـ بدعوى أنّه في هذه الموارد ، المعصية محققة ، فيخرج المقام عن التجري ويدخل في المعصية ، لأنّ الحكم على طبق الإمارة ثابت على أيّ حال ، سواء كانت الإمارة مطابقة للواقع ، أو لم تكن كذلك ، كما لو أخبر الثقة بوجوب السورة ، وترك المكلّف السورة ، ولم تكن واجبة في الواقع ، ولكن خالف خبر العادل.
وهذا التوهم باطل على جميع المباني في باب جعل الحجية في باب الإمارات والأصول ، لأنّ الحكم الظّاهري ليس له عقاب وامتثال مستقل في مقابل التكاليف الواقعية.
وقد شمّ سر ذلك في البحث السابق ، حيث ذكرنا أنّ الأحكام الظّاهرية هي أحكام طريقيّة لا تنشأ من مصلحة في متعلقاتها هي ، بل منشؤها من ملاكات الأحكام الواقعية ، حيث بها يحفظ الملاك النفسي في الحكم الواقعي ، فيكون جعلها للمحافظة على ملاكات الأحكام الواقعية ، حيث يقال : بأنّ هذا الحكم الظّاهري الّذي روحه روح الطريقي قد جعل بلسان جعل الحكم التكليفي ، كما كان في صدق العادل ، أو بلسان جعل الحكم المماثل ، أو بلسان جعل الطريقية والكاشفية ، أو بلسان جعل الحجيّة والمنجزيّة ، فكل هذه الألسنة هي مجرد صياغات فنية في مقام الجعل لا تغيّر من حقيقة الحكم الظّاهري ، فإنّ روح الحكم الظّاهري تبقى بنفسها روح حكم لا حيثيّة لها في قبال الحكم الواقعي والواقع ، بل هي روح طريق لا تختلف الحال فيه بين لسان وآخر من هذه الألسنة.
وعليه : فالمقام داخل في باب التجرّي دون العصيان المستقل عن الحكم الواقعي ، ولا يتوقف ذلك على ما ذكره الميرزا «قده» (١) ، من أنّ الأحكام الظّاهريّة ليست تكليفية ، بل هي تتميم للكشف والطريقيّة ، فليس لها عصيان مستقل عن الواقع ، فإنّ هذا غير صحيح ، فإنّ الحكم الظّاهري كيفما كان لسانه ، سواء كان تتميم الكشف ، أو بلسان جعل الحكم المماثل أو غيره ، فهذه كلها تفنّنات في التعبير.
وأمّا روح الحكم الظّاهري فليس له عصيان وامتثال مستقل عن الحكم الواقعي ، لأنّه عار عن المبادئ ، سوى مبادئ الحكم الواقعي ، وحيث أنّه لا واقع له ، فيدخل في باب التجرّي.
والبحث في هذه المسألة يقع في عدّة مقامات.
١ ـ المقام الأول : في تحقيق الكلام في قبح الفعل المتجرّى به وعدم قبحه عقلا.
٢ ـ المقام الثاني : في استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به وعدمه ، سواء قيل بقبحه عقلا أو لا.
٣ ـ المقام الثالث : في حرمة الفعل المتجرى به شرعا.
__________________
(١) فرائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ١٥ ، ١٦.
أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٢٣ ، ٢٤.
المقام الأول :
في تحقيق الكلام في قبح
الفعل المتجرّى به وعدم قبحه عقلا
أمّا المقام الأول وهو في قبحه عقلا ، بمعنى أنّ حكم العقل بقبح التجري ، هل يختصّ بالمعصية ، أو أنّه يشمل التجري أيضا؟.
والّذي ينبغي قوله هو ، انّه بعد أن عرفنا في المقام أنّ حكم العقل بقبح التجري ، يرجع ـ في الحقيقة وبحسب طريقة تحليلنا له ـ إلى حق الطاعة ، وحق مولوية المولى على العبد ، وحينئذ ، لا بدّ من الفحص عن حق هذه المولوية ودائرتها وموضوعها ، لنرى أنّ هذه الدائرة هل تنطبق على التجري ، وانّ موضوع حق الطاعة هل يشمل موارد التجرّي أو لا؟
فإن انطبق وكان موضوع حق الطاعة يشمل موارد التجري ، إذن ، فللمولى حق ، والمتجرّي سلب منه هذا الحق ، وهذا السلب ظلم ، والظلم قبيح ، فيكون الفعل المتجرّى به قبيحا.
وإن فرض أنّ موضوع المولويّة لا ينطبق على موارد التجرّي ، إذن ، لا حقّ هنا للمولى ، فلا قبح إذن ، لأنّ القبح فرع الظلم ، والظلم فرع سلب الحق.
إذن ، فالسؤال هنا ، هو أنّه ، ما هو موضوع حق الطاعة ، وما هي دائرة حق المولوية؟.
وهنا يوجد ثلاث تصورات في البداية.
١ ـ التصور الأول : هو أن يكون موضوع حق الطاعة والمولوية هو تكاليف المولى الموجودة بوجوداتها الواقعية النّفس الأمرية ، سواء وصلت أو لم تصل ، علم بها أم لم يعلم ، وبناء على هذا ، حينئذ ، يلزم أن يكون حق الطاعة للمولى غير ثابت في موارد التجرّي ، لأنّ تمام موضوع حق الطاعة هو التكليف بوجوده الواقعي النّفس الأمري والمفروض عدم وجوده في موارد التجري ، إذن فحق الطاعة بهذا التصور لا يشمل موارد التجري.
لكن قد عرفت سابقا أنّ هذا التصور غير صحيح في نفسه ، لأنّ لازمه تحقّق المعصية في موارد مخالفة التكليف الواقعي ولو لم يكن منجزا ، بل حتّى إذا كان قاطعا بعدمه ، لأنّه أيضا يكون حق الطاعة ثابتا ، لأنّ تمام الموضوع محفوظ حتّى مع العلم بعدمه ، وهذا غير معقول.
٢ ـ التصور الثاني : وهو عكس الأول ، وذلك بأن يقال : بأنّ حق الطاعة والمولوية ، تمام موضوعها هو ، إحراز التكليف بمنجز من المنجزات العقلية أو الشرعية ، سواء كان هناك تكليف في الواقع أو لم يكن ، إذن ، فالإحراز هنا هو تمام الموضوع.
وبناء عليه : يكون حق الطاعة ثابت وشامل لموارد التجرّي ، لأنّ تنجز التكليف ثابت ومحرز فيها بالقطع المنجز عقلا وإن لم يكن موجودا في الواقع ، وعليه : فحق المولوية يكون مسلوبا هنا وهو ظلم ، والظلم قبيح ، وهو مورد التجري.
٣ ـ التصور الثالث : وهو تصور وسط بين التصورين السابقين ،
وحاصله : هو أنّ موضوع حق الطاعة مركب من جزءين ، أحدهما التكليف بوجوده الواقعي ، وثانيهما ، إحرازه بمنجز عقلي أو شرعي ، إذن ، فلا التكليف الواقعي وحده موضوع حق الطاعة وتمام الموضوع ، ولا العلم والإحراز وحده هو الموضوع ، وبناء عليه فلا يلزم ثبوت حق الطاعة من ترك الأول وحده ، ولا من الثاني وحده ، وحينئذ ، بناء على هذا التصور يقال : بأنّ الفعل المتجرّى به لا يكون قبيحا ، لأنّه لا حق للمولى مسلوب هنا من قبل المتجرّي ليكون قبيحا.
وهنا لنا كلامان :
١ ـ الكلام الأول : هو انّنا ندّعي أنّ الصحيح من هذه التصورات الثلاثة هو الثاني.
٢ ـ الكلام الثاني : هو انّنا ندّعي فيه أنّه لو بني على التصور الثالث ، فمع هذا نقول بقبح التجري.
أمّا الكلام الأول ، وهو أنّ التصور الثاني هو الصحيح ، فذلك لأنّ حق المولى ، تارة يكون حقّا مجعولا من قبل مولى آخر ، وأخرى يكون حقّا ذاتيا كما تقدّم.
ومحل كلامنا هو حق المولويّة الذاتية ، أي الثاني ، وهذا الحق الذاتي للمولويّة ليس شأنه شأن الحقوق الأخرى العرفية أو الاجتماعية أو الشرعية الّتي لها واقع يتصور فيه انكشاف الخلاف ، من قبيل حق المرتهن في العين المرهونة ، أو حق المغبون في الغبن ، فقد يفرض انّ هذه حقوق ثابتة ، ولكن الإنسان لا يعلم بها ، حيث يفرض أنّه يتخيل ثبوتها وهي غير ثابتة ، لأنّ هذه الحقوق تابعة لموضوعاتها الواقعية النّفس الأمرية.
أمّا حق المولى في المولوية الذاتية ، فهو بحسب الحقيقة مرجعه إلى استحقاق هذا المولى المرتبة اللائقة به من الاحترام والرعاية لجانب
مولويته وتجنب الجرأة عليه ، والاستعداد لأداء الوظائف الّتي يأمره بها ، إذ لا معنى لحق المولى وحق الطاعة إلّا هذا ، ونحن إنّما نقول إنّ الطاعة حق ذاتي فباعتبار جنبة احتراميّتها.
وهذا الحق ، تمام ميزانه ونكتته هو قطع المكلّف بتكليف المولى ، وحينئذ ، إذا أقدم المكلّف على الفعل مع قطعه بالنهي عنه من قبل مولاه ، أو أقدم على تركه مع قطعه بالأمر به ، حينئذ ، تمام الجنبات الإهانية تكون موجودة في فعله ، فيكون فعله هذا سلبا وظلما للمولى.
نعم في فرض التجرّي عند ما لا يكون الفعل المتجرّى به بملاك تحصيل مصلحة له أو عدم إضرار به كما في حقوق النّاس وأموالهم ، كما هو الحال في حق المالك في ملكه ، فقد يقال : بأنّ من أتلف مالا يتخيل انّه لزيد من النّاس ثمّ تبين أنّه مال لنفسه ، قد يقال حينئذ ، انّه ليس ظالما لزيد لأنّه لم يخسره شيئا ، حيث أنّه لم يعتد على ماله ولا على مولويّة المولى.
أمّا هنا في فرض المعصية ، فالاعتداء على المولى موجود ، لأنّه كان بلحاظ نفس حق الطاعة وحق المولوية ، وقد عرفت ، انّ حق الطاعة لا يرجع إلى حيثية واقعية وواقع التكليف ، وإنّما يكون بملاك التحفظ على احترام المولى ، لأنّ تمام موضوع حق المولى هو مطلق التنجز بالقطع وغيره بتكاليف المولى ، فلو تنجز تكليف على العبد ، ومع ذلك تجرأ وخالف مولاه ، كان ذلك خروجا عن أدب العبودية واحترام مولاه ولو لم يكن هناك تكليف واقعا.
إذن ، فمن حيث الجانب الاحترامي لا يوجد هناك دخل لمطابقة القطع للواقع وعدمه ، وإنّما تمام موضوع حق الطاعة هو عبارة عمّا أحرز من التكاليف بمنجز ما ، سواء كان هذا الإحراز مطابقا للواقع أم لا ، بل حتّى لو لم يكن في الواقع تكليف.
وأمّا الكلام الثاني فهو ، انّنا لو سلّمنا بالتصور الثالث ، وهو كون
موضوع حق الطاعة والمولى مركب من جزءين ، التكليف بوجوده الواقعي ، والإحراز ، إذن ، فهنا العبد لم يسلب من المولى حقّه في باب التجري ، لأنّ أحد جزئي الموضوع غير موجود.
ولكن رغم ذلك نقول ، بقبح التجرّي ، وذلك بدعوى أخرى ندّعيها ، وهي أنّ هذا العبد حينما أقدم على ارتكاب ما قطع بحرمته ، فإنّه كان يتخيل أنّه حق المولى ، وهو يقطع بالتالي بأنّه يسلب المولى حقّه في صورة ارتكابه ، بمعنى ، أنّه أقدم على ظلم المولى وسلبه حقّه باعتقاده ، وإن لم يظلمه واقعا ، وندّعي أنّه كما انّ الظلم قبيح ، فكذلك ارتكاب ما يقطع بأنّه ظلم ولو اشتباها ، فإنّه قبيح أيضا بحكم العقل ، كمن كان يتخيّل ويعتقد بفضل إنسان عليه وإنعامه ، ثمّ جحد نعمته ، فهذا قبيح ، إذ لا فرق بين من يقع في خطأ في أصل مولوية المولى ، وبين من يقع في خطأ تطبيق مولويته ، حيث انّ نفس الإقدام على فعل يقطع بأنّه ظلم للمولى قبيح وإن لم يكن في الواقع كذلك ، فمن قبل واعتقد انّ الظلم قبيح ، ينبغي أن يعتقد انّ الإقدام على ما يعتقد انّه ظلم قبيح أيضا.
وموارد التجري من هذا القبيل ، فإنّه وإن لم يكن قد سلب حق المولى ـ هذا بعد التنازل عن الكلام الأول ـ إلّا أنّ هذا المكلّف كان قد أقدم عليه ، فيكون إقدامه هذا بهذا الاعتبار قبيحا ، وبهذا يكون استحقاقه للعقاب من مولاه الحقيقي ـ مع أنّه لم يظلمه في الواقع ـ بملاك كون مقتضى مولوية المولى الحقيقي ان تعاقب المتجري الفاعل للقبيح بحسب اعتقاده ، وإن لم يكن فعله القبيح هذا ظلما لمولاه في الواقع.
ومع اتضاح بطلان التصور الأول في دائرة حق الطاعة ، واتضاح أنّه بناء على التصور الثاني لا إشكال في قبح الفعل المتجرّى به كما هو الصحيح ، ننقل الكلام إلى التصور الثالث.
وأمّا التصور الثالث : فقد عرفت سابقا أنّه حتّى لو سلّمنا وبنينا عليه ، فرغم هذا نقول بقبح التجرّي لما عرفت وادّعيناه من كون الظلم قبيحا ، وكون الإقدام على ما يعتقد بكونه ظلما هو قبيح أيضا.
وحينئذ أشكل على هذا الكلام حيث قيل : إنّه إذا كان الظلم قبيحا ، وكان الإقدام على ما يعتقد بكونه ظلما هو قبيح أيضا ، إذن يلزم في موارد المعصية وإصابة القطع للواقع تعدد القبيح ، لأنّ العاصي ظلم المولى ، باعتبار انّ موضوع حق الطاعة محقق حتّى بناء على التصور الثالث ، وقد فرض أنّه أقدم على هذا الظلم ، فنفس الحالة الموجودة في المتجري ، وهو إقدامه على الظلم ، هي موجودة في هذا العاصي ، لأنّه أقدم على الظلم ، وبهذا يكون قد صدر عنه قبيحان.
أو قل : إذا كان الظلم قبيح ، والإقدام عليه قبيح أيضا ، لزم في موارد المعصية وإصابة القطع للواقع ، صدور قبيحين ، وهو خلاف الوجدان.
وحل هذا الإشكال ، هو أنّه لا تعدّد للقبح في المقام ، لأنّ موضوع القبح عقلا دائما إنّما هو الإقدام على الظلم ، لا نفس الظلم ، غاية الأمر انّ الظلم يستبطن الإقدام عليه لكونه متقوما بالقصد والاختيار ، فالإقدام على الظلم يكاد أن تكون نسبته للظلم هي العموم المطلق ، إذ متى ما كان ظلم ، فهناك إقدام عليه ، لأنّ الظلم متقوم بالقصد والاختيار ، ومتى ما كان إقدام على الظلم ، فقد يكون ظلم ، كما في موارد المعصية ، وقد لا يكون ، كما في التجرّي ، وما هو موضوع القبح عقلا إنّما هو الإقدام على الظلم الّذي هو محور طرفي مورد العصيان والتجرّي ، إذن فلا ندّعي تعدّد مراكز القبح ووجود عنوانين قبيحين أحدهما نفس الظلم ، والآخر الإقدام عليه ، كي يردّ الإشكال في مورد العصيان.
نعم هناك فرق بين مورد الإقدام على الظلم ، مع تحققه ، وبين الإقدام على الظلم من دون تحققه ، وهو أنّه إذا أقدم على الظلم وكان الظلم متحقّقا ، بأن نفرض أنّه عصى تكليف المولى ، فهو هنا ارتكب قبيحا يستحقّ عليه العقاب التأديبي من كل عاقل ، وإضافة لهذا يوجد له مظلوم وهو مولاه ، والعقل يدرك هنا أيضا أنّ المظلوم له حق التعويض والقصاص ممّن ظلمه ، ولهذا نجد انّ هذا الإنسان الّذي يظلم أباه مثلا ، كلّ النّاس يذمّونه بملاك التأديب ، لكن أبوه يذمّه بملاك التأديب بما هو عاقل ، وبملاك القصاص بما أنّه مظلوم.
وهذا بخلاف موارد الإقدام على الظلم دون تحقق الظلم في الواقع ، كمن يجحد نعمة من يتخيّل أنّه منعم عليه ، فهنا صدر منه قبيح ويستحقّ عليه العقاب التأديبي من العقلاء ، لكن العقاب القصاصي من المظلوم لا يستحقّه ، إذ لا مظلوم في الواقع في المقام ، أمّا القبح فلا يفرّق فيه بين الإقدام على الظلم وتحقّقه ، أو عدم تحقّقه ، بناء على التصور الثالث.
وفي مقابل هذا المسلك الّذي سلكناه يوجد مسلكان آخران :
١ ـ المسلك الأول : وهو ظاهر كلمات الشّيخ الأعظم «قده» (١) في الرّسائل ، حيث ذهب إلى إنكار هذا القبح رأسا في الفعل المتجرّي به ، حيث انّه يرى أنّه في الفعل المتجرى به لم يصدر منه ظلم أصلا ، وإنّما هناك سوء سريرة انكشفت بهذا الفعل المتجرّى به. إذن ، فقبح هذا الفعل ، بسبب كشفه عن سوء السريرة ، لا أنّه هو قبيح ، فالفعل المتجرى به ليس قبيحا إلّا بما هو كاشف عن شيء قبيح ، وهذا نظير الكلمات القبيحة الكاشفة عن معانيها القبيحة ، وقبح الكاشف بما هو كاشف ، أمر عرضي مجازي.
__________________
(١) فرائد الأصول : الأنصاري ، ص ٨.
وقد عرفت بطلان هذا المسلك ممّا ذكرناه ، وذلك لأنّه لا بدّ من الرّجوع إلى تشخيص موضوع حق الطاعة ، كي نعرف أنّ المتجري هل صدر منه القبيح أو لم يصدر ، فإن كان الشّيخ «قده» يتصور حق الطاعة بالتصور الثاني ، إذن ، فمن الواضح أنّ المتجري قد سلب من المولى حقّه ، ومعه فلا بدّ من القول بالقبح ، وإن كان الشّيخ «قده» يبني على التصور الثالث ، فهو «أولا» غير صحيح كما عرفت ، و «ثانيا» لو سلّم ، أيضا للزم منه القبح كما تقدّم ، فإنّ العقل يستقل بقبح الإقدام على القبح ، وقولكم بأنّ هذا القبح إنّما هو للفعل بما هو كاشف ، على حدّ قبح الظلم ، فهو قياس مع الفارق ، لأنّ هذا الفعل يكشف كشفا تصديقيا عن عدم احترام العبد لمولاه واستخفافه به ، ومن الواضح ، أنّ نفس كشف ذلك هو عبارة أخرى عن الخروج عن حريم مولوية المولى ، وهذا ظلم قبيح ، إذ أنّ موضوع هذا الكشف هو نفسه موضوع حق المولى والطاعة.
٢ ـ المسلك الثاني : وهو ما يظهر من كلمات المحقق النائيني «قده» (١) حيث ذكر انّ التجري قبيح ، لكنّه ميّز بين القبح الفعلي ، والقبح الفاعلي ، وقال بأنّ قبح التجري ليس فعليا بل فاعلي ، ورتب على ذلك الانتهاء إلى نفس النتيجة الّتي توصل إليها الشّيخ «قده» ، وهي ، أنّه ما دام قبح التجري قبحا فاعليا لا فعليا ، إذن لا يستحقّ العقاب عليه ، لأنّ استحقاق العقاب من شئون القبح الفعلي كما في موارد المعصية.
وهذا الكلام لا يخلو من غموض ، وعليه نطرح احتمالات متصورة حوله مع مناقشتها.
__________________
(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ١٦ ، ص ١٧.
أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٣٦.
١ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون مقصوده إنكار قبح الفعل المتجرّى به أصلا ، وإنّما قبحه عرضي مجازي لكشفه عن سوء سريرة المتجري.
وهذا رجوع إلى كلام الشّيخ «قده» ، وقد عرفت ما فيه ، كما أنّ هذا هو الّذي يظهر من كلمات أجود التقريرات (١) ، وفوائد الأصول من تقريرات الميرزا «قده».
٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون مقصوده تصور نحوين من القبح ثبوتا.
أحدهما ، قبح فعلي ، والآخر ، قبح فاعلي ، والقبح الفعلي مركزه ذات الفعل في نفسه بقطع النظر عن إضافته إلى فاعل مخصوص ، ويقابله حسن فعلي ، أي حسن الفعل بما هو هو ، وهذا هو الحسن والقبح الفعليّان.
والآخر ، وهو القبح الفاعلي ، ومركزه الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، ويقابله الحسن الفاعلي ومركزه الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، وهذا هو القبح والحسن الفاعليّان ، وحينئذ يدّعى ، أنّه في باب المعصية يكون القبح فعليا حيث أنّ نفس الفعل قبيح بقطع النظر عن صدوره من أي شخص ، وأمّا حينما يشرب خلا بتوهم أنّه خمر ، كما في التجري ، فهذا الفعل بقطع النظر عن إضافته إلى الفاعل لا مفسدة فيه لأنّه خل ، لكن بما هو مضاف إلى هذا الفاعل المخصوص القاطع بحرمته ، يكون قبيحا ، فهذا قبح فاعلي.
فمرجع هذا الكلام إلى أنّ القبح تارة يكون من الفعل في نفسه كما في المعصية ، فيستحقّ العقاب ، وأخرى يكون في الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، فهذا قبح فاعلي ، ولا يستحقّ العقاب.
__________________
(١) المصدر السابق.
وحينئذ نقول : إن كان هذا هو مقصوده ، فيردّ عليه :
أولا : انّه لا معنى لتقسيم الحسن والقبح إلى «فعلي وفاعلي» ، فإنّ هذا معناه ، أنّه يتصور انّ الفعل في نفسه بقطع النظر عن إضافته إلى فاعل مخصوص يتصف بالحسن والقبح ، مع أنّه من الواضح بطلان هذا التصور ، لأنّ الحسن والقبح إنّما يضافان إلى الفعل بلحاظ صدورهما من الفاعل.
وكأنّ هذا التقسيم ناشئ من الخلط بين الحسن والقبح ، وبين المصلحة والمفسدة ، إذ أنّ المصلحة والمفسدة موضوعهما هو الفعل في نفسه فهو الّذي يتصف بالمصلحة والمفسدة ، وأمّا الحسن والقبح فإنّ موضوعهما الفعل بما هو مضاف إلى فاعله ، ولا يتصور فيهما حسنا وقبحا بقطع النظر عن الفاعل ، بل قد يكون الحسن ذا مفسدة ، والقبح ذا مصلحة ، كما في التجرّي والانقياد على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
إذن فمتعلق الحسن والقبح إنّما هو فعل الفاعل ، لا فعل مقطوع النظر فيه عن الفاعل ، فلو وقع فعل بلا فاعل ولو محالا ، فلا معنى لحسنه وقبحه ، ولا معنى لاستحقاقه الثواب عليه والعقاب ، لأنّه لا وجود لشخص فاعل يثاب ويعاقب ، بينما لو وقع فعل بلا فاعل ، فهذا قد يكون فيه مصلحة ، إذن ، فباب المصلحة غير متقوم بإضافة الفعل إلى الفعل ، إذن ، فهناك مصلحة فعليّة ، ومصلحة فاعلية ، لكن الحسن والقبح باعتبار رجوعهما إلى استحقاق الثواب والعقاب ، فهما متقومان بالفاعل ، إذن فلا معنى لتقسيمهما إلى فعلي وفاعلي ، لأنّ القبح والحسن هما ما يذمّ ويمدح عليهما الفاعل ، وهذا لا يكون إلّا بعد إضافتهما إلى فاعل ، وليس الفعل في نفسه.
وثانيا : لو سلّمنا بهذا التقسيم ، أي بقبح فعلي متعلق بذات الفعل ، وقبح فاعلي متعلق به بما هو مضاف إلى الفاعل ، فإنّه مع هذا يأتي الإشكال الثاني ، وهو أن يقال حينئذ :
لما ذا لا يستحقّ الفاعل ، العقاب على القبح الفاعلي ، كما في التجرّي ، ما دام أنّ الفعل بما هو مضاف إليه قبيح ، فإنّه لا فرق بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي من هذه الناحية ، فكما أنّ القبح الفعلي يستوجب العقاب ، فكذلك القبح الفاعلي.
ومنه يعلم أنّه لا وجه لتخصيص استحقاق العقاب بخصوص صدور القبيح في نفسه وبقطع النظر عن الفاعل.
٣ ـ الاحتمال الثالث : هو أن يكون مقصوده من القبح الفعلي والفاعلي. بمعنى أنّ مركز القبح الفاعلي هو نفس الإضافة والنسبة بين الفعل والفاعل. لا الفعل ذاتا ، ولا الفعل بما هو مضاف.
وبتعبير آخر : أن يكون مقصوده أنّه يتصور انّ الفاعل حينما يفعل شيئا يكون هناك ثلاثة أشياء ، فاعل ، وفعل ، ونسبة بينهما ، وحينئذ يقال : بأنّ القبح ، تارة يكون مصبّه هو الفعل بما هو منسوب إلى فاعل ، وأخرى يكون مصبّه هو ذات النسبة مع خروج الفعل عن فعليّة القبح.
وفرق هذا عن سابقه هو ، أنّه هنا : القبح الفعلي متعلق بالفعل المضاف إلى الفاعل بما هو مضاف ، لكن بنحو يشمل ذات الفعل وينطبق على الفعل المضاف بما هو مضاف ، والقبح الفاعلي متعلق بذات الإضافة ، إذن فعندنا شيئان ، إضافة ، وفعل مضاف ، فالقبح الفعلي متعلق بالفعل المضاف بما هو مضاف ، والقبح الفاعلي متعلق بذات الإضافة.
وهذا الكلام لا يردّ عليه الإشكال الأول ، لأنّ القبح الفعلي هنا ليس متعلقا بالفعل بما هو هو ، بل بالفعل بما هو مضاف ، وفرقه عن القبح الفاعلي هو أنّ القبح الفاعلي متعلق بمحض الإضافة والنسبة بلا سريان للفعل ثمّ يرى أنّ القبح في باب المعصية فعليا وفي باب التجري فاعليا.
لكن رغم هذا ، فهذا الاحتمال غير صحيح ، لأنّه يردّ عليه.
أولا : انّ التفكيك بين الإضافة والفعل المضاف أمر تحليلي اعتباري لا واقعي ، وإلّا فليس في الخارج شيئان ، أحدهما الفعل ، والآخر ، الإضافة ، بل الإضافة بما هي معنى حرفي مفهوم منتزع عن الفعل بلحاظ انتسابه إلى الفاعل وصدوره عنه ، وإلّا لو كان هناك شيئان خارجيان ، الإضافة ، والفعل ، لسألنا : إنّ هذه الإضافة من فعلها؟ ولا بدّ أن يكون هو نفس هذا الفاعل ، وإلّا لفرضنا إضافة أخرى بين هذه الإضافة وبين الفاعل ، وهكذا حتّى يتسلسل ، فالإضافة ليست موجودة في مقابل وجود الفعل ، بل هي أمر واقعي منتزع بلحاظ صدور الفعل من الفاعل ، والموجود خارجا إنّما هو الفعل ، إذن فما تعلق به القبح هو الفعل ، ولا معنى لافتراض تعلق القبح بالإضافة إذ الوجدان قاض بعدم وجود أكثر من تبعية اتجاه الفعل.
وثانيا : هو أنّه لو سلّم ثبوت التعدّد بين الإضافة والفعل المضاف بحسب الوجود الخارجي ، حيث يفرض أنّ الإضافة لها وجود في الخارج ، وانّ الفعل له وجود مستقل كذلك ، وانّ القبح تارة يتعلق بالإضافة فقط ، وأخرى يتعلّق بالمضاف بما هو مضاف ، لو سلّم كل ذلك ، فلما ذا لا يترتب استحقاق العقاب على «المتجرّي» ، أي على القبح الفاعلي ، إذا كانت الإضافة أمرا وجوديا منسوبا للفاعل. باعتبار أنّه قد صدر منه القبيح ، لأنّ هذه النسبة والإضافة أمر اختياري للفاعل أيضا ، إذن فهي تستدعي المسئولية.
٤ ـ الاحتمال الرابع : هو أن يكون مقصوده من القبح الفعلي والفاعلي ، قبح الفعل المضاف بما هو مضاف لا قبح الإضافة ، لكن القبح الفعلي متعلق بالفعل المضاف بعنوانه الأولي ، والقبح الفاعلي متعلق بالفعل المضاف بعنوانه الثانوي ، فمثلا في مورد المعصية حينما
يشرب العاصي «الخمر» ، فهنا ، هذا الفعل له عنوان أوّلي ، وهو «شرب الخمر» ، وله عنوان ثانوي ، وهو «الإقدام على المعصية» ، وفي مورد التجرّي حينما يشرب الخل باعتقاد أنّه خمر ، له عنوان أولي ، وهو «شرب الخل» ، وعنوان ثانوي ، وهو «الإقدام على المعصية» ، حينئذ ، القبح في باب المعصية متعلق بالعنوان الأولي ، فيسمّى بالقبح الفعلي ، وفي باب التجري القبح متعلق بالعنوان الثانوي فيسمّى بالقبح الفاعلي ، فهنا قبحان كلاهما متعلق بالفعل ، ولكن بلحاظ العنوان الأولي يكون قبحا فعليا ، وبلحاظ العنوان الثانوي يكون قبحا فاعليا.
ويردّ عليه أولا : أنّه لو سلّم ذلك ، لكن هذا لا ينتج مقصودكم ، وهو نفي استحقاق العقاب للمتجري ، كما ذهب إليه الميرزا «قده» (١). إذ كلامه يفترض الاعتراف بسراية القبح إلى نفس الفعل ، غايته أنّه بعنوانه الثانوي.
ومن الواضح أنّ الفعل إذا كان قبيحا بأيّ عنوان ، فقبحه مرجعه إلى استحقاق العقاب عليه ، إذن فلا محالة يستتبع العقاب والمؤاخذة من دون فرق بين أن يكون بتوسط عنوان أولي ، أو عنوان ثانوي.
وثانيا : انّه قد عرفت من تصوير المطلب سابقا ، أنّ ملاك القبح في المعصية والتجرّي واحد ، وهو «سلب حق المولى» الّذي هو متقوم بارتكاب ما يعلم بأنّه حرام ، سواء كان حراما في الواقع أم لا.
ما «شرب الخمر» ، فهب أنّه بعنوانه الأولي ليس قبيحا ، نعم فيه مفسدة ، لكن المفسدة شيء ، والقبح شيء آخر ، بل القبح الّذي هو من تبعات معصية المولى يدور مدار الظلم وسلب المولى حقّه ، وإلّا فهو ليس قبيحا بالمعنى الّذي يقصده من القبح.
__________________
(١) المصدر السابق.