بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

المولى باعتبار أنّ عنده ملاكان ، أحدهما مفسدة الخمر ، والآخر مصلحة إطلاق العنان في الخل أو لحم الطير مثلا ، وبما أنّه لم يصل ذلك إلى المكلّف ، حينئذ ، إمّا أن يحكم عليه حكما طريقيا بوجوب الاحتياط فيهما معا ، تحفظا على مفسدة الخمر ، وبهذا تفوت المصلحة الموجودة في الخل أو لحم الطير ، وإمّا أن يعكس المطلب ، وحينئذ ، يقع في مفسدة الخمر أو لحم الأرنب مثلا ، وأيّهما جعل ، فهو حكم طريقي ، لأنّ هذا الحكم لم ينشأ في صورة جعل الحرمة من مفسدة في الاثنين ، بل من مفسدة في الخمر ، لكن حفاظا على عدم الوقوع فيها يجعل تلك الأحكام ، ومن هنا قلنا : إنّ هذه الأحكام تنشأ من متعلقات ملاكات تلك الأحكام الواقعية النفسية ، وكذا الحال لو جعل الحلية للإثنين معا ، فإنّ هذا حكم طريقي لم ينشأ من مصالح في الموردين ، بل حفاظا على مصلحة الخل أو لحم الطير ، ومن هنا فالأحكام الطريقية ناشئة من ملاكات في متعلقات تلك الأحكام النفسية ، ويترتب عليها أنّها إنّما تتميّز وتعذر عن الأحكام النفسية ، وأمّا بنفسها فلا تميّز لها ولا تعذير ، فوجوب الاحتياط مثلا منجز للأحكام الواقعية المشكوكة.

وبمثل هذا البيان دفعنا التضاد بين الأحكام الواقعية والأحكام الظّاهرية في عالم المبادئ ، إذ يتضح من هذا انّ مبادئ الحكم الظاهري هي عين مبادئ الحكم الواقعي النفسي ، لا ملاكات ومبادئ أخرى يقع التضاد بينهما ، وبمثل هذا جمعنا بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية ، وبمثل هذا صوّرنا وجوب الاحتياط والبراءة وأمثالها.

وهذا البيان لا يأتي في محل الكلام ، لأنّه في محل الكلام لو فرض أنّ المكلّف كان قاطعا بأحكام ترخيصية ، والمولى يريد أن يجعل ما يشبه وجوب الاحتياط عليه أو بالعكس ، وكلاهما غير ممكن ، لأنّ

٦١

هذا الحكم الّذي يشبه وجوب الاحتياط ، إن كان نفسيا ، فيلزم حينئذ اجتماع الضدين ، لأنّ هذا حكم مستقل وله مبادئ مستقلة ، والمقطوع له أيضا مبادئ مستقلة فيلزم التضاد ، وإن كان هذا المجعول حكما طريقيا ، إذن فهو لا يتنجز بنفسه ، وإنّما يتنجز غيره ، وهي الحرمة الواقعية الّتي يقطع المكلّف بعدمها ، حيث أنّه يقطع بالترخيص.

وهذا هو فرق القاطع عن الظان والشك ، ففي موارد الظن والشك إذا حكم المولى بوجوب الاحتياط طريقيا تنجز الواقع المشكوك أو المظنون ، والمكلّف يحتمل وجوده في الواقع ، إذن فقد نجا من وجود شيء قد تنجز عليه ، فيكون وجوب الاحتياط مؤثرا في مقام العمل.

أمّا وجوب الاحتياط في محل كلامنا ، فلا ينجز غيره ، إذ لا وجود لغيره ، هذا برهان استحالة جعل ما يشبه وجوب الاحتياط.

أمّا إذا عكس المطلب ، وكان برهان استحالة جعل ما يشبه البراءة ، فيما إذا فرض أنّ المكلّف قطع بحكم إلزامي ، وذلك لأنّ المولى يرى انّ هذا القاطع سلوكه في أكثر الموارد متحفظا على الحاجات الّتي تخيّلها محرمات ، فيريد ترخيصه في تمام ما قطع به ، وهذا مستحيل ، باعتبار انّ هذا الحكم الّذي يجعله على القاطع ، إن كان نفسيا ، إذن يلزم اجتماع الضدين في تمام المبادئ كما تقدّم ، وإن كان حكما طريقيا من باب تقديم مصلحة الحلال على مفسدة الحرام ، إذن لا يكون مؤثرا في حق هذا المكلّف ، لأنّ هذا الحكم الطريقي إنّما يصدر من الشارع ، من باب عدم إمكان التحفظ على كلا الملاكين ، والعبد يرى أنّ بإمكانه التحفظ ، لأنّه يرى انّ قطعه مصيب ، فمثل هذا الترخيص الاضطراري لا يكون معذرا لمكلف يرى أنّه قادر على التحفظ على كل ملاكات الشارع ، كما لو فرض أن تعرّض للغرق كل من صديق الشارع وعدوه ، فيقول الشارع للعبد لا تنقذهما معا اضطرارا ، فلو فرض أنّ

٦٢

العبد يميز بينهما ، فلا يكون هذا معذرا بالنسبة إليه ، إذن فالمولى إذا جعل ما يشبه البراءة على القاطع ، فكل قاطع يمكنه أن يعتذر عن إنشاء الحكم من قبل المولى عند ضيق الخناق.

والخلاصة هي ، أنّه لا يمكن جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به ، كما يجعل في موارد الشك والظن من الأحكام الظّاهرية. أمّا إذا كان القطع بحكم ترخيصي وأراد المولى جعل حكم ظاهري إلزامي نظير الاحتياط في الشّبهات ، فهذا الحكم ، إن فرض نفسيا ، لزم التضاد كما تقدّم توضيحه في البرهان الأول ، وإن فرض طريقيا ـ والحكم الطريقي عندنا هو الحكم الناشئ بملاك التزاحم بين الأحكام الترخيصية والإلزامية في مرحلة حفظ الملاك الأهم ، ولذا يجعل المولى حكما طريقيا يبرز به اهتمامه بما هو المهم من تلك الملاكات المتزاحمة ، ومن هنا قلنا : إنّ تلك الأحكام الطريقية هي أحكام ناشئة من مبادئ ولكن لا في نفسها ، بل في متعلقات ملاكات تلك الأحكام الواقعية النفسية ـ فلا يكون تضاد بينهما بلحاظ المبادئ ، لأنّ مبادئ الحكم الظاهري هي عين مبادئ الحكم الواقعي النفسي ، لا ملاكات ومبادئ أخرى ليقع التضاد بينها ، وبمثل هذا جمعنا بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، وبمثل هذا صوّرنا وجوب الاحتياط والبراءة وأمثالها.

إلّا انّ هذا البيان لا يعقل جعله في محل الكلام ، لأنّ الحكم الطريقي هنا غير منجز في نفسه ، وإنّما هو منجز لغيره ، أي أنّه ينجز الحكم الواقعي وملاكه النفسي كما تقدّم ، والمفروض أنّ المكلّف يقطع بعدم الملاك الإلزامي الواقعي ، حيث أنّه يقطع بالترخيص به ، ومعه لا يتنجز الحكم الإلزامي الواقعي بهذا الحكم الطريقي ، وهذا هو فرق القاطع عن الظان والشاك كما عرفت.

٦٣

وأمّا إذا عكس المطلب ، وكان المكلّف قاطعا بحكم إلزامي وأراد المولى جعل حكم ظاهري ترخيصي ، فهذا مستحيل أيضا ، لأنّه إن كان ما يجعله حكما نفسيا ، إذن فيلزم اجتماع الضدين في تمام المبادئ كما تقدّم.

وإن كان طريقيا ناشئا عن التزاحم بين الملاكات الواقعية الترخيصية والإلزامية وتقديم مصلحة الترخيص على الإلزام ، فمثل هذا الحكم لا يكون مؤثرا ومعذرا للمكلّف ، لأنّ هذا الحكم إنّما يصدر من الشارع من باب عدم إمكان التحفظ على كلا الملاكين ، والقاطع يرى أنّ قطعه مصيب للواقع دائما ، إذن فهو يرى أنّه بإمكانه أن يحفظ الملاك الإلزامي للمولى من دون تزاحم ، إذن فمثل هذا الترخيص لا يكون معذرا لمكلّف يرى أنّه قادر على التحفظ على كل ملاكات الشارع ، فهو يرى عدم شمول خطاب الشارع له روحا وملاكا ، وإن كان يشمله خطابا.

فالنتيجة هي ، أنّه لا يعقل جعل الخطاب الظّاهري في مورد القطع ، لا نفسيا ، لاستلزامه التضاد ، ولا طريقيا ، لأنّ القاطع يرى نفسه مستثنى من الخطاب روحا وملاكا وإن كان مشمولا له صورة ، وكلّ خطاب يكون شموله للمكلّف هكذا ، لا يكون منجزا ولا معذرا له. هذا هو حاصل البرهان الصحيح في المقام.

٦٤

الجهة الثانية :

مبحث التجري

وموضوع هذه المسألة هو ، أنّ أيّ تكليف يتنجز على المكلّف سواء كان المنجز عقليا كما في موارد القطع الوجداني أو الشك والاحتمال المنجز في موارد منجزيته ، كالاحتمال قبل الفحص ، أو الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي ، أو كان المنجز شرعيا ، كما في الإمارات والأصول المنجزة كالاستصحاب ، فإذا تنجز تكليف على هذا النحو ، فإن فرض انّ هذا التكليف المنجز كان مطابقا للواقع ، ومنجزا بالواقع ، بأن كان التكليف الواقعي الإلزامي موجودا في البين ، وخالفه المكلّف ، فهذا عصيان قبيح يستحقّ العبد على تركه العقاب في صورة مخالفته له بلا إشكال ، وأمّا إذا فرض أنّ التكليف المنجز الواقعي هذا ، لم يكن ثابتا في الواقع ، بل كان الثابت هو الإباحة الترخيص ، ولكن المكلّف خالف وتجرأ ، فهذا هو التجرّي موضوع الكلام.

وحينئذ يبحث في أنّه هل يحكم بقبحه واستحقاق المتجري العقاب عليه بل وحرمته شرعا ـ على الرغم من عدم مطابقته التكليف المقطوع للواقع وعدم ثبوته ـ أو لا؟

ومنه يظهر انّ هذا البحث لا يختصّ بخصوص موارد القطع ، بل

٦٥

يشمل بروحه كل ما كان منجزا سواء كان قطعا ، أو منجزا بمنجز عقلي كالاحتمال قبل الفحص ، أو بمنجز شرعي كما عرفت.

وهناك من توهم انّ هذا البحث لا يشمل موارد المنجزات الشرعية ـ أي موارد الحكم الظّاهري ، كما لو قامت الإمارة ثابت على حرمة مائع ـ بدعوى أنّه في هذه الموارد ، المعصية محققة ، فيخرج المقام عن التجري ويدخل في المعصية ، لأنّ الحكم على طبق الإمارة ثابت على أيّ حال ، سواء كانت الإمارة مطابقة للواقع ، أو لم تكن كذلك ، كما لو أخبر الثقة بوجوب السورة ، وترك المكلّف السورة ، ولم تكن واجبة في الواقع ، ولكن خالف خبر العادل.

وهذا التوهم باطل على جميع المباني في باب جعل الحجية في باب الإمارات والأصول ، لأنّ الحكم الظّاهري ليس له عقاب وامتثال مستقل في مقابل التكاليف الواقعية.

وقد شمّ سر ذلك في البحث السابق ، حيث ذكرنا أنّ الأحكام الظّاهرية هي أحكام طريقيّة لا تنشأ من مصلحة في متعلقاتها هي ، بل منشؤها من ملاكات الأحكام الواقعية ، حيث بها يحفظ الملاك النفسي في الحكم الواقعي ، فيكون جعلها للمحافظة على ملاكات الأحكام الواقعية ، حيث يقال : بأنّ هذا الحكم الظّاهري الّذي روحه روح الطريقي قد جعل بلسان جعل الحكم التكليفي ، كما كان في صدق العادل ، أو بلسان جعل الحكم المماثل ، أو بلسان جعل الطريقية والكاشفية ، أو بلسان جعل الحجيّة والمنجزيّة ، فكل هذه الألسنة هي مجرد صياغات فنية في مقام الجعل لا تغيّر من حقيقة الحكم الظّاهري ، فإنّ روح الحكم الظّاهري تبقى بنفسها روح حكم لا حيثيّة لها في قبال الحكم الواقعي والواقع ، بل هي روح طريق لا تختلف الحال فيه بين لسان وآخر من هذه الألسنة.

٦٦

وعليه : فالمقام داخل في باب التجرّي دون العصيان المستقل عن الحكم الواقعي ، ولا يتوقف ذلك على ما ذكره الميرزا «قده» (١) ، من أنّ الأحكام الظّاهريّة ليست تكليفية ، بل هي تتميم للكشف والطريقيّة ، فليس لها عصيان مستقل عن الواقع ، فإنّ هذا غير صحيح ، فإنّ الحكم الظّاهري كيفما كان لسانه ، سواء كان تتميم الكشف ، أو بلسان جعل الحكم المماثل أو غيره ، فهذه كلها تفنّنات في التعبير.

وأمّا روح الحكم الظّاهري فليس له عصيان وامتثال مستقل عن الحكم الواقعي ، لأنّه عار عن المبادئ ، سوى مبادئ الحكم الواقعي ، وحيث أنّه لا واقع له ، فيدخل في باب التجرّي.

والبحث في هذه المسألة يقع في عدّة مقامات.

١ ـ المقام الأول : في تحقيق الكلام في قبح الفعل المتجرّى به وعدم قبحه عقلا.

٢ ـ المقام الثاني : في استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به وعدمه ، سواء قيل بقبحه عقلا أو لا.

٣ ـ المقام الثالث : في حرمة الفعل المتجرى به شرعا.

__________________

(١) فرائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ١٥ ، ١٦.

أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٢٣ ، ٢٤.

٦٧

المقام الأول :

في تحقيق الكلام في قبح

الفعل المتجرّى به وعدم قبحه عقلا

أمّا المقام الأول وهو في قبحه عقلا ، بمعنى أنّ حكم العقل بقبح التجري ، هل يختصّ بالمعصية ، أو أنّه يشمل التجري أيضا؟.

والّذي ينبغي قوله هو ، انّه بعد أن عرفنا في المقام أنّ حكم العقل بقبح التجري ، يرجع ـ في الحقيقة وبحسب طريقة تحليلنا له ـ إلى حق الطاعة ، وحق مولوية المولى على العبد ، وحينئذ ، لا بدّ من الفحص عن حق هذه المولوية ودائرتها وموضوعها ، لنرى أنّ هذه الدائرة هل تنطبق على التجري ، وانّ موضوع حق الطاعة هل يشمل موارد التجرّي أو لا؟

فإن انطبق وكان موضوع حق الطاعة يشمل موارد التجري ، إذن ، فللمولى حق ، والمتجرّي سلب منه هذا الحق ، وهذا السلب ظلم ، والظلم قبيح ، فيكون الفعل المتجرّى به قبيحا.

وإن فرض أنّ موضوع المولويّة لا ينطبق على موارد التجرّي ، إذن ، لا حقّ هنا للمولى ، فلا قبح إذن ، لأنّ القبح فرع الظلم ، والظلم فرع سلب الحق.

٦٨

إذن ، فالسؤال هنا ، هو أنّه ، ما هو موضوع حق الطاعة ، وما هي دائرة حق المولوية؟.

وهنا يوجد ثلاث تصورات في البداية.

١ ـ التصور الأول : هو أن يكون موضوع حق الطاعة والمولوية هو تكاليف المولى الموجودة بوجوداتها الواقعية النّفس الأمرية ، سواء وصلت أو لم تصل ، علم بها أم لم يعلم ، وبناء على هذا ، حينئذ ، يلزم أن يكون حق الطاعة للمولى غير ثابت في موارد التجرّي ، لأنّ تمام موضوع حق الطاعة هو التكليف بوجوده الواقعي النّفس الأمري والمفروض عدم وجوده في موارد التجري ، إذن فحق الطاعة بهذا التصور لا يشمل موارد التجري.

لكن قد عرفت سابقا أنّ هذا التصور غير صحيح في نفسه ، لأنّ لازمه تحقّق المعصية في موارد مخالفة التكليف الواقعي ولو لم يكن منجزا ، بل حتّى إذا كان قاطعا بعدمه ، لأنّه أيضا يكون حق الطاعة ثابتا ، لأنّ تمام الموضوع محفوظ حتّى مع العلم بعدمه ، وهذا غير معقول.

٢ ـ التصور الثاني : وهو عكس الأول ، وذلك بأن يقال : بأنّ حق الطاعة والمولوية ، تمام موضوعها هو ، إحراز التكليف بمنجز من المنجزات العقلية أو الشرعية ، سواء كان هناك تكليف في الواقع أو لم يكن ، إذن ، فالإحراز هنا هو تمام الموضوع.

وبناء عليه : يكون حق الطاعة ثابت وشامل لموارد التجرّي ، لأنّ تنجز التكليف ثابت ومحرز فيها بالقطع المنجز عقلا وإن لم يكن موجودا في الواقع ، وعليه : فحق المولوية يكون مسلوبا هنا وهو ظلم ، والظلم قبيح ، وهو مورد التجري.

٣ ـ التصور الثالث : وهو تصور وسط بين التصورين السابقين ،

٦٩

وحاصله : هو أنّ موضوع حق الطاعة مركب من جزءين ، أحدهما التكليف بوجوده الواقعي ، وثانيهما ، إحرازه بمنجز عقلي أو شرعي ، إذن ، فلا التكليف الواقعي وحده موضوع حق الطاعة وتمام الموضوع ، ولا العلم والإحراز وحده هو الموضوع ، وبناء عليه فلا يلزم ثبوت حق الطاعة من ترك الأول وحده ، ولا من الثاني وحده ، وحينئذ ، بناء على هذا التصور يقال : بأنّ الفعل المتجرّى به لا يكون قبيحا ، لأنّه لا حق للمولى مسلوب هنا من قبل المتجرّي ليكون قبيحا.

وهنا لنا كلامان :

١ ـ الكلام الأول : هو انّنا ندّعي أنّ الصحيح من هذه التصورات الثلاثة هو الثاني.

٢ ـ الكلام الثاني : هو انّنا ندّعي فيه أنّه لو بني على التصور الثالث ، فمع هذا نقول بقبح التجري.

أمّا الكلام الأول ، وهو أنّ التصور الثاني هو الصحيح ، فذلك لأنّ حق المولى ، تارة يكون حقّا مجعولا من قبل مولى آخر ، وأخرى يكون حقّا ذاتيا كما تقدّم.

ومحل كلامنا هو حق المولويّة الذاتية ، أي الثاني ، وهذا الحق الذاتي للمولويّة ليس شأنه شأن الحقوق الأخرى العرفية أو الاجتماعية أو الشرعية الّتي لها واقع يتصور فيه انكشاف الخلاف ، من قبيل حق المرتهن في العين المرهونة ، أو حق المغبون في الغبن ، فقد يفرض انّ هذه حقوق ثابتة ، ولكن الإنسان لا يعلم بها ، حيث يفرض أنّه يتخيل ثبوتها وهي غير ثابتة ، لأنّ هذه الحقوق تابعة لموضوعاتها الواقعية النّفس الأمرية.

أمّا حق المولى في المولوية الذاتية ، فهو بحسب الحقيقة مرجعه إلى استحقاق هذا المولى المرتبة اللائقة به من الاحترام والرعاية لجانب

٧٠

مولويته وتجنب الجرأة عليه ، والاستعداد لأداء الوظائف الّتي يأمره بها ، إذ لا معنى لحق المولى وحق الطاعة إلّا هذا ، ونحن إنّما نقول إنّ الطاعة حق ذاتي فباعتبار جنبة احتراميّتها.

وهذا الحق ، تمام ميزانه ونكتته هو قطع المكلّف بتكليف المولى ، وحينئذ ، إذا أقدم المكلّف على الفعل مع قطعه بالنهي عنه من قبل مولاه ، أو أقدم على تركه مع قطعه بالأمر به ، حينئذ ، تمام الجنبات الإهانية تكون موجودة في فعله ، فيكون فعله هذا سلبا وظلما للمولى.

نعم في فرض التجرّي عند ما لا يكون الفعل المتجرّى به بملاك تحصيل مصلحة له أو عدم إضرار به كما في حقوق النّاس وأموالهم ، كما هو الحال في حق المالك في ملكه ، فقد يقال : بأنّ من أتلف مالا يتخيل انّه لزيد من النّاس ثمّ تبين أنّه مال لنفسه ، قد يقال حينئذ ، انّه ليس ظالما لزيد لأنّه لم يخسره شيئا ، حيث أنّه لم يعتد على ماله ولا على مولويّة المولى.

أمّا هنا في فرض المعصية ، فالاعتداء على المولى موجود ، لأنّه كان بلحاظ نفس حق الطاعة وحق المولوية ، وقد عرفت ، انّ حق الطاعة لا يرجع إلى حيثية واقعية وواقع التكليف ، وإنّما يكون بملاك التحفظ على احترام المولى ، لأنّ تمام موضوع حق المولى هو مطلق التنجز بالقطع وغيره بتكاليف المولى ، فلو تنجز تكليف على العبد ، ومع ذلك تجرأ وخالف مولاه ، كان ذلك خروجا عن أدب العبودية واحترام مولاه ولو لم يكن هناك تكليف واقعا.

إذن ، فمن حيث الجانب الاحترامي لا يوجد هناك دخل لمطابقة القطع للواقع وعدمه ، وإنّما تمام موضوع حق الطاعة هو عبارة عمّا أحرز من التكاليف بمنجز ما ، سواء كان هذا الإحراز مطابقا للواقع أم لا ، بل حتّى لو لم يكن في الواقع تكليف.

وأمّا الكلام الثاني فهو ، انّنا لو سلّمنا بالتصور الثالث ، وهو كون

٧١

موضوع حق الطاعة والمولى مركب من جزءين ، التكليف بوجوده الواقعي ، والإحراز ، إذن ، فهنا العبد لم يسلب من المولى حقّه في باب التجري ، لأنّ أحد جزئي الموضوع غير موجود.

ولكن رغم ذلك نقول ، بقبح التجرّي ، وذلك بدعوى أخرى ندّعيها ، وهي أنّ هذا العبد حينما أقدم على ارتكاب ما قطع بحرمته ، فإنّه كان يتخيل أنّه حق المولى ، وهو يقطع بالتالي بأنّه يسلب المولى حقّه في صورة ارتكابه ، بمعنى ، أنّه أقدم على ظلم المولى وسلبه حقّه باعتقاده ، وإن لم يظلمه واقعا ، وندّعي أنّه كما انّ الظلم قبيح ، فكذلك ارتكاب ما يقطع بأنّه ظلم ولو اشتباها ، فإنّه قبيح أيضا بحكم العقل ، كمن كان يتخيّل ويعتقد بفضل إنسان عليه وإنعامه ، ثمّ جحد نعمته ، فهذا قبيح ، إذ لا فرق بين من يقع في خطأ في أصل مولوية المولى ، وبين من يقع في خطأ تطبيق مولويته ، حيث انّ نفس الإقدام على فعل يقطع بأنّه ظلم للمولى قبيح وإن لم يكن في الواقع كذلك ، فمن قبل واعتقد انّ الظلم قبيح ، ينبغي أن يعتقد انّ الإقدام على ما يعتقد انّه ظلم قبيح أيضا.

وموارد التجري من هذا القبيل ، فإنّه وإن لم يكن قد سلب حق المولى ـ هذا بعد التنازل عن الكلام الأول ـ إلّا أنّ هذا المكلّف كان قد أقدم عليه ، فيكون إقدامه هذا بهذا الاعتبار قبيحا ، وبهذا يكون استحقاقه للعقاب من مولاه الحقيقي ـ مع أنّه لم يظلمه في الواقع ـ بملاك كون مقتضى مولوية المولى الحقيقي ان تعاقب المتجري الفاعل للقبيح بحسب اعتقاده ، وإن لم يكن فعله القبيح هذا ظلما لمولاه في الواقع.

ومع اتضاح بطلان التصور الأول في دائرة حق الطاعة ، واتضاح أنّه بناء على التصور الثاني لا إشكال في قبح الفعل المتجرّى به كما هو الصحيح ، ننقل الكلام إلى التصور الثالث.

٧٢

وأمّا التصور الثالث : فقد عرفت سابقا أنّه حتّى لو سلّمنا وبنينا عليه ، فرغم هذا نقول بقبح التجرّي لما عرفت وادّعيناه من كون الظلم قبيحا ، وكون الإقدام على ما يعتقد بكونه ظلما هو قبيح أيضا.

وحينئذ أشكل على هذا الكلام حيث قيل : إنّه إذا كان الظلم قبيحا ، وكان الإقدام على ما يعتقد بكونه ظلما هو قبيح أيضا ، إذن يلزم في موارد المعصية وإصابة القطع للواقع تعدد القبيح ، لأنّ العاصي ظلم المولى ، باعتبار انّ موضوع حق الطاعة محقق حتّى بناء على التصور الثالث ، وقد فرض أنّه أقدم على هذا الظلم ، فنفس الحالة الموجودة في المتجري ، وهو إقدامه على الظلم ، هي موجودة في هذا العاصي ، لأنّه أقدم على الظلم ، وبهذا يكون قد صدر عنه قبيحان.

أو قل : إذا كان الظلم قبيح ، والإقدام عليه قبيح أيضا ، لزم في موارد المعصية وإصابة القطع للواقع ، صدور قبيحين ، وهو خلاف الوجدان.

وحل هذا الإشكال ، هو أنّه لا تعدّد للقبح في المقام ، لأنّ موضوع القبح عقلا دائما إنّما هو الإقدام على الظلم ، لا نفس الظلم ، غاية الأمر انّ الظلم يستبطن الإقدام عليه لكونه متقوما بالقصد والاختيار ، فالإقدام على الظلم يكاد أن تكون نسبته للظلم هي العموم المطلق ، إذ متى ما كان ظلم ، فهناك إقدام عليه ، لأنّ الظلم متقوم بالقصد والاختيار ، ومتى ما كان إقدام على الظلم ، فقد يكون ظلم ، كما في موارد المعصية ، وقد لا يكون ، كما في التجرّي ، وما هو موضوع القبح عقلا إنّما هو الإقدام على الظلم الّذي هو محور طرفي مورد العصيان والتجرّي ، إذن فلا ندّعي تعدّد مراكز القبح ووجود عنوانين قبيحين أحدهما نفس الظلم ، والآخر الإقدام عليه ، كي يردّ الإشكال في مورد العصيان.

٧٣

نعم هناك فرق بين مورد الإقدام على الظلم ، مع تحققه ، وبين الإقدام على الظلم من دون تحققه ، وهو أنّه إذا أقدم على الظلم وكان الظلم متحقّقا ، بأن نفرض أنّه عصى تكليف المولى ، فهو هنا ارتكب قبيحا يستحقّ عليه العقاب التأديبي من كل عاقل ، وإضافة لهذا يوجد له مظلوم وهو مولاه ، والعقل يدرك هنا أيضا أنّ المظلوم له حق التعويض والقصاص ممّن ظلمه ، ولهذا نجد انّ هذا الإنسان الّذي يظلم أباه مثلا ، كلّ النّاس يذمّونه بملاك التأديب ، لكن أبوه يذمّه بملاك التأديب بما هو عاقل ، وبملاك القصاص بما أنّه مظلوم.

وهذا بخلاف موارد الإقدام على الظلم دون تحقق الظلم في الواقع ، كمن يجحد نعمة من يتخيّل أنّه منعم عليه ، فهنا صدر منه قبيح ويستحقّ عليه العقاب التأديبي من العقلاء ، لكن العقاب القصاصي من المظلوم لا يستحقّه ، إذ لا مظلوم في الواقع في المقام ، أمّا القبح فلا يفرّق فيه بين الإقدام على الظلم وتحقّقه ، أو عدم تحقّقه ، بناء على التصور الثالث.

وفي مقابل هذا المسلك الّذي سلكناه يوجد مسلكان آخران :

١ ـ المسلك الأول : وهو ظاهر كلمات الشّيخ الأعظم «قده» (١) في الرّسائل ، حيث ذهب إلى إنكار هذا القبح رأسا في الفعل المتجرّي به ، حيث انّه يرى أنّه في الفعل المتجرى به لم يصدر منه ظلم أصلا ، وإنّما هناك سوء سريرة انكشفت بهذا الفعل المتجرّى به. إذن ، فقبح هذا الفعل ، بسبب كشفه عن سوء السريرة ، لا أنّه هو قبيح ، فالفعل المتجرى به ليس قبيحا إلّا بما هو كاشف عن شيء قبيح ، وهذا نظير الكلمات القبيحة الكاشفة عن معانيها القبيحة ، وقبح الكاشف بما هو كاشف ، أمر عرضي مجازي.

__________________

(١) فرائد الأصول : الأنصاري ، ص ٨.

٧٤

وقد عرفت بطلان هذا المسلك ممّا ذكرناه ، وذلك لأنّه لا بدّ من الرّجوع إلى تشخيص موضوع حق الطاعة ، كي نعرف أنّ المتجري هل صدر منه القبيح أو لم يصدر ، فإن كان الشّيخ «قده» يتصور حق الطاعة بالتصور الثاني ، إذن ، فمن الواضح أنّ المتجري قد سلب من المولى حقّه ، ومعه فلا بدّ من القول بالقبح ، وإن كان الشّيخ «قده» يبني على التصور الثالث ، فهو «أولا» غير صحيح كما عرفت ، و «ثانيا» لو سلّم ، أيضا للزم منه القبح كما تقدّم ، فإنّ العقل يستقل بقبح الإقدام على القبح ، وقولكم بأنّ هذا القبح إنّما هو للفعل بما هو كاشف ، على حدّ قبح الظلم ، فهو قياس مع الفارق ، لأنّ هذا الفعل يكشف كشفا تصديقيا عن عدم احترام العبد لمولاه واستخفافه به ، ومن الواضح ، أنّ نفس كشف ذلك هو عبارة أخرى عن الخروج عن حريم مولوية المولى ، وهذا ظلم قبيح ، إذ أنّ موضوع هذا الكشف هو نفسه موضوع حق المولى والطاعة.

٢ ـ المسلك الثاني : وهو ما يظهر من كلمات المحقق النائيني «قده» (١) حيث ذكر انّ التجري قبيح ، لكنّه ميّز بين القبح الفعلي ، والقبح الفاعلي ، وقال بأنّ قبح التجري ليس فعليا بل فاعلي ، ورتب على ذلك الانتهاء إلى نفس النتيجة الّتي توصل إليها الشّيخ «قده» ، وهي ، أنّه ما دام قبح التجري قبحا فاعليا لا فعليا ، إذن لا يستحقّ العقاب عليه ، لأنّ استحقاق العقاب من شئون القبح الفعلي كما في موارد المعصية.

وهذا الكلام لا يخلو من غموض ، وعليه نطرح احتمالات متصورة حوله مع مناقشتها.

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ١٦ ، ص ١٧.

أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٣٦.

٧٥

١ ـ الاحتمال الأول : هو أن يكون مقصوده إنكار قبح الفعل المتجرّى به أصلا ، وإنّما قبحه عرضي مجازي لكشفه عن سوء سريرة المتجري.

وهذا رجوع إلى كلام الشّيخ «قده» ، وقد عرفت ما فيه ، كما أنّ هذا هو الّذي يظهر من كلمات أجود التقريرات (١) ، وفوائد الأصول من تقريرات الميرزا «قده».

٢ ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون مقصوده تصور نحوين من القبح ثبوتا.

أحدهما ، قبح فعلي ، والآخر ، قبح فاعلي ، والقبح الفعلي مركزه ذات الفعل في نفسه بقطع النظر عن إضافته إلى فاعل مخصوص ، ويقابله حسن فعلي ، أي حسن الفعل بما هو هو ، وهذا هو الحسن والقبح الفعليّان.

والآخر ، وهو القبح الفاعلي ، ومركزه الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، ويقابله الحسن الفاعلي ومركزه الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، وهذا هو القبح والحسن الفاعليّان ، وحينئذ يدّعى ، أنّه في باب المعصية يكون القبح فعليا حيث أنّ نفس الفعل قبيح بقطع النظر عن صدوره من أي شخص ، وأمّا حينما يشرب خلا بتوهم أنّه خمر ، كما في التجري ، فهذا الفعل بقطع النظر عن إضافته إلى الفاعل لا مفسدة فيه لأنّه خل ، لكن بما هو مضاف إلى هذا الفاعل المخصوص القاطع بحرمته ، يكون قبيحا ، فهذا قبح فاعلي.

فمرجع هذا الكلام إلى أنّ القبح تارة يكون من الفعل في نفسه كما في المعصية ، فيستحقّ العقاب ، وأخرى يكون في الفعل بما هو مضاف إلى فاعل مخصوص ، فهذا قبح فاعلي ، ولا يستحقّ العقاب.

__________________

(١) المصدر السابق.

٧٦

وحينئذ نقول : إن كان هذا هو مقصوده ، فيردّ عليه :

أولا : انّه لا معنى لتقسيم الحسن والقبح إلى «فعلي وفاعلي» ، فإنّ هذا معناه ، أنّه يتصور انّ الفعل في نفسه بقطع النظر عن إضافته إلى فاعل مخصوص يتصف بالحسن والقبح ، مع أنّه من الواضح بطلان هذا التصور ، لأنّ الحسن والقبح إنّما يضافان إلى الفعل بلحاظ صدورهما من الفاعل.

وكأنّ هذا التقسيم ناشئ من الخلط بين الحسن والقبح ، وبين المصلحة والمفسدة ، إذ أنّ المصلحة والمفسدة موضوعهما هو الفعل في نفسه فهو الّذي يتصف بالمصلحة والمفسدة ، وأمّا الحسن والقبح فإنّ موضوعهما الفعل بما هو مضاف إلى فاعله ، ولا يتصور فيهما حسنا وقبحا بقطع النظر عن الفاعل ، بل قد يكون الحسن ذا مفسدة ، والقبح ذا مصلحة ، كما في التجرّي والانقياد على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

إذن فمتعلق الحسن والقبح إنّما هو فعل الفاعل ، لا فعل مقطوع النظر فيه عن الفاعل ، فلو وقع فعل بلا فاعل ولو محالا ، فلا معنى لحسنه وقبحه ، ولا معنى لاستحقاقه الثواب عليه والعقاب ، لأنّه لا وجود لشخص فاعل يثاب ويعاقب ، بينما لو وقع فعل بلا فاعل ، فهذا قد يكون فيه مصلحة ، إذن ، فباب المصلحة غير متقوم بإضافة الفعل إلى الفعل ، إذن ، فهناك مصلحة فعليّة ، ومصلحة فاعلية ، لكن الحسن والقبح باعتبار رجوعهما إلى استحقاق الثواب والعقاب ، فهما متقومان بالفاعل ، إذن فلا معنى لتقسيمهما إلى فعلي وفاعلي ، لأنّ القبح والحسن هما ما يذمّ ويمدح عليهما الفاعل ، وهذا لا يكون إلّا بعد إضافتهما إلى فاعل ، وليس الفعل في نفسه.

وثانيا : لو سلّمنا بهذا التقسيم ، أي بقبح فعلي متعلق بذات الفعل ، وقبح فاعلي متعلق به بما هو مضاف إلى الفاعل ، فإنّه مع هذا يأتي الإشكال الثاني ، وهو أن يقال حينئذ :

٧٧

لما ذا لا يستحقّ الفاعل ، العقاب على القبح الفاعلي ، كما في التجرّي ، ما دام أنّ الفعل بما هو مضاف إليه قبيح ، فإنّه لا فرق بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي من هذه الناحية ، فكما أنّ القبح الفعلي يستوجب العقاب ، فكذلك القبح الفاعلي.

ومنه يعلم أنّه لا وجه لتخصيص استحقاق العقاب بخصوص صدور القبيح في نفسه وبقطع النظر عن الفاعل.

٣ ـ الاحتمال الثالث : هو أن يكون مقصوده من القبح الفعلي والفاعلي. بمعنى أنّ مركز القبح الفاعلي هو نفس الإضافة والنسبة بين الفعل والفاعل. لا الفعل ذاتا ، ولا الفعل بما هو مضاف.

وبتعبير آخر : أن يكون مقصوده أنّه يتصور انّ الفاعل حينما يفعل شيئا يكون هناك ثلاثة أشياء ، فاعل ، وفعل ، ونسبة بينهما ، وحينئذ يقال : بأنّ القبح ، تارة يكون مصبّه هو الفعل بما هو منسوب إلى فاعل ، وأخرى يكون مصبّه هو ذات النسبة مع خروج الفعل عن فعليّة القبح.

وفرق هذا عن سابقه هو ، أنّه هنا : القبح الفعلي متعلق بالفعل المضاف إلى الفاعل بما هو مضاف ، لكن بنحو يشمل ذات الفعل وينطبق على الفعل المضاف بما هو مضاف ، والقبح الفاعلي متعلق بذات الإضافة ، إذن فعندنا شيئان ، إضافة ، وفعل مضاف ، فالقبح الفعلي متعلق بالفعل المضاف بما هو مضاف ، والقبح الفاعلي متعلق بذات الإضافة.

وهذا الكلام لا يردّ عليه الإشكال الأول ، لأنّ القبح الفعلي هنا ليس متعلقا بالفعل بما هو هو ، بل بالفعل بما هو مضاف ، وفرقه عن القبح الفاعلي هو أنّ القبح الفاعلي متعلق بمحض الإضافة والنسبة بلا سريان للفعل ثمّ يرى أنّ القبح في باب المعصية فعليا وفي باب التجري فاعليا.

٧٨

لكن رغم هذا ، فهذا الاحتمال غير صحيح ، لأنّه يردّ عليه.

أولا : انّ التفكيك بين الإضافة والفعل المضاف أمر تحليلي اعتباري لا واقعي ، وإلّا فليس في الخارج شيئان ، أحدهما الفعل ، والآخر ، الإضافة ، بل الإضافة بما هي معنى حرفي مفهوم منتزع عن الفعل بلحاظ انتسابه إلى الفاعل وصدوره عنه ، وإلّا لو كان هناك شيئان خارجيان ، الإضافة ، والفعل ، لسألنا : إنّ هذه الإضافة من فعلها؟ ولا بدّ أن يكون هو نفس هذا الفاعل ، وإلّا لفرضنا إضافة أخرى بين هذه الإضافة وبين الفاعل ، وهكذا حتّى يتسلسل ، فالإضافة ليست موجودة في مقابل وجود الفعل ، بل هي أمر واقعي منتزع بلحاظ صدور الفعل من الفاعل ، والموجود خارجا إنّما هو الفعل ، إذن فما تعلق به القبح هو الفعل ، ولا معنى لافتراض تعلق القبح بالإضافة إذ الوجدان قاض بعدم وجود أكثر من تبعية اتجاه الفعل.

وثانيا : هو أنّه لو سلّم ثبوت التعدّد بين الإضافة والفعل المضاف بحسب الوجود الخارجي ، حيث يفرض أنّ الإضافة لها وجود في الخارج ، وانّ الفعل له وجود مستقل كذلك ، وانّ القبح تارة يتعلق بالإضافة فقط ، وأخرى يتعلّق بالمضاف بما هو مضاف ، لو سلّم كل ذلك ، فلما ذا لا يترتب استحقاق العقاب على «المتجرّي» ، أي على القبح الفاعلي ، إذا كانت الإضافة أمرا وجوديا منسوبا للفاعل. باعتبار أنّه قد صدر منه القبيح ، لأنّ هذه النسبة والإضافة أمر اختياري للفاعل أيضا ، إذن فهي تستدعي المسئولية.

٤ ـ الاحتمال الرابع : هو أن يكون مقصوده من القبح الفعلي والفاعلي ، قبح الفعل المضاف بما هو مضاف لا قبح الإضافة ، لكن القبح الفعلي متعلق بالفعل المضاف بعنوانه الأولي ، والقبح الفاعلي متعلق بالفعل المضاف بعنوانه الثانوي ، فمثلا في مورد المعصية حينما

٧٩

يشرب العاصي «الخمر» ، فهنا ، هذا الفعل له عنوان أوّلي ، وهو «شرب الخمر» ، وله عنوان ثانوي ، وهو «الإقدام على المعصية» ، وفي مورد التجرّي حينما يشرب الخل باعتقاد أنّه خمر ، له عنوان أولي ، وهو «شرب الخل» ، وعنوان ثانوي ، وهو «الإقدام على المعصية» ، حينئذ ، القبح في باب المعصية متعلق بالعنوان الأولي ، فيسمّى بالقبح الفعلي ، وفي باب التجري القبح متعلق بالعنوان الثانوي فيسمّى بالقبح الفاعلي ، فهنا قبحان كلاهما متعلق بالفعل ، ولكن بلحاظ العنوان الأولي يكون قبحا فعليا ، وبلحاظ العنوان الثانوي يكون قبحا فاعليا.

ويردّ عليه أولا : أنّه لو سلّم ذلك ، لكن هذا لا ينتج مقصودكم ، وهو نفي استحقاق العقاب للمتجري ، كما ذهب إليه الميرزا «قده» (١). إذ كلامه يفترض الاعتراف بسراية القبح إلى نفس الفعل ، غايته أنّه بعنوانه الثانوي.

ومن الواضح أنّ الفعل إذا كان قبيحا بأيّ عنوان ، فقبحه مرجعه إلى استحقاق العقاب عليه ، إذن فلا محالة يستتبع العقاب والمؤاخذة من دون فرق بين أن يكون بتوسط عنوان أولي ، أو عنوان ثانوي.

وثانيا : انّه قد عرفت من تصوير المطلب سابقا ، أنّ ملاك القبح في المعصية والتجرّي واحد ، وهو «سلب حق المولى» الّذي هو متقوم بارتكاب ما يعلم بأنّه حرام ، سواء كان حراما في الواقع أم لا.

ما «شرب الخمر» ، فهب أنّه بعنوانه الأولي ليس قبيحا ، نعم فيه مفسدة ، لكن المفسدة شيء ، والقبح شيء آخر ، بل القبح الّذي هو من تبعات معصية المولى يدور مدار الظلم وسلب المولى حقّه ، وإلّا فهو ليس قبيحا بالمعنى الّذي يقصده من القبح.

__________________

(١) المصدر السابق.

٨٠