بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

عينت مطابقها في الخارج بحيث لو رفعنا هذا ، ووضعنا ذاك مكانه لما حصل التطابق من هذه الناحية ، فهذا العلم التفصيلي ، وإلّا فهو العلم الإجمالي.

والخلاصة : هي انّ نفس ما ذكرناه هنا في المقدّمة يجري في العلم التفصيلي ، فإنّه هو أيضا متعلّق بجامع كلي مستخدم بنحو الإشارية غاية الأمر هو انّ مطابقه في الخارج متعيّن ، بخلاف العلم الإجمالي ، فإنّ مطابقه غير متعين لأنّ الإشارية به على نحو الترديد.

هذا هو حاصل المقدّمة والنكتة في تحقيق حقيقة العلم الإجمالي باعتبار متعلقه.

إذا عرفت ذلك نرجع إلى أصل البحث ، وهو منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.

فنقول : إنّه بناء على مبنانا في إنكار قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» ، فإنّه يكفي الاحتمال ، وحينئذ ، لا إشكال في منجزيته ولا موضوع لهذا الكلام أصلا ، وإنّما تتفرع هذه المباني الثلاثة المتقدّمة على القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ حينئذ يقال : إنّه ما الّذي أخرجه العلم الإجمالي من اللّابيان إلى البيان ، وهل يستدعي وجوب الموافقة القطعية أو لا يستدعي؟.

وقد أشرنا إلى المسالك الثلاثة ، حيث كان الأول منها يقول : بأنّ العلم الإجمالي يؤثر في وجوب الموافقة القطعية تأثيرا مباشرا.

وكان المسلك الثاني منها يقول : بأنّه يؤثر فيها ، لكن لا مباشرة ، بل بالواسطة.

وكان المسلك الثالث منها ـ وهو المختار ـ يقول : بالتفصيل بين الموارد ، بناء على القاعدة المذكورة ، فهو في بعض الموارد لا ينجز

٤٢١

وجوب الموافقة القطعية لا بصورة مباشرة ولا بصورة غير مباشرة ، وفي بعضها يؤثر فيكون منجزا بشكل مباشر.

والآن نبدأ بتحقيق المسلك الثالث ـ المختار ـ وبعد تحقيقه نأتي إلى معالجة الأول ، والثاني ، والمسلك الثالث هذا ينقسم إلى دعويين.

١ ـ الدعوى الأولى : هي انّ العلم الإجمالي لا يؤثر في وجوب الموافقة القطعية في الشّبهات الحكمية عند ما يكون مقرونا بها ، كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، فهنا لا يقتضي ولا يؤثر في وجوب الموافقة القطعية لا بصورة مباشرة ، ولا غير مباشرة.

٢ ـ الدعوى الثانية : هي انّ العلم الإجمالي يؤثر في تنجيز الموافقة القطعية في الشّبهات الموضوعية فيما إذا كانت مقرونة بالعلم الإجمالي ، كما إذا علم أساسا بوجوب إكرام كل عالم ، وعلم إجمالا بأنّ أحد الفردين عالم ، «إمّا زيد ، وإمّا عمرو» ، ففي مثله ، العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعية.

وقبل تعميق هاتين الدعويين ، نتناول دعوى مشتركة بينهما ، وهي عبارة عن مقدّمة مفروغ عنها كأصل موضوعي.

وحاصلها : هو أنّه لا خلاف في أنّ أي مقدار ينجز من التكليف ويدخل في العهدة بحكم العقل ، ويخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، مثل هذا المقدار لا بدّ من موافقته القطعية ، كما يقال : «بأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني» ، بمعنى أنّه بعد فرض دخول شيء في العهدة ، وتنجز التكليف ، فإنّ العقل لا يكتفي من العبد باحتمال الامتثال ، بل لا بدّ من الجزم بالامتثال ، وهذا واضح كبرويا ، ومن أجله لم يستشكل أحد في موارد العلم التفصيلي فيما لو علم تفصيلا بوجوب صلاة العصر وشك في الإتيان بها وعدمه وهو في داخل الوقت ، لم

٤٢٢

يستشكل أحد في أنّه لا يكفي مجرد احتمال الامتثال للتأمين ، بل لا بدّ من تحصيل الجزم بالإتيان بها ، لأنّ الوجوب خرج عن اللّابيان إلى البيان ودخل في العهدة ، وهذا مفروغ عنه فإنّهم قالوا بأنّ الشك في أصل التكليف مؤمّن بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا إذا تنجز التكليف وشك بامتثاله فلا بدّ من الجزم بامتثاله لخروجه من اللّابيان إلى البيان ، ومعه لا بدّ من تفريغ الذمّة وهو لا يتمّ إلّا بالعلم بالموافقة القطعية ، إذن فالبحث في العلم الإجمالي بحسب الحقيقة بحث في أنّ المقدار الّذي تنجز من التكليف وخرج عن اللّابيان إلى البيان بالعلم ، فهذا المقدار بما ذا تحصل موافقته القطعية ، فهل تحصل بالإتيان بكلا الطرفين ، أو بأحدهما فقط؟ وإن كان من الواضح أنّ الموافقة القطعية للتكليف الواقعي لا تحصل إلّا بالإتيان بالطرفين بهما معا ، إذن فالبحث صغروي بلحاظ المقدار المنجز من التكليف ، فلو ثبت أنّ المقدار المنجز لا تحصل موافقته القطعية إلّا بالإتيان بكلا الطرفين فلا إشكال ، حينئذ في وجوب الإتيان بهما عقلا ، لأنّه من باب الشك في الامتثال ، وحينئذ ، فالشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وبعد هذه المقدّمة الّتي تشكّل أصلا موضوعيا للبحث ، نأتي إلى أصل المطلب فنقول :

إنّ الدعوى الأول تتضمن انّ الشّبهات الحكمية المقرونة بالعلم الإجمالي ، هذا العلم لا ينجز وجوب الموافقة القطعية ، أي أنّه لا يلزم عقلا الإتيان بالطرفين.

وبيان هذه الدعوى يكون بتوضيح نكتتين.

١ ـ النكتة الأولى : هي انّ العلم الإجمالي ينجز المقدار الّذي تعلّق العلم ، لأنّ هذا هو الّذي يخرجه عن اللّابيان إلى البيان ـ هذا بناء على افتراض تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ إذ المقدار الّذي

٤٢٣

يخرجه العلم الإجمالي ، هو الّذي يجعله معلوما ، وأمّا غيره فيبقى تحت قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» إذن ، فمقتضى القسمة ، انّ أيّ مقدار أصبح معلوما يخرج عن قاعدة القبح ويكون منجزا ، وانّ أيّ مقدار لم يصبح معلوما يبقى تحت قاعدة القبح.

ومن الواضح ، انّ العلم الإجمالي لا يجعلنا عالمين بأزيد من الجامع ، إذ أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي هو الجامع فقط ، على جميع المباني المتقدّمة في تفسير العلم الإجمالي.

أمّا بناء على مبنى الميرزا «قده» من تعلقه بالجامع فالأمر واضح ، وكذلك بناء على مبناه بعد تنقيح كلامه «قده» كما تقدّم ، من انّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع على نحو الإشارية إلى الواقع لأنّ الإشارية غير المعلومية حيث انّ نسبة الإشارية إلى كل من الفردين على حدّ واحد ، إذن ، فهي إشارة مردّدة ، إذن فهي لا تعيّن أحد الفردين ومعه فالإشارة لا توصل إلينا أكثر من الجامع ، إذن فحالها كحاله.

بل الأمر كذلك على مبنى المحقّق العراقي «قده» لو جمدنا على حرفيّة كلماته ، حيث يقول : إنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ، لكن بالبيان الّذي نقلناه عنه ، وهو ، «انّ الصورة العلمية يختلط فيها جانب الوضوح مع جانب الخفاء» ، ـ وهو بهذا يفرّق بين صورتي العلم الإجمالي ، والتفصيلي ـ ولكن حينئذ ، الأمر أيضا كذلك ، لأنّ الحد الشخصي للواقع وإن كان داخلا في الصورة العلمية ، لكنّه داخل في الجانب المجمل من الصورة ، لا في الجانب المبيّن ، وحينئذ لا يكون البيان تاما على هذا الحد ، لأنّ تماميته مبنية على الصورة الواضحة ، ومن الواضح ، انّ الوضوح إنّما يكون تاما على الجامع.

إذن فعلى جميع هذه المباني ، العلم الإجمالي لا يؤدّي إلى تمامية البيان إلّا على الجامع ، إذن فلا ينجز إلّا الجامع.

٤٢٤

٢ ـ النكتة الثانية : هي انّ هذا الجامع الّذي اشتغلت به الذمّة عقلا وتنجز ، إنّما تحصل موافقته القطعية بالإتيان به ، والإتيان بالجامع يكون بالإتيان بأحد أطرافه ، لأنّ وجوده إنّما هو بأطرافه ، فوجودها ، أو وجود فرد منها وجود للجامع لا محالة ، وحينئذ ، يكون الإتيان بطرف من أطرافه موافقة قطعية للمقدار المنجز ، وإن لم يكن موافقة قطعية للتكليف الواقعي ، وحينئذ ، إذا ضممنا هذه النكتة إلى النكتة الأولى ، يثبت انّ العلم الإجمالي لا يستدعي الإتيان بكلا الطرفين المعلومين بالإجمال معا ، لأنّه لا ينجز إلّا بقدر المعلوم ، والمعلوم ليس إلّا الجامع كما في الأولى ، والإتيان بأحد طرفي الجامع هو امتثال له كما بيّناه ، والحاصل هو ، انّ العلم الإجمالي لا يستدعي إلّا إتيان أحد الطرفين المعلومين بالإجمال لأنّه لا ينجز إلّا الجامع ، وما زاد عن الجامع يبقى تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا الدعوى الثانية : فهي انّ العلم الإجمالي في موارد الشّبهات الموضوعية المقرونة به يكون مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية بنفسه ومباشرة ، وكنّا قد قلنا إنّ الأصل الموضوعي هو أنّ التكليف بمقدار ما يتنجز يدخل تحت البيان ، ومعه تجب موافقته القطعية لأنّ دخوله تحت البيان انشغال للذمّة يقينا ، وهو يستدعي الفراغ اليقيني ولا يكفي احتمال الموافقة والفراغ ، كما أنّ برهان الدعوى الأولى كان يقول : إنّ المقدار المنجز بالعلم الإجمالي إنّما هو الجامع لا الواقع ، وموافقة الجامع تحصل بالإتيان بأحد مصداقيه.

وعلى ضوء هذا ندخل في الدعوى الثانية الّتي مفادها ، انّ العلم الإجمالي المقرونة به الشّبهات الموضوعية يكون مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية بنفسه ومباشرة ، كما لو علم بوجوب إكرام كل عالم ، وعلم إجمالا بأنّ أحد الفردين ، إمّا زيد ، وإمّا عمرو هو عالم ، وحينئذ ،

٤٢٥

فهذه شبهة موضوعية تشكل منها علم إجمالي بوجوب أحد الفردين ، وهذا العلم الإجمالي نشأ من تردّد القيد بين الفردين ، وحينئذ يقال : بأنّ العلم الإجمالي لا يكتفي في مقام امتثاله بإكرام زيد وحده ، أو عمرو وحده ، بل لا بدّ من إكرام كلا الفردين وهذا معنى انّ العلم الإجمالي يؤثر بنفسه في وجوب الموافقة القطعية.

وبرهان ذلك هو ، انّ العلم هنا ، تعلّق بوجوب إكرام العالم ، ووجوب إكرامه ينحل إلى العلم بوجوبين ضمنيين ، أحدهما : وجوب ذات الإكرام ، والآخر : وجوب إكرام متقيد بكونه عالما ، ولهذا لو أكرم غير العالم ، لم يكن ممتثلا ، إذن ، فالتقيد مأخوذ تحت الأمر ، أي أنّه داخل في العهدة ، إذن ، كلا هذين الوجوبين داخل في عهدة المكلّف للعلم بهما وخارج عن اللّابيان إلى البيان ، وحينئذ ، لا يمكن الخروج عن عهدتهما إلّا بإكرام كلا الفردين حيث أنّه بإكرامهما تتحقّق الموافقة القطعية بناء على الأصل الموضوعي كما تقدّم ، ومن الواضح انّ هذا المكلّف لو أكرم زيدا فقط ، فهنا تحقّق الإكرام لكن لم يحرز تقييد الإكرام بالعالم وإن كان زيد أحد طرفي العلم الإجمالي لأنّه لم يحرز انطباق التقييد المعلوم وجوبه على ما وقع خارجا ، والمفروض هو أن مقتضى قاعدة انّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، هو لزوم الإتيان بإكرام كلا الفردين لكي يحصل جزم بأن تقيد الإكرام بالعالم قد تحقّق خارجا.

إذن ففرق بين موارد الشّبهات الموضوعية وموارد الشّبهات الحكمية ، ففي الحكمية لم يعلم بعروض الوجوب إلّا على الجامع بين الفعلين ، وهذا الجامع بما هو جامع معلوم الانطباق على الفرد المأتي به خارجا ، إذن فالموافقة القطعية على ما علم بوجوبه حاصلة ، وهذا بخلافه في الشّبهات الموضوعية ، حيث أنّه لم يعلم بوجوب إكرام

٤٢٦

الجامع بين الفردين فقط ، بل علم بوجوب إكرام العالم فيهما ، وحيث أنّه لم يعلم أيّهما العالم ، إذن فقد دخل في العهدة وجوب إكرام العالم ، ومعنى وجوب إكرامه يعني : وجوب إكرام مقيد بأن يكون عارضا على العالم ، إذن ، فتقييد الإكرام بالعلم أيضا وجوبه دخل تحت العهدة وصار يحتاج إلى الفراغ اليقيني ، ولا يحصل الفراغ اليقيني إلّا بإيجاد كلا الإكرامين ، إكرام زيد وإكرام عمرو.

وبالتدقيق يظهر أنّ فذلكة هذه النكتة ليست قائمة في الشبهة الموضوعية على الإطلاق ، بل قائمة بأن يكون العلم الإجمالي ناشئا من التردّد في قيد مأخوذ في الأمر قد تقيّد الواجب به ، ففي مثله تأتي هذه النكتة ، حيث يعلم أنّ هنا تقييدا «ما» تحت الأمر ، ولا يعلم بانطباقه على الخارج إلّا بإتيان كلا الفردين.

وأمّا إذا فرض أنّ الشبهة موضوعية ولكن بلحاظ قيد الوجوب محضا من دون أن يكون هناك تقييد مأخوذ تحت الأمر ، فحينئذ لا تأتي هذه النكتة ، ومثاله : أن نفرض أنّ المولى يقول : إذا جاء الحجاج من الحج فتصدّق بدرهم ، وإذا جاء الزوّار من الزيارة فصلّ ركعتين ، وعلمنا إجمالا بأنّه تحقّق أحد الأمرين ، فهنا علم إجمالي بوجوب أحد الأمرين ، وهذا العلم الإجمالي نشأ من شبهة موضوعية ، لأنّه ناشئ من الشكّ في تحقّق الموضوع خارجا ، أي في تحقّق شرط الوجوب خارجا ، لكن مع هذا ، فهذه الشبهة الموضوعية تشبه الشبهة الحكمية ، لأنّه ليس هناك شيء تحت العهدة سوى ذات الفعل ، إمّا ذات التصدّق بدرهم ، أو ذات الصّلاة ، فهنا تقيّد الفعل بوصف مخصوص قائم بفعل خارجي لم يؤخذ تحت الأمر ، إذن فنحن نعلم بوجوب الجامع ، وهذا يتحقّق بالإتيان بأحد الفردين ، وبهذا تتحقّق الموافقة للمقدار المعلوم بالتكليف ، وهو الجامع.

٤٢٧

وأين هذا من إكرام العالم ، إذن فالميزان في وجوب الموافقة القطعية ليس هو مطلق كون الشبهة موضوعية ، بل كون الشبهة موضوعية بلحاظ تقييدها بقيد داخل تحت الأمر ، فإذا كانت كذلك ، حينئذ لا بدّ من الجزم ، ولا جزم إلّا بالجمع بين الطرفين ، وبهذا يتمّ برهان الدعوى الثانية ، وبه يتمّ تنقيح مسلكنا.

والخلاصة هي : إنّ الميزان في وجوب الموافقة القطعية ليس هو كون الشبهة موضوعية ، بل هو كون العلم الإجمالي ناشئا من التردّد في قيد مأخوذ تحت الأمر وداخل في العهدة كما عرفت في المثال ، وإلّا فقد تكون الشبهة موضوعية ومع ذلك لا تجب الموافقة القطعية كما لو قيل : «إذا جاء زيد فأكرمه» ، وقيل : «إذا جاء عمرو فأكرمه» ، وعلمنا بمجيء أحدهما إجمالا ، فيتحقّق عندنا علم إجمالي بوجوب إكرام أحدهما ، وهذا العلم الإجمالي نشأ من شبهة موضوعية ، لأنّه ناشئ من الشك في تحقق شرط الوجوب خارجا ، ومع ذلك لا تجب الموافقة القطعية ، بل يكتفي بإكرام أحدهما ، لأنّ الداخل في عهدة المكلّف هو ذات الإكرام ، من دون تقييد بأيّ وصف مخصوص ، وعليه فنحن نعلم بوجوب الجامع وهذا يتحقّق بإكرام أحد الفردين.

٢ ـ المسلك الثاني : وهو للميرزا «قده» كما في أجود التقريرات (١) حيث ذهب إلى أنّ العلم الإجمالي لا يقتضى بنفسه وجوب الموافقة القطعية ولا يؤثر بذلك أصلا بصورة مباشرة ، ولكن يؤثر بصورة غير مباشرة ، وهذا المسلك ينحل إلى دعويين.

١ ـ الدعوى الأولى : هي أنّ العلم الإجمالي لا يؤثر تأثيرا مباشرا في وجوب الموافقة القطعية ، وقد استدلّ على هذه الدعوى ، بأنّ العلم

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٢٣٠ ـ ٢٣١.

٤٢٨

الإجمالي يتعلّق بالجامع ، إذن فهو لا ينجز سوى الجامع ، والجامع يتحقّق بأحد الفردين ، وأحدهما قد تحقّق خارجا.

٢ ـ الدعوى الثانية : هي أنّ العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعية بالواسطة ، واستدلّ على هذه الدعوى ، بأنّ العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة القطعية ، وهذه الحرمة علّة لتعارض الأصول ، والتعارض يوجب تساقطها ، وهذا يعني أنّ كل شبهة في كل طرف تبقى شبهة بلا أصل مؤمّن ، وهذا وحده يكفي في التنجيز ، وهذا التنجيز وإن كان تنجيزا بالاحتمال لا بالعلم ، لكن هذا التنجيز الاحتمالي من بركات العلم ، لأنّ هذا التنجيز إنّما حدث بسبب تساقط الأصول في الأطراف ، إذ لو لا ذلك لما كان الاحتمال منجزا ، وتساقط الأصول نشأ من التعارض ، والتعارض معلول لحرمة المخالفة القطعية ، وحرمة المخالفة القطعية هذه ، معلولة للعلم الإجمالي ، وبذلك يكون هذا التنجيز من تبعات العلم الإجمالي ، لكن بالواسطة كما عرفت ، ومن هنا صحّ القول : بأنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية بالواسطة لا مباشرة.

ولنا تعليق على كل من هاتين الدعويّين.

أمّا ما جاء في دعواه الأولى ، وإن كنّا نوافق عليه بالجملة ، حيث كنّا نقول : إنّ العلم الإجمالي لا يقتضي أصلا وجوب الموافقة القطعية ، بل نرى ذلك على جميع المباني في العلم الإجمالي ، لا على خصوص مبنى الميرزا «قده» ، لكن لا على الإطلاق بل على التفصيل الّذي ذكرناه ، حيث أنّنا بيّنا أنّه في الشّبهات الموضوعية عند ما يكون التردّد فيها في التقيّد المردّد دخوله تحت الأمر المعلوم ، حينئذ يكون العلم الإجمالي منجزا لوجوب الموافقة القطعية ، وكلام الميرزا «قده» وإن كان صحيحا في أصل الدعوى ، لكن ينبغي أن يفصل ويخصصها بموارد الشبهة الحكمية ، وعليه : فإطلاق الدعوى الأولى غير تام.

٤٢٩

وأمّا ما جاء في الدعوى الثانية : وهو أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية ، وحرمة المخالفة القطعية تستدعي تعارض الأصول ، وتعارضها يستدعي التساقط ، فيكون العلم الإجمالي منجزا.

فهنا نسأل : أنّه ما هو المقصود بالأصول المتعارضة ، ومن ثمّ المتساقطة؟

فهل المقصود بها كلتا البراءتين ، الشرعية والعقلية ، أو خصوص الشرعية؟.

فإن أريد مطلق البراءة ، حيث يقال : بأنّه كما يتمّ في الشرعية ، يتمّ في العقلية ، لأنّه كما يقال في البراءة الشرعية أنّ جريانها في هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح ، وكذلك في ذاك ، وجريانها فيهما معا غير معقول لاستلزام المخالفة القطعية ، كذلك يقال في البراءة العقلية حيث يقال : إنّنا نتعامل مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان كذلك.

ولكن هذا غير معقول ، لأنّ البراءة العقلية حكم عقلي ، ولا تعارض في أحكام العقل بحسب مقام الإثبات ، وإنّما يجب أن ينظر إلى ملاكها بحسب مقام الثبوت ، وحينئذ يقال : بأنّ البراءة العقلية ملاكها تام في كلا الطرفين إذا لوحظت الخصوصية ، بمعنى أنّ كلا الطرفين مجرى للبراءة العقلية بخصوصه ، لأنّه لم يتمّ عليه البيان ، ولا يلزم الترخيص في المخالفة القطعية ، فإنّ وجوب الظهر بما هو وجوب الظهر ، هو مجرى للبراءة ، وكذلك الجمعة ، لأنّ التأمين بلحاظ الخصوصية لا يلزم منه التأمين بلحاظ الجامع الموجود في ضمن الخصوصية.

وهذا التحليل لا نجريه في أدلة الأصول الشرعية ، لأنّه غير عرفي ، لأنّ أدلة الأصول الشرعية خطابات عرفية ، وهذا التحليل ليس عرفيا ، بأن يقال : بأنّنا نؤمّن عن الخصوصية مع تنجيز الجامع الموجود في

٤٣٠

ضمن الخصوصية ، فمثل هذا غير عرفي ، لكن عند الكلام عن البراءة العقلية لا نتعامل مع دليل لفظي ليجري فيه ذلك ، بل يكون التعامل مع قانون عقلي ، فلا بدّ من تطبيقه بالدقة ، ومقتضى ذلك القول بأنّ اللّابيان يؤمن بمقداره ، والبيان ينجز بمقداره ، ومحطّ البيان غير محطّ اللّابيان ، إذ محطّ البيان هو الجامع إذن فينجز الوجوب بما هو مضاف للجامع ، ويؤمن عنه بما هو مضاف للفرد ولا تنافي.

إذن ، إذا كان المقصود بتعارض الأصول ، تعارض كل البراءات حتّى العقلية ، فهذا غير صحيح ، لأنّ البراءتين العقليتين لا تعارض بينهما.

وإن كان المقصود بتعارض الأصول البراءة الشرعية فقط ، فلا بأس بذلك ، لأنّه يبقى عندنا مؤمن ، وهو البراءة العقلية بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذن فمسلك الميرزا «قده» غير تام مبنى.

وإن شئت قلت : انّه إذا كان المقصود من الأصول الّتي تعارضت وتساقطت ، هي خصوص البراءات الشرعية ، فهذا صحيح ، ولكن تبقى البراءة العقلية ، وتكون مؤمّنة ، ومعه لا يتمّ ما ذكره من التنجيز بالواسطة.

وإن كان المقصود من الأصول ما يشمل البراءات العقلية أيضا ، فهذا غير ممكن ، لأنّ البراءة العقلية حكم عقلي ، ولا تعارض بين أحكام العقل بحسب مقام الإثبات ، وحينئذ ، فلا بدّ من النظر إلى ملاكها بحسب مقام الثبوت ، وحينئذ يقال : بأنّ ملاكها ، وهو قبح العقاب بلا بيان ، تام في كل من الطرفين ، لأنّ كلا منهما بخصوصه لا بيان عليه ، وهذا لا يلزمه الترخيص في المخالفة القطعية ، لأنّ الجامع بين الفردين قد تمّ عليه البيان ، فيكون منجزا بمقداره ، ويجب إيجاده ولو بأحد فرديه ، ويكون مؤمّنا عنه بما هو مضاف لهذا الفرد ولا تنافي.

٤٣١

والحاصل : هو أنّه لمّا كانت البراءة العقلية حكما عقليا ، فلا بدّ من الدقة في مقام تطبيقها ، والدقة تقتضي ما ذكرناه من تنجيز الجامع ، لتمامية البيان عليه ، وعدم تنجيز كل فرد بخصوصه ، لعدم تمامية البيان عليه.

وهذا الكلام لا يجري في البراءة الشرعية ، لأنّ أدلة الأصول الشرعية خطابات عرفية ومعه لا بدّ من تحليلها تحليلا عرفيا لا عقليا.

وبهذا ثبت أنّ إثبات منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بالواسطة بالنحو الّذي ذكره الميرزا غير تام على مبنى الميرزا «قده» ، حيث أنّه يعترف بالبراءة العقلية ، لأنّ هذه البراءة تكون مؤمنة عن كل طرف بخصوصه ، وإن لم تؤمّن عن الجامع ، إلّا أنّ إيجاد الجامع يتحقّق بأحد الفردين كما عرفت.

أمّا المسلك الأول ، الّذي هو مسلك المشهور ، كما أنّه مسلك الميرزا «قده» (١) في تقرير فوائد الأصول (٢) والّذي حاصله : إنّ العلم الإجمالي يؤثر بنفسه في وجوب الموافقة القطعية ، ولعلّ أشدّ النّاس تعصبا لهذا المسلك هو المحقّق العراقي «قده» (٣) حيث ذكر انّ تأثيره في ذلك إنّما هو على نحو العليّة ، ولأنّ كلامنا في أصل التأثير ، فلا يتحصل من فوائد الأصول معنى فنيا لتقريب هذا المدّعى ، نعم يمكن أن نستنتج من كلمات العراقي «قده» ـ على ما في بعضها من التشويش ـ بيانين في مقام الاستدلال على هذا المسلك.

١ ـ البيان الأول : وهو مركّب من ثلاث نقاط.

__________________

(١) مصباح الأصول : محمد سرور ، ج ٢ ، ص ٣٥١.

(٢) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٤ ، ص ٩.

(٣) مقالات الأصول : العراقي ، ج ٢ ، ص ١١ ـ ١٢.

٤٣٢

أ ـ النقطة الأولى : هي انّ هناك فرقا بين العلم والتنجز ، حيث أنّ العلم صفة للصورة الذهنية القائمة في أفق النّفس.

وأمّا التنجز فهو صفة للحكم الشرعي الواقعي القائم في لوح التشريع.

إذن فلا يمكن أن يقاس التنجز بالعلم وأنّه مثله بأن يقال : انّ التنجيز كالعلم ، فكما انّ العلم يقف على الجامع ولا يسري منه إلى أفراده فكذلك التنجز لا يسري من الجامع إلى الخارج ، وقد عرفت أنّه يوجد فرق بين العلم والتنجز ، إذ ما هو معروض التنجز مختلف سنخا عمّا هو معروض العلم ، لوضوح انّ العلم لا يتعلّق بالخارج ابتداء ، وإلّا لما أمكن فيه وقوع الخطأ أصلا في تحقّق معلومه ومتعلقه ، بينما العلوم الخاطئة كثيرة ، وإنّما متعلّق العلم هو الصور الذهنية الحاكية عمّا في الخارج.

ب ـ النقطة الثانية : هي أنّه بعد أن عرفنا انّ التنجز صفة للواقع الخارجي للحكم ، فمن الواضح أنّ الواقع الخارجي للحكم إنّما يتصف بالتنجز إذا كان واصلا ومبينا ، لأنّه مع عدم وصوله وبيانه تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لكن لا نريد بالعلم هنا ، العلم المتعلق بنفس الواقع الخارجي ، لأنّ هذا غير معقول كما عرفت في النقطة الأولى ، لأنّ العلم التفصيلي فضلا عن العلم الإجمالي لا يتعلّق بالواقع الخارجي ، إذ لو شرطنا أن يتعلّق به العلم مباشرة لانسدّ باب التنجز.

وعليه : فالعلم المنجز إنّما هو العلم بالصورة الواقعية ، باعتبار أنّ العلم يعرض على الصور الذهنية المطابقة للواقع الخارجي الحاكية عنه ، فمعنى أنّ الواقع الخارجي للحكم الشرعي يتنجز بالعلم ، يعني يتنجز إذا علم بصورة ذهنية له حاكية عن ذلك الواقع الخارجي ومطابقة له ، يكون حينئذ منجزا.

٤٣٣

والحاصل هو ، انّ الواقع الخارجي للحكم إنّما يتصف بالتنجز إذا كان معلوما ، وإلّا ، فتجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ويقصد بالعلم المنجز ، العلم بالصورة الذهنية المطابقة للواقع الخارجي والحاكية عنه كما عرفت في النقطة الأولى ، من أنّ العلم صفة لتلك الصورة ويتعلّق بها لا بالواقع الخارجي ، وإلّا لما أخطأ العلم أصلا ، وهو خلاف الوجدان.

وعليه : فمعنى تنجز الواقع الخارجي بالعلم ، يعني إذا علم بصورة ذهنية حاكية له حاكية عنه ومطابقة له ، يكون حينئذ منجزا.

ج ـ النقطة الثالثة : هي انّ هذا الواقع الخارجي ، هناك صورتان ذهنيتان قابلتان للحكاية عنه.

إحداهما : صورة ذات حدّ تفصيلي ، وهي المسمّاة بالصورة التفصيلية ، وهي الّتي يعرض عليها العلم التفصيلي.

والثانية : هي صورة ذات حدّ إجمالي ، وهي المسمّاة بالصورة الإجمالية ، وهي الّتي يعرض عليها العلم الإجمالي.

وكل من هاتين الصورتين تكون بإزاء الواقع بشخصه ، غايته ، أنّ إحداهما مفصّلة ، والأخرى مجملة ، كما عرفت في مبنى العراقي «قده».

نعم الواقع الخارجي ليس له حدّ تفصيلي وآخر إجمالي ، لأنّ الإجمال والتفصيل من شئون الحكائية ، وهذه تكون للصورة ، لا لذي الصورة الّذي هو الواقع الخارجي.

فالواقع الخارجي دائما له حد شخصي واقعي محفوظ ، به يكون الواقع شخصا من الأشخاص ، حيث لا يقال عنه تفصيلي أو إجمالي ، لكن هذا الواقع بهذا الحدّ الشخصي هناك صورتان ذهنيتان قابلتان للحكاية عنه ، إحداهما : صورة مفصلة ، وأخرى إجمالية.

٤٣٤

والخلاصة : هي انّ هذا الواقع الخارجي له صورتان ذهنيتان قابلتان للحكاية عنه والمطابقة له ، إحداهما تفصيلية ، وأخرى إجمالية كما عرفت في مبنى العراقي «قده».

إذا اتضحت هذه النقاط الثلاث ، حينئذ نستخرج النتيجة ، حيث ذكرنا في النقطة الأولى ، إنّ التنجيز ليس من شئون الوجود الذهني والصورة الذهنية كما هو الحال في العلم ، إذن ، فلا معنى لما يقال ، من أنّه إذا لم يكن العلم ساريا من الصورة الإجمالية إلى الواقع الخارجي ، إذن التنجز أيضا لا يسري من الصورة الإجمالية إلى الواقع الخارجي ، فهذا الكلام لا معنى له ، لأنّ التنجز ابتداء ، مصبّه الواقع الخارجي ، وليس مقصودنا من تنجز الواقع الخارجي عند العلم به ، انّ العلم ينصبّ ابتداء على الواقع الخارجي ، إذ عرفت استحالة هذا في النقطة الثانية ، بل مقصودنا من العلم بالواقع الخارجي ، هو أن يعلم بصورة ذهنية مطابقة معه وحاكية عنه ، وقد عرفت في النقطة الثالثة أنّ هناك صورتان مطابقتان حاكيتان عن هذا الواقع الخارجي ، إحداهما ، إجمالية ، والأخرى تفصيلية ، وحينئذ يقال : كما يتنجز هذا الواقع بتعلّق العلم بصورة تفصيلية له ، كذلك يتنجز بتعلّق العلم بصورة إجمالية له.

والحاصل هو : أنّه إذا تعلّق العلم الإجمالي بصورة ذهنية لذلك الواقع الخارجي يكون حينئذ منجزا بمقتضى ما جاء في هذه النقاط كما هو واضح.

هذا حاصل ما يستفاد من كلام العراقي «قده» كتقريب أول للبرهنة على مؤثريّة العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية.

ولنا حول هذا الكلام ملاحظتان.

١ ـ الملاحظة الأولى : وهي ترتبط بالنقطة الأولى ، حيث قال

٤٣٥

فيها : «إنّ التنجز يختلف عن العلم ، وانّ التنجز من شئون الواقع الخارجي».

وهذا الكلام غير تام ، بل التنجز من شئون الوجود العلمي للحكم ، لا من شئون الوجود الخارجي ، وذلك لأنّ التنجز عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة ، وتمام موضوع حكم العقل للاستحقاق هو هذا الوجود العلمي للحكم ، سواء أكان مصادفا أو لا ، بينما الحكم على وجوده الواقعي ليس موضوعا للتنجز ولا جزء الموضوع لذلك وعلى هذا ترتب استحقاق عقاب المتجري ، وحينئذ ، إذا لم يسر الوجود العلمي من الجامع إلى الفرد يصحّ أن نقول : انّ التنجز لا يسري من الجامع إلى الفرد ، لأنّ المتنجز يضع قدمه في المكان الّذي يضع العلم قدمه فيه ، وحيث أنّ العلم وضع قدمه على الحكم فكذلك التنجز.

والحاصل هو انّ ما ذكر في النقطة الأولى ، من أنّ التنجز من شئون الواقع الخارجي للحكم ، غير صحيح ، بل هو من شئون الوجود العلمي له ، لأنّ التنجز عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب ، وموضوع حكم العقل بذلك هو الوجود العلمي للحكم ، سواء أكان مطابقا للواقع أو مخالفا له ، ومن هنا قلنا باستحقاق المتجري للعقاب ، وحينئذ ، فإذا لم يسر الوجود العلمي من الجامع إلى الفرد ، فكذلك التنجز لا يسري ، لأنّه منصبّ عليه ومن شئونه كما عرفت.

٢ ـ الملاحظة الثانية : هي أنّه لو تنزّلنا وفرضنا انّ التنجز يعرض على الواقع الخارجي للحكم ، لكن لا مطلقا ، بل يشرط العلم به ، بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حينئذ لا بدّ من تعدّي التنجز بمقدار العلم ، وقد بيّنا أنّ العلم حتّى لو فرض تعلّقه بصورة إجمالية ، فإنّ هذه الصورة وإن كانت مطابقة مع الواقع ، بمعنى كونها مشيرة إليه ، لكن ليست مطابقة معه ، بمعنى كونها كاشفة عن حدّه الشخصي ، فإن

٤٣٦

أردتم من كون مطابقة الصورة الإجمالية للواقع ، إنّها مشيرة إليه ، فهذا صحيح ، لكن المشير كما تكون للمعلوم ، تكون أيضا للمجهول ، لأنّ المشيرية ليست علما ، وإن أردتم بالتطابق للواقع ، كون الحدّ الشخصي منكشفا بهذه الصورة ، فهذا خلاف الوجدان والبرهان ، لأنّه ليس بمنكشف فيها ، إذن لا يمكن سراية التنجز إلى الحدّ الشخصي.

وإن شئت قلت : انّه لو تنزلنا وفرضنا أنّ التنجز من شئون الواقع الخارجي ويعرض عليه بشرط العلم به ، حينئذ لا بدّ من تقرير التنجز بمقدار العلم ، ولمّا كانت الصورة الإجمالية مطابقة للواقع بمعنى كونها مشيرة له ، لا بمعنى كونها كاشفة عن حدّه الشخصي ، فحينئذ لا يمكن سريان التنجز إلى الحدّ الشخصي ، لعدم كشف الصورة الإجمالية عنه ، فلا يكون متعلّقا للعلم الإجمالي ليتنجز به.

٢ ـ البيان الثاني : المستفاد من كلمات العراقي «قده» (١) ، هو أنّ العلم الإجمالي وإن تعلّق بالجامع ، إلّا أنّه تعلّق فرغ عن انطباقه وتخصّصه ، لا بجامع لم ينطبق ولم يتخصّص كما في موارد الوجوب التخيري حينما يتعلّق الوجوب بالجامع ، فالوجوب تعلّق بجامع لم يفرغ عن تخصيصه ، ومن هنا لا يتنجز سوى الجامع ولا تتنجز الخصوصية ، بينما هنا ، العلم تعلّق بجامع فرغ عن تخصيصه في المرتبة السابقة فيكون منجزا للخصوصية.

وإن شئت قلت : انّ العلم الإجمالي وإن تعلّق بالجامع ، إلّا أنّه تعلّق بجامع فرغ تخصّصه ، وحينئذ يكون العلم الإجمالي منجزا للخصوصية أيضا ، وهذا بخلاف الجامع في مورد تعلّق الوجوب التخيري به حيث لم يفرغ عن تخصّصه ، ومن هنا لا يتنجز غير الجامع.

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٣٧

وهذا البيان غير تام لأنّه إن أراد بالجامع في مرحلة تعلّق العلم به وأنّه مفروغ عن تخصيصه ، إن أراد واقع الخصوصية ، وما هو بالحمل الشائع خصوصية ، فهذا غير موجود في مرحلة تعلّق العلم به ، لأنّ الخصوصية بالحمل الشائع غير معلومة ، وإن أراد بها مفهوم الخصوصية أي الخصوصية بالحمل الأولي ، والعلم بجامع الخصوصية ، فهو بنفسه جامع ، والعلم به لا يوجب أكثر من تنجز هذا الحدّ الجامعي دون أن يسري التنجز منه إلى ما لا بيان له.

والحاصل انّ هذا خلط بين الخصوصية بالحمل الأولي الذاتي ، وبينها بالحمل الشائع ، فإنّ المفروغ عنه وهو الخصوصية بالحمل الأولي هو الجامع حقيقة ، وما يراد تنجيزه هو الخصوصية بالحمل الشائع.

والحقيقة هي انّ ما ذهب إليه هؤلاء الأعلام في بياناتهم كلها نشأت من ضيق الخناق ، لأنّ هؤلاء الأصحاب ألزموا أنفسهم بما لا ملزم به ، وهو الجمود على قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» وحينئذ وقع التزاحم بين الإشكالات الواردة على تقريباتهم وبين هذه القاعدة وكأنّها برهان عقلي ، فوقعوا في حيرة بين هذه القاعدة وبين وجدانهم ، حيث أنّ الوجدان العرفي لا يحتمل أنّ العبد إذا علم إجمالا انّ المولى أوجب إمّا الظهر ، وإمّا الجمعة ، أن يقول : انّ هذا العلم لا يقتضي منّي أكثر من الإتيان بكلا الفردين ، فهذا غير محتمل ، بل الوجدان العرفي قاض بأنّ وجوب الموافقة القطعية من الواضحات ، ومن أنّه مؤمّن عقلائيا إذا اقتصر على أحد الفردين ، ويقطع النظر عن باقي المؤمّنات ، ولو أنّهم رفعوا أيديهم ابتداء عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو في الجملة لما وقعوا في ذلك ، فيقال بقبح العقاب بلا بيان في بعض الموارد ، وذلك كما لو كان الوجوب الواقعي مصداقا لجامع تمّ البيان على جامعيته ، إذ حينئذ يرتفع الإشكال عنهم برفع اليد عن هذه القاعدة إمّا كلية كما

٤٣٨

اخترناه وهو الصحيح ، أو في الجملة ويقال حينئذ أنّه لا يحكم العقل بقبح العقاب إذا كان الوجوب الواقعي مصداقا لجامع تمّ بيانه حيث أنّ العلم الإجمالي يقتضي التنجز سواء قبلت قاعدة قبح العقاب أو لم تقبل.

والخلاصة هي انّ ما ذهب إليه هؤلاء الأعلام من كون العلم الإجمالي مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية ، أمر وجداني لا إشكال فيه ، لكن الإشكالات الواردة على تقريباتهم لهذا المطلب ، نشأت من التزاحم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ ، فلا يرتفع الإشكال عنهم إلّا برفع اليد عن هذه القاعدة رأسا ، كما اخترناه ، أو في الجملة ، فيقال : انّه لا يحكم العقل بقبح العقاب إذا كان الوجوب الواقعي مصداقا لجامع تمّ البيان عليه.

وإلى هنا تمّ الكلام في الجهة الأولى من المرحلة الثانية ، حيث قلنا إنّ الكلام في تنجيز العلم الإجمالي يقع في مرحلتين.

الأولى في مرحلة تأثيره في حرمة المخالفة القطعية.

والمرحلة الثانية في تأثيره في وجوب الموافقة القطعية.

وفي كل من المرحلتين إذا فرض الفراغ عن التأثير ، يقع الكلام في انّ هذا التأثير ، هل هو بنحو العليّة ، أو الاقتضاء؟

وقد مضى الكلام عن الجهة الأولى من المرحلة الثانية وصرنا إلى الكلام عن الجهة الثانية من المرحلة الثانية.

٢ ـ الجهة الثانية : من المرحلة الثانية :

وهي أنّ العلم الإجمالي بعد الفراغ عن تأثيره وتنجيزه لوجوب الموافقة القطعية ، يقع الكلام في انّ هذا التأثير هل هو بنحو العليّة ، أو الاقتضاء؟ بحيث أنّه إذا كان بنحو العليّة ، يمتنع ورود الترخيص الشرعي

٤٣٩

الظاهري في بعض الأطراف ، وأمّا إذا كان بنحو الاقتضاء ، المعلّق على عدم ورود الترخيص الشرعي الظاهري في بعض الأطراف ، بحيث لا يمتنع ولا يأبى العقل عن ورود مثل هذا الترخيص؟

وهذا البحث لا موضوع له ولا معنى إذا بني على أنّ تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية ليس على نحو العليّة كما عرفت في المرحلة الأولى من أنّ تأثيره بحرمة المخالفة القطعية هو اقتضائي معلّق على عدم ورود الترخيص في خلافه ، فإذا كان هذا هو شأن تنجيز العلم الإجمالي في المرحلة الأولى ، فما ظنّك بتأثيره في المرحلة الثانية ، بل لا معنى للبحث عن العليّة في المرحلة الثانية بعد إنكارها في المرحلة الأولى ، لأنّه إذا لم يكن مؤثرا في حرمتها على نحو العليّة ، فعدم تأثيره كذلك في وجوبها بطريق أولى ، إذن فالانتهاء إلى هذا البحث يجب أن يكون بغمض العين عن إنكار العليّة في المرحلة الأولى.

كما أنّه لا معنى للنزاع وهذا البحث بناء على المسلك الثاني القائل بالتأثير بالواسطة ، حيث أنّه ينكر أصل تأثير العلم الإجمالي المباشر في وجوب الموافقة القطعية ، إذن فلا مجال للنزاع في أنّ تأثيره هل هو بنحو العليّة أو الاقتضاء ، وأمّا كون تأثيره بالواسطة ، فهو وإن اعترف به ، إلّا أنّ هذا لا يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف لما عرفت من أنّ سبب هذا التأثير إنّما نشأ من تعارض الأصول ، فلو لم يكن هناك تعارض بينها كما لو لم يكن أحدها جاريا ، إذن لا مانع من جريان الآخر في بعضها بلا معارض ، ومعه لا يعقل أن يكون هذا التنجيز مانعا من جريان الأصل ، إذن ، فبناء على المسلك الثاني أيضا لا محصل للبحث في أنّ تنجيز العلم الإجمالي هل هو بنحو العليّة أو الاقتضاء وإنّما كان البحث في المقام الثاني مبنيا على الإغماض عمّا ذكرناه من عدم كون العلم مؤثرا بنحو علي في حرمة المخالفة القطعية.

٤٤٠