بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

نعلم وجدانا بالخطاب الظاهري ـ ولعلّه هو الخطاب الواقعي ـ إذن ، فمعناه أنّه على أحد التقديرين ـ وهو تقدير مطابقة الخطاب للواقع ـ نكون عالمين بالحكم الواقعي ، وحينئذ يكون المقام شبهة مصداقية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعه لا يصحّ التمسك بها لكوننا نحتمل البيان والعلم بالحكم الواقعي.

ولكن هذا غير تام ، وجوابه الصحيح هو أن يقال : بأنّه لو سلّمنا أنّ الخطاب الظاهري على أحد التقديرين واقعيا ، لكن ليس معناه ، أنّه على أحد التقديرين عالمون بالحكم الواقعي ، بل نحن عالمون بجامع الخطاب المردّد بين كونه واقعيا ، وكونه صوريا ، فعلى تقدير كونه واقعيا ، فنحن عالمون بذاته وجامعيته لا بواقعيته ، وهذا الجامع لا يتنجز بالعلم ، لأنّ الخطاب الواقعي هو الّذي يقبل التنجيز ، بينما الصوري لا يقبله ، فالعلم بالجامع بينهما لا يقبل التنجيز إذن ، لأنّ العلم بالجامع بين ما يتنجز وما لا يتنجز ليس بمنجز.

والخلاصة هي : إنّ ما هو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما هو كونه واقعيا ، ومن دون العلم بذلك يقبح العقاب بلا بيان.

إذن لا بدّ في مقام دفع هذه الشبهة من أن ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا ، وإمّا أن نقول بالتفصيل كما عرفت.

هذا تمام الكلام في قيام الإمارات والأصول مقام القطع الطريقي.

وقد اتضح من مجموع ما ذكرناه عدّة أمور.

١ ـ الأمر الأول : هو أنّ صاحب الكفاية «قده» (١). في بحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، اختار مسلكا في تصوير جعل الحجيّة في باب الإمارات والأصول ، حيث ذكر أنّ أدلة الحجيّة مفادها

__________________

(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ٤٤.

٢٠١

المجعول هو المنجزية والمعذرية ، وليس مفادها إنشاء أحكام تكليفيّة ، فمثلا ، مرجع جعل الحجيّة للخبر الواحد هو جعله منجزا.

وقد اعترض عليه الميرزا النائيني «قده» (١) بأنّه لا يعقل أن يكون مفاد دليل الحجيّة هو جعل المنجزية للخبر الواحد ، لأنّه ، إن أريد بالمنجزيّة واقع المنجزيّة الّذي هو عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب ، فهذا حكم عقلي لا يعقل جعله من قبل الشارع ، وإن أريد عنوان المنجزيّة ومفهومها ، بمعنى أنّ المولى ينشئ هذا المفهوم وهذا العنوان ، فهذا الإنشاء أمر تحت القدرة لكل منشئ ، لكن هذا لا يعقل أن يكون مستتبعا للمنجزية حقيقة ، لأنّ ذلك على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ مجرد إنشاء المنجزيّة عنوانا لخبر الثقة ، لا يبدّل اللّابيان بالبيان ، واللّاعلم بالعلم.

إذن ، فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ثابت ، فلا يكون لجعل المنجزية أثره وقدرته على تنجيز الواقع المشكوك حقيقة ، لأنّ هذا على خلاف قاعدة القبح.

وممّا ذكرناه ، يتضح لك ، انّ اعتراض الميرزا «قده» غير تام ، بل هو جري على التعامل مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كدليل من قبيل الأدلة اللفظية ، بحيث لا يمكن رفع اليد عنها إلّا بتبديل موضوعها من اللّابيان إلى البيان ، وعنوان البيان مساوق للعلم ، ولا علم بمجرد إنشاء المنجزية.

وقد عرفت انّ هذا التصور يقام على أساس غير تام ، وذلك انّنا أوضحنا فيما تقدّم ، أنّ تنجيز الإمارة للواقع المشكوك بلحاظ جعل الحجيّة لها ، إنّما هو عبارة عن قيام الإمارة مقام القطع الطريقي ، وروح

__________________

(١) فوائد الأصول : الميرزا ، ج ٢ ، ص ٣٢ ـ ٣٣ ـ ٣٤ ـ ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٣٨.

أجود التقريرات : الخوئي ، ج ٢ ، ص ٧٥ ، ٧٦.

٢٠٢

هذا وملاكه هو أنّ الخطاب الظاهري يكشف عن درجة اهتمام المولى بالواقع المشكوك ـ خطابه الواقعي ـ على فرض وجوده ، بحيث يوجب العلم بالقضية الشرطية ، «وهي أنّه لو كان هناك وجوب ، فالمولى مهتم به جزما» وهذا العلم بالقضية الشرطية ، هو الّذي يخرج مورد الإمارة الحجّة عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ موردها هو عدم البيان والعلم بهذه القضية الشرطية ، وحينئذ ، لا فرق في مقام إبراز هذه القضية الشرطية ، بين أن يبرزها بلسان : إنّي جعلت خبر الثقة منجزا ، أو بلسان : إنّي آمركم بالعمل بخبر الثقة ، أو بلسان : إنّ خبر الثقة علم ، أو بأيّ لسان آخر ، فهذه التعابير كلّها وافية بحسب لسانها العرفي في الكشف عن الشرطية ، والّتي يكون الكشف عنها هو الملاك المنجز للواقع المشكوك.

وعليه : ففي مقام جواب إشكال الميرزا «قده» على صاحب الكفاية «قده» ، نختار الشق الثاني ونقول :

إنّ مراد الآخوند «قده» من جعل المنجزية للإمارة ، هو جعل عنوان المنجزية ، بمعنى إنشاء هذا العنوان واعتباره على الإمارة.

فإن قيل : إنّ هذا يخالف قاعدة القبح.

قلنا : إنّه غير مخالف ، لأنّ هذا الإنشاء يكشف بظهوره العرفي ويبرز اهتمام المولى بالواقع المشكوك ، لو كان موجودا ، فإنّ هذا لسان عرفي في مقام كشف ذلك ، وحينئذ ، يوجد علمنا بالقضية الشرطية بلحاظ كشفه العرفي ، فإذا أوجب علمنا بالقضية الشرطية ، تنجز الواقع وخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ موضوعها مقيّد بعدم العلم بالقضية الشرطية ، وقد صار بعد هذا الكشف بيانا وعلما.

ثمّ إنّا نختار ثانيا : الشق الأول ، وهو أن يكون المقصود إيجاد

٢٠٣

واقع المنجزية ، وغاية ما تقولون : إنّ واقع المنجزية غير قابل للجعل الشرعي ، بل هو أمر واقعي عقلي.

وهذا صحيح ، لكن هذا الأمر الواقعي قابل للجعل بالواسطة من قبل الشارع.

وذلك : بإيجاد ملاكه المشار إليه سابقا ، وهو اهتمام المولى وعدم ترخيصه في المخالفة الاحتمالية لغرضه ، وهذا هو منشأ المنجزية ، ومعه ، فهو قابل للجعل بالتبع ، كما وقع في أدلة الأحكام الواقعية ، إذ ، فما أكثر ما أفهمت الحرمة الواقعية بلسان بيان العقاب ، كما في قولهم عليهم‌السلام ، «من شرب الخمر فعليه كذا وكذا» ، فالمنجزية قابلة للإيصال ، وذلك بإيصال منشئها إلى المكلف ، فإذا صحّ هذا في الأحكام الواقعية ، صحّ في الأحكام الظاهرية.

وبهذا يتضح ، انّ مسلك جعل الإمارة منجزة من قبل الشارع ، مسلك معقول ، واف بقيام الإمارة مقام القطع الطريقي.

٢ ـ الأمر الثاني : هو أنّه ، بعد أن فرغوا عن استحالة جعل المنجزية للإمارة وأنّه أمر غير معقول ، فرّعوا على ذلك ، بأنّه إذا أريد في دليل الحجيّة إقامة الإمارة وتنزيلها منزلة القطع الطريقي ، فلا يمكن أن يكون ذلك بتنزيل الظن منزلة القطع ، لأنّ تنزيل الظن منزلة القطع ، معناه : إسراء حكم المنزّل عليه إلى المنزّل. وإذا كان حكم المنزّل عليه في القطع الطريقي هو المنجزية ، إذن فتنزيل الظن منزلة معناه : جعل المنجزية ، والمفروض أنّهم قد فرغوا في الأمر الأول عن استحالة جعل المنجزية ابتداء ، إذن فيحكم هنا بأنّ تنزيل الظن منزلة القطع الطريقي مستحيل أيضا لما عرفت ، ومن هنا راحوا يفتشون على أساس آخر يخرّجون عليه قيام الظن والإمارة منزلة القطع الطريقي.

٢٠٤

والتحقيق هو أنّ لسان تنزيل الإمارة منزلة القطع الطريقي ، هو أيضا لسان معقول من ألسنة أدلة الحجيّة وجعل الحكم الظاهري ، بمعنى أنّه لو ورد في دليل من أدلة الحجيّة ، تنزيل الإمارة منزلة القطع الطريقي لكان أمرا معقولا.

وذلك : إمّا بأن يفرض أنّ تنزيل الإمارة منزلة القطع إنّما هو بلحاظ حيثيّة شدة اهتمام المولى ، فيكون التنزيل بمثابة جملة خبرية ، مرجعها إلى إخبار المولى عن أنّه ، كما أنّه شديد الاهتمام في موارد التكاليف المعلومة ، ولا يرضى بتفويتها ، فكذلك هو شديد الاهتمام في موارد التكاليف المظنونة بالظن الخبري ولا يرضى بتفويتها أيضا.

وإمّا أن يكون تنزيلا للإمارة ، منزلة العلم في المنجزية ، بناء على ما قلناه من إمكان جعل المنجزية تبعا ، وتسبيبا ، باعتبار أنّ المنجزية الواقعية تحت سلطان المولى بتبع منشئها ، فيكون التنزيل بلحاظ واقع المنجزية.

ويمكن أن يكون التنزيل بمعنى إسراء المنجزية عنوانا من المنزّل عليه إلى المنزّل ، بمعنى إنشاء نفس التنزيل ، أي إنشاء كون هذا بمنزلة ذاك ، فإنّ هذا أيضا لسان من ألسنة إبداء ذلك الاهتمام الّذي هو ملاك تنجيز الواقع بالإمارة ، فكل هذه الأنحاء والصياغات معقولة في نفسها ، وتؤدّي غرضا ثبوتيا واحدا.

٣ ـ الأمر الثالث : هو أنّهم بعد أن فرغوا ، عن أنّ جعل المنجزية للإمارة ابتداء غير معقول ، وفرّعوا عليه ، أنّ تنزيل الظن منزلة العلم ليس من ألسنة أدلة الحجيّة ، أي أنّه لا يفي بتنجّز الواقع ، وبإقامة الإمارة مقام القطع الطريقي ، حينئذ انقسموا إلى فريقين اعتمد كل فريق أساسا لتخريج قيام الإمارة مقام العلم.

فذهب الفريق الأول إلى اعتماد أساس الطريقية ، كما هو عليه

٢٠٥

مدرسة الميرزا «قده» (١) ، من أنّ المجعول في الإمارات إنّما هو الطريقية واعتبار الإمارة علما ، من دون جعل المنجزية والتنزيل والإسراء.

والفرق عندهم بين جعل المنجزية ، وجعل الطريقية ، هو أنّ جعل المنجزية كما يتخيّلون يصادم قاعدة القبح ، حيث معها لا يوجد بيان ، بينما على مسلك جعل الطريقيّة كما يتخيّلون لا يردّ الإشكال ، لأنّ المنزل فيها يصبح علما ، فيكون بيانا ، فيرتفع بذلك موضوع قاعدة القبح ، فالإمارة تكون منجزة للواقع بجعل الطريقية والكاشفية ، لا بالمنجزية لها ابتداء ، بل بجعل الطريقية يترتب عليه المنجزية ، ولهذا حوّلوا تنزيل الظن منزلة القطع إلى اعتبار الظن قطعا ، وأنّ العملية ليست عملية تنزيل ، وإلّا لكان مرجعه إلى إسراء حكمه له ، وحكم العلم هو المنجزية ، فيلزم جعل المنجزية ، وهو غير معقول.

وإنّما العملية هي عملية اعتبار الظن علما ، إذ بمجرد اعتباره علما يرتفع موضوع قاعدة القبح ، وحينئذ ، كأنّهم بهذا تخلّصوا من الإشكال.

وقد اتضح بما ذكرناه سابقا انّ هذا المسلك غير تام ، لأنّ لسان «جعلت الظن علما» لا ينفع شيئا حتّى يتميز عن بقية الألسنة ، لأنّ هذا اللّسان إن كان يكشف كشفا عرفيا عن درجة اهتمام المولى بالواقع المشكوك ، إذن فهذا هو وحده ملاك رفع موضوع قاعدة القبح ، سواء أنشئ بعنوان العلم ، أو عنوان التنجيز أو أيّ شيء آخر ، وإن فرض انّ هذا اللّسان لم يكشف عن ذلك ، بل علمنا أنّ المولى حينما قال «جعلت الظن علما» من دون أن يكون هذا الجعل ناشئا من شدّة اهتمامه ، بل مجرد اعتبار فقط لرؤيا قد رآها في منامه ، فمثل هذا الاعتبار ، وجوده وعدمه سواء.

إذن فمسلك جعل الطريقية لا يتميّز عن بقيّة المسالك بأية ميزة

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ طبعة حديثة ، ص ١٠٨.

٢٠٦

بحسب الحقيقة كما يتخيّل ، لأنّه ليس محقّقا لنكتة التنجيز ، نعم هو من أحسن ألسنة التنجيز.

وأمّا الفريق الثاني : فهو بعد أن بنى على استحالة جعل المنجزية ، واستحالة تنزيل الظن منزلة القطع الطريقي ، ذهب إلى أنّ التنزيل إنّما هو للمظنون منزلة المقطوع ، أي لمؤدى الإمارة منزلة المقطوع كما ذهبت إليه مدرسة الشيخ الأنصاري «قده» (١) ، لأنّ القطع الطريقي ليس له حكم شرعي لكي يسري بالتنزيل إلى الظن ، وهذا غير المقطوع والمظنون ، فإنّ المقطوع إمّا حكم شرعي ، أو موضوع له أثر شرعي ، فينزل منزلته حينئذ ويكون قابلا للإسراء الشرعي ، وإذا نزل فيتخير التكليف الواقعي.

إلّا أنّ هذا التخريج لم يوضح وجها في انه كيف يكون هذا التنزيل رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعلى كلّ حال ، فقد ظهر ممّا تقدّم ، انّ جعل الحجيّة للإمارة ، وجعل المنجزية ، لا ينحصر أمره بلسان تنزيل المظنون منزلة المقطوع ، بل يمكن أن يكون بتنزيل الظن منزلة القطع أيضا.

وبكلّ ما تقدّم ، يتهيأ ذهننا لتقبّل المطالب القادمة.

٣ ـ الجهة الثالثة : في قيام الإمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية الكاشفية :

وهنا : وقع البحث في إمكانه ثبوتا كما وقع ثبوتيا في الجهة الثانية ، لكن هذا البحث الثبوتي الواقع هنا ليس في أصل إمكان قيام الإمارات مقام القطع الموضوعي من جهة إمكان التنزيل هنا شرعا كما كان هناك ، فإنّه هنا لا يقال : كيف يكون غير العلم قائما مقام العلم

__________________

(١) فرائد الأصول : الأنصاري ، ص ٤٠ ـ ٤٢ ـ ٤٣ ـ ٤٥ ـ ٤٦.

٢٠٧

الموضوعي ، فإنّ أثر العلم الموضوعي هنا ، موضوع لحكم شرعي بحسب الفرض ، فلا محذور أن يقيم الشارع شيئا آخر مقام موضوع حكمه ، ومن هنا لم يقع إشكال في أصل قيام الإمارات مقام القطع الموضوعي الطريقي ، كما أنّه لا إشكال في أنّه يمكن إيصال ذلك بدليل مستقل غير دليل الحجيّة الّذي هو دليل قيام الإمارات مقام القطع الطريقي ، بمعنى أنّ الشارع لو استعمل دليلين ، أحدهما لإثبات قيام الإمارات مقام القطع الطريقي ، ـ وهي المسألة المتقدّمة ـ وثانيهما استعمل دليلا لإقامة الإمارات مقام القطع الموضوعي ، فلو فعل ذلك ، أيضا لا إشكال في إمكان ذلك ، وإنّما الإشكال الثبوتي وقع في أنّه هل يمكن أن يكون دليل واحد وافيا بكلا المطلبين ، حيث يمكن بدليل واحد ، ـ وهو دليل الحجيّة ـ أن يكون وافيا بقيام الإمارة مقام القطع الطريقي والقطع الموضوعي معا أيضا؟ هذا ، وكأنّهم اقتصروا على بحث المرحلة الثبوتية دون مرحلة الإثبات لمعرفة أنّ أدلة الحجيّة هل تفي بإثبات ذلك التنزيل أم لا؟.

وكأنّ الشّيخ الأنصاري «قده» (١) ، والميرزا «قده» يبنون على إمكان ذلك.

وأمّا صاحب الكفاية «قده» فقد استشكل في إمكانه ، وهذا هو البحث الثبوتي.

وحاصل برهان الآخوند «قده» (٢) على الاستحالة هو ، أنّ قيام الإمارة مقام القطع الطريقي أو الموضوعي مرجعه إلى عملية تنزيل ، وهذه العملية لها إحدى صيغتين.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ٢٠ ـ ٢١ ـ ٢٢.

٢٠٨

١ ـ الصيغة الأولى : هي تنزيل المظنون ، منزلة الواقع المقطوع.

٢ ـ الصيغة الثانية : هي تنزيل نفس الظن منزلة القطع.

أمّا الصيغة الأولى : فهي إذا صدرت ووقعت في دليل ، فهي تنتج قيام الإمارة مقام القطع الطريقي ، لأنّ تنزيل المظنون منزلة المقطوع. معناه : جعل الحكم على طبق مؤدّي الإمارة ، وهذا مرجعه إلى قيامها مقام القطع الطريقي ، ولا يوجب ذلك قيام الإمارة مقام القطع الموضوعي ، لأنّ المنزّل عليه هنا ليس هو القطع ، وإنّما هو المقطوع ، ولا يترتب عليه إلّا أحكام المقطوع ، إذن ، فما يكون للقطع الموضوع من آثار وأحكام لا يترتب على الإمارة بتنزيل المظنون منزلة المقطوع.

وأمّا الصيغة الثانية : وهي تنزيل نفس الظن منزلة القطع ، فهنا ، المنزّل هو الظن ، والمنزّل عليه هو القطع ، والظن والقطع باعتبارهما حالتين مرآتيتين ، فهما تارة تلحظان باللحاظ الاستقلالي ، بما هما صفتان ، وأخرى ، تلحظان باللحاظ الآلي المرآتي ، أي ، يلحظ الظن بما هو مرآة للمظنون ، والقطع بما هو مرآة للمقطوع ، فإذا فرض إن كان القطع والظن في عملية التنزيل هذه ملحوظين باللحاظ الاستقلالي ، فهذا معناه قيام الإمارة مقام القطع الموضوعي فيما للقطع من أحكام ، لكن ذلك لا يوجب قيام الإمارة مقام القطع الطريقي لما بيّنوه في أبحاثهم السابقة ، من أنّ قيام الإمارة مقام القطع الطريقي لا يكون بتنزيل نفس الظن منزلة القطع ، لأنّ القطع الطريقي حكمه المنجزية ، والمنجزية حكم عقلي ، ولا يمكن إسراؤه بالتنزيل ، فإذا كان التنزيل تنزيلا للظن الأمارتي منزلة القطع بما هو قطع انحصر أثر هذا التنزيل في إسراء ما للقطع من آثار شرعية وأحكام مترتبة عليه من المنجزية ، فلا تسري بالتنزيل كما عرفت.

وأمّا إذا كان القطع والظن ملحوظين باللحاظ الآلي ، رجع حقيقة

٢٠٩

تنزيل الظن منزلة القطع إلى تنزيل المظنون منزلة المقطوع ، لأنّ الظن لوحظ آلة للمظنون ، والقطع آلة للمقطوع ، إذن رجع هذا اللحاظ إلى الصيغة الأولى الّتي تنتج قيام الإمارة مقام القطع الطريقي لا الموضوعي ، وعليه : فلا توجد صيغة وافية بكلا الأمرين.

وهنا قد يتخيّل إنّا نختار الصيغة الثانية ، وهي تنزيل نفس الظن منزلة القطع ونقول : إنّه جمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي لكي ننجز كلا المطلبين.

ولكنّ هذا مستحيل ، وذلك لاستحالة اجتماع لحاظين متباينين على شيء واحد.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية استدرك بعد ذلك فقال : نعم إنّه لو كان هناك ما بمفهومه (١) يكون جامعا بينهما لأمكن ذلك ، ولكن ليس.

وقد يتخيّل أن يكون مقصوده من «مفهوم جامع» ، أي مفهوم جامع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي.

لكن ليس هذا مقصوده ، إذ من الواضح أنّ الجامع بين هذين اللحاظين إنّما هو الجامع المفهومي بينهما ، وهو موجود ، وهو نفس مفهوم اللحاظ ، لكن هذا الجامع المفهومي ليس لحاظا بالحمل الشائع ، وإنّما هو مفهوم من المفاهيم الّتي يتعلق بها اللحاظ ، فلا يفي حينئذ بتنقيح دليل الحجيّة ، لأنّ دليل الحجيّة والتنزيل يحتاج إلى لحاظ بالحمل الشائع ، بل الظاهر هو أنّ مقصوده من قوله «مفهوم جامع» ، يعني ما بمفهومه يعم الظن والمظنون والقطع والمقطوع ، أو قل : يعني مفهوم له مصداقان ، أحدهما الظن ، والآخر ، المظنون ، وكذلك للقطع والمقطوع ،

__________________

(١) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ٢١.

٢١٠

حيث يقال حينئذ بعبارة واحدة ، «نزّلت هذا بمنزلة ذلك» ، فيكون تنزيل كلّي ينحل إلى تنزيلين ، تنزيل الظن منزلة القطع ، والمظنون منزلة المقطوع ، لأنّ المفهوم المنزل له فردان ، والمنزل عليه له فردان ، فينحل هذا التنزيل إلى تنزيلين.

ثمّ قال «قده» (١) : إنّ هذا غير موجود ، إذ لا جامع من هذا القبيل.

إذن : فهذا التصوير غير تام ، وبهذا يتبرهن استحالة وفاء لسان واحد ومفاد فارد على إقامة الامارة مقام القطع الطريقي والموضوعي معا.

وبعد أن عرفت برهان استحالة قيام الامارة مقام القطع الطريقي والموضوعي معا ، ينبغي أن يعلم ، إنّ هذا الإشكال الثبوتي في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي بهذا النحو ، إنّما هو فيما إذا لم نستظهر ـ من الدليل الّذي يرتب الحكم على القطع ـ انّ القطع قد أخذ في الموضوع بما هو حجّة ، بلا دخل الكاشفية التامة في ذلك.

فإذا استظهرنا من دليل ترتب الحكم على القطع ، انّ القطع لم يؤخذ باعتبار كاشفيته التامة وطريقيّته الّتي لا يبقى معها احتمال الخلاف ، بل أخذ في الموضوع بما هو حجّة ومنجز ومعذّر ، فإذا استظهرنا ذلك من دليل الحكم المترتب على القطع ، فلا إشكال حينئذ في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي ـ بنفس دليل تنزيلها ـ منزلة القطع الطريقي ، بلا حاجة إلى جعل تنزيل آخر ، لتصل النوبة إلى البحث عن انّ هذين التنزيلين هل يمكن إفادتهما بصيغة واحدة أو لا ، بل من الواضح حينئذ أنّ تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي وحده يحقّق فردا

__________________

(١) المصدر السابق.

٢١١

حقيقيا من موضوع دليل ذلك الحكم الّذي رتب على القطع ، وحينئذ يكون دليل حجيّة الامارة واردا عليه.

وعليه : فموضوع إشكال الآخوند «قده» في الإمكان هو الفرض الأول ، أي أنّ مورد إشكاله هو ما إذا كان دليل الحكم الموضوعي قد أخذ القطع بما هو قطع ، موضوعا للحكم ، لا القطع بما هو حجّة ، لكي نحتاج إلى حكومة وتنزيل.

ثمّ انّ برهان الآخوند «قده» (١) قد اعترض عليه الميرزا «قده» (٢) ، كما أنّ الآخوند «قده» (٣) نفسه سجّل موقفا خاصا من هذا البرهان.

وقبل ذكر كلا الموقفين للميرزا «قده» ، والآخوند «قده» ، نذكر موقفنا الإجمالي من هذا البرهان.

وموقفنا هذا يتكوّن من عدّة نقاط ، وسوف يتضح موقفنا أكثر من خلال تعرّضنا لكل من موقف الميرزا «قده» ، والآخوند «قده».

١ ـ النقطة الأولى : هي انّ هذا الاستشكال والاتجاه في البحث ليس صحيحا من الأساس ، لأنّ هذا الاستشكال يفترض بأنّا نتعامل مع دليل لفظي من أدلة الحجيّة ، ونريد أن نمتحن قدرة هذا الدليل ذو المضمون والمفاد الواحد حيث يقال : بأنّ هذا الدليل هل يمكنه أن يفي بالتنزيلين معا أو لا؟ وحينئذ ، يستشكل الآخوند «قده» ويجيب : بأنّه إن كان بصيغة تنزيل المظنون منزلة المقطوع فلا يفي لما عرفت ، وإن كان بصيغة تنزيل الظن مقام القطع ، فإنّه يفي بالأول دون الثاني.

إلّا انّ هذا الكلام غير تام : وذلك لأنّ أهم الامارات هو خبر

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) فوائد الأصول : الكاظمي ، ج ٢ ، ص ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٣٨.

(٣) كفاية الأصول : الخراساني ، ج ٢ ، ص ٢١ ـ ٢٢.

٢١٢

الثقة والظهور ، وأهمّ دليل على حجيتهما هو السيرة العقلائية ، وحينئذ ، ينبغي التكلم في انّ هذه السيرة الّتي هي دليل لبّي ، هل يستفاد منها إقامة الامارة مقام القطع الطريقي فقط ، أو هو مع القطع الموضوعي؟ ، وهذا ما سوف تعرفه عند مناقشة الميرزا «قده» للآخوند «قده».

٢ ـ النقطة الثانية : وهي أنّه لو تنزلنا وفرضنا أنّا أمام دليل لفظي ، فمع هذا ، يمكن أن يكون لسان دليل واحد وافيا بكلا التنزيلين ، وهو لسان تنزيل الظن منزلة القطع إذا كانا ملحوظين باللحاظ الاستقلالي بناء على مبنى الآخوند «قده» ، من أنّ إقامة الامارة مقام القطع الطريقي يمكن أن يكون بجعل المنجزية ابتداء للامارة ، فإنّه بناء على ذلك لا مانع من وفاء هذا اللّسان بكلا التنزيلين ، فيقال : إنّ الظن مثل القطع في أمرين ، أحدهما المنجزية ، وبذلك يكون الظن قائما مقام القطع الطريقي ، والثاني ، يكون مثله في ترتب الحكم الشرعي بوجوب التصدق مثلا ، وهذا معناه : قيام الامارة مقام القطع الموضوعي من دون أن يلزم منه اجتماع لحاظين ، ومن المعلوم انّ هذا مبنيا على أصولهم الموضوعية.

ويحتمل أن يكون استشكال الآخوند «قده» في الإمكان مبنيا على الأصول الموضوعية لرسائل الشيخ الأنصاري «قده» ، حيث افترض فيها أنّ قيام الامارة مقام القطع الطريقي لا يكون إلّا بتنزيل المظنون منزلة المقطوع ، وانّ قيامها مقام القطع الموضوعي لا يكون إلّا بإقامة الظن مقام القطع ، وحينئذ ، فلا يرد إشكال النقطة الثانية على الآخوند «قده».

٣ ـ النقطة الثالثة : هي أنّه لو سلّمنا انّ عبارة «تنزيل الظن منزلة القطع» لا تفي بكلا المطلبين ، لاستحالة جعل المنجزية ، وانّ إقامة الامارة مقام القطع الطريقي إنّما تكون بجعل الحكم لا بجعل المنجزية ابتداء ، لكن مع هذا نقول : بأنّه إذا كان البحث ثبوتيا كما هو المفروض ، فإنّه يمكن الحصول على عبارة تفي بكلا التنزيلين ، وذلك بأن يقال : بأنّ

٢١٣

مفاد دليل الحجيّة هو الأمر ، بأن أمر من قامت عنده الامارة أن يعمل كما يعمل القاطع ، ومن المعلوم أنّ القاطع بخمرية مائع له عملان :

أحدهما : عمل من شئون القطع الطريقي ، وهو وجوب الاجتناب.

والثاني : عمل من شئون القطع الموضوعي ، وهو وجوب التصدق مثلا ، إذا فرض انّ هذا القطع كان موضوعا لذلك ، وحينئذ ، فإذا أمر من قامت عنده الامارة بأن يعمل عمل القاطع ، فبذلك ستقوم الامارة مقام القطع الطريقي والموضوعي بعبارة واحدة وبلا محذور ، فهذه العبارة تنحل إلى أمرين ، أحدهما : يتمم الحجيّة والآخر يتمم الموضوعية ، هذا كله إذ أغمضنا النظر عن برهان الآخوند «قده» وعن إشكالاتنا أيضا.

٤ ـ النقطة الرابعة : هي أنّ ما ذكره الآخوند «قده» في برهان الاستحالة من أنّ القطع والظن تارة يلحظان باللحاظ الاستقلالي ، وأخرى ، يلحظان باللحاظ الآلي ، لا معنى له ، لأنّ ما ذكره «قده» إنّما يتصور بالنسبة إلى قطع القاطع ، وظنّ الظان ، وهذا ليس محلا للكلام ، فإنّ محل الكلام هو مفهوم القطع ، ومفهوم الظن اللذان يأخذهما الشارع في موضوع حكمه ، وهذان المفهومان لا معنى لأن يلحظهما الشارع فانيين في الموضوع ، فإنّ مفهوم القطع ليس كاشفا ، بل هو كسائر المفاهيم الّتي إن لوحظت فانية فإنّما تلحظ فانية في مصاديقها كأيّ مفهوم آخر ، وكذلك مفهوم الظن.

وبعبارة أخرى : الظن والقطع الّذي له حالة المرآتية بحيث يكون تارة ، النظر إليه ، وأخرى النظر به ، إنّما هو قطع القاطع وظنّ الظان ، لا قطع المولى وظنّه الّذي يأخذه في مفهوم الحجيّة ، أي أنّ ما هو ظنّ وقطع بالحمل الشائع هذا هو الّذي يلحظ تارة آلي ، وأخرى استقلالي ، وأمّا مفهوم القطع الّذي هو قطع بالحمل الأوّلي الّذي يتصوره المولى فهذا لا معنى لأن يفنى في المقطوع ، فإنّه إن لوحظ مرآة وفانيا فهو فانيا

٢١٤

في مصاديقه ، فحينما نقول : النّار محرقة ، والخمر حرام ، فالخمر هنا يلحظ فانيا في مصاديقه.

وهنا الأمر كذلك ، فإذا قال : القطع يستوجب القطع ، فمعناه : هذا القطع وهذا القطع ، هذا خلّط بين القطع بالحمل الأوّلي والقطع بالحمل الشائع الصناعي ، وهكذا مفهوم الظن.

اللهمّ ، إلّا أن يقال : انّه ليس مقصود الآخوند «قده» من اللحاظ ، اللحاظ في مرحلة المدلول التصوري للكلام ليرد ما ذكرنا ، بل المقصود من اللحاظ الاستقلالي والآلي هو القصد الجدّى ، والقصد الكنائي ، فتارة يطلق الظن والقطع ويراد منهما المظنون والمقطوع كناية ، وأخرى يطلقان ويراد بهما نفس الظن والقطع ، فيكونان مقصودين جدا ، وحينئذ ، فإذا نزّل الظن منزلة القطع ، وكان المقصود تنزيله منزلته بكلا اللحاظين ، فيلزم الجمع بين الكناية والجدية ، في كلام واحد واستعمال واحد ، وهو غير جائز ، وحينئذ يكون التعبير بالآلية والاستقلالية مسامحة في المقام ، ومعه لا يرد إشكالنا في النقطة الرابعة.

هذا إذا حملنا كلام صاحب الكفاية على مرحلة المدلول التصوري لدليل الحجيّة ، لأنّ لحاظي الآلية والاستقلالية من شئون المدلول التصوري للدليل.

ولكن حينما ننقل الإشكال من مرحلة المدلول التصوري ، إلى مرحلة المدلول التصديقي ، حينئذ يمكن أن يقال : بأنّ الإشكال تام بحسب مقام الإثبات بلا حاجة إلى إدخال عناية مسألة الصراحة والكناية في المقام.

وإن شئت قلت : إنّ روح هذا الإشكال يمكن تقريبه بما حاصله :

إنّ الدليل الواحد الّذي يكون مفاده ـ بحسب المدلول التصوري ـ تنزيل الظن منزلة القطع ، إن فرض أنّه كان بصدد إقامة الامارة مقام

٢١٥

القطع الطريقي التصديقي حقيقة وهو عبارة عن إبراز شدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك ، لما قلناه سابقا ، من أنّ كل دليل حجيّة لا يكون منجزا أو منشأ للحجيّة إلّا بتوسط كونه ذا مدلول تصديقي ، أي أنّه مبرزا لشدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك ، فالمدلول التصديقي لدليل الحجيّة هو إبراز ذلك وهو الأول وإن فرض كون مفاده الجعل النفسي والحكم الواقعي النابع من ملاكات في متعلق الحكم فيكون المدلول التصديقي لدليل إقامة الامارة مقام القطع الموضوعي هو الثاني وهو جعل الحكم الواقعي على طبق الامارة كما كان مجعولا على طبق القطع ، ومن الواضح أنّ هذين مدلولان تصديقيان متغايران لا يصح عرفا أن يكونا لخطاب ودليل واحد ، حيث يكون تنزيل واحد كاشفا عنهما معا كشف تصديقيا جديا ، فإنّ هذا أمر غير عرفي ، إذ أنّ دليل الجعل الواحد يكشف عرفا عن سنخ مدلول تصديقي واحد أيضا لا عن سنخين.

إذن فالإشكال ليس بلحاظ مرحلة المدلول التصوري ، وليس بلحاظ الجمع بين اللحاظين ، الآلي والاستقلالي ، كما أنّه ليس باعتبار الجمع بين الكناية والصراحة ، بل لو فرض أنّهما معا كنائيان أو صريحان ، إلّا أنّهما مدلولان تصديقيان متباينان عرفا ، ولا معنى لأن نفرض أنّ كلاما واحدا له ذلك ، فمثلا : قوله عليه‌السلام «يعيد» ، تارة يكون إخبارا عن الإعادة ، وأخرى يكون أمرا بالإعادة ، فهذا لا محذور فيه في مرحلة المدلول التصوري ، بل المحذور فيه إنّما هو في مرحلة المدلول التصديقي.

والحاصل : هو أنّ المدلول التصديقي في موارد قيام الامارة مقام القطع الطريقي هو مدلول إخباري ، بينما هو في موارد قيامها مقام القطع الموضوعي هو مدلول إنشائي ، فالجمع بينهما في خطاب واحد على

٢١٦

طريقة استعمال اللفظ في الإنشاء والإخبار بحسب المدلول التصديقي لا التصوري إنّما هو أمر غير عرفي ، نظير قوله «يعيد» وهو يريد بذلك ، إنشاء الأمر ، والإخبار عن الإعادة.

هذا حتّى ولو كان المدلول التصوري للجمل المشتركة في الإنشاء والإخبار واحدا كما عرفت ذلك في بحث الوضع.

وكأنّ صاحب الكفاية «قده» (١) كان يشعر بذلك ، ومن هنا حاول التعبير عن شعوره هذا ، لكن بيانه جاء قاصرا لم يتطابق مع واقع شعوره بذلك ، فتمسك بما ذكرنا ، مع أنّ واقع الإشكال عرفي لا عقلي كما عرفت ، فيبقى الدليل قاصرا عن إفادة كلا المطلبين ، وهو إشكال إثباتي لا ثبوتي مرجعه إلى مرحلة المدلول التصديقي لا التصوري.

ثمّ إنّ الميرزا «قده» (٢) أراد أن يتخلص من برهان صاحب الكفاية على الاستحالة فأفاد ، بأنّ دليل الحجيّة إذا كان لسانه أنّ الامارة قطع وعلم ، فهذا اللّسان واف بكلا المطلبين وذلك بتنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي ، من دون لزوم اجتماع اللحاظين ، بل اللحاظ استقلالي فقط ، حيث يلحظ كلا من القطع والظن استقلالا ويقال : إنّ هذا هو ذاك ، ولكن لا بنحو التنزيل ليلزم الإشكال من ناحية جعل المنجزية ، فإنّه لو كان لسانه لسان تنزيل الظن منزلة القطع ، لكان مرجعه إلى جعل أحكام القطع للظن ، ومن جملة أحكام القطع ، المنجزية ، فيرجع حينئذ إلى جعل المنجزية ، وهو محال عند الميرزا «قده» ، لأنّه خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما مرّ معنا ، ولهذا أدخل تعديلا على هذه العبارة وقال : إنّها بنحو الاعتبار لا التنزيل ، أي جعل الظن واعتباره علما ، وهذا هو مبنى جعل الطريقية الّذي تقدّمت الإشارة إليه.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) فوائد الأصول : الصفحات السابقة.

٢١٧

وهذا المبنى الّذي ذهب إليه الميرزا استفاد منه سابقا في دفع الإشكال الثبوتي على إقامة الامارة مقام القطع الطريقي ، بحيث كان يتنافى هناك مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث أجاب هناك : بأنّ الامارة أصبحت علما ، فترفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأصبح اللّابيان بيانا.

وهنا أراد الميرزا «قده» أن يستفيد من هذا المبنى ، وهو إمكان الجمع بين التنزيلين بعبارة واحدة ، وذلك لأنّ المولى حينما يعتبر غير العلم علما ، حينئذ يترتب عليه أمران : أحدهما ، رفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وبارتفاع موضوعها ، يكون هذا هو معنى إقامة غير العلم مقام القطع الطريقي ، والثاني : هو أنّ الدليل الّذي دلّ على أنّ «معلوم الخمرية يحرم» ، يطبقه في محل الكلام ، لأنّ هذا معلوم الخمرية بالاعتبار ، فيشمله حكمه ، من الاجتناب عنه وغير ذلك ، وهذا هو معنى قيام الامارة مقام القطع الموضوعي.

ولكن تحقيق الحال في كلام الميرزا «قده» ، هو أنّ هذا الاعتبار ، وهو اعتبار الظن علما ، لو كان يحقّق ورودا ـ بالمعنى المعروف من الورود في موارد الجمع العرفي ـ على قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وعلى دليل الحكم المترتب على القطع ـ بمعنى أنّه يرفع موضوع هذا القاعدة حقيقة وينقح موضوعها ـ لو كان كذلك ، لتم ما أفاده.

وتوضيحه : إنّه ذكر في بحث التعادل والتراجيح ، انّ الدليل الوارد ، هو عبارة عن الدليل الّذي يحقّق موضوع الدليل المورود وجدانا ، أو يرفعه بواسطة التعبّد ، وفي مقابله الدليل الحاكم ، وهو الّذي لا يرفع الموضوع للدليل المحكوم ولا يحقّقه كذلك وجدانا ، بل بالتعبّد والعناية من قبيل ، «الطواف في البيت صلاة» ، وحينئذ نقول :

لو كان موضوع قاعدة القبح هو عدم البيان بالمعنى الأعم من

٢١٨

العلم الحقيقي والاعتباري ، إذن دليل جعل الظن علما يكون واردا على قاعدة القبح ، لأنّه بهذا الجعل يصبح الظن علما اعتباريا حقيقة ، والمفروض انّ قاعدة القبح أخذ في موضوعها عدم البيان والعلم بكلا قسميه ، والعلم والبيان هنا ، موجود بالوجود الاعتباري ، وهذا معناه : ورود دليل الحجيّة على قاعدة القبح ، إذن هذا ورود من جانب ، وإذا فرضنا أنّ دليل القطع الموضوعي القائل «إذا قطعت بخمريّة شيء وجبت إراقته» ، فالإراقة هنا مترتبة على القطع بالخمرية ، فإذا كان موضوع الدليل هو القطع بالمعنى الأعم من الوجود الحقيقي والاعتباري ، فحينئذ دليل الحجيّة الّذي مفاده جعل الظن علما يكون واردا على دليل القطع الموضوعي ، لأنّه يحقّق فردا من موضوعه بالوجدان ، وحينئذ ، في حالة صحة هذه الافتراضات ، سوف يكون دليل الحجيّة ـ والّذي مفاده جعل الظن علما ـ سوف يكون واردا على دليل قاعدة القبح ، ووجوب إراقة مقطوع الخمرية ، وقد ذكرنا في باب الورود ، انّه لا يشترط نظر الدليل الوارد إلى الدليل المورود ، لأنّ الوارد يحقّق أو ينفي موضوع الدليل المورود حقيقة ، وعليه : فبدون أن ينظر ، هو يحقّق موضوع الدليل المورود ، وبناء على هذا يتم كلام الميرزا «قده».

إلّا أنّ هذه الافتراضات غير صحيحة ، وحينئذ لا يتم كلام الميرزا ولنا في المقام كلامان :

١ ـ الكلام الأول : هو انّ هذه الافتراضات غير صحيحة.

٢ ـ الكلام الثاني : هو أنّه بناء على عدم صحة هذه الافتراضات ، لا يكون كلامه تاما.

أمّا الكلام الأول : وهو كون افتراضات الورود غير صحيحة لا في جانب قاعدة القبح ، ولا في جانب دليل القطع الموضوعي.

أمّا من ناحية قاعدة القبح ، فلمّا بيّناه سابقا من أنّ قاعدة القبح لم

٢١٩

ترد في آية ولا في رواية بلفظ قاعدة القبح ، أو قبح العقاب بلا بيان ، وإنّما يدّعى أنّها قاعدة عقلية ، فلو سلّمنا بذلك ، إلّا أنّنا نقول :

إنّ هذه القاعدة إنّما يرتفع موضوعها فيما إذا صدر من المولى إنشاء ناظر إلى التكاليف الواقعية المشكوكة ومبرز لشدّة اهتمام المولى بها ، لا مجرد الإنشاء ، وحينئذ ، بذلك يحصل العلم بالقضية الشرطية ، وهي أنّه «لو كان التكليف الواقعي ثابت ، فهو مهم عند المولى» ، وهذا العلم هو الّذي يوجب رفع موضوع القاعدة ، فدليل الحجيّة الّذي مفاده إنشاء الطريقية ، وجعل الظن علما ، ليس مجرّد إنشائه يكون كافيا لرفع موضوع القاعدة ، لأنّ ميزان القبح وعدمه ليس مجرد الإنشاء والألفاظ ، بل الميزان هو ، إبراز شدّة الاهتمام بالنحو الّذي عرفت.

إذن فدليل الحجيّة بالنسبة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وارد ، لكن وروده هنا لا يكفي بمجرد إنشاء الطريقية ، بل يحتاج لرفع موضوعها إلى عناية نظر إضافي وراء مجرد إنشاء الطريقية ، وهو إبراز شدّة اهتمام المولى ، وإلّا فبدونه لا يكون رافعا لموضوع قاعدة القبح.

وأمّا بلحاظ دليل القطع الموضوعي ، أي دليل وجوب إراقة مقطوع الخمرية ، فمن الواضح انّ موضوع هذا الدليل هو القطع ، والقطع لا يشمل إلّا أفراده الحقيقية دون العنائية منها ، وعليه فمجرد إنشاء كون الظن علما في دليل الحجيّة لا يولّد تكوينا ووجدانا إطلاقا في دليل وجوب الإراقة ، لأنّ هذا الدليل موضوعه العلم الوجداني كما هو ظاهره ، فإسراء الحكم من القطع الوجداني إلى الفرد الادّعائي لا يتم بمجرد هذا الإنشاء ، بل يتم بالنظر ، بمعنى انّ هذا الدليل يجب أن يكون حاكما ، ويكون تقدمه بالحكومة لا بالورود ، والحاكم ، ملاك تقدمه هو ، النظر إلى الدليل المحكوم ، فهذا الدليل ، وهو دليل الحجيّة ، هو يسرّى حكم ذاك إلى هنا ، لا أنّ ذاك الدليل هو الّذي سوف يسري.

٢٢٠