بحوث في علم الأصول - ج ٨

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٠

وبقي الكلام عن القضايا المحسوسة ، وهي على قسمين.

١ ـ القسم الأول : هو أن يكون الواقع المحسوس فيها أمرا وجدانيا ، من قبيل الإحساس بالجوع والألم والحب ونحوه.

وهذه القضايا لا إشكال في كونها أولية ، ولا تقوم على أساس حساب الاحتمالات.

٢ ـ القسم الثاني : هو أن يكون المحسوس له ثبوت خارج عالم النّفس ، من قبيل الإحساس بالقلم ، والسرير الّذي ننام عليه ، وبجارك الّذي تراه إلى جانبك ، ومن هنا يقال : «إنّ هذه المحسوسات ، فيها ما هو محسوس بالذات ، وهو الصورة القائمة في أفق النّفس في مرتبة الإدراك الحسي ، وفيها ما هو محسوس بالعرض وهو الأمور الخارجية ، وعليه : فالإدراك الحسّي لا يتعلّق مباشرة بالواقع الخارجي بل يتقوم بالمحسوس بالذات.

ومن هنا قد لا يكون للإدراك الحسّي واقع خارجي ، كالأصولي الّذي يرى الواحد اثنين ، فإنّه له إدراكان حسيّان دون أن يكون هناك واقعان خارجيان ، وإنّما الواقع الخارجي محسوس ومحكي بالعرض ، وفي هذا القسم الثاني بالنسبة إلى المحسوس بالذات معرفتنا أولية أيضا كالقسم الأول.

وأمّا بالنسبة إلى معرفتنا بالمحسوس بالعرض ، أي انّ هذه الصورة الحسيّة القائمة في أفق إدراكنا الحسّي لها مطابق في الخارج وواقع موضوعي أم لا؟ ومعه فهل معرفتنا به أوّلية أم لا؟ وهذه المسألة من ألغاز الفلسفة ، وكأنّ الاتجاه المتعارف عند فلاسفتنا إلى أنّ هذه المعرفة أوليّة ، لأنّ الإنسان بالفطرة الذاتية يدرك أنّه يتعامل مع أشياء لها وجود في الخارج ، وليست مجرد صور في ذهنه.

٣٤١

وكأنّ بعض الفلاسفة (١) المسلمين المتأخرين تنبه إلى أنّه لا يمكن الالتزام بأنّ معرفة الواقع الموضوعي أوليّة ، إذ لو كانت أوليّة للزم أن لا تخطى ـ كما يعتقدون ـ معرفة حسيّة أبدا ، بينما الخطأ في الحواس موجود ، إذ أنّ خداع الحواس كثير ، ومعه ، كيف يقال بأنّ الإدراك الحسّي معرفة أوليّة؟ وكأنّه لأجل هذا ، أراد هذا الفيلسوف المسلم أن يتخلص من هذا المحذور ، فبنى على أنّ المعرفة الحسيّة بنحو القضية الإجمالية هي أوليّة ، بمعنى أنّ بعض الإحساسات بالجملة لها مطابق في الواقع ، إذ ليست كل هذه الأشياء الّتي نحسّ بها من حولنا مجرد خيالات ، ولذلك ادّعى البداهة والأوليّة فيها.

ونحن في كتاب فلسفتنا قبل الأسس المنطقية للاستقراء ، اتجهنا إلى علاج آخر ، فبنينا على أنّ المعرفة هنا في القضايا الحسيّة معرفة مستنبطة بقانون العلية ، باعتبار ان الصورة الحسيّة حادثة لا بدّ لها من علّة ، وقانون العلية قضية أوليّة أو مستنبطة من قضية أوليّة ، فما أحسّ به بالذات هو الصورة وإلّا كيف حصلت هذه الصورة في أفق النّفس؟ إذن ، فعن طريق قانون العلية نثبت الواقع الموضوعي للصورة الحسيّة.

وفي مقابل هذه الاتجاهات الثلاثة اتجاه المثاليين ، حيث أنّهم يقولون بأنّه لا معرفة أوليّة لنا بالواقع الموضوعي أصلا ، بل انّ هذه الموجودات المحسوسة كلها ، ليس لها واقع خارجي وراء الصور الذهنية القائمة في النّفس ، إذن فتمام ما نعرفه هو المحسوس بالذات.

وأمّا المحسوس بالعرض فلا معرفة لنا به.

وكل هذه الاتجاهات الفلسفية الأربعة الّتي تذبذب بها الفكر البشري خلال ألفي عام غير صحيحة ، فالمعرفة الحسيّة ليست بديهية

__________________

(١) العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي «قده».

٣٤٢

بداهة تفصيلية ، ولا بداهة إجمالية ، ولا مستنبطة بقانون العلية ، ولا أنّه ليس لدينا معرفة موزونة بالواقع الموضوعي الخارجي للمحسوسات.

وإنّما الصحيح بناء على ما اكتشفناه من الأسس المنطقية للاستقراء هو ، معرفتنا بالواقع الموضوعي للمدركات الحسيّة جملة وتفصيلا قائمة على أساس حساب الاحتمالات ، غاية الأمر انّ هذا الحساب يشتغل بالفطرة عند الإنسان ، وبعقل رزقه الله تعالى ، سمّيناه بالعقل الثالث ، في قبال العقلين الأول والثاني آنفي الذّكر.

ونحن حينما نقارن إحساساتنا في عالم اليقظة بإحساساتنا في عالم الرؤيا ، ندرك بأنّ إحساساتنا في عالم الرؤيا ليس لها مطابق واقعي إلّا أوهام شيخ الإشراق ، وهذا بخلاف الإحساسات في عالم اليقظة ، فإنّا ندرك بأنّ لها واقع موضوعي ، مع أنّه إذا لوحظت هذه الإحساسات بكل منها نجد أنّه لا فرق بين هذه الصورة وتلك من حيث وضوح الصورة ، لأنّ الإحساس بكل منها وجداني لا يفرق بينها.

نعم هناك فرق بينهما ، هو ، أنّ المحسوس في عالم اليقظة بما أنّه يدرك مرّات عديدة وفي أزمان مختلفة حيث يشكل هذا التكرار قرائن احتمالية تتجمع بحساب الاحتمال على المدركات الحسيّة للتغطية على ثبوت صورتها لواقعها الموضوعي ، إذ أنّ تكرر صورتها بشكل ثابت ومستمر على نهج واحد مدّة طويلة ، يقتضي بحساب الاحتمالات انّ هذه الصورة ليست مخلوقة لي ، بل توجب بحساب الاحتمال ثبوت حقيقة موضوعية للمدرك خارجا بعيدا عن الخيال والوهم ومع قطع النظر عن تصوّر المدرك.

وهذا بخلاف المدرك المحسوس في عالم المنام ، حيث أنّ الصورة فيه سريعة التقلّب والتغيّر ، ممّا لا يحصل بحساب الاحتمال ما يوجب ثبوت حقيقة موضوعية له.

٣٤٣

إذن فمعرفتنا بالواقع الموضوعي ليست بديهية لا تفصيلا ، ولا إجمالا ، ولا مستنبطة من قانون العلية ، لأنّ قانون العليّة يبني على انّ هذه الصورة لها علّة ، ولكنّه لا يعيّن أنّ علّتها هل هو الواقع الموضوعي ، أو الحركة الجوهرية للنفس ، وإنّما الّذي يعيّن أنّ العلّة من خارج هو حساب الاحتمال.

وبهذا يتضح لدينا ، صورة إجمالية عن الاختيارات الّتي انتهينا إليها في الأسس المنطقية للاستقراء ، وتفصيل ذلك في محله.

وبهذا يتبين لنا ، أنّ العقل الأول ، منحصر في الأوليات والفطريات والحسيّات المحسوسة بالذات ، وأمّا بقية القضايا الّتي عدّوها من البديهيات ، فإنّها ليست من العقل الأول ، بل هي قضايا مستنبطة على أساس حساب الاحتمالات كما عرفت.

٢ ـ المقام الثاني : في العقل الثاني :

وهو أنّ أرسطو والمناطقة بعد أن فرغوا من العقل الأول وفرضوه وقالوا : بأنّ كل ما يستنبط بطريقة صحيحة من العقل الأول يكون عقلا ثانيا مضمون الحقّانيّة ببركة ضمان حقّانيّة العقل الأول ، وكل ما لا يستنبط منه بطريقة صحيحة لا يكون مضمون الحقّانيّة ، وطرق الاستدلال والاستنباط عندهم هي القياس ، والاستقراء ، والتمثيل ، والثاني والثالث ، لا يرون حجيتهما إلّا إذا أرجعا إلى القياس ، إذن ، فالطريق الوحيد والصحيح منها لاستنباط المعرفة من العقل الأول هو الشكل الأول من القياس ، ويتقوم هذا الشكل بحدود ثلاثة ، هي أصغر ، وأوسط ، وأكبر ، وبين كل حد والحد الّذي يليه مباشرة لا يوجد حد ، وهذا يعني : انّ القضية أوليّة ، ولكن ثبوت الحد الثالث للحد الأول يعني قضية مستنبطة دون ثبوت الحد الثاني للأول ، ولا ثبوت الثالث للثاني ، لأنّه لا حدّ أوسط بينهما ، وحينئذ ، إذا أخذنا بذلك ، فمعناه : إنّنا إذا وضعنا قائمة

٣٤٤

بمعلوماتنا فينبغي أن نذكر في السطر الأول المحمولات الذاتية لموضوعاتها المنطقية بالضرورة مع موضوعاتها ، ثمّ في السطر الثاني نذكر محمولات هذه المحمولات المنطقية بالضرورة عليها ، وفي السطر الثالث نذكر محمولات هذه المحمولات ، وهكذا في كل سطر تكون القضية ضرورية لا مستنبطة ، لأنّ المحمول ثابت للموضوع بالذات.

نعم ، ثبوت محمول المحمول للموضوع والّذي بينهما حد أوسط ، يكون قضية مستنبطة ، لأنّه بواسطة المحمول.

إذن فتمام خارطة المعرفة البشرية تكون عبارة عن هذه الأسطر.

ومن هنا لا يخلو الكلام المعروف عن صحة ببعض المعاني ، وهو أنّ المعرفة البشرية إذا فرضت وضبطت بحسب طريقة أرسطو لا نرى فيها أيّ زيادة أو نمو أو معرفة جديدة ، وأنّ هذا الكلام أشبه بالتحليل المجمل منه باستفادة المعارف.

ولكن أرسطو والمناطقة يقولون حينئذ ، انّ هذا العقل الثاني مضمون الحقّانيّة بالعقل الأول ، باعتبار أنّه مستنبط منه حسب قانون الشكل الأول الّذي هو من قوانين العقل الأول ، فيكون مضمون الحقّانيّة بالأول ، فالعقل الأول مضمون الحقّانيّة بالذات ، والعقل الثاني مضمون الحقّانيّة بالعرض.

وخلاصة تصورهم للعقل الثاني هي أنّ كل المعلومات والمعارف الثانوية المستمدة من الأوليات بطريقة القياس أو بطريقة أخرى ترجع إلى القياس تكون مضمونة الحقّانيّة بالعرض باعتبار ضمان حقّانية الأوليات ما دامت طريقة المنطق الأرسطي وقواعده قد روعيت في مقام الاستنباط.

وما ذكره أرسطو والمناطقة ينحل إلى دعويين.

٣٤٥

١ ـ الدعوى الأولى : هي أنّ المعارف الّتي ينتهي إليها التسلسل في مقام الاستدلال كلها مضمونة الحقّانيّة.

٢ ـ الدعوى الثانية : هي دعوى أنّ المعارف الثانوية هي أيضا مضمونة الحقّانيّة لأنّها تستنتج من المعارف الأولية باعتبار التلازم والتضمن بينها وبين المعارف الأولية الّتي استنتجت منها ، بمعنى : انّ المعقول من المعرفة الأوليّة يتضمن أو يستلزم المعقول من المعرفة الثانوية ، وهذا ما نسميه بالتوالد الموضوعي ، بمعنى أنّ المعلومات الأولية تولّد المعلومات الثانوية باعتبار التلازم بينهما ، فإذا تمّت كلتا الدعويين يثبت المطلوب ، وهو أنّ ما استنتج من المعارف الأولية بطريق صحيح يكون مضمون الحقّانيّة.

ونحن لنا تعليق على كل واحدة من هاتين الدعويين.

أمّا تعليقنا على الدعوى الأولى : فهو ، إنّا نرى أنّ المعلومات والقضايا الّتي يدركها العقل إدراكا أوليا مباشرا ـ أي من غير أن يبرهن عليها ـ لا يلزم أن تكون يقينية ، ولا مضمونة الحقّانيّة ، بل قد تكون مشكوكة ، أو مظنونة ، أو مقطوعة قطعا خاطئا ، بينما المعروف بينهم أنّ كل القضايا الأولية الّتي هي أساس المعرفة ، يجب أن تكون يقينية وحقّانية ، بينما هذا لا موجب له كما عرفت. ومن ذلك ينشأ شيوع الأخطاء في العلوم النظرية ، فإنّ كثيرا من هذه الأخطاء في هذه العلوم لم ينشأ من خطأ في الاستدلال ، بل نشأ من الخطأ في الأصول الموضوعية للاستدلال ، أي من طرح فكرة ادّعيت أوّليتها وحقّانيتها ، وهي غير مطابقة للواقع ، كما هو ديدنهم في البناء على حقّانية كل قضية أولية. وهذه الكلية لا نسلّمها إذ كون الفكرة أولية يدركها العقل مباشرة دون حاجة إلى استدلال شيء ، وكونها يقينية حقّانية شيء آخر ، وأحدهما لا يستلزم الآخر ، فمثلا : نحن قلنا انّ إدراك الإنسان لمحسوساته

٣٤٦

الوجدانية إدراك أولي ، ومعرفته بمحسوساته الوجدانية معرفة أولية ، لكن مع هذا فإنّ هذه المعرفة ليست دائما يقينية ، بل قد تكون غير ذلك.

فمثلا : إذا اتفق لإنسان أن يسمع صوتا ، فمعرفته بهذا الصوت وجدانه ، لأنّ سماعه وجداني ، فلو ابتعد هذا الإنسان عن مصدر هذا الصوت قليلا فإنّه يبقى يسمعه لكنّه يبقى يبتعد ويخفّ سماعه للصوت وهكذا كلّما ابتعد ، حتّى يصل إلى درجة يشكّ في أنّه هل يسمع الصوت ذاته أم لا؟ ، إذن فهذا شكّ في قضية أولية لأنّها قضية غير مستنتجة وهذا دليل على إمكان وقوع الخطأ والشك في الوجدانيات الأوليات فكيف بقضايا أولية غير وجدانية.

ومثال آخر : وهو أنّهم بقوا لفترة طويلة من الزمن قديما يطبقون قانون «انّ الكل أعظم من الجزء» على الكميات المتناهية وغير المتناهية ، ومن هنا استدلّ على استحالة التسلسل ببرهان التطبيق ، أي تطبيق العلل على المعلولات ، كأن يقال : إنّه إن تساويا لزم تساوي الجزء مع الكل ، لأنّ سلسلة المعلولات هي سلسلة العلل بإضافة واحد ، والكل لا بدّ وأن يكون أعظم من الجزء ، وإن لم يتساويا كان معناه تناهي أحدهما على الأقل ، وقد كان هذا البرهان على استحالة التسلسل مبنيا على بديهية «انّ الكل أكبر من الجزء» حتّى جاءت الرياضيات الحديثة فأنكرت بداهة هذه القضية في الكميات اللّامتناهية ، وجعلتها مختصّة بالكميات المتناهية ، إذ في غيرها ينعدم معنى الكل والجزء ، مع أنّ قضية «انّ الكل أعظم من الجزء» قضية أولية حكم بها كثير من العقول ، كما حكم ببطلانها كثير من العقول أيضا ، وعليه : فعلى فرض كونها خطأ ، فهو في إدراك كونها أولية ، ومن هنا امتازت الرياضيات البحتة والمنطق عن العلوم النظرية ، وكان الخطأ فيهما أقل ، باعتبار أنّ المصادرات والأصول الموضوعية في المنطق والرياضيات البحتة معلوم الحقّانية.

٣٤٧

والحاصل هو أنّ كثيرا من الخطأ في العلوم النظرية لا ينشأ من الاستدلال الصحيح ، بل ينشأ من افتراض قضايا على انّها أوليّة ، بينما هذه القضايا ليست أوليّة ولا يقينية ، أو ليست صحيحة أصلا ، فقد تكون مشكوكة عند شخص ، ومعلومة عند آخر.

وأمّا تعليقنا على الدعوى الثانية : فهو إنّا نرى أنّ المعارف الأولية يتولّد منها قسمين من المعارف.

١ ـ القسم الأول : معارف يقينية بملاك التلازم الموضوعي بين متعلق تلك المعرفة ، ومتعلق هذه ، وهذا ما يقول علم المنطق.

٢ ـ القسم الثاني : معارف ظنية بدرجة من درجات الاحتمال بحسب حساب الاحتمالات ، وهذا القسم الثاني تدخل فيه جميع معارفنا المستقاة من التجربة والاستقراء ، فإنّ هذه المعارف وإن كانت مستخرجة من أولياتنا ، لكن هذه الأوليات لا تنتج معرفة قطعية بالقضية الاستقرائية على أساس التلازم الموضوعي ، وإنّما تنتج منطقيا درجة كبيرة من الاحتمال ، وأمّا اليقين فإنّه يحصل في المقام نتيجة ضعف درجة احتمال الخلاف إلى درجة بحيث يزول ضمن قواعد معيّنة لذلك قد بيّناها في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، هذا حاصل التعليق على المقام الأول ، وهو العقل النظري.

٢ ـ المقام الثاني : في العقل العملي :

وقد قلنا سابقا انّ بعض علمائنا الإخباريين ذهبوا إلى عدم إمكان التعويل على العقل ، باعتبار كثرة الأخطاء فيه ، وقد قلنا انّ الكلام معهم تارة ، يقع في العقل النظري ، وأخرى ، في العقل العملي ، وقد تقدّم الكلام في الأول.

وأمّا الكلام في العقل العملي فنفس الشبهة جارية فيه ، حيث يدّعى بأنّ كثرة الأخطاء إنّما هي في العقل العملي ، فتكون مانعة عن إمكان

٣٤٨

التعويل على إدراكات العقل في باب الحسن والقبح ، وأكبر دليل على كثرة الأخطاء فيه هو وقوع الاختلاف في إدراك الحسن والقبح بين النّاس ، فما داموا مختلفين في تقويم حقيقة الأفعال والأشياء من حيث الحسن والقبح ، وما داموا لا يمكن أن يكونوا مصيبين جميعا في وقت واحد ، إذن ، فلا بدّ وأن يكون فيهم المصيب ، وفيهم المخطئ ، وهذا برهان كثرة الأخطاء في إدراكات العقل العملي.

وهذا المدّعى بهذا المستوى لا يريد في المقام إنكار الحسن والقبح بما هما صفتان ذاتيتان واقعيتان في الأفعال ، قائمتان في نفس الأمر والواقع ، وإنّما يريد أن يشكّك في صلاحية العقل وفي صلاحية الكشف العقلي عن هاتين الصفتين ، باعتبار كثرة وقوع الأخطاء في إدراك العقل لصفتي الحسن والقبح ، إذن ، فتشكيك علمائنا المحدّثين إنّما هو بحسب مقام الإثبات لا الثبوت ، وهذا بخلاف تشكيك الأشعري ، فإنّه تشكيك ثبوتي لا إثباتي ، بمعنى أنّه ينكر أصل الحسن والقبح ويعتبرهما من الصفات الجعلية ، وهذا هو معنى قوله «الحسن ما حسّنه الشارع ، والقبح ما قبّحه الشارع».

إذن ، هناك تشكيكان في العقل العملي ، والكلام مع هذين التشكيكين ، تارة يكون نقضا عليها ، وأخرى حلا ، فالكلام إذن في جهتين.

١ ـ الجهة الأولى : هي أنّ هؤلاء المشكّكين بعد أن بنوا على سقوط العقل العملي في مقام الإثبات ، كما هو مقتضى التشكيك الأول ، وفي مقام الثبوت ، كما هو مقتضى التشكيك الثاني ، نقض عليهم الأعلام بأنّه يلزم من ذلك محذوران.

١ ـ المحذور الأول : هو أنّه كيف نثبت وجوب الطاعة وحرمة المعصية للشارع ، فإنّ هذا الوجوب والحرمة لا يمكن أن يكون بدوره

٣٤٩

حكما شرعيا ، وإلّا نقلنا الكلام إلى نفس هذا الحكم الشرعي ، وسألنا من جديد ، أنّه لما ذا تجب طاعته؟ وهكذا ، وفي مقام الجواب نحن ننتهي إلى أن العقل العملي يستقل بلزوم فعل ما ينبغي ، وترك ما لا ينبغي ، وانّ طاعة المولى ممّا ينبغي ، وانّ معصيته ممّا لا ينبغي ، وبالتالي يحكم باستحقاق المثوبة أو العقوبة ، فلو أنّه أنكر الحسن والقبح ثبوتا أو إثباتا لما أمكن ذلك.

وجواب هذا النقض واضح ، إذ بناء على مسلك التشكيك الإثباتي ـ القائلين بأنّ منشأ عدم التعويل على العقل هو كثرة الأخطاء ، مع الاعتراف بالحسن والقبح ـ يمكن أن يدّعى استكشاف «الحسن ، والقبح» ، أي وجوب الطاعة وحرمة المعصية ، من الأدلة الشرعية الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام ممّا دلّ على تقبيح المعصية وحسن الطاعة ، فيكون هذا بنفسه كاشفا عن قبح المعصية ، ووجوب الطاعة ، بلا حاجة إلى التعويل على الدليل عقلي ، إذن ، الحسن والقبح العقليان موجودان ، وهما يستكشفان من كلمات الشارع بعد ثبوت عدم إمكان التعويل على استقلال العقل في ذلك.

وأمّا بناء على مسلك التشكيك الثبوتي ، بمعنى إنكار أصل الحسن والقبح الواقعيين ، فإنّه حينئذ لا معنى لاستكشاف الحسن والقبح الواقعيين من الدليل الشرعي ، لأنّ ما لا واقع له ، لا معنى لإثباته بالدليل الشرعي ، ولكن حينئذ يقال : لا حاجة لإثبات قبح المعصية ، وحسن الطاعة في مقام تحريك العبد نحو الطاعة ، بل يكفينا فرض وجود العقاب على المعصية ، والثواب على الطاعة ، كما هو لسان بعض الأدلة الشرعية ، من «انّ الله تعالى يعرّض العاصي لعقاب» ، دون حاجة إلى إثبات حسن الطاعة وقبح المعصية ، إذ احتمال تعرّض العبد للعقاب والثواب ، كاف في ردعه عن المعصية ، وبعثه نحو الطاعة.

٣٥٠

٢ ـ المحذور الثاني : اللازم من كلام المشكّكين في العقل العملي ، هو أن يقال لهم : انّه بناء على إنكاركم لأحكام العقل العملي ، سوف ينسدّ باب إثبات نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل نبوّة سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، وذلك لأنّ إثبات النّبوّة إنّما يكون بالمعجزة ، غير أنّ دلالة المعجزة على النّبوّة ، فرع مقدّمة عقلية مأخوذة من العقل العملي ، وهي قبح إظهار المعجزة على يد الكاذب ، لأنّ ذلك تضليل ، وهو قبيح من الله ، وبعد ضمّ هذه المقدّمة العقلية إلى المعجزة ، يثبت أنّ المعجزة تكون دالة على صدق مدّعي النّبوّة ، ولو لا هذه المقدّمة لما دلّت المعجزة وحدها على نبوّته ، إذ غاية ما تدلّ عليه هو ، انّ الله تعالى خرق المألوف وأوجد هذه الحادثة ، أمّا كون هذا نبي ، فهذا لا يثبت كما عرفت ، إذن هذه المقدّمة لا بدّ منها ، وهي مأخوذة من العقل العملي ، فإذا أنكرناه ثبوتا أو إثباتا ، فمعناه : إنكارنا لهذه المقدّمة ، ومعه لا دليل على النّبوّة.

وهذا النقص ، يمكن دفعه ، ولنا عليه ثلاث تعليقات.

١ ـ التعليق الأول : هو أنّه لا حاجة في دلالة المعجزة على صدق مدّعي النّبوّة إلى ضمّ هذه المقدّمة العقلية ، وإن كان هذا هو المألوف في علم الكلام ، وذلك لأنّنا لو قطعنا النظر عن هذه المقدّمة العقلية ـ «قبح الكذب والتضليل» ـ نسأل ، انّه هل المعجزة تدلّ على إثبات النّبوّة أم لا؟ فإن كانت تدلّ عليها ، فهذا معناه : انّ دلالة المعجزة على النّبوّة لها طريق آخر إجمالا ، من دون توقف على ضم هذه المقدّمة ، وإن كانت لا تدلّ عليها ، ـ مع قطع النظر عن هذه المقدّمة العقلية ـ ، إذن ، فأيّ كذب حينئذ موجود حتّى يقبح ، إذ لا قبح حينئذ أصلا ، لأنّ قبح الكذب ، فرع كون المعجزة دالة على النّبوّة ، فإذا قلنا انّ المعجزة في نفسها لا يكون لها دلالة على النّبوّة ، فإنّه حينئذ لا قبح أصلا ، لأنّه لا كذب.

٢ ـ التعليق الثاني : هو انّ هذه المقدّمة العقلية الّتي نضمّها إلى

٣٥١

المعجزة ، وهي «قبح الكذب» قد يستبدلها المشكّك بمقدّمة عقلية من العقل النظري ، فيبدل قضية «قبح الكذب» بقضية «منقصة الكذب» ، فإنّ النقصان منفي عنه تعالى بالعقل النظري ، لأنّ المطلق لا نقصان فيه بوجه ، إذن ، فنحتاج إلى بحث في إمكانية تحويل المقدّمة العقلية المذكورة ، من دعوى «قبح الكذب ، إلى دعوى «منقصة الكذب» ، والمنقصة غير القبيح ، إذ ليس كل منقصة قبيح ، فالجهل نقص ، لكنّه ليس قبيحا في كثير من الأحيان ، والنقص منفي عنه تعالى بالعقل النظري ، لأنّ النقص حدّ ، والمطلق لا حدّ فيه.

٣ ـ التعليق الثالث : وهو يختصّ بخصوص نبوّة نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقول : انّه لو احتجنا إلى ضمّ هذه المقدّمة العقلية إلى المعجزة لإثبات النّبوّة ، فإنّا لا نحتاج إلى ضمها لإثبات نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ معجزته هي نفس كتابه ورسالته ، لا على نحو الحصر ، وإن كانت بعض معجزاته الأخرى تحتاج إلى ضم هذه المقدّمة ، ولكن باعتبار انّ هذه الرّسالة لا يمكن لأمّي مثله أن يأتي بها من عند نفسه في مثل ظروف محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاجتماعية ، فإنّه حينئذ ، لا نحتاج إلى ضمّ تلك المقدّمة ، لأنّ هذه المعجزة عبارة أخرى عن أنّه جاء بها من عند الله تعالى ، ولا معنى للمجيء بها من عند الله صدفة.

٢ ـ الجهة الثانية : في الكلام الحلّي ، وقبل الدخول في الحل ، يمكن تصعيد بيان هذه الشبهة بنحو تصبح تشكيكا وبرهانا للتشكيك الأشعري الثبوتي فضلا عن التشكيك الإثباتي ، وذلك بأن يقال : انّ هذا الاختلاف في الحسن والقبح دليل على أنّهما ليسا صفتين واقعيتين ثابتتين للأشياء في نفس الأمر والواقع ، بل هما تلفيقات عرفية اجتماعية ، ولذا اختلفا باختلافهما ، وهذا معنى انّ الحسن والقبح شرعيين لا عقليين ، أي أنّهما بجعل الشارع وتربية مرب.

٣٥٢

وكأنّ المعلقين الأصوليين على هذه الشبهة ، أرادوا الجواب عنها ، سواء كانت شبهة للتشكيك الإثباتي ، أو الثبوتي ، وذلك ببيان : أنّه لا اختلاف في كبرى العقل العملي أصلا ، وإنّما الاختلاف في تشخيص الصغرى والمصداق ، لأنّ كبرى العقل العملي ، مرجعها إلى قضيتين كليتين ، وهما حسن العدل ، وقبح الظلم ، وهاتان القضيتان لا اختلاف فيهما بين العقلاء في مختلف المجتمعات والأعراف ، وكل الاختلاف الّذي يقع بينهم إنّما يقع في تشخيص الصغرى ، حيث انّ بعضهم يقول : انّ هذا العمل ظلم ، ويقول البعض الآخر ، انّ هذا العمل ليس ظلما ، ومن ثمّ يدرجه كل منهما في قضية من تينك القضيتين ، وهذا لا يضرّ في حقّانية الكبرى والعقل العملي المدرك لها.

وهذا الكلام بهذا البيان صوري ، لأنّ هؤلاء الأعلام جعلوا من هاتين القضيتين ـ «قبح الظلم ، وحسن العدل» ـ كبرى كلية للعقل العملي ، وجعلوا تمام القضايا الأخرى تطبيقا لهذه الكبرى ، فكأنّ العقل العملي أوّل ما يحكم ، يحكم بقبح الظلم ، ثمّ يطبّق قياسا من الشكل الأول ، فيقول : هذا ظلم ، وكل ظلم قبيح ، فهذا قبيح ، والخطأ هنا في هذا القياس ، يكون في اختيار الحد الأوسط المناسب الّذي جعلوه واسطة في إثبات الأكبر للأصغر.

ونحن قد حلّلنا هذه القضية ، وقلنا في بحث التجرّي ، انّ قضية «الظلم قبيح» ، ليست قضية أوليّة من مدركات العقل العملي ، بل ولا يعقل كونها كذلك ، وإنّما هي قضية ضرورية بشرط المحمول ، وذلك لأنّ قولنا : «الظلم قبيح» ، من قبيل قولنا ، «القبيح قبيح» ، باعتبار انّ معنى الظلم ، «العدوان ، والتعدّي» ومعنى التعدّي هو ، الخروج عن الحدّ ، والحدّ هو ذلك الضابط الّذي يدركه العقل ، ويرى أنّه لا ينبغي للإنسان أن يتعدّاه ، لا أنّه لا يمكن تعدّيه تكوينا ، إذن ، مفهوم «لا

٣٥٣

ينبغي» مستبطن في نفس مفهوم الظلم ، وكذا ، القبح ، فإنّ معناه : الإتيان بما لا ينبغي ، إذن ، صارت القضية تكرارين ، لأنّه حينئذ ، يكون معنى ، «الظلم قبيح» ، هو انّ الإتيان بما لا ينبغي لا ينبغي.

وهذه القضية ، إن كانت مفيدة ، فهي مفيدة في مقام التعبير والإشارة إلى تمام مدركات العقل العملي الثابتة في المرتبة السابقة على هذا التعبير ، وعليه : فهي في طول العقل العملي ، لا انّ قضايا العقل العملي في طولها ، وعليه : فهذا البيان للتخلص من هذا المحذور غير تام.

بل الّذي ينبغي أن يقال : هو أنّه لا اختلاف أصلا في قضايا الحسن والقبح عند الإنسان المتمدن في جميع مجتمعاته وأعرافه على اختلافها ، وإنّما الاختلاف في الأنظار إنّما هو في مقام التزاحم بين حيثيّات الحسن والقبح فيما إذا اجتمعتا في فعل واحد ، حيث أنّ من يقدم حيثيّة الحسن على حيثيّة القبح ، وهناك من فعل العكس.

وتوضيح ذلك هو ، انّ العقل العملي قسمان : الأول : هو عقل بديهي لا يختلف فيه النّاس ، والثاني : هو عقل نظري يختلف فيه النّاس ، والعقل الأول البديهي هو عبارة عن العقل الّذي يدرك الحيثيّات الاقتضائية للحسن والقبح في نفسها ، ـ بقطع النظر عن ابتلائها بمزاحم وعدمه ـ فإنّ كل إنسان سوي ، يمكنه إدراك هذه البديهيات والحيثيّات ، كما في إدراك حسن الصدق ، مع قطع النظر عن مزاحمة أي حيثيّة أخرى تقتضي قبحه ، كما لو تزاحم مع حفظ الأمانة لو توقف حفظها على الكذب ، فإنّه يحصل حينئذ تزاحم بين الحيثيّة الإيجابية للصدق ، والحيثيّة السلبية للخيانة ، لكن العرف من حيث هو ، بقطع النظر عن هذه المزاحمة ، لا يوجد فيه من يشكّك بحسن الصدق ، وحفظ الأمانة ، هذه هي بديهيات العقل العملي الأول ، ولكن هذه الحيثيّات المقتضية للحسن

٣٥٤

والقبح قد تتزاحم في مرحلة تالية ، كما لو اقتضت حيثيّة حفظ الأمانة لزوم الكذب ، فإنّه حينئذ يقتضي قبح الصدق أو حسن تركه ، وتقع المزاحمة بين حرمة الصدق وحرمة خيانة الأمانة ، والمتحصل بعد الكسر والانكسار قضايا نظرية في العقل العملي ليست بديهية ، لكنّها قد تستقر على ميزان أخلاقي «ما» ، ولا يعني كونها نظرية أنّها مستنبطة بالبرهان من القضايا الأولية كما كنّا نقصد بالعقل النظري ، بل بمعنى أنّها رؤية أخرى وراء العقل العملي ، لكنّها ليست واضحة دائما وقد قلنا فيما تقدّم انّه ليس كل قضية أولية يجب أن تكون واضحة إذ لا دليل على ذلك ، بل قد يكون الدليل على خلافها كما أوضحنا ذلك في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، إذ كون القضايا قضايا نظرية لا يعني أنّها معرفة ثانوية مستنبطة ، بل معناه ـ مع الحفاظ على كونها معرفة أولية ـ انّ بعضها يكون واضحا فيكون بديهيا ، وبعضها ليس كذلك.

ونحن نرى انّ الاختلافات الموجودة بين النّاس السويّين في تفكيرهم على اختلاف مجتمعاتهم وأعرافهم ، إنّما ترجع بحسب الحقيقة ـ إذا استثنينا بعض حالات الشذوذ ـ إلى باب التزاحم ، وإلى الاختلاف في تقديم قيمة على قيمة في عملية الكسر والانكسار ، ورغم هذا ، فإنّ هذه الاختلافات لا توجب تشكيكنا في أصل إدراكاتنا للعقل العملي الأول.

ثمّ انّ هناك شبهات وإشكالات تذكر للأشاعرة في مقام نفي الحسن والقبح العقليّين في علم الكلام ، نعرض عنها لكونها تخرجنا عن محل الكلام ، ولاكتفائنا بذكر ما يناسب المقام من ناحية البحث الحلّي.

إلّا أنّه بقي هناك نقطة لا بدّ من بيانها ، وهي انّ العقل العملي وحده لا يمكن ان يستكشف به حكم شرعي ، أو يستدل به على ذلك ، فلو حكم العقل العملي بحسن الصدق ، وقبح الكذب فهذا لا يكفي

٣٥٥

لاستكشاف وجوب الصدق أو حرمة الكذب ، ما لم نضمّ إليه قانونا وقضية أخرى من العقل النظري هي قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وانّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ، فإذا ثبت هذا التلازم ، حينئذ ، يمكن استكشاف الحكم الشرعي من العقل.

وقد توهم بعض الأكابر كما ورد في كلماته (١) ، انّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع واضحة في المقام ، باعتبار انّ الشارع سيّد العقلاء فإذا حكم العقلاء بحكم بما هم عقلاء ، كان الشارع في طليعتهم وأول الحاكمين به ، ومن هنا قال المحقّق الأصفهاني «قده» ، انّ التعبير بالملازمة ، فيه تسامح ، بل الأنسب التعبير بالتضمن ، أي انّ حكم العقل والعقلاء يتضمن حكم الشارع لاندراج الشارع في العقلاء ، فيكون حكمه ضمن حكمهم.

ولكن هذا الكلام غير تام ، وذلك لأنّ الحسن والقبح ليسا حكمين مجعولين من قبل العقلاء كي يقال : انّ جعل العقلاء لحكم يكشف عن جعل الشارع له ، لأنّه منهم ، بل سيّدهم ، بل الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح الواقع ، وقولنا : العقلاء يحكمون بهما ، يعنى : انّهم يدركونهما لا أنّهم يشرعونهما ويجعلونهما ، فحينما نقول : بأنّ العقلاء يدركون الحسن والقبح ، نقول أيضا ، إنّ الشارع يدركهما ضمنا ، لكن فرق بين إدراك الشارع لشيء ، وبين جعله الحكم على طبقه ، فإنّ إدراك الحكم لا يلزم منه جعله لا التزاما ، ولا تضمنا ، إذن فإدراك العقلاء لشيء وإن كان يتضمن إدراك الشارع ، لكن حكمهم على شيء ، لا يتضمن حكم الشارع عليه أصلا ولا يلزمه.

وكأنّ هذا الكلام صدر عن الأصفهاني «قده» بناء على مبناه في

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ، ج ٢ ، ص ٨ ـ ١٢٤.

٣٥٦

الحسن والقبح ، حيث يرجعهما إلى ما يشبه الأحكام العقلائية ، ونحن لو تنزلنا وسلّمنا ذلك المبنى ، فإنّه أيضا لا يلزم من صدور هذا الحكم من العقلاء بما هم عقلاء ، أن يكون صادرا من الشارع أيضا ، بدعوى أنّه أحد العقلاء ، وذلك لأنّ صدوره منهم ، إنّما كان رعاية لمصالحهم وحفاظا على نظامهم ، فلو فرضنا أنّ عاقلا لا يعيش في ظل هذا النظام كالشارع الحكيم مثلا ، فليس من الضروري عقلا حينئذ أن يشرّع نفس تشريعهم ويحكم بحكمهم.

إذن فالصحيح في المقام ، انّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في الحسن والقبح غير ثابتة.

والخلاصة : هي انّ استكشاف الحكم الشرعي من العقل يحتاج إلى حكم عقلي قائل بالتلازم ، أو التضمن ، وقد عرفت وجه الخلل في ذلك.

وفي مقابل دعوى التلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، يمكن إبراز دعوى أخرى على عكسها ، مفادها : انّه لا يعقل جعل الحكم الشرعي بملاك الحسن والقبح العقليّين ، لأنّ جعل الحكم الشرعي إنّما هو لأجل التحريك والزجر بتوسيط حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية ، والمفروض في المقام انّ الحسن والقبح حاصلان في المرتبة السابقة على جعل الحكم الشرعي ، فالكذب قبيح ، مع قطع النظر عن تحريمه ، إذن يكون جعل الحكم الشرعي من باب تحصيل الحاصل ، وتحصيل الحاصل محال ، وعليه : فلا مجال لإعمال المولوية في المقام.

وهذه الدعوى باطلة أيضا ، لما ذكرناه في بحث التجري ، من أنّ إعمال المولى لمولويته في موارد الحسن والقبح ، يوجب إيجاد ملاك آخر للحسن والقبح وراء المحركيّة والزجرية الّتي كان مفروغا عنها في المرتبة السابقة ، فمثلا : الخيانة للأخ ، أو الوطن ، قبيحة في نفسها

٣٥٧

عقلا ، لكن إذا حكم الشارع بحرمتها ، صارت خيانة للشارع ومعصية له ، فوجد فيها هنا ملاك آخر للقبح ، وبهذا يتأكد المحرك والزاجر العقلي ، لتعدّد الحيثيّات الموجبة لاشتداد الحسن والقبح ، إذن فهذه الدعوى إنّما تردّ إذا لم يكن الحسن والقبح قابلا للاشتداد والتأكيد.

والصحيح هو أن يقال : انّ الحسن والقبح بثبوتهما الواقعيين وبما يستتبعان واقعا ـ بقطع النظر عن جعل جاعل ـ من استحقاق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، لهما محركيّة ذاتية وزاجرية ذاتية أيضا بمرتبة من المراتب ، وحينئذ يقال : انّ الشارع بعد التفاته للحسن والقبح ، وإدراكه لما ندركه من حسن هذا ، وقبح ذاك ، تارة يكون غرضه ـ في مقام حفظ هذا الحسن وترك ذاك القبيح ـ بنفس مرتبة وحافظية تلك المحركيّة الذاتية للحسن والقبح العقليين الواقعيين ، ففي مثله ، لا مجال لإعمال المولى مولويته في جعل حكم جديد ، غايته أنّه يرشد إلى الحسن والقبح العقليين الموجودين في المقام ، وتارة أخرى تكون درجة اهتمام المولى ـ في حفظ هذا المرام من عدم ارتكاب ذلك القبيح أو فعل ذلك الحسن ـ أشدّ وأقوى من الحافظية الذاتية الضيقة للحسن والقبح لو خلّي وأنفسهما ، ففي مثله يتصدّى المولى بنفسه لإصدار الأمر والنهي لأجل تأكيد تلك الحافظية ، وحينئذ ، يحصل حكم شرعي مولوي على طبق الحسن والقبح.

وتشخيص مرتبة اهتمام المولى في المقام بالحسن والقبح ، تارة يكون بدليل شرعي ، وأخرى يكون راجعا إلى مناسبات وأذواق عقلائية ، لا يمكن التعويل عليها ، ما لم تبلغ إلى درجة الجزم واليقين الأصولي ، وبناء عليه : يصحّ القول انّه لا برهان ـ مبدئيا ـ على ثبوت الملازمة بين الحسن والقبح العقليين ، وبين حكم الشارع ، بمعنى أنّه لا دليل على أنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

٣٥٨

هذا هو الكلام في العقل العملي بكلا مقاميه ، وبهذا يتضح انّه لا يتصور قصور في كاشفية الدليل العقلي ، وإلى هنا يتمّ الكلام في المقام الثاني.

٣ ـ المقام الثالث :

هو دعوى أن يكون القصور المدّعى في الدليل العقلي ، من ناحية المنجزية والمعذرية بمعناها الأصولي ، وفي هذه المرحلة ، يفرض أن الأخباري يعترف بأنّ الجعل الشرعي لا قصور في إطلاقه ، وانّ الدليل العقلي لا قصور في كاشفيته وسلّم حصول القطع من الدليل العقلي ، إلّا أنّه يدّعي عدم معذريّة هذا القطع الناشئ من العقل ، بسبب نهي الشارع عن اتباعه ، وهذا النهي يمكن تصوره ثبوتا ، على نحوين ، كما أشار إليه الشّيخ الأعظم «قده» (١) في الرّسائل.

١ ـ النحو الأول : هو دعوى نهي الشارع عن اتباع القطع الناشئ عن الدليل العقلي بعد فرض حصوله.

٢ ـ النحو الثاني : هو دعوى نهي الشارع قبل حصول القطع عن الخوض في المقدّمات العقلية في مقام استنباط الأحكام الشرعية ، وصرف الذهن إلى استنباطها من الأدلة اللفظية.

ويظهر الفرق بين هذين النحوين من النهي فيما لو اتفق أنّ إنسانا حصل له قطع عقلي بحكم شرعي من دون أن يتسبّب في ذلك ، ويرتب له مقدّماته العقلية ، بحيث يشمله النهي عن العمل بقطعه ، لو كان النهي باللّسان الأول ، دون اللّسان الثاني ، فإنّه لا يشمله كما هو واضح.

وقد يقال : بأنّ النهي باللّسان الثاني إنّما يفيد قبل الاستدلال

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٥٩

وحصول القطع ، لكن بعد الاستدلال وحصول القطع فلا ، لأنّه بعد حصول القطع ، على أيّ شيء يعاقب؟ فهل يعاقب على مخالفة هذا النهي ، أم أنّه يعاقب على مخالفة الواقع؟

فإن كان على مخالفة النهي ، فهذا النهي طريقي وليس نهيا حقيقيا نفسيا ليستحق عليه العقاب ، وإن كان على مخالفة الواقع ـ أي ما قطع به ـ فهو الآن مضطر إلى تطبيقه على قطعه ، والعمل به ، لأنّ القاطع يرى بقطعه الواقع أمام عينه ، صحيح بعد أن قطع يضطر إلى تطبيقه في الواقع ، لكنّه من التطبيق بالاضطرار بسوء الاختيار ، وهو يشبه دخول الأرض المغصوبة بسوء الاختيار ، ولذا لو أدّى هذا الاضطرار للعمل بالقطع ، إلى مخالفة حكم شرعي ، فإنّه يعاقب عليه ، لأنّه بسوء اختياره.

ومن هنا يعلم ، انّ النهي باللّسان الثاني معقول ، بمعنى النهي عن الدخول في هذا الباب والتسبّب بالأسباب العقلية إلى الأحكام الشرعية ، ولكن هذا بخلاف النهي باللّسان الأول ، لما بيّناه في بحث حجيّة القطع ، من أنّه لا يعقل جعل حكم في حق القاطع على خلاف قطعه ، إذن : فالنهي له لسانان ، فالنهي باللّسان الأول مستحيل ثبوتا ، بخلاف النهي باللّسان الثاني ، حيث أنّه معقول ثبوتا ، ولكنّه لم يدلّ عليه دليل إثباتا.

نعم قد توهم وادّعي دلالة روايات عليه إثباتا ، وأهم ما يتوهم دلالته عليه هو روايات ناهية عن العمل بالرأي وناهية عن الاستقلال عن الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث أنّ من راجعها ولاحظ ظروف صدورها ، لا يشكّ في أنّ المقصود منها ومن الإفتاء بالرأي ، هو النهي عن العمل بالقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ونحوها من الظنون ممّا كان معروفا في وقت صدورها ، كما أنّ المقصود بها أولئك العاملين بتلك الأمور من بقية فقهاء المسلمين ممّن كانوا يجعلون أنفسهم في مقابل الأئمّة

٣٦٠