مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

والعواصف ، والإبتلاءات الاخرى ، لكن باب الإختبار وميدانه سيغلق في هذه الصورة : (وَلكِن لّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ).

هذه المسألة هي فلسفة الحرب ، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل ، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة ، وبذلك ستتفتح براعم الاستعدادات ، وتحيا قوة الإستقامة والرجولة ، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا ، وهو الإبتلاء وتنمية قوة الإيمان والقيم الإنسانية الاخرى.

وتحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب ، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي ، فقالت : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).

هذه هي أحدى مواهب الله في شأن الشهداء.

وهناك ثلاث مواهب اخرى أضيفت في الآيات التالية :

تقول الآية أوّلاً : (سَيَهْدِيهِمْ) إلى المقامات السامية ، والفوز العظيم ، ورضوان الله تعالى.

والاخرى : (وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) فيهبهم هدوء الروح ، واطمئنان الخاطر ، والنشاط المعنوي والروحي ، والإنسجام مع صفاء ملائكة الله ومعنوياتهم ، حيث يجعلهم جلساءهم وندماءهم في مجالس أنسهم ولذّتهم ، ويدعوهم إلى ضيافته في جوار رحمته.

والموهبة الأخيرة هي : (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ).

إنّه تعالى لم يبيّن لهم الصفات الكليّة للجنات العلى وروضة الرضوان وحسب ، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنة وعلاماتها ، بحيث أنّهم عندما يردون الجنة يتوجّهون إلى قصورهم مباشرة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (١١)

٤٨١

إن تنصروا الله ينصركم : تستمر هذه الآيات في ترغيب المؤمنين في جهاد أعداء الحق ، وهي ترغّبهم في الجهاد بتعبير رائع بليغ ، فتقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ).

إنّ التأكيد على مسألة «الإيمان» إشارة إلى أنّ إحدى علامات الإيمان الحقيقي هو جهاد أعداء الحق.

وعبارة (تَنصُرُوا اللهَ) تعني نصرة دينه ، ونصرة نبيّه ، وشريعته وتعليماته.

يقول : (يَنصُرْكُمْ) فهو سبحانه يلقي في قلوبكم نور الإيمان ، وفي نفوسكم وأرواحكم التقوى ، وفي أرادتكم القوّة والتصميم أكثر ، وفي أفكاركم الهدوء والإطمئنان.

ومن جانب آخر يرسل الملائكة لمدكم ونصرتكم ، ويغيّر مسار الحوادث لصالحكم ، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليكم ، ويجعل كلماتكم نافذة في القلوب ، ويصيّر نشاطاتكم وجهودكم مثمرة. نعم ، إنّ نصرة الله تحيط بالجسم والروح ، من الداخل والخارج ؛ إلّاأنّه سبحانه يؤكّد على مسألة تثبيت الأقدام من بين كل أشكال النصرة ، وذلك لأنّ الثبات أمام العدو أهم رمز للانتصار ، وإنّما يكسب الحرب الذين يصمدون ويستقيمون أكثر.

ولمّا كانت حشود العدو العظيمة ، وأنواع معداتهم وتجهيزاتهم قد تشغل فكر المجاهدين في سبيل الله أحياناً ، فإنّ الآية التالية تضيف : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلُّ أَعْمَالَهُمْ).

وتبيّن الآية التالية علّة سقوط هؤلاء ، وجعل أعمالهم هباءً منثوراً ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ).

لقد أنزل الله سبحانه دين التوحيد قبل كل شيء ، إلّاأن هؤلاء نبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا نحو الشرك.

لقد أمر الله سبحانه بالحق والعدالة ، والعفّة والتقوى ، غير أنّهم أعرضوا عنها جميعاً ، واتجهوا صوب الظلم والفساد ، بل إنّهم تشمئز قلوبهم إذا ذكر اسم الله تعالى وحده : (وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ) (١).

وإذا كان هؤلاء يتنفّرون من هذه الامور ، فمن الطبيعي أن لا يخطوا خطوة في هذا المسير ، ولقد كانت كل مساعيهم وجهودهم في مسير الباطل وخدمته ، فمن الطبيعي أيضاً أن تحبط كل هذه الأعمال.

__________________

(١) سورة الزمر / ٤٥.

٤٨٢

ولمّا كان القرآن الكريم في كثير من الموارد يعرض للظالمين العاصين نماذج محسوسة ، فقد دعاهم هنا أيضاً إلى التدبّر في أحوال الماضين ، فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

ومن أجل أن لا يظنّ هؤلاء أنّ ذلك المصير المشؤوم كان مختصّاً بالأقوام الطاغين الماضين ، فقد أضافت الآية : (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا).

وتناولت آخر آية ـ من الآيات مورد البحث ـ سبب حماية الله المطلقة للمؤمنين ودفاعه عنهم ، وإهلاكه الكافرين الطغاة ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ). «المولى» : بمعنى الولي والناصر ، وبذلك فإنّ الله سبحانه قد تولّى أمر المؤمنين ونصرتهم ، أمّا الكافرون فقد أخرجهم من ظل ولايته ، ومن الواضح أنّه تعالى يعين اولئك المستظلين بظل ولايته ، ويدفع عنهم النوائب ، ويزيل عن طريقهم العراقيل ، ويثبّت أقدامهم ، وأخيراً فإنّهم ينالون مرادهم بنصرة الله ومعونته ، أمّا اولئك الخارجون عن ولايته فإنّ أعمالهم ستحبط ، وتكون عاقبتهم الهلاك.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (١٤)

عاقبة المؤمنين والكافرين : لمّا كانت الآيات السابقة تتحدث عن الصراع الدائم بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن عاقبة المؤمنين والكفار من خلال مقارنة واضحة ، وهي بذلك تريد أن توضح أنّ هذين الفريقين لا يختلفان في الحياة الدنيا وحسب ، بل إنّ الاختلاف بينهما سيكون أوسع في الآخرة ، فتقول : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ).

صحيح أنّ كلا الفريقين يعيشون في الدنيا ، ويتنعّمون بمواهبها ولذّاتها ، إلّاأنّ الفرق يكمن في أنّ هدف المؤمنين هو القيام بالأعمال الصالحة ، والأعمال المفيدة البنّاءة لجلب رضى

٤٨٣

الله تعالى ، أمّا الكافرون فإنّ هدفهم ينصب على الأكل والشرب والنوم والتمتع بلذات الحياة.

ومن أجل إكمال هذا الهدف تقارن الآية التالية بين مشركي مكة وعبدة الأوثان الماضين ، وبعبارة أوضح ، فإنّها تهدّدهم تهديداً شديداً ، وتؤكّد ضمنياً على بعض جرائمهم الشنيعة التي تدلّ على جواز قتالهم فتقول : (وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ).

فلا يظنّ هؤلاء أنّ الدنيا مستوسقة لهم إلى درجة أنّهم اجترؤوا على إخراج أشرف رسل الله من أقدس المدن ، فإنّ الأمر لا يدوم كذلك ، فهم بالقياس إلى قوم عاد وثمود والفراعنة وجيش أبرهة موجودات ضعيفة عاجزة ، والله قادر على تدميرهم بكل سهولة ، والقضاء عليهم يسير على الله سبحانه.

وتطرح آخر الآيات ـ مورد البحث ـ مقارنة اخرى بين المؤمنين والكفار ، بين فئتين تختلفان في كل شيء ، فإحداهما مؤمنة تعمل الصالحات ، وتحيا الاخرى حياة حيوانية بكل معنى الكلمة .. بين فريقين ، أحدهما مستظل بظل ولاية الله سبحانه ، والآخر لا مولى له ولا ناصر ، فتقول : (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مِّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم).

إنّ الفريق الأوّل قد اختاروا طريقهم عن معرفة صحيحة ، ورؤية واقعية ، وعن يقين ودليل وبرهان قطعي ؛ أمّا الفريق الثاني فقد ابتلوا بسوء التشخيص ، وعدم إدراك الواقع ، وظلمة المسير والهدف ، فهم في ظلمات الأوهام حائرون ، والعامل الأساس في هذه الحيرة والضلالة هو اتّباع الهوى والشهوات.

ومن الواضح أنّ الاستفهام في جملة : (أَفَمَن كَانَ ...) استفهام إنكاري ، أي إنّ هذين الفريقين لا يتساويان أبداً.

«البينة» : تعني الدليل الواضح الجلي ، وهي هنا إشارة إلى القرآن ، ومعاجز الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والدلائل العقلية الاخرى.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (١٥)

٤٨٤

وصف آخر للجنة : إنّ هذه الآية وصف لمصير كل من المؤمنين والكافرين ، فالفئة الاولى الذين يعملون الصالحات ، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم.

وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم ، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم ، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها.

تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنة ، لكل منها سائله ومحتواه الخاص ، ثم تتحدث عن فواكه الجنة ، وأخيراً عن بعض المواهب المعنوية. تقول الآية أوّلاً : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِءَاسِنٍ).

ثم تضيف : (وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) وذلك أنّ الجنة مكان لا يعتريه الفساد ، ولا تتغيّر أطعمة الجنة بمرور الزمن ، وإنّما تتغيّر الأطعمة في هذه الحياة الدنيا ، لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة.

ثم تطرّقت إلى ثالث نهر من أنهار الجنة ، فقالت : (وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ).

لا يخفى أنّ خمر الجنة وشرابها لا علاقة له بخمر الدنيا الملوّث مطلقاً ، بل هو كما يصفه القرآن في الآية (٤٧) من سورة الصافات : (لَافِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) ، وليس فيه إلّا العقل والنشاط واللذة الروحية.

وأخيراً تبيّن الآية رابع أنهار الجنة بأنّه : (وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى).

وعلاوة على هذه الأنهار المختلفة التي خلق كل منها لغرض ، فقد تحدثت الآية عن فواكه الجنة في الموهبة الخامسة ، فقالت الآية : (وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ).

وأخيراً تتحدث عن الموهبة السادسة التي تختلف عن المواهب المادية السابقة ، إذ إنّ هذه الهبة معنوية روحية ، فتقول : (وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ).

ولنرَ الآن ماذا سيكون مصير الفريق المقابل للمؤمنين ، أي الكفار؟

تقول الآية متابعة لحديثها : (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).

جملة (سُقُوا) بصيغة الفعل المبني للمجهول ، توضح أنّ أصحاب الجحيم يسقون الماء الحميم بالقوة ، لا بإرادتهم ، وبدل الإرتواء في تلك النار المحرقة فإنّه يقطّع أمعاءهم ، وكما هي طبيعة الجحيم ، فإنّهم يرجعون إلى حالتهم الاولى ، حيث لا موت هناك.

٤٨٥

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَا ذَا قَالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (١٩)

تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين ، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي ، وكلمات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.

تقول الآية الاولى من الآيات مورد البحث : (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَءَانِفًا). وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنّ تعبير هؤلاء في شأن النبي وكلماته البليغة ، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.

«آنفاً» : من مادة «أنف» ، ولمّا كان للأنف بروزاً متميّزاً في وجه الإنسان ، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم ، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال ، كما جاء في الآية مورد البحث.

إلّا أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جواباً قاطعاً ، فقال : إنّ كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن غامضاً ولا معقّداً ، بل (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ).

ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء ، وعنهم تتحدث الآية التالية فتقول : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَيهُمْ).

نعم ، لقد خطا هؤلاء الخطوة الاولى بأنفسهم ، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير ، ثم أخذ الله سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل ، فزادهم هدى إلى هداهم.

وتحذّر الآية التالية اولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم ، فتقول : (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَيهُمْ).

إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجباً عليهم ، ومفيداً لهم ، بل كانوا في طغيانهم يعمهون ، وبآيات الله يستهزئون ، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله ، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون ، ولا ينفعهم يومئذ

٤٨٦

إيمانهم وخضوعهم.

«الأشراط» : جمع «شَرَط» ، وهي العلامة ، وعلى هذا فإنّ (أشراط الساعة) إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.

وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر ، ومصير المؤمنين والكفار : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا اللهُ). أي : اثبت على خط التوحيد ، فإنّه الدواء الشافي ، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.

وبعد هذه المسألة العقائدية ، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفة عن المعصية ، فتقول : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

لا يخفى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرتكب ذنباً قط بحكم مقام العصمة ، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الاولى ، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقربين ، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.

ويقول سبحانه في ذيل الآية ، وكتبيان للعلة : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَيكُمْ).

فهو يعلم ظاهركم وباطنكم ، كتمانكم وعلانيتكم ، سرّكم ونجواكم ، بل ويعلم حتى نيّاتكم ، وما توسوس به أنفسكم ، ويخطر على أذهانكم ، وما يجري في ضمائركم ، ويعلم حركاتكم وسكناتكم ، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديه وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.

«المتقلّب» : هو المكان الذي يكثر التردّد عليه ؛ و «المثوى» : هو محل الإستقرار.

إنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعاً يشمل كل حركات ابن آدم وسكناته ، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (٢٠) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (٢٤)

٤٨٧

يخافون حتى من اسم الجهاد : تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد ، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.

تقول الآية الاولى : (وَيَقُولُ الَّذِينَءَامَنُوا لَوْلَا نُزّلَتْ سُورَةٌ).

سورة يكون فيها أمر بالجهاد ، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة.

وأمّا المنافقون : (فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).

إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى المؤمنين ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم ، ميدان تفجّر الإستعدادت والقابليات ، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار ، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان. إلّاأنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة ، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا ، وهو أخيراً ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض.

فإنّ الآية تضيف في النهاية فتقول : (فَأَوْلَى لَهُمْ).

إنّ جملة أعلاه تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة ، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر.

وتضيف الآية التالية : (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ).

ثم تضيف : (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ). وسيرفع رؤوسهم في الدنيا ، ويمنحهم العزّة والفخر ، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل ، والأجر الكبير ، والفوز العظيم في الآخرة.

وجملة (عَزَمَ الْأَمْرُ) تشير في الأساس إلى استحكام العمل ، إلّاأنّ المراد منها هنا الجهاد ، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.

وتضيف الآية التالية : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ). لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد ، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتماً ، ولم يكن في الجاهلية إلّاالفساد في الأرض ، والإغارة والقتل وسفك الدماء ، وقطيعة الرحم ، ووأد البنات.

وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).

إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة ، قطيعة للرحم ، وفساداً في الأرض ، أمّا كل الجرائم التي إرتكبوها في الجاهلية ، والدماء البريئة التي سفكوها

٤٨٨

أيّام تسلطهم ، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون ، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا اذن واعية لهم ، ولا عين ناظرة بصيرة.

وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم التعساء ، فقالت : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).

ولهذا ، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين ، ويكون في صميمها لا على هامشها ، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم ، وأن ينفذوا كل أوامره ، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

لكن ، أنّ الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها ، وإن كان القرآن بنفسه معيناً في تهذيبها ، لأنّ القلوب إذا كانت مقفلة بأقفال الهوى والشهوة ، والكبر والغرور ، واللجاجة والتعصّب ، فسوف لا يلجها نور الحق.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (٢٨)

أفلا يتدبّرون القرآن : تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).

«سوّل» : من مادة «سُؤْل» ، وهي الحاجة التي يحرص عليها الإنسان ؛ و «التسويل» : بمعنى الترغيب والتشويق إلى الامور التي يحرص عليها ، ونسبته إلى الشيطان بسبب الوساوس التي يلقيها في نفس الإنسان ، وتمنع من هدايته ؛ و «أملى» : من مادة «إملاء» ، وهو زرع طول الأمل فيهم ، والآمال البعيدة المدى ، والتي تشغل الإنسان ، فتصدّه عن الحق والهدى.

وتشرح الآية التالية علّة هذا التسويل والتزيين الشيطاني ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الْأَمْرِ). وهذا دأب المنافقين في البحث عن

٤٨٩

العصاة والمخالفين ، وإذا لم يكونوا مشتركين ومتفقين معهم في كل المواقف ، فإنّهم يتعاونون معهم على أساس المقدار المتفق عليه من مواقفهم ، بل ويطيعونهم إذا اقتضى الأمر.

بل قد اتجه منافقو المدينة نحو يهود المدينة ـ وهم «بنو النضير» و «بنو قريظة» الذين كانوا يبشرون بالإسلام قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا بعد ظهوره ومبعثه ، وتعرّض مصالحهم للخطر ، ولحسدهم وكبرهم ، فإنّهم اعتبروا الإسلام ديناً باطلاً ، وغير سليم ـ ولمّا كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتآمرهم ضد الإسلام ، فإنّهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام والمسلمين.

وربّما كان جملة (فِى بَعْضِ الْأَمْرِ) إشارة إلى أنّنا نتعاون معكم في هذا الجزء فقط ، فإنّكم تخالفون عبادة الأصنام ، وتعتقدون بالبعث والقيامة ، ونحن لا نتفق معكم في هذه الامور.

وتهدد الآيات هؤلاء في نهايتها فتقول : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ). فهو عليم بكفرهم الباطن ونفاقهم ، وبتآمرهم مع اليهود ، وسيعاقبهم ويجازيهم في الوقت المناسب.

والآية التالية بمثابة توضيح لهذا التهديد المبهم ، فتقول : (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ).

وهم يضربون وجوههم لأنّها اتجهت نحو أعداء الله ، ويضربون أدبارهم لأنّهم أدبروا عن آيات الله ونبيّه.

وتناولت آخر آية من هذه الآيات بيان علّة هذا العذاب الإلهي وهم على إعتاب الموت ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ).

لأنّ رضى الله سبحانه هو شرط قبول الأعمال وكل سعي وجهد.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (٣١)

يعرف المنافقون من لحن قولهم : تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم ، وتؤكّد بالخصوص على أنّهم يظنّون أنّ باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين دائماً ، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة

٤٩٠

الكبرى ، فتقول أوّلاً : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ).

«الأضغان» : جمع «ضِغْن» ، وهو الحقد الشديد.

إنّ الآية التالية تضيف : (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ). فنجعل في وجوههم علامات تعرفهم بها إذا رأيتهم ، وتراهم رأي العين فتنظر واقعهم عندما تنظر ظاهرهم.

ثم تضيف : (وَلَتَعْرِفَنَّهمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ). فيمكنك في الحال أن تعرفهم من خلال نمط كلامهم. أي : يمكن معرفة المنافقين مرضى القلوب من خلال الكناية في كلامهم ، وتعبيراتهم المؤذية التي تنطوي على النفاق.

في تفسير مجمع البيان عن أبي سعيد الخدري قال : لحن القول بغضهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. قال : وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ببغضهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (١).

لقد كانت إحدى العلامات البارزة للمنافقين أنّهم كانوا يعادون أوّل من آمن من الرجال ، وأوّل مضحٍ في سبيل الإسلام ، ويبغضونه.

واليوم أيضاً لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الاجتماعية المهمّة ، وخاصة عند الإضطرابات أو الحروب ، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقّة في أقوالهم وأفعالهم.

وأخيراً تضيف الآية : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعمَالَكُمْ). فهو يعلم أعمال المؤمنين ما ظهر منها وما بطن ، ويعلم أعمال المنافقين ، وإذا افترضنا أنّ هؤلاء قادرون على إخفاء واقعهم الحقيقي عن الناس ، فهل باستطاعتهم إخفاءه عن الله الذي هو معهم في سرّهم وعلانيهم ، وخلوتهم واجتماعهم؟

وتضيف الآية التالية مؤكّدة وموضحة طرقاً اخرى لتمييز المؤمنين عن المنافقين : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ). الحقيقيين من المتظاهرين بالجهاد والصبر.

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ١٧٦. ثم إنّ جماعة من كبار العامّة نقلوا مضمون هذا الحديث في كتبهم ؛ ومن جملتهم : أحمد بن حنبل في كتاب فضائل الصحابة ، وابن عبد البر في الإستيعاب ، والذهبي في تاريخ أوّل الإسلام ، وابن الأثير في جامع الاصول ، والعلّامة الگنجي في كفاية الطالب ، والسيوطي في الدرّ المنثور ، والآلوسي في روح المعاني ، وأورده جماعة آخرون في كتبهم ؛ وهو يبيّن أنّها إحدى الروايات المسلّمة عن الرسول الأعظم.

٤٩١

وتقول الآية الأخيرة : (وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ).

وبهذا فإنّ الله سبحانه يختبر أعمال البشر ، كما يختبر أقوالهم وأخبارهم.

فليست هذه المرة الاولى التي يخبر الله سبحانه الناس فيها بأنّي أبلوكم لتمييز صفوفكم ، وليعرف المؤمنون الحقيقيون وضعفاء الإيمان والمنافقون ، وقد ذكرت مسألة الإمتحان والإبتلاء هذه في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

وقد بحثنا المسائل المتعلقة بالاختبار الإلهي في ذيل الآية (١٥٥) من سورة البقرة ، وكذلك وردت في بداية سورة العنكبوت.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (٣٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣٤)

بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة ، تبحث هذه الآيات وضع جماعة اخرى من الكفار ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ). حتى وإن عملوا خيراً ، لأنّه لم يكن مقترناً بالإيمان.

هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكة ، أو الكفار من يهود المدينة ، أو كليهما.

أمّا «تبيّن الهدى» ، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكة ، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.

و «إحباط أعمالهم إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحياناً كإقراء الضيف ، والإنفاق ، ومعونة ابن السبيل ، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.

وبعد أن تبيّن حال المنافقين ، والخطوط العامة لأوضاعهم ، وجّهت الآية التالية الخطاب

٤٩٢

إلى المؤمنين مبيّنة خطهم وحالهم ، فقالت : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ).

فإنّ اسلوب الآية يوحي بأنّ من بين المؤمنين أفراداً كانوا قد قصروا في طاعة الله ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل ، ولذلك فإنّ الله سبحانه يحذّرهم في هذه الآية.

وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكّدة لما مرّ في الآيات السابقة حول الكفار ، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق الرجوع ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). لأنّ أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت ، ويحمل هؤلاء أوزارهم وأوزار الذين يضلّونهم ، فكيف يغفر الله لهم.

(فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (٣٥)

الصلح المذل : متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول مسألة الجهاد ، تشير هذه الآية إلى أحد الامور الهامة في مسألة الجهاد ، وهو أنّ ضعفاء الإيمان يطرحون غالباً مسألة الصلح للفرار من مسؤولية الجهاد ، ومصاعب ميدان الحرب. ولذلك تقول الآية الشريفة : الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ).

أي : الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوّقكم ، كيف تذلّون أنفسكم وترضون بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلّاالتراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحاً في الواقع ، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والإنهيار ، وهو نوع من طلب الراحة والعافية ، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.

ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية : (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعمَالَكُمْ). «يتركم» : من مادة «الوتر» ، وهو المنفرد ، ولذلك يقال لمن قتل قريبه ، وبقي وحيداً : وِتْر. وجاء أيضاً بمعنى النقصان ؛ وفي الآية ـ مورد البحث ـ كناية جميلة عن هذا المطلب ، بأنّ الله سبحانه لن يترككم وحدكم ، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم ، خاصّةً وأنّكم تعلمون أنّكم لن تخطوا خطوةً إلّاكتبت لكم ، فلم يكن الله لينقص من أجركم شيئاً ، بل سيضاعفه ويزيد عليه من فضله وكرمه.

٤٩٣

(إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (٣٧) هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (٣٨)

قلنا : إنّ سورة محمّد هي سورة الجهاد ، فبأمر الجهاد بدأت ، وبه تنتهي ، والآيات مورد البحث ـ وهي آخر آيات هذه السورة ـ تتناول مسألة اخرى من مسائل حياة البشر في هذا الميدان ، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة الله سبحانه عموماً ، وإلى أمر الجهاد بالخصوص ، لأنّ حبّ الدنيا والإنشداد إليها أحد العوامل المهمّة التي تعيق المسلمين عن الجهاد ، فتقول : (إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

«اللعب» : يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي ؛ و «اللهو» : يقال لكل عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.

والحق أنّ الدنيا لعب ولهو ليس إلّا ، فلا يحصل منها أنس وارتياح ، وليس لها دوام وبقاء ، وإنّما هي لحظات كلمح البصر ، ولذات زائلة تحفّها الآلام والمتاعب.

ثم تضيف الآية : (وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ). فلا الله يسألكم أجراً مقابل الهداية والرشاد وكل تلك الهبات العظيمة في الدنيا والآخرة ، ولا رسوله ، فإنّ الله تعالى غني عن العالمين ، ولا يحتاج رسوله إلى غير الله.

وإذا كان الشيء الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية اخرى ، فإنّه يعود عليكم ويصرف فيكم ، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم وأبناء السبيل منكم ، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها ، ولاستقرار النظام والأمن ، ولتأمين احتياجاتكم ، وعمران دياركم.

بناءً على هذا ، فحتى هذا المقدار اليسير هو من أجلكم ومنفعتكم ، فإنّ الله ورسوله في غنى عنكم ، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة والإنفاق وأمثالها.

ولتبيان تعلق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية : (إِن

٤٩٤

يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ).

«يحفكم» : من مادة «إحفاء» ، أي : الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال ، وهي في الأصل من حفأ ، وهو المشي حافياً ، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود ؛ و «الأضغان» جمع ضغن ، وهو بمعنى الحقد الشديد.

وبذلك فإنّ الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب ، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال ، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكل ما لديهم في سبيل الله ، ويقدّمون ما عندهم بين يديه ، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلّاالإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.

والآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ، وهي آخر آية من سورة محمّد ـ تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها ، ومسألة الإنفاق في سبيل الله ، فتقول : (هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ).

وهنا يأتي سؤال ، وهو : إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم ، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟

غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين ، فتقول أوّلاً : (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ). لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة ، حيث يقلّ التفاوت الطبقي ، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع ، وتحل المحبة والصفاء محل العداوة والحقد ، هذا ثوابكم الدنيوي.

وأمّا في الآخرة ، فستمنحون مقابل كل درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر ، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه. وبتعبير آخر : فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد ، والتعبير ب (فِى سَبِيلِ اللهِ) يلائم هذا المعنى أيضاً ، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.

والجواب الآخر هو : (وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ) فهو غني عن إنفاقكم في سبيله ، وغني عن طاعتكم ، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.

وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة ، والموهبة العظيمة ، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه ،

٤٩٥

فحذار أن تقصّروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها ، إذ : (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم).

وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (٥٤) من سورة المائدة ، حيث تقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ).

وفي تفسير مجمع البيان : روى أبوهريرة أنّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : يا رسول الله! من هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه وكان سلمان إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فضرب بيده على فخذ سلمان فقال : «هذا وقومه ، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «والله أبدل بهم خيراً منهم الموالي».

«نهاية تفسير سورة محمّد»

* * *

٤٩٦

٤٨

سورة الفتح

محتوى السورة : هذه السورة كما هو ظاهر من اسمها تحمل رسالة الفتح والنصر ؛ الفتح والنصر على أعداء الإسلام ، الفتح المبين والأكيد «سواءً كان هذا الفتح متعلّقاً بفتح مكة أو بصلح الحديبية أو فتح خيبر أو كان هذا الفتح بشكل مطلق».

وفي تفسير مجمع البيان عن عبد الله بن مسعود قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحديبية فجعلت ناقته تثقل فتقدّمنا فأنزل الله عليه : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا). فأدركنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبر أنّها نزلت عليه.

وبمراجعة إجمالية للسورة يمكن القول إنّها تتألف من سبعة أقسام :

١ ـ تبدأ السورة بموضوع البشرى بالفتح كما أنّ آياتها الأخيرة لها علاقة بهذا الموضوع أيضاً ، وفيها تأكيد على تحقق رؤيا النبي التي تدور حول دخوله وأصحابه مكة وأداء مناسك العمرة.

٢ ـ يتحدث قسم آخر من هذه السورة عن الحوادث المتعلقة بصلح الحديبية ونزول السكينة على قلوب المؤمنين و «بيعة الرضوان» وما إلى ذلك.

٣ ـ ويتحدث قسم ثالث منها عن مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهدفه الأسمى.

٤٩٧

٤ ـ ويكشف القسم الرابع الستار عن غَدر المنافقين ونقضهم العهد ونكثهم له ويعطي أمثلةً من أعذارهم الواهية في مسألة عدم مشاركتهم النبي جهاده المشركين والكفار.

٥ ـ وفي قسم آخر يقع الكلام على طلبات «المنافقين» في غير محلّها.

٦ ـ والقسم السادس يوضح من هم المعذورون الذين لا حرج عليهم.

٧ ـ وأخيراً يتحدث عن خصائص أصحاب النبي وأتباعه في طريقته وسنّته وصفاتهم التي يتميّزون بها.

فضيلة تلاوة السورة : في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين ، ألحقوه بالصالحين من عبادي وادخلوه جنات النعيم واسقوه من الرحيق المختوم بمزاج الكافور».

ومن الواضح أنّ الهدف الأصلي من تلاوة هذه السورة هو تطبيق أعمال القارئ وخلقه وطبعه على مفاد هذه السورة ومضامينها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١)

الفتح المبين : في الآية الاولى من هذه السورة بشرى عظيمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشرى هي عند النبي طبقاً لبعض الرّوايات أحبّ إليه من الدنيا وما فيها ، إذ تقول الآية : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا).

وهو إشارة إلى ما كان من نصيب للمسلمين من الفتح الكبير على أثر «صلح الحديبية».

ومن الأفضل وقبل الولوج في تفسير الآيات أن نعرض قصة صلح الحديبية ليتّضح «المقام» وليكون هذا العرض بمثابة شأن نزول الآيات أيضاً.

قصة صلح الحديبية : في السنة السادسة خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معتمراً في ذي القعدة لا يريد حرباً ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة وساق الهَدْىَ معه سبعين بَدَنة ليعلم الناس أنّه إنّما جاء زائراً للبيت فلما بلغ عُسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فاجتمعوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً.

٤٩٨

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال للناس : «انزلوا». فقالوا : ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش الماء بالريّ حتى ضرب الناس بعطن ..

وبدأ التزاور بين سفراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وممثليه وسفراء قريش وممثليها لتحلّ المشكلة على أي نحو كان وأخيراً جاء عروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلاً حازماً عند النبي فقال النبي : «إنّا لم نأت لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين ...» فرجع عروة إلى أصحابه وقال : أيّ قوم قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فوالله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمّد محمّداً ، وحدّثهم ما رأى وما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ...

فدعا رسول الله عمر ليرسله إلى مكة ، فقال : ليس بمكة من بني عدي من يمنعني وقد علمت قريش عداوتي لها وغلظتي عليها وأخافها على نفسي فأرسل عثمان فهو أعزّ بها مني فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه فانطلق فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره فأتى أبا سفيان ، وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة : إن شئت أن تطوف بالبيت فطُف به فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاحتبسته قريش عندها فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قد قتل. فقال : «لا نبرح حتى نناجز القوم» ، ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة .. ثم أتى الخبر أنّ عثمان لم يقتل.

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك ، فأقبل سهيل بن عمرو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأطال معه الكلام وتراجعا ، ثم جرى بينهم الصلح ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب فقال : «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم». فقال سهيل : لا نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. فكتبها ، ثم قال : «اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو» ، فقال سهيل : لو نعلم أنّك رسول الله لم نقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعلي : «امح رسول الله». فقال : لا أمحوك أبداً. فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس يحسن أن يكتب فكتب موضع رسول الله محمّد بن عبد الله ، وقال لعلي لتبلين بمثلها ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن الناس ، وإنّه من أتى منهم رسول الله بغير إذن وليّه رده إليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله لم يردّوه عليه ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل ، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وأن يرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم عامه ذلك فإذا كان

٤٩٩

عام قابل خرجنا عنك فدخلَتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً ، وسلاح الراكب السيوف في القِرَب لا تدخلها بغيرها ...

فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قضيته قال : «قوموا فانحروا ثم احلقوا».

فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه حيث أمن الناس كلهم بعضهم بعضاً فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.

وفي ذلك الحين نزلت سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين (١).

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣)

نتائج الفتح المبين الكبرى : في هاتين الآيتين بيان للنتائج المباركة من «الفتح المبين» (صلح الحديبية) والتي ورد ذكره في الآية السابقة. فتقول الآيتان : (لّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا).

وبهذا فإنّ الله منح نبيّه الكريم في ظل هذا الفتح المبين أربع مواهب عظيمة هي : «المغفرة» ، و «إتمام النعمة» ، و «الهداية» و «النصر».

الإجابة على سؤال مهم : تثار هنا سؤال وهو : ما المراد من العبارة الآنفة (لّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) مع أنّ النبي معصوم من الذنب؟

وللحصول على الإجابة «الجامعة» لهذه الإشكال لابدّ من ذكر مقدمة وهي :

إنّ المهم هو العثور على العلاقة الخفية بين فتح الحديبية ومغفرة الذنب! وبالتدقيق في الحوادث التاريخية وما تمخّضت عنه نصل إلى هذه النتيجة ، وهي أنّه حين يظهر أيّ مذهب حق ويبرز في عالم الوجود فإنّ أصحاب السنن الخرافية الذين يرون أنفسهم ووجودهم في خطر يكيلون التهم والامور التافهة إليه ويشيعون الشائعات والأباطيل وينشرون الأراجيف الكاذبة بصدده. ولكن حين ينال الانتصار وتحظى مناهجه وخططه بالموفقية فإنّ تلك النسب تمضي كما لو كانوا قد رقموا على الماء ، وتتبدّل جميع أقوالهم إلى حسرات وندامة ويقولون عندئذ لم نكن نعلم.

__________________

(١) الكامل في التّاريخ ٢ / ٨٦ ـ ٩٠.

٥٠٠