مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

ومن البديهي أنّ الخالق والمالك يكون مدبّراً لأمر العالم أيضاً.

ولذلك تقول الآية في النهاية : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ).

إنّه غنيّ على الإطلاق ، وحميد من كل جهة ، لأنّ كل موهبة في هذا العالم تعود إليه ، وكل ما يملكه الإنسان فإنّه صادر منه وخزائن كل الخيرات بيده ، وهذا دليل حي على غناه.

ولما كان «الحمد» بمعنى الثناء على العمل الحسن الذي يصدر عن المرء باختياره ، وكل حسن نراه في هذا العالم فهو من الله سبحانه ، فإنّ كل حمد وثناء منه.

ثم تجسّد الآية التالية علم الله اللامحدود من خلال ذكر مثال بليغ جدّاً فيقول : (وَلَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

«يمدّه» : من مادة «المداد» وهي بمعنى الحبر أو المادة الملوّنة التي يكتبون بها ، وهي في الأصل من «مدّ» بمعنى الخطّ ، لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم.

«الكلمات» : جمع «كلمة» وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدث ويتكلم بها الإنسان ، ثم اطلقت على معنى أوسع ، وهو كل شيء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب ، ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كل منها ذات الله المقدسة وعظمته ، فقد أطلق على كل موجود (كلمة الله) ، ثم استعملت كلمات الله بمعنى علم الله لهذه المناسبة.

بعد ذكر علم الله اللامحدود ، تتحدث الآية الاخرى عن قدرته اللامتناهية ، فتقول : (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

الآية التالية تأكيد وبيان آخر لقدرة الله الواسعة ، وقد وجّهت الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لخدمة الناس وتأمين احتياجاتهم (كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

«الولوج» : في الأصل بمعنى «الدخول» ، ودخول الليل في النهار والنهار في الليل قد يكون إشارة إلى طول وقصر الليل والنهار التدريجي على مدار السنة ، حيث ينقص شيء من أحدهما تدريجياً ، ويضاف على الآخر بصورة غير محسوسة ، لتتكوّن الفصول الأربعة للسنة بخصائصها وآثارها المباركة.

وجملة (كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) إشارة إلى أنّ هذا النظام الدقيق لا يستمر إلى الأبد ، بل إنّ له نهاية بانتهاء الدنيا.

٢١

وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص نتيجة جامعة كلية : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ).

إنّ مجموع البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول كون الله خالقاً ومالكاً ، وعن علمه وقدرته اللامتناهيين ، أثبتت هذه الامور ، وأنّ الحق هو الله وحده ، وكل شيء غيره زائل وباطل ومحدود ومحتاج ؛ والعلي والكبير الذي يسمو على كل شيء ، ويجلّ عن كل وصف ، هو ذاته المقدسة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (٣٢)

يدور البحث والحديث في هاتين الآيتين أيضاً عن نعم الله سبحانه ، وأدلّة التوحيد في الآفاق والأنفس ، فالحديث في الآية الاولى عن دليل النظام ، وفي الآية الثانية عن التوحيد الفطري ، وهما في المجموع تكمّلان البحوث التي وردت في الآيات السابقة. تقول الآية الاولى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُم مِّنْءَايتِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

لا شك أنّ حركة السفن على سطح المحيطات تتمّ بمجموعة من قوانين الخلقة.

وبعد بيان نعمة حركة السفن في البحار ، والتي كانت ولا تزال أكبر وأنفع وسائل حمل ونقل البضائع والبشر ، أشارت هذه الآية إلى صورة اخرى لهذه المسألة ، فقالت : (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ). «الظلل» : جمع ظُلّة بمعنى سحابة تظلّ.

أي إنّ أمواج البحر العظيمة تهيج فتحيط بهم كأنّ سحاباً قد أظلّهم بظل مرعب مهول.

هنا يجد الإنسان نفسه ضعيفاً وعاجزاً رغم كل تلك القوى والإمكانيات الظاهرية التي أعدّها لنفسه.

هنا يحيط التوحيد الخالص بكل قلبه ويغمره ، ويعتقد بأنّ الدين والعبادة مختصة به سبحانه.

ثم تضيف الآية إنّ الله سبحانه لما نجّاهم من الهلكة إنقسم الناس قسمين : (فَلَمَّا نَجهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ).

٢٢

«مقتصد» : من مادة «قصد» بمعنى الإعتدال في العمل ، والوفاء بالعهد.

وهؤلاء وفوا بعهدهم ولم ينقضوه ، ولم ينسوا منّة الله عليهم في تلك اللحظات الحساسة.

وتضيف الآية في النهاية : (وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ).

«ختّار» : من «الختر» بمعنى نقض العهد ، وهذه الكلمة صيغة مبالغة ، لأنّ المشركين والعاصين يتوجّهون إلى الله مراراً ، ويقطعون على أنفسهم العهود ، وينذرون النذور ، إلّاأنّهم بمجرّد أن يهدأ طوفان الحوادث ينقضون عهودهم بصورة متلاحقة ، ويكفرون بنعم الله عليهم.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤)

في هاتين الآيتين اللتين هما آخر آيات سورة لقمان ، تلخيص للمواعظ والنصائح السابقة ولأدلة التوحيد والمعاد ، وتوجيه الناس إلى الله واليوم الآخر وتحذير من الغرور الناشيء من الدنيا والشيطان ، ثم الحديث عن سعة علم الله سبحانه وشموله لكل شيء ، فتقول : (يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَايَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيًا).

إنّ الدستور الأوّل هو التوجه إلى المعاد ، فالدستور الأوّل يحيي في الإنسان قوة المراقبة ، والثاني ينمّي روح الثواب والعقاب ، ولا شك أنّ الإنسان الذي يعلم أنّ شخصاً خبيراً ومطّلعاً على كل أعماله يراه ويعلم به ويسجّل كل أعماله ، ومن ناحية اخرى يعلم أنّ محكمة عادلة ستتشكّل للتحقيق في كل جزئيات أعماله ، لا يمكن أن يتلوّث بأدنى فساد ومعصية.

جملة (لَايَجْزِى) من مادة الجزاء ، و «الجزاء» ورد بمعنيين من الناحية اللغوية :

أحدهما : المكافأة والمعاقبة مقابل شيء ، كما يقال : جزّاه الله خيراً.

والآخر : الكفاية والنيابة والتحمل للشيء عن الآخرين ، كما جاء في الآية مورد البحث : (لَا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ).

٢٣

ومن الممكن أن يعود كلا المعنيين إلى أصل واحد ، لأنّ الثواب والعقاب يحلّان محل العمل وينوبان عنه ، وهما بمقداره أيضاً ـ تأمّلوا ذلك ـ.

على كل حال ، فإنّ كل إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه ، ومبتلى بمعطيات أعماله وآثارها إلى درجة أنّه لا ينظر إلى أحد ولا يهتم به ، حتى وإن كان أبوه ، أو إبنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط ، فلا يفكّر أحد بآخر مطلقاً.

وتحذّر الآية في النهاية البشر من شيئين ، فتقول : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ). أي الشيطان.

في الواقع ، يلاحظ هنا نهيان في مقابل الأمرين اللذين كانا في بداية الآية ، فإنّ الإنسان إذا نمت فيه مسألة التوجه إلى الله ، والخوف من الحساب والجزاء ، فلا يخاف عليه من الإنحراف والفساد ، إلّامن طريقين :

أحدهما : أن تقلب زخارف الدنيا وزبرجها الحقائق في عينيه بصور اخرى ، وتسلب منه القدرة على التشخيص ، لأنّ حبّ الدنيا رأس كل الخطايا وأساسها.

والآخر : أن تخدعه وساوس الشيطان وتغرّه ، وتبعده عن المبدأ والمعاد.

فإذا أغلق طريقي نفوذ المعصية والذنب هذين ، فسوف لا يهدّده أيّ خطر ، وعلى هذا فإنّ الدساتير والبنود الأربعة أعلاه تمثّل مجموعة كاملة من برنامج نجاة وخلاص الإنسان.

وفي آخر آية من هذه السورة ، وبمناسبة البحث الذي جاء في الآية السابقة حول يوم القيامة ، يدور الكلام عن العلوم المختصة بالله سبحانه ، فتقول : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ) ومطّلع على جميع جزئياته وتفاصيله ...

(وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

فكأنّ مجموع هذه الآية جواب عن سؤال يطرح في باب القيامة ، وهو نفس السؤال الذي سأل المشركون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً وتكراراً ، وقالوا : (مَتَى هُوَ) (١). فيجيبهم القرآن عن سؤالهم ، ويقول : (إِنَّ السَّاعَةَءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) (٢).

نهاية تفسير سورة لقمان

* * *

__________________

(١) سورة الإسراء / ٥١.

(٢) سورة طه / ١٥.

٢٤

٣٢

سورة السجدة

محتوى السورة : هذه السورة بحكم كونها من السور المكية تتابع بقوة الخطوط الأصلية للسور المكية ، أي البحث في المبدأ والمعاد ، والبشارة والإنذار ، وعلى العموم تنقسم مباحثها إلى عدّة أقسام :

١ ـ الكلام عن عظمة القرآن ، ونزوله من قبل رب العالمين.

٢ ـ ثم البحث حول آيات الله سبحانه في السماء والأرض ، وتدبير هذا العالم.

٣ ـ بحث آخر حول خلق الإنسان من «التراب» و «النطفة» و «الروح الإلهية» ، ومنحه وسائل تحصيل العلم ، أي العين والاذن والعقل من قبل الله تعالى.

٤ ـ ثم تتحدث بعد ذلك عن القيامة والحوادث التي تسبقها ، أي الموت ، وما بعدها.

٥ و ٦ ـ بحوث مؤثرة تهزّ الوجدان عن البشارة والإنذار.

وبهذا فإنّ الهدف الأصلي للسورة تقوية اسس الإيمان بالمبدأ والمعاد ، وإيجاد دفعة قوية في المحتوى الداخلي للإنسان نحو التقوى.

أسماء هذه السورة : اسم هذه السورة في بعض الروايات ، وكذلك المشهور على لسان المفسرين : سورة (السجدة) ، أو (الم السجدة) ، ويسمّونها أحياناً (سجدة لقمان) لتمييزها عن سورة (حم السجدة) ، لأنّها جاءت بعد سورة لقمان.

٢٥

وذكرت في بعض الروايات باسم (الم تنزيل).

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ومن قرأ الم تنزيل ، وتبارك الذي بيده الملك ، فكأنّما أحيا ليلة القدر».

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة السجدة في كل ليلة جمعة أعطاه الله كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما كان منه ، وكان من رفقاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام».

فلا شك أنّ تلاوتها ـ التلاوة التي تكون مصدراً للتفكير ، وبالتالي مبدءاً للتصميم والحركة ـ قادرة على أن تصنع من الإنسان مثالاً متكاملاً تشمله كل هذه الفضيلة والفخر.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥)

عظمة القرآن ، والمبدأ والمعاد : مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة (الم) في هذه السورة ، وهذه هي المرّة الخامسة عشرة التي نرى فيها مثل هذه الحروف في بداية السور القرآنية.

والبحث الذي جاء بعد هذه الحروف مباشرة حول أهمية القرآن يبيّن مرّة اخرى هذه الحقيقة ، وهي أنّ (الم) إشارة إلى عظمة القرآن ، والقدرة على إظهار عظمة الله سبحانه ، وهذا الكتاب العظيم الغني المحتوى ، والذي هو معجزة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الخالدة يتكوّن من حروف المعجم البسيطة التي يعرفها الجميع. تقول الآية : (تَنزِيلُ الْكِتبِ لَارَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ).

هذه الآية جواب عن سؤالين : الأوّل عن محتوى هذا الكتاب السماوي ، فتقول في الجواب : إنّ محتواه حقّ ولا مجال لأدنى شك فيه ؛ والسؤال الثاني يدور حول مبدع هذا الكتاب ، وفي الجواب تقول : إنّ هذا الكتاب من قبل رب العالمين.

٢٦

ثم يشير إلى التهمة التي طالما وجهها المشركون والمنافقون إلى هذا الكتاب السماوي العظيم حيث قالوا : إنّ هذا الكتاب من تأليف محمّد. وقد إدّعى كذباً بأنّه من الله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ). فيقول جواباً على إدّعاء هؤلاء الزائف : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ). وأدلّة أحقّيته واضحة وبيّنة فيه من خلال آياته.

ثم يتطرق إلى الهدف من نزوله ، فيقول : (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

جملة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إشارة إلى أنّ القرآن يهيّء أرضية الهداية ، إلّاأنّ التصميم واتّخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.

إنّ المراد من «النذير» هنا النبي الكبير الذي يوضّح ويبيّن دعوته مقرونة بالمعجزات وفي محيط واسع ، ومعلوم أنّ مثل هذا النذير لم يقم في الجزيرة العربية وبين قبائل مكة.

بعد بيان عظمة القرآن ورسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تطرقت الآية التالية إلى أساس آخر من أهم اسس ودعائم العقائد الإسلامية ، فتقول : (اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ). والمراد من (سِتَّةِ أَيَّامٍ) في هذه الآيات : ستّ مراحل.

وبعد مسألة الخلق تتطرق الآية إلى مسألة حاكمية الله سبحانه على عالم الوجود ، فتقول : إنّ الله تعالى بعد ذلك استوى على عرش قدرته وسيطر على جميع الكائنات : (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).

«العرش» : تعني في الأصل الكراسي الطويلة القوائم ، وتأتي عادة كناية عن القدرة.

إنّ استواء الله على العرش بمعنى أنّه خالق عالم الوجود ، وكذلك الحاكم على كل العالم.

وتكمّل الآية مراحل التوحيد بالإشارة إلى توحيد «الولاية» و «الشفاعة» ، فتقول : (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىّ وَلَا شَفِيعٍ).

والمراد من «الشفيع» هنا : الناصر والمعين ، ونحن نعلم أنّ الناصر والولي والمعين هو الله وحده.

فمع هذا الدليل الواضح ، فلماذا تنحرفون وتضلّون وتتمسّكون بالأصنام؟ (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ).

إنّ المراحل الثلاث للتوحيد التي انعكست في الآية أعلاه يعتبر كل منها دليلاً على الاخرى ، فتوحيد الخالقية دليل على توحيد الحاكمية ، وتوحيد الحاكمية دليل على توحيد

٢٧

الولي والشفيع والمعبود.

وتشير الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث إلى توحيد الله سبحانه في البداية ، ثم إلى مسألة «المعاد» ، وبهذا تكمل هنا فروع وأركان التوحيد الثلاثة التي اتّضحت في الآيات السابقة ـ (توحيد الخالقية والحاكمية والعبودية) ـ بذكر توحيد الربوبية ، أي تدبير عالم الوجود من قبل الله سبحانه فقط ، فتقول : إنّ الله يدبّر امور العالم من مقام القرب منه إلى الأرض : (يُدَبّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ).

ثم تضيف : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ وأَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ).

والمراد من هذا اليوم يوم القيامة.

والمراد من الآية هو أنّ الله سبحانه خلق هذا العالم ، ونظّم ودبّر السماء والأرض بتدبير خاصّ ، إلّاأنّه يطوى هذا التدبير في نهاية العالم ، وبعد طيّ هذا العالم سيبدأ إبداع برنامج ومشروع عالمي جديد أوسع ، أي سيبدأ عالم آخر بعد إنتهاء هذه الدنيا.

(ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (٩)

مراحل خلق الإنسان العجيبة : إنّ الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة وتأكيد في البداية على بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة ، والتي كانت تتلخص في أربع مراحل : توحيد الخالقية ، والحاكمية ، والولاية ، والربوبية ، فتقول : (ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ثم تشير الآية التالية إلى نظام الخلقة الأحسن والأكمل بصورة عامة ، ومقدمة لبيان خلق الإنسان ومراحل تكامله بشكل خاص : (الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ). وأعطى كل شيء ما يحتاجه. وبتعبير آخر : فإنّ تشييد صرح الخلقة العظيم قد قام على أساس النظام الأحسن ، أي قام على نظام دقيق سالم لا يمكن تخيّل نظام أكمل منه.

بعد هذه المقدّمة الآفاقية يدخل القرآن بحث الأنفس ، وكما تحدّث في بحث الآيات

٢٨

الآفاقية عن عدة أقسام للتوحيد ، فإنّه يتحدث هنا عن عدة مواهب عظيمة في مورد البشر : يقول أوّلاً : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسنِ مِن طِينٍ). ليبيّن عظمة وقدرة الله سبحانه ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يحذّر الإنسان ويذكّره من أين أتيت ، وإلى أين ستذهب؟!

ومن المعلوم أنّ هذه الآية تتحدث عن خلق آدم ، لا كل البشر ، لأنّ استمرار نسله قد ذكر في الآية التالية ، وظاهر هذه الآية دليل واضح على خلق الإنسان بشكل مستقل ، قد تمّ من الطين مباشرة وبدون واسطة.

ثم تشير الآية بعدها ، إلى خلق نسل الإنسان ، وكيفية تولد أولاد آدم في مراحل ، فتقول : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِّن سُللَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ).

«جعل» : هنا بمعنى الخلق ؛ و «النسل» : بمعنى الأولاد والأحفاد في جميع المراحل.

«السلالة» : في الأصل ، بمعنى العصارة الخالصة لكل شيء ، والمراد منها هنا نطفة الإنسان التي تعتبر عصارة كل وجوده ، ومبدأ حياة وتولد الذرية واستمرار النسل.

«مهين» : التي تعني الضعيف إشارة إلى وضعه الظاهري ، وإلّا فإنّه من أعمق أسرار الموجودات.

وتشير الآية التالية إلى مراحل تكامل الإنسان المعقّدة في عالم الرحم ، وكذلك المراحل التي طواها آدم عند خلقه من التراب ، فتقول : (ثُمَّ سَوَّيهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصرَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ).

«سوّيه» : من التسوية ، أي الإكمال ، وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء بدنه ، وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتى نفخ الروح.

والتعبير ب «النفخ»كناية عن حلول الروح في بدن الإنسان ، لأنّ النطفة عندما تنعقد في البداية ليس لها إلّانوعاً من «الحياة النباتية» ، أي التغذية والنمو فقط ، أمّا الحس والحركة التي هي علامة «الحياة الحيوانية» ، وكذلك قوة الإدراكات التي هي علامة الحياة الإنسانية ، فلا أثر عن كل ذلك.

إنّ تكامل النطفة في الرحم تصل إلى مرحلة تبدأ عندها بالحركة ، وتحيا وتنبعث فيها القوى الإنسانية الاخرى تدريجياً ، وهذه هي المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بنفخ الروح.

أمّا إضافة «الروح» إلى «الله» فهي «إضافة تشريفية» ، أي إنّ روحاً ثمينة وشريفة بحيث

٢٩

إنّ من المناسب أن تسمّى «روح الله» قد دبّت في الإنسان ونفخت فيه.

(وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٤)

الندم وطلب الرجوع : تبدأ هذه الآيات ببحث واضح جلي حول المعاد ، ثم تبيّن وتبحث حال المجرمين في العالم الآخر ، وهي في المجموع تتمة للبحوث السابقة التي تحدثت حول المبدأ ، إذ إنّ البحث عن المبدأ والمعاد مقترنان غالباً في القرآن المجيد فتقول : إنّ هؤلاء الكفار يتساءلون باستغراب بأنّنا إذا متنا وتحوّلت أبداننا إلى تراب واندثرت تماماً فهل سوف نُخلق من جديد : (وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ).

إنّ التعبير ب (ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ) إشارة إلى أنّ الإنسان يصبح تراباً بعد موته كسائر الأتربة ويتفرّق هذا التراب نتيجة العوامل الطبيعية وغير الطبيعية ، ولا يبقى منه شيء حتى يعيده الله سبحانه في القيامة مرّة اخرى.

إلّا أنّ هؤلاء ليسوا بمنكرين قدرة الله (بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ) فإنّهم ينكرون مرحلة لقاء الله والحساب والثواب والعقاب لتبرير حرية العمل وليعملوا ما يريدون.

وهذه الآية تشبه كثيراً الآيات (٣ ـ ٦) من سورة القيامة التي تقول : (أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قدِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ).

بناء على هذا ، فإنّ هؤلاء ليسوا قاصرين من ناحية الاستدلال ، ولكن شهواتهم حجبت قلوبهم ، ونيّاتهم السيئة منعتهم من قبول مسألة المعاد.

وتجيب الآية هؤلاء عن طريق آخر ، فتقول : لا تتصوّروا أنّ شخصيتكم بأبدانكم وأجسامكم ، بل بأرواحكم ، وهي باقية ومحفوظة : (قُلْ يَتَوَفكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ

٣٠

ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ).

إذا لاحظنا أنّ معنى «يتوفّاكم» من مادة «توفّي» (على وزن تصدّي) ، هو الإستيفاء ، فإنّ الموت سوف لا يعني الفناء ، بل نوع من قبض الملائكة لروح الإنسان التي تشكّل أهم من وجود الإنسان.

إنّ الآيتين أعلاه تجيبان منكري المعاد بهذا الجواب : إذا كان إشكالكم في تفرق الأجزاء الجسمية ، فإنّكم تقرّون بقدرة الله سبحانه ولا تنكرونها ، وإذا كان إشكالكم في اضمحلال وفناء شخصية الإنسان على أثر تناثر تلك الذرات ، فلا يصحّ ذلك لأنّ أساس شخصية الإنسان يستند إلى الروح.

ثم تجسّد وضع هؤلاء المجرمين الكافرين ومنكري المعاد الذين يندمون في القيامة أشدّ الندم على ما كان منهم لدى مشاهدة مشاهدها ومواقفها المختلفة ، فتقول : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ).

ستعجب حقّاً! أهؤلاء النادمون الناكسو الرؤوس هم اولئك المتكبرون العتاة العصاة الذين لم يكونوا يذعنون في الدنيا لأيّة حقيقة؟

«الناكس» : من مادة «نكس» على وزن (كلب) بمعنى إنقلاب الشيء ، وهنا يعني خفض الرأس إلى الأسفل وطأطأته.

تقديم «أبصرنا» على «سمعنا» لأنّ الإنسان يرى المشاهد والمواقف أوّلاً ، ثم يسمع إستجواب الله والملائكة.

إنّ المراد من «المجرمين» هنا الكافرون ، وخاصة منكري القيامة.

ولما كان كل هذا الإصرار والتأكيد على قبول الإيمان قد يوهم عجز الله سبحانه عن أن يلقي نور الإيمان في قلوب هؤلاء ، فإنّ الآية التالية تضيف : (وَلَوْ شِئْنَا لَأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَيهَا).

فمن المسلم أنّ الله تعالى يمتلك مثل هذه القدرة ، إلّاأنّ الإيمان الذي يتحقق ويتم بالإجبار لا قيمة له ، ولذا فالمشيئة الإلهية أرادت أن ينال الإنسان شرف كونه مختاراً ، وأن يسير في طريق التكامل بحريته واختياره ، ولذلك تضيف في النهاية : لقد قرّرت أن أخلق الإنسان مختاراً (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

أجل ... إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء اختيارهم ، ولذلك فهم مستحقون للعقاب ،

٣١

ونحن قد قطعنا على أنفسنا أن نملأ جهنم منهم.

ولذلك تقول الآية التالية : إنّا سنقول لأصحاب النار (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

مرّة اخرى يستفاد من هذه الآية أنّ نسيان محكمة القيامة العادلة هو الأساس لكل تعاسة وشقاء للإنسان ، لأنّه سيرى نفسه في هذه الصورة حرّاً إزاء ارتكاب القبائح والظلم والعدوان.

وكذلك يستفاد من الآية بوضوح أنّ العقاب الأبدي للفرد معلول لما إرتكبه من أعمال في دار الدنيا ، لا لشيء آخر.

وضمناً يتّضح أنّ المراد من «نسيان الله» هو عدم رعايته ونصرته لهم.

(إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٠)

جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد : إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيراً من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها ، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماماً ، وهنا أيضاً بعد الشرح والتفصيل الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين والكافرين ، فإنّه يتطرق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة ، ويبيّن اصولهم العقائدية ، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات ، فيقول أوّلاً : (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بَايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بِهَا خَرُّوا

٣٢

سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ) (١).

«خرّوا» : في الأصل من مادة «الخرير أي صوت الماء وأمثاله حين انحداره من مرتفع إلى منخفض ، واستعماله هذا التعبير في شأن الساجدين إشارة إلى أنّ هؤلاء ترتفع أصواتهم بالتسبيح في لحظة هويّهم إلى الأرض للسجود.

لقد بيّنت في هذه الآية أربع صفات :

١ ـ أنّهم يسجدون بمجرد سماعهم آيات الله. لقد ذكرت هذه الصفة والخاصية في سورة مريم الآية (٥٨) كأحد أبرز صفات الأنبياء ، كما يقول الله سبحانه في شأن جمع من الأنبياء العظام : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا).

وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة ، ولكن من المعلوم أنّ المراد منها غالباً الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.

٢ و ٣ ـ فهم ينزّهون الله تعالى عن النقائص من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كماله وجماله.

٤ ـ والصفة الاخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كل أنواع التكبر.

ثم أشارت الآية الثانية إلى أوصاف هؤلاء الاخرى ، فقالت : (تَتَجَافِى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (٢). فيقومون في الليل ، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.

إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق ، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية ، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى ، ويعمّ الهدوء والظلام كل الأرجاء ، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة. والخلاصة : عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب ، فإنّهم يتّجهون بكل وجودهم إلى معبودهم ، ويخبرونه بما في

__________________

(١) ينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية الاولى هي اولى السجدات الواجبة في القرآن الكريم ، وإذا ما تلاها أحد بتمامها ، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء ، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

(٢) «تتجافي» : من مادة «جفا» وهي في الأصل بمعنى القطع والحمل والإبعاد ؛ و «الجنوب» : جمع جنب ، وهوالجانب ؛ و «المضاجع» : جمع مضجع ، وهو محل النوم ، وإبعاد الجانب عن محلّ النوم كناية عن النهوض من النوم والتوجّه إلى عبادة الله في جوف الليل.

٣٣

قلوبهم ، فهم أحياء بذكره ، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.

ثم تضيف : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا).

وهنا تذكر الآية صفتين اخريين لهؤلاء هما : «الخوف» و «الرجاء» ، فلا يأمنون غضب الله عزوجل ، ولا ييأسون من رحمته ، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه ، والحاكم على وجودهم دائماً ، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط ، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة ، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.

وثامن صفاتهم ، وآخرها في الآية أنّهم : (وَمِمَّا رَزَقْنهُمْ يُنفِقُونَ).

فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب ، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري ، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.

ثم تطرقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين ، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهمية الفائقة لثوابهم : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

التعبير ب (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ) وكذلك التعبير ب (قُرَّةِ أَعْيُنٍ) مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر.

وفي حديث ـ رواه البخاري ومسلم جميعاً ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّ الله يقول : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر».

وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة ، فتقول : (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّايَسْتَوُونَ).

لقد جعل «الفاسق» في مقابل «المؤمن» في هذه الآية ، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاخرى.

وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلاً ، فتقول : (أَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى) (١). ثم تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها الله تعالى لاستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة : (نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

إنّ التعبير ب «نزلاً» ، والذي يقال عادةً للشيء الذي يهيّئونه لاستقبال وإكرام الضيف ، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يُستقبلون ويُخدمون دائماً.

__________________

(١) «المأوى» : من مادة «أوى» بمعنى إنضمام شيء إلى شيء آخر ، ثم قيلت للمكان والمسكن والمستقرّ.

٣٤

وتطرقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء ، فتقول : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَيهُمُ الْنَّارُ). فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث إنّهم : (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ).

مرّة اخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل «الكفر والتكذيب» ، والثواب والجزاء في مقابل «العمل» ، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده ، بل يجب أن يكون حافزاً وباعثاً على العمل ، إلّاأنّ الكفر كافٍ لوحده للعذاب ، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢٢)

عقوبات تربوية : بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين وعقابهم الأليم ، فإنّ الآيات مورد البحث تشير إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة ، وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ الله سبحانه لا يريد أن يبتلي عبداً بالعذاب الخالد أبداً ، ولذلك يستخدم كل وسائل التوعية لنجاته. تقول الآية : (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

من المسلّم أنّ «العذاب الأدنى» له معنىً واسع يتضمّن أغلب الاحتمالات التي كتبها المفسرون بصورة مفصلة :

فمن جملتها ، أنّ المراد المصائب والآلام والمشقّة ؛ أو القحط والجفاف الشديد الذي دام سبع سنين وابتلي به المشركون في مكة حتى اضطروا إلى أكل أجساد الموتى ؛ أو الضربة القاصمة التي نزلت عليهم في غزوة بدر ، وأمثال ذلك.

وأمّا «العذاب الأكبر» فيعني عذاب يوم القيامة الذي يفوق كل عذاب حجماً وألماً.

ولما لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه ، حتى العذاب الإلهي ، لم يبق طريق إلّا انتقام الله من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس ، وكذلك تقول الآية التالية : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ).

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢٥)

٣٥

شرط الإمامة ، الصبر والإيمان : تشير الآيات مورد البحث إشارة قصيرة إلى قصة «موسى عليه‌السلام» وبني إسرائيل لتسلّي نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الأوائل وتطيّب خواطرهم ، وتدعوهم إلى الصبر والتحمّل والثبات أمام تكذيب وإنكار المشركين التي اشير إليها في الآيات السابقة. تقول الآية أوّلاً : (وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ فَلَا تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ). أي : فلا تشكّ أو تتردّد في أنّ «موسى» قد تلقّى آيات الله ، وقد جعلنا كتاب موسى «التوراة» وسيلة لهداية بني إسرائيل (وَجَعَلْنهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ).

ثم تشير الآية التالية إلى الأوسمة والمفاخر التي حصل عليها بنو إسرائيل في ظلّ الإستقامة والإيمان لتكون درساً للآخرين ، فتقول : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بَايَاتِنَا يُوقِنُونَ).

لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة : أحدهما : الإيمان واليقين بآيات الله عزوجل ؛ والثاني : الصبر والإستقامة والصمود.

ولمّا كان بنو إسرائيل ـ كسائر الامم ـ قد اختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة الحقيقيين ، وسلكوا مسالك مختلفة ، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

أجل ... إنّ مصدر ومنبع الاختلاف دائماً هو مزج الحق بالأهواء والميول ، ولما كانت القيامة يوماً لا معنى فيه للأهواء والميول ، حيث تمحى ويتجلّى الحق بأجلى صوره ، فهناك ينهي الله سبحانه الاختلافات بأمره ، وهذه أيضاً إحدى فلسفات المعاد.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠)

يوم إنتصارنا : كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفار ، وتقول الآية الاولى من الآيات مورد البحث إكمالاً لهذا التهديد : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ

٣٦

الْقُرُونِ). فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار اولئك الأقوام الذين هلكوا من قبلهم (يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ).

تقع مساكن «عاد» و «ثمود» المدمّرة ، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام ، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لبيوت هؤلاء وقصورهم المتهدمة مئة لسان ، وتبيّن لهم وتحدثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط ، ولذلك تضيف الآية في النهاية : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ).

وتشير الآية التالية إلى أحد أهم النعم الإلهية التي هي أساس عمران كل البلدان ، ووسيلة حياة كل الكائنات الحية ، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالين المجرمين ، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميتة ، ومنح عباده كل نوع من المواهب ، فتقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ).

«الجُرُز» : تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ.

ولما كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالإنتقام ، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر ، فإنّ الكفار يطرحون هذا السؤال غروراً واستكباراً وتعلّلاً بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقق ، كما يذكر القرآن ذلك : (وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ).

فيجيبهم القرآن مباشرةً ، ويأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَايَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ). أي : إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النبي لتؤمنوا ، فإنّ الوقت قد فاتكم ، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً.

والمراد من «يوم الفتح» يوم نزول «عذاب الإستئصال» ؛ أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين ، ولا يدع لهم فرصة الإيمان. وبتعبير آخر : فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي ، الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجة.

وأخيراً تنهي الآية الأخيرة هذه السورة ـ سورة السجدة ـ بتهديد بليغ عميق المعنى ، فتقول : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ).

الآن ، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار ، فأعرض عنهم ، وانتظر رحمة الله سبحانه ، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقون سواه.

نهاية تفسير سورة السجدة

* * *

٣٧
٣٨

٣٣

سورة الأحزاب

محتوى السورة : إنّ هذه السورة من أغنى سور القرآن المجيد وأجناها ثماراً ، وتتابع وتبحث مسائل متنوعة وكثيرة جدّاً في باب اصول الإسلام وفروعه.

ويمكن تقسيم الأبحاث التي وردت في هذه السورة إلى سبعة أقسام :

١ ـ بداية السورة التي تدعو الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى طاعة الله وترك اتّباع الكافرين ومقترحات المنافقين.

٢ ـ أشار إلى بعض خرافات زمان الجاهلية ، كالظهار ، وكذلك مسألة التبنّي ، وأكّدت على بطلانها ، وحصرت العلاقات والروابط العائلية والسببية بالروابط الواقعية والطبيعية.

٣ ـ وهو أهم أقسام هذه السورة ، ويرتبط بمعركة «الأحزاب» وحوادثها المرعبة ، وإنتصار المسلمين المعجز على الكفار.

٤ ـ يرتبط بزوجات النبي ، حيث يجب أن يكنّ اسوة وانموذجاً أسمى لكل نساء المسلمين ، ويصدّر لهن في هذا الباب أوامر مهمة.

٥ ـ يتطرق إلى قصة «زينب بنت جحش» التي كانت يوماً زوجة لزيد ، وهو ابن النبي بالتبنّي ، وافترقت عنه ، فتزوّجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله سبحانه.

٣٩

٦ ـ يتحدث عن مسألة الحجاب ، والتي ترتبط بالبحوث السابقة ، ويوصي كل النساء المؤمنات بمراعاة هذا القانون الإسلامي.

٧ ـ يشير إلى مسألة المعاد المهمة ، وطريق النجاة في ذلك الموقف العظيم ، وكذلك يشرح مسألة أمانة الإنسان العظمى ، أي مسألة التعهد والتكليف والمسؤولية.

لما كان جزء مهم من هذه السورة يتحدث عن أحداث غزوة الأحزاب (الخندق) فإنّ هذا الإسم قد اختير لها.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ومن قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله ، وما ملكت يمينه ، اعطي الأمان من عذاب القبر».

وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّد وآله وأزواجه».

إنّ هذه الفضائل لا تُنال بالتلاوة الخالية من الروح ، بل التلاوة التي تكون مبدأً للتفكر الذي يضيء آفاق الإنسان يظهر آثاره في أعماله وسلوكه.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : إنّ هذه الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي أعور السلمي ، قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن ابي بعد غزوة احد بأمان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكلّموه فقاموا وقام معهم عبدالله بن ابي وعبد الله بن أبي سرح وطعمة بن ابيرق فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمّد! ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات ، وقل إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك. فشقّ ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عمر بن الخطاب : ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم؟ فقال : «إنّي أعطيتهم الأمان». وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله فاخرجوا من المدينة ونزلت الآية : (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ) وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه الإقتراحات.

٤٠