مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

وخاصّة في شأن النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت هذه التصورات والذنوب التي وصموها به كثيرة ، إذ عدّوه باغياً للحرب والقتال ومثيراً لنار الفتنة معتداً بنفسه لا يقبل التفاهم وما إلى ذلك.

وقد كشف صلح الحديبية أنّ مذهبه على خلاف ما يزعمه أعداؤه إذ كان مذهباً «تقدّمياً» إلهيّاً ..

فهو يحترم كعبة الله وبيته العتيق ولا يهاجم أية جماعة أو قبيلة دون سبب ، ويدعو جميع الناس بحقّ إلى محبوبهم «الله» وإذا لم يضطره أعداؤه إلى الحرب فهو داعية للسلام والصلح والدعة ...

وعلى هذا فقد غسل صلح الحديبية جميع الذنوب التي كانت قبل الهجرة وبعد الهجرة قد نسبت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو جميع الذنوب التي نسبت إليه قبل هذا الحادث أو ستنسب إليه في المستقبل احتمالاً ... وحيث إنّ الله جعل هذا الفتح نصيب النبي فيمكن أن يقال أنّ الله غفر للنبي ذنوبه جميعاً.

والنتيجة أنّ هذه الذنوب لم تكون ذنوباً حقيقية أو واقعية بل كانت ذنوباً تصورية وفي أفكار الناس وظنّهم فحسب ، وكما نقرأ في الآية (١٤) من سورة الشعراء في قصة موسى قوله مخاطباً ربّه : (وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ). في حين أنّ ذنبه لم يكن سوى نصرة المظلوم من بني إسرائيل وسحق ظلم الفراعنة لا غير.

وبديهي أنّ هذا الفعل لا يعدّ ذنباً ، بل دفاع عن المظلومين ولكنّه كان يعدّ ذنباً في نظر الفراعنة وأتباعهم.

وبتعبير آخر : أنّ «الذنب» في اللغة يعني الآثار السيّئة والتبعات التي تنتج عن العمل غير المطلوب ، فكان ظهور الإسلام في البداية تدميراً لحياة المشركين ، غير أنّ إنتصاراته المتلاحقة والمتتابعة كانت سبباً لنسيان تلك التبعات.

وهكذا بالنسبة لمشركي مكة سواءً قبل هجرة النبي أم بعدها إذ كانت أفكارهم وأذهانهم مبلبلة عن الإسلام وشخص النبي بالذات ، غير أنّ إنتصارات الإسلام أزالت هذه التصورات والأفكار.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٤)

٥٠١

نزول السكينة على قلوب المؤمنين : ما قرأناه في الآيات السابقة هو ما أعطاه الله من مواهب عظيمة لنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالفتح المبين «صلح الحديبية» ، أمّا في الآية أعلاه فالكلام عن الموهبة العظيمة التي تلطف الله بها على جميع المؤمنين ، إذ تقول الآية : (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ).

ولم لا تنزل السكينة والاطمئنان على قلوب المؤمنين : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

«السكينة» : في الأصل مشتقة من «السكون» ، ومعناها الاطمئنان والدعة وما يزيل كل أنواع الشك والتردّد والوحشة من الإنسان ويجعله ثابت القدم في طوفان الحوادث.

وهذه السكينة يمكن أن يكون لها جانب عقائدي فيزيل ضعف تزلزل العقيدة أو يكون لها جانب عملي بحيث يهب الإنسان ثبات القدم والمقاومة والاستقامة والصبر.

وتعبيرات الآية نفسها تتناسب مع استعمال السكينة في معناها الأوّل أكثر.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٧)

نتيجة اخرى من الفتح المبين : في روح المعاني عن أنس قال : أنزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليغفر لك الله من ذنبك وما تأخر في مرجعه من الحديبية فقال : «لقد أنزلت على آية هي أحبّ إليّ ممّا على الأرض». ثم قرأها عليهم فقالوا : هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله تعالى لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت (لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) حتى بلغ (فَوْزًا عَظِيمًا).

إنّ هذه الآيات تتحدث عن علاقة صلح الحديبية وآثاره وردّ الفعل المختلف في أفكار الناس ونتائجه المثمرة ، وكذلك عاقبة كل من الفريقين اللذين امتحنا في هذه «البوتقة» والمختبر. فتقول الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث : (لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ

٥٠٢

جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا). فلا تُسلب هذه النعمة الكبرى عنهم أبداً ..

وإضافة إلى ذلك فإنّ الله يعفو عنهم (وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذلِكَ عِندَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا).

وبهذا فإنّ الله قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيّه في فتحه المبين من المواهب الأربعة موهبتين عظيمتين هما : «الجنة خالدين فيها» و «التكفير عن سيّئاتهم» بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم ومجموع هذه المواهب الثلاث يعدّ فوزاً عظيماً لأولئك الذين خرجوا من الإمتحان بنجاح وسلامة.

غير أنّ إزاء هذه الجماعة ، جماعة المنافقين والمشركين الذين تتحدث الآية التالية عن عاقبتهم بهذا الوصف فتقول : (وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ).

أجل ، لقد ظنّ المنافقون حين تحرّك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه المؤمنون من المدينة أن لا يعودوا نحوها سالمين.

ثم يفصّل القرآن ببيان عذاب هؤلاء وعقابهم ويجعله تحت عناوين أربعة فيقول أوّلاً : (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ). «الدائرة» : في اللغة هي الحوادث وما ينجم عنها أو ما يتّفق للإنسان في حياته ، فهي أعم من أن تكون حسنةً أو سيّئة غير أنّها هنا بقرينة كلمة «السوء» يراد منها الحوادث غير المطلوبة.

وثانياً : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

وثالثاً : (وَلَعَنَهُمْ).

ورابعاً : فإنّه بالمرصاد (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة اخرى إلى عظمة قدرة الله فتقول الآية : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).

وممّا يستلفت النظر أنّ القرآن حين يذكر المؤمنين يصف الله بالعلم والحكمة ، وهما يناسبان مقام الرحمة ، ولكنّه حين يذكر المنافقين والمشركين يصف الله بالعزة والحكمة ، وهما يناسبان العذاب.

ما المراد من جنود السماوات والأرض : هذا التعبير له معنى واسع حيث يشمل الملائكة «وهي من جنود السماء» كما يشمل جنوداً اخر كالصواعق والزلازل والطوفانات والسيول والأمواج والقوى الغيبية غير المرئية التي لا نعرف عنها شيئاً .. لأنّ جميع هذه الأشياء هي جنود الله وهي مطيعة لأوامره.

٥٠٣

(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١٠)

مكانة النبي وواجب الناس تجاهه : قلنا إنّ بعض الجهلاء اعترضوا بشدة على صلح الحديبية وحتى أنّ بعض تعبيراتهم لم تخل من عدم الإحترام بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان مجموع هذه الامور يستوجب أن يؤكّد القرآن مرّةً اخرى على عظمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجلالة قدره. لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات أعلاه تخاطب النبي فتقول : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وُمَبشّرًا وَنَذِيرًا).

«شاهداً» على جميع الامّة الإسلامية ، بل هو شاهد على جميع الأمم.

وفي الآية التالية خمسة أوامر مهمة ، هي بمثابة الهدف من سمات النبي المذكورة آنفاً : وتشكل أمرين في طاعة الله وتسبيحه وتقديره ، وثلاثة أوامر منها في «طاعة» رسوله و «الدفاع عنه» و «تعظيم مقامه». إذ تقول الآية : (لّتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

«تعزّروه» : من مادة «تعزير» ، وهو في الأصل يعني «المنع» ثم توسّعوا فيه فأطلق على كل دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه كما يطلق على بعض العقوبات المانعة عن الذنب «التعزير أيضاً» ؛ و «توقّروه» : مشتقة من مادة «توقير» ، وجذورها «الوقر» ومعناها الثِقَل .. فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم.

وطبقاً لهذا التفسير فإنّ الضميرين في «تعزّروه» و «توقّروه» يعودان على شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والهدف من ذلك هو الدفاع عنه بوجه أعدائه وتعظيمه واحترامه.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة «بيعة الرضوان» وقد جاء التفصيل عنها في الآية (١٨) من السورة ذاتها.

إنّ القرآن يتحدث عن مبايعة المسلمين في الآية محل البحث فيقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).

٥٠٤

و «البيعة» : معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته ، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك «القائد» المبايَع.

وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم «بعضهم إلى بعض» عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي و «المصافحة» فقد أطلقت كلمة «البيعة» على هذه العقود والعهود أيضاً. وخاصةً أنّهم عند «البيعة» كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له.

وعلى هذا يتّضح معنى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) .. إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النبي هي بيعة الله ، فكأنّ الله قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النبي فحسب بل يبايعون الله ، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية.

ثم يضيف القرآن الكريم قائلاً : (فَمَنْ نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

«نكث» : مشتقة من «نكْث» ومعناها الفتح والبسط ثم استعملت في نقض العهد.

والقرآن في هذه الآية يُنذر جميع المبايعين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ يثبتوا على عهدهم وبيعتهم فمن ثبت على العهد فسيؤتيه الله أجراً عظيماً ومن نَكث فإنّما يعود ضرره عليه ولا ينال الله ضرره أبداً ..

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٤)

٥٠٥

المخلفين : هذه الآيات تبيّن حالة المخلّفين ضعاف الإيمان بعد أن بيّنت الآيات السابقة حال المنافقين والمشركين لتتمّ حلقات البحث ويرتبط بعضها ببعض. تقول هذه الآيات : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ).

إنّهم لم يكونوا صادقين حتى في توبتهم.

فأبلغهم يا رسول و (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مّنَ اللهِ شَيًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا).

أجلْ (بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

وهو يعلم جيداً أنّ هذه الحيل والحجج الواهية لا صحة لها ولا واقعيّة ..

ومن أجل أن ينجلي الأمر ويتّضح الواقع أكثر يميط القرآن جيمع الأستار فيقول : (بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا).

أجلْ ، إنّ السبب في عدم مشاركتكم النبي وأصحابه في هذا السفر التاريخي لم يكن هو كما زعمتم ـ انشغالكم بأموالكم وأهليكم ـ بل العامل الأساس هو سوء ظنّكم بالله ، وكنتم تتصوّرون خطأً أنّ هذا السفر هو السفر الأخير للنّبي وأصحابه وينبغي الاجتناب عنه.

وما ذلك إلّاما وسوست به أنفسكم (وَزُيّنَ ذلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ).

لأنّكم تخيّلتم أنّ الله أرسل نبيّه في هذا السفر وأودعه في قبضة أعدائه ولن يخلصه ويحميه عنهم ، (وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا) ـ أي هالكين ـ في نهاية الأمر.

وأي هلاك أشدّ وأسوأ من عدم مشاركتهم في هذا السفر التاريخي وبيعة الرضوان وحرمانهم من المفاخر الاخر .. ثم الفضيحة الكبرى .. وبعد هذا كلّه ينتظرهم العذاب الشديد في الآخرة ، أجل لقد كان لكم قلوب ميتة فابتليتم بمثل هذه العاقبة.

وحيث أنّ هذه الأخطاء مصدرها عدم الإيمان فإنّ القرآن يصرّح في الآية التالية قائلاً : (وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا). «السعير» : معناه اللهيب.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن ومن أجل أن يثبت قدرة الله على معاقبة الكفار والمنافقين : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).

٥٠٦

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً) (١٧)

المخلّفون الانتهازيون : يعتقد أغلب المفسرين أنّ هذه الآيات ناظرة إلى «فتح خيبر» الذي كان في بداية السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبية. وتوضيح ذلك أنّه طبقاً للروايات حين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعود من الحديبية بشّر المسلمين المشتركين بالحديبية ـ بأمر الله ـ بفتح خيبر ، وصرّح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبية من المسلمين فحسب ، وأنّ الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلّفين منها شيء أبداً.

إلّا أنّ عبيد الدنيا الجبناء لما فهموا من القرائن أنّ النبي سينتصر في المعركة المقبلة قطعاً ـ وأنّه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام ـ أفادوا من الفرصة ، فجاؤوا إلى النبي وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك في حرب خيبر ، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفاً وأنّها كشفت حقيقتهم من قبل كما نقرأ ذلك في الآية الاولى من الآيات محل البحث ـ : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ).

إنّ القرآن الكريم يقول رداً على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفُرص : (يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُوا كَلمَ اللهِ). ثم يضيف قائلاً للنبي : (قُل لَّن تَتَّبِعُونَا).

وليس هذا هو كلامي بل (كَذلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ) وأخبرنا عن مستقبلكم أيضاً.

إنّ أمر الله أن تكون غنائم خيبر خاصة بأهل الحديبية ولن يشاركهم في ذلك أحد. لكن هؤلاء المخلّفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النبي ومن معه بالحسد كما صرّح القرآن بذلك : (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا).

٥٠٧

وهكذا فإنّهم بهذا القول يكذّبون حتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعدّون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.

وفي ذيل الآية يصرّح القرآن عن حالهم فيقول : (بَلْ كَانُوا لَايَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

أجل إنّ أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم ، فالجهل ملازم لهم أبداً ، جهلهم بالله سبحانه وعدم معرفة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجهلهم عن مصير الإنسان وعدم توجّههم إلى أنّ الثروة في الدنيا لا قرار فيها ، فهي زائلة لا محالة.

واستكمالاً لهذا البحث فإنّ الآية التالية تقترح على المخلّفين عن الحديبية اقتراحاً وتفتح عليهم باب العودة فتقول : (قُلْ لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

فينبغي أن تؤدّوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تُسهموا فيها مرّةً اخرى ، وإلّا فإنّ إجتناب الميادين الصعبة ، والمساهمة في الغنائم وميادين الراحة غير مقبول.

ومن هم هؤلاء القوم المعبّر عنهم ب «أولي بأس شديد» في الآية وأي جماعة هم؟!

نقول : جملة (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) تدلّ على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، لأنّ أهل الكتاب لا يُجبرون على قبول الإسلام ، بل يُخيّرون بين قبوله أو دفع الجزية والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمة.

وإنّما الذين لا يُقبل منهم إلّاالإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب ، لأنّ الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام ديناً ويرى أنّه لابدّ من إجبار الناس على ترك عبادتها.

ومع الإلتفات إلى أنّه لم تقع معركة مهمة في عصر النبي بعد حادثة الحديبية مع المشركين سوى فتح مكة وغزوة حنين ، فيمكن أن تكون الآية المتقدمة إشارة إلى ذلك وخاصة غزوة حنين لأنّها اشترك فيها أولو بأس شديد من «هوازن» و «بني سعد».

الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تبيّن أعذارهم وخاصة أنّ بعض المفسّرين قالوا إنّ جماعة من المعوّقين جاؤوا إلى النبي بعد نزول الآية وتهديدها للمخلّفين بقولها «يعذّبكم عذاباً أليماً» ، فقالوا : يا رسول الله ، ما هي مسؤوليتنا في هذا الموقع؟ فنزل قوله تعالى : (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).

وليس الجهاد وحده مشروطاً بالقدرة ، فجميع التكاليف الإلهية هي سلسلة من

٥٠٨

الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة ، وكثيراً ما أشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى.

وبالطبع فإنّ هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد ، إلّاأنّ عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدّم الأهداف الإلهية.

ولعل الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضاً إلى هذا المعنى فتقول : (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارِ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا).

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٩)

رضي الله عن المشتركين في بيعة الرضوان : ذكرنا آنفاً أنّه في الحديبية جرى حوار بين ممثلي قريش والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان من ضمن السفراء عثمان بن عفان الذي تشدّه أواصر القربى بأبي سفيان ، ولعل هذه العلاقة كان لها أثر في انتخابه ممثلاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ، معظماً لحرمته فاحتبسته قريش عندها. فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين أنّ عثمان قد قُتل. فقال : «لا نبرح حتى نناجز القوم». ودعا الناس إلى البيعة فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الشجرة فاستند إليها وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا (١).

فبلغ صدى هذه البيعة مكة واضطربت قريش من ذلك بشدة واطلقوا عثمان.

وكما نعرف فإنّ هذه البيعة عرفت ببيعة الرضوان وقد أفزعت المشركين وكانت منعطفاً في تاريخ الإسلام. فالآيتان محل البحث تتحدّثان عن هذه القصّة فتقول الاولى : (لَّقَدْ رَضِىَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).

والهدف من هذه البيعة الإنسجام أكثر فأكثر بين القوى وتقوية المعنويات وتجديد التعبئة العسكرية ومعرفة الأفكار واختبار ميزان التضحية من قبل المخلصين الأوفياء.

فأعطى الله هؤلاء المؤمنين المضحّين والمؤثرين على أنفسهم نفس رسول الله في هذه

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٩ / ١٩٤.

٥٠٩

اللحظة الحسّاسة والذين بايعوه تحت الشجرة أعطاهم أربعة أجور ، ومن أهمّ تلك الأجور والاثابات الأجر العظيم وهو «رضوانه» كما عبّرت عنه الآية (٧٢) من سورة التوبة : (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) .. أيضاً.

ثم تضيف الآية قائلة : (فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ).

سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما ، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح ، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة».

وهذا هو الأجر الثاني والموهبة الإلهية الاخرى.

وفي ذيل هذه الآية إشارة إلى الأجر الثالث إذ تقول الآية : (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا).

هذا الفتح هو فتح خيبر كما يقول أغلب المفسرين.

والتعبير ب «قريباً» تأييد على أنّ المراد منه «فتح خيبر».

والأجر الرّابع أو النعمة الرابعة التي كانت على أثر بيعة الرضوان من نصيب المسلمين كما تقول الآية التالية هي : (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا).

وحيث إنّ على المسلمين أن يطمئنوا بهذا الوعد الإلهي اطمئناناً كاملاً فإنّ الآية تضيف في الختام : (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).

فإذا ما أمركم في الحديبية أن تصالحوا فإنّما هو على أساس من حكمته ، حكمة كشف عن إسرارها الأستار مضي الزمن ، وإذا ما وعدكم بالفتح القريب والغنائم الكثيرة فهو قادر على أن يُلبس وعده ثياب الإنجاز والتحقّق.

وهكذا فإنّ المسلمين المضحّين الأوفياء أولي الإيمان والإيثار اكتسبوا في ظل بيعة الرضوان في تلك اللحظات الحسّاسة انتصاراً في الدنيا والآخرة ، في حين أنّ المنافقين الجهلة وضعاف الإيمان احترقوا بنار الحسرات.

بحث

البيعة وخصوصيّاتها : «البيعة» من مادة «بيع» وهي في الأصل إعطاء اليد عند إقرار المعاملة. ثم أطلق هذا التعبير على مدّ اليد على المعاهدة.

وتدلّ القرائن على أنّ البيعة ليست من إبداعات المسلمين ، بل هي سنّة متّبعة بين العرب قبل الإسلام ، ولهذا السبب فإنّ طائفة من «الأوس» و «الخزرج» جاؤوا في بداية الإسلام

٥١٠

خلال موسم الحج من المدينة إلى مكة وبايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العقبة ، وكان تعاملهم في قضية البيعة يوحي بأنّها أمر معروف ، وبعدها وخلال فرص ومناسبات متعددة جدّد النبي البيعة مع المسلمين ، وكانت إحداها هذه البيعة التي عرفت ببيعة الرضوان في الحديبية ، وأوسع منها البيعة التي كانت عند فتح مكة ، وسيأتي شرحها في تفسير «سورة الممتحنة» بإذن الله.

ولكن كيف تتم البيعة؟! .. بصورة عامة تتمّ البيعة كما يلي :

يمدّ المبايع يده إلى يد المبايَع ويبدي الطاعة والوفاء بلسان الحال أو المقال .. وربّما ذكر شروطاً أو حدوداً لبيعته كأن يعقد البيعة على بذل ماله! أو بذل روحه أو بذل جميع الأشياء حتى الولد والمرأة.

وكان النبي الكريم يقبل بيعة النساء أيضاً لكن لا على أن يمددن أيديهنّ إلى يده الكريمة بل كان يأمر بإناء كبير فيه ماء فيدخل يده في طرف منه وتدخل يدها في طرف آخر.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢١)

من بركات صلح الحديبية مرّةً اخرى : تتحدث هاتان الآيتان ـ كالآيات السابقة المتعلّقة بصلح الحديبية والوقائع التالية لها ـ عن البركات وما حصل عليه المسلمون من غنائم في هذا الطريق. فتقول الآية الاولى منهما : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ).

ويدلّ لحن الآية أنّ المراد من المغانم الكثيرة هنا جميع المغانم التي جعلها الله للمسلمين سواءً في أمد قصير أم بعيد.

ثم يشير القرآن إلى لطف آخر من ألطاف الله على المسلمين ـ في هذه الحادثة ـ فيقول : (وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ).

وهذا لطف كبير أن يكون المسلمون على قلة العَدد والعُدد وفي نقطة نائية عن الوطن وفي مقربة من العدو ـ في مأمن منه وأن يلقي الله رعباً ووحشة منهم في قلوب الأعداء بحيث يخشون التحرش بهم.

٥١١

ثم يضيف القرآن في تكملة الآية مشيراً إلى نعمتين كُبريين اخريين من مواهب الله ونعمه إذ يقول : (وَلِتَكُونَءَايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا).

وفي الآية التالية أعطى الله بشارةً اخرى للمسلمين إذ قال : (وَأُخْرَى لمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرًا).

إنّ هذا الوعد إشارة إلى فتح مكة وغنائم حنين.

أو إشارة إلى الفتوحات والغنائم التي كانت نصيب المسلمين بعد النبي (كفتح فارس والروم ومصر) ، كما يحتمل أيضاً أنّه إشارة لجميع ما تقدّم ذكره.

فإنّ الآية من إخبار القرآن بالمغيّبات والحوادث الآتية ، وقد حدثت هذه الفتوحات في مدّة قصيرة وكشفت عن عظمة هذه الآيات بجلاء.

(وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (٢٥)

هذه الآيات تتحدث أيضاً عن أبعاد اخر لما جرى في الحديبية وتشير إلى «لطيفتين» مهمّتين في هذا الشأن.

الاولى : هي أنّه لا تتصوروا أنّه لو وقعت الحرب بينكم وبين مشركي مكة في الحديبية لانتصر المشركون والكفرة. (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).

وليس هذا منحصراً بكم بل : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). فهذا هو قانون إلهي دائم ، فمتى واجه المؤمنون العدوّ بنيّات خالصة وقلوب طاهرة ولم يضعفوا في أمر الجهاد نصرهم الله على عدوّهم.

٥١٢

واللطيفة الاخرى التي بيّنتها هذه الآيات أنّها قالت : (وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا).

حقاً .. كان ما حدث مصداقاً جليّاً «للفتح المبين» ونعم ما اختاره القرآن له من وصف ، فالعدوّ الذي زحف بجيشه مراراً نحو المدينة وسعى سعياً عجيباً لإيقاع الهزيمة بالمسلمين ، إلّا أنّه الآن حيث حطّوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه الرعب منهم حتى أنّه يقترح الصلح معهم.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى لطيفة اخرى تتعلّق بمسألة صلح الحديبية وحكمتها ، إذ تقول الآية : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) (١).

كان أحد ذنوبهم كفرهم ، والذنب الآخر صدّهم إيّاكم عن العُمرة زيارة بيت الله ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله ، أي مكة.

ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلّطكم الله عليهم لتعاقبوهم بشدة ، لكنّ الله تعالى لم يفعل ذلك فلماذا؟! ذيل الآية يبيّن السبب بوضوح إذ يقول : (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة.

«المعرّة» : من مادة «عرّ» على زنة «شرّ» (والعرّ على زنة الحر) في الأصل معناه مرض الجرب وهو من الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان أحياناً ثم توسّعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ على كل ضرر يصيب الإنسان.

ولإكمال الموضوع تضيف الآية : (لّيُدْخِلَ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ).

أجل ، كان الله يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل مكة أن تشملهم الرحمة ولا تنالهم أيّة صدمة ..

ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

أي : لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكة ولم يكن هناك خطر على المؤمنين لعذّبنا الكفار بأيديكم عذاباً أليماً.

__________________

(١) «معكوفاً» : مشتق من «العكوف» ، ومعناها المنع عن الحركة والبقاء في المكان.

٥١٣

صحيح أنّ الله قادر على أن يفصل هذه الجماعة عن الآخرين عن طريق الإعجاز ، ولكن سنّة الله ـ في ما عدا الموارد الاستثنائية ـ أن تكون الامور وفقاً للأسباب العادية.

«تزيلوا» : من مادة «زوال» ، وهنا معناها الإنفصال والتفرّق.

ويستفاد من روايات متعدّدة منقولة عن طرق الشيعة والسنّة حول ذيل هذه الآية أنّ المراد منها أفراد مؤمنون كانوا في أصلاب الكافرين والله سبحانه لأجل هؤلاء لم يعذّب الكافرين ..

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦)

التعصب وحمية الجاهلية أكبر سدّ في طريق الكفار : هذه الآية تتحدث مرّة اخرى عن (مجريات) الحديبية وتجسّم ميادين اخرى من قضيتها العظمى ... فتشير أوّلاً إلى واحد من أهم العوامل التي تمنع الكفار من الإيمان بالله ورسوله والإذعان والتسليم للحق والعدالة فتقول : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ).

ولذلك منعوا النبي والمؤمنين أن يدخلوا بيت الله ويؤدّوا مناسكهم وينحروا «الهدي» في مكة. وقالوا : لو دخل هؤلاء ـ الذين قتلوا آباءنا وإخواننا في الحرب ـ أرضنا وديارنا وعادوا سالمين فما عسى أن تقول العرب فينا؟! وأية حيثية واعتبار لنا بعد هذا؟

فهؤلاء ـ بهذا العمل ـ هتكوا حرمة بيت الله والحرم الآمن من جهة ، وخالفوا سننهم وعاداتهم من جهة اخرى ، كما أسدلوا ستاراً بينهم وبين الحقيقة أيضاً.

«الحمية» : في الأصل من مادة حَمي ـ على وزن حمد ـ ومعناها حرارة الشمس أو النار التي تصيب جسم الإنسان وما شاكله ، ومن هنا سمّيت الحُمّى التي تصيب الإنسان بهذا الاسم ؛ «حُمّى» على وزن كبرى ، ويقال لحالة الغضب أو النخوة أو التعصب المقرون بالغضب حمية أيضاً.

ثم تضيف الآية الكريمة ـ وفي قبال ذلك ـ : (فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

٥١٤

هذه السكينة التي هي وليدة الإيمان والإعتقاد بالله والإعتماد على لطفه دعتهم إلى الإطمئنان وضبط النفس وأطفأت لهب غضبهم حتى أنّهم قبلوا ـ ومن أجل أن يحفظوا ويرعوا أهدافهم الكبرى ـ بحذف جملة «بسم الله الرحمن الرحيم» التي هي رمز الإسلام في بداية الأعمال وأن يثبتوا ـ مكانها «بسمك اللهم» التي هي من موروثات العرب السابقين ـ في أوّل المعاهدة وحذفوا حتى لقب «رسول الله» الذي يلي اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقبلوا بالعودة إلى المدينة من الحديبية دون أن يستجيبوا لهوى عشقهم بالبيت ويؤدّوا مناسك العمرة ، ونحروا هديهم خلافاً للسنّة التي في الحج أو العمرة في المكان ذاته وأحلّوا من احرامهم دون أداء المناسك ..

أجل ، لقد رضوا بمرارة أن يصبروا إزاء كل المشاكل الصعبة ، ولو كانت فيهم حميّة الجاهلية لكان واحد من هذه الامور الآنفة كفيلاً أن يشعل الحرب بينهم في تلك الأرض.

ثم يضيف القرآن في هذا الصدد قائلاً : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا).

«كلمة» : هنا بمعنى «روح» ، ومعنى الآية أنّ الله ألقى روح التقوى في قلوب أولئك المؤمنين وجعلها ملازمة لهم ومعهم.

وتختتم الآية بقوله سبحانه : (وَكَانَ اللهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمًا). فهو سبحانه يعرف نيّات الكفار السيئة ويعرف طهارة قلوب المؤمنين أيضاً فينزل السكينة والتقوى عليهم هنا.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٢٧)

رؤيا النبي الصادقة : هذه الآية ـ أيضاً ـ ترسم جانباً آخر من جوانب قصة الحديبية المهمّة ، والقصّة كانت على النحو التالي :

رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة رؤيا أنّه يدخل مكة مع أصحابه لأداء مناسك العمرة ، فحدّث أصحابه عن رؤياه فسُرّوا جميعاً ، غير أنّه لمّا كان جماعة من أصحابه يتصورون أنّ تعبير الرؤيا سيتحقق في تلك السنة ذاتها ومنعهم المشركون من الدخول إلى مكة أصابهم الشك والتردد ... ترى هل من الممكن أن تكون رؤيا النبي غير صادقة؟

٥١٥

فكان جواب النبي لهم : هل قلت لكم أنّ هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟!

فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنبي عائد من الحديبية إلى المدينة وأكّدت أنّ هذه الرؤيا كانت صادقة ولابدّ أنّها كائنة ... تقول الآية : (لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقّ). فما رآه النبي في المنام كان حقّاً وصدقاً.

ثم تضيف الآية قائلة : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُءَامِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا). وكان في هذا التأخير حكمةٌ : (فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا).

جملة (إِنْ شَاءَ اللهُ) هنا لعلها نوع من تعليم العباد لكي يعوّلوا على مشيئة الله عند الإخبار عن المستقبل وأن لا ينسوا إرادة الله ، وأن لا يجدوا أنفسهم غير محتاجين أو مستقلّين عنه.

التعبير ب (فَتْحًا قَرِيبًا) إشارة إلى «فتح خيبر» لأنّه كان «تحقّقه العيني» بعد هذه الرؤيا في فترة أقل زمناً من فتح مكة بعدها.

الآية محل البحث واحدة من المسائل الغيبية التي أخبر عنها القرآن ، وهي شاهد على أنّ هذا الكتاب سماوي وأنّه من معاجز النبي الكريم حيث يخبر قاطعاً عن أداء مناسك العمرة ودخول المسجد الحرام في المستقبل القريب وعن الفتح القريب قبله أيضاً ، وكما نعلم أنّ هذين التنبّؤين قد حدثا فعلاً.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩)

في هاتين الآيتين اللتين بهما تنتهي سورة الفتح إشارة إلى مسألتين مهمّتين من «الفتح المبين» أي «صلح الحديبية» : احداهما تتعلّق بعالمية الإسلام والثانية تتعلق بأوصاف

٥١٦

أصحاب النبي وخصائصهم وما وعدهم الله سبحانه به. فالاولى منهما تقول : (هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ وعَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا).

وهذا وعد صريح وقاطع من الله سبحانه في غلبة الإسلام وظهوره على سائر الأديان.

أي لا تعجبوا لو أخبركم الله عن طريق رؤيا نبيّه محمّد بالإنتصار وأن تدخلوا المسجد الحرام بمنتهى الأمان وتؤدّوا مناسك العمرة دون أن يجرؤ أحد على إيذائكم ، كما لا تعجبوا أن يبشّركم الله بالفتح القريب ـ فتح خيبر «فأوّل الغيث قطرة وسيكون الإسلام باسطاً ظلاله في أرجاء المعمورة ويظهر على جميع الأديان ...

والمراد ب «الظهور على الدين كلّه» ، أهو الظهور المنطقي ، أم الظهور (والغلبة) العسكريان؟!

إنّ كلمة «يظهر» دليل على الغلبة الخارجية ... ولهذا يمكن القول أنّه بالإضافة إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليارد نسمة فإنّه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة «رسميّاً» وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهدي (عج) إن شاء الله.

وفي آخر آية وصف بليغ لأصحاب النبي الخاصين والذين كانوا على منهاجه على لسان التوراة والإنجيل وهو مدعاة افتخار لهم إذ أبدوا شهامتهم ورُجولتهم في الحديبية والمراحل الاخر كما أنّه درس اختبار لجميع المسلمين على مدى القرون والأعصار ...

فتقول الآية في البداية : (مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ).

ثم تصف الآية أصحابه وخلالهم (وسجاياهم) الباطنية والظاهرية ضمن خمس صفات إذ تقول في وصفهم : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ).

وصفتهم الثانية أنّهم : (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).

وفي الحقيقة أنّ عواطفهم وأفكارهم تتلخّص في هاتين الخصلتين : «الرحمة» و «الشدة ... لكن لا تضادّ في الجمع بينهما أوّلاً ، ولا رحمتهم فيما بينهم وشدّتهم على الكفار تقتضي أن تحيد أقدامهم عن جادّة الحق ثانياً ...

ثم تضيف الآية مبيّنة وصفهم الثالث فتقول : (تَرَيهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا).

هذا التعبير يجسد العبادة بركنيها الأساسيين : «الركوع والسجود على أنّها حالة دائمية لهم ، العبادة التي هي رمز للتسليم أمام أمر الله الحق ، ونفي الكبر والغرور والأنانية عن وجودهم.

٥١٧

أمّا الوصف الرابع الذي تذكره الآية عن هؤلاء الأصحاب فهو بيان نيّتهم الخالصة الطاهرة فتقول : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا). فهم لا يعملون رياءً ولا يبتغون من الخلق الثواب ، بل هدفهم رضا الله وفضله فحسب.

أمّا الوصف الخامس فهو عن سيماهم المشرق إذ تقول الآية : (سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

إنّ القرآن يضيف بعد بيان هذه الأوصاف : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَيةِ).

فهذه حقيقة مقولة قبلاً وأوصاف وردت في كتاب سماوي نزل منذ أكثر من ألفي عام ...

ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ التعبير ب (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يحكي عن معيّة النبي في كل شيء ، في الفكر والعقيدة والأخلاق والعمل لا عن أولئك الذين كانوا في عصره ـ وإن اختلفوا وإيّاه في المنهج.

ثم يتحدّث القرآن عن وصفهم في كتاب سماوي كبير آخر وهو الإنجيل فيقول : (وَمَثَلُهُمْ فِى الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَهُ فَازَرَهُ وفَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ).

وفي الحقيقة إنّ أوصافهم المذكورة في «التوراة» تتحدث عن أبعاد وجودهم من جهة العواطف والأهداف والأعمال وصورتهم الظاهرية ...

وأمّا الأوصاف الواردة في «الإنجيل» فهي تتحدث عن حركتهم ونموّهم وتكاملهم في جوانب مختلفة (فلاحظوا بدقة).

أجل هم أناس متّصفون بصفات عليا لا يفترون عن الحركة لحظة واحدة ... وينشرون الإسلام بأقوالهم وأعمالهم في العالم ويوماً بعد يوم يزداد عددهم في المجتمع الإسلامي ...

ثم تضيف الآية معقّبة : أنّ هذه الأوصاف العليا وهذا النمو والتكامل السريع وهذه الحركة المباركة بقدر ما تعجب المحبّين وتسرّهم فهي في الوقت ذاته : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).

ويضيف القرآن مختتماً هذه الآية المباركة : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).

بديهي أنّ أوصاف أصحاب النبي التي وردت في بداية الآية محل البحث جمعت فيها الإيمان والعمل الصالح ، فتكرار هذين الوصفين إشارة إلى استمرارهما وديمومتهما : أي أنّ الله وعد أولئك الذين بقوا على نهجهم من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله واستمروا بالإيمان والعمل الصالح.

«نهاية تفسير سورة الفتح»

* * *

٥١٨

٤٩

سورة الحجرات

محتوى السورة : هذه السورة تحمل مسائل مهمّة تتعلق بشخص النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجتمع الإسلامي بعضه ببعض. وحيث أنّ أغلب المسائل الأخلاقية تدور في هذه السورة فيمكن أن نسمّي هذه السورة ب «سورة الأخلاق والآداب».

ويمكن تقسيم مضامين السورة على النحو التالي :

١ ـ في بداية السورة تبين طريقة التعامل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآدابها وما ينبغي على المسلمين مراعاته من أصول عند حضرة النبي.

٢ ـ تشتمل هذه السورة على سلسلة من اصول «الأخلاق الاجتماعية» المهمة.

٣ ـ الأوامر الإرشادية المتعلقة بكيفية مواجهة الاختلافات والتنازع أو القتال الذي قد يقع بين المسلمين أحياناً ...

٤ ـ يتحدث عن معيار قيمة الإنسان عند الله وأهمية التقوى ...

٥ ـ يعالج قضية أنّ الإيمان ليس بالقول فحسب بل لابدّ من ظهور آثاره في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس ـ إضافةً إلى الإعتقاد في القلب ـ.

٦ ـ يتحدث عن علم الله وإطّلاعه وعن جميع أسرار الوجود الخفية وأعمال الإنسان ، وهذا القسم بمثابة الضامن لتنفيذ جميع هذه الأقسام الواردة في هذه السورة.

٥١٩

وتسمية هذه السورة بسورة «الحجرات» لورود هذه الكلمة في الآية الرابعة منها.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قرأ سورة الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومن عصاه».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة الحجرات في كل ليلة أو في كل يوم كان من زوّار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وبديهي أنّ كل هذه الحسنات التي هي بعدد المطيعين والعاصين إنّما تكون في صورة ما لو أخذنا بنظر الإعتبار كلّاً من الفريقين وأن نفكّر جيداً فنجعل مسيرنا وفقاً لمنهج المطيعين ونبتعد عن منهج العاصين.

ونيل زيارة النبي أيضاً فرع على أن نعمل وفق الآداب المذكورة في الحضور عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ التلاوة في كل مكان مقدمة للعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

أسباب النّزول

في تفسير القرطبي : روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يستخلف على المدينة رجلاً إذا مضى إلى خيبر فأشار عليه عمر برجل آخر ، فنزلت الآية وأمرت أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.

وأمّا في شأن الآية الثانية فقد قال المفسرون إنّ طائفة من بني تميم وأشرافهم وردوا المدينة ، فلمّا دخلوا مسجد النبي نادوا بأعلى صوتهم من وراء الحجرات التي كانت للنبي : يا

٥٢٠