مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

٤١

سورة فصلت

محتوى السورة : يمكن الحديث عن محتويات السورة من خلال الخطوط العريضة التالية :

١ ـ التركيز على موضوع القرآن وما يتصل به من بحوث.

٢ ـ إثارة قضية خلق السماء والأرض ، خاصة ما يتعلق ببداية العالم الذي خلق من مادة (الدخان) ثم مراحل نشوء الكرة الأرضية والجبال والنباتات والحيوانات.

٣ ـ ثمة في السورة إشارات إلى عاقبة الأقوام المغرورين الأشقياء من الامم السابقة ، مثل قوم عاد وثمود ، وهناك إشارة قصيرة إلى قصة موسى عليه‌السلام.

٤ ـ تتضمّن السورة تهديد المشركين وإنذار الكافرين ، مع ذكر آيات القيامة وما يتعلّق بشهادة أعضاء جسم الإنسان عليه ، وتوبيخ الله تبارك وتعالى لأمثال هؤلاء.

٥ ـ تتناول السورة قسماً من أدلة البعث والقيامة وخصوصياتهما.

٦ ـ تنتهي السورة ببحث لطيف عن آيات الآفاق والأنفس ، وتعود كرّةً اخرى إلى قضية المعاد.

إنّ تسمية السورة ب «فصّلت» مشتق من الآية الثالثة فيها ، وإطلاق «حم» السجدة عليها لأنّها تبدأ ب «حم» والآية (٣٧) فيها هي آية السجدة.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قرأ حم السجدة اعطي

٣٤١

بعدد كل حرف منها عشر حسنات».

وأخرج البيهقي في شعب الايمان عن الخليل بن مرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة (١).

وطبيعي أنّ هذه السورة المباركة بكل ما تتضمّن في مضامينها العالية من أنوار ومعارف ومواعظ إنّما تكون مؤثّرة فيما لو تحوّلت تلاوتها إلى نور ينفذ إلى أعماق النفس ، فتتحوّل في حياة الإنسان المسلم إلى دليل من نور يقوده في يوم القيامة نحو الصراط والخلاص ، لأنّ التلاوة مقدمة للتفكير ، والتفكير مقدمة للعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (٥)

عظمة القرآن : في الدرّ المنثور عن جابر بن عبدالله قال : اجتمع قريش فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا : ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة قالوا : أنت يا أبا الوليد. فأتاه فقال : يا محمّد أنت خير أم عبدالله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : فإن كنت تزعم أنّ هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنّك خير منهم فتكلم حتى نسمع منك. أما والله ما رأينا سلحة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أنّ في قريش ساحراً وأنّ في قريش كاهناً والله ما ننتظر إلّامثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيّها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً وإن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فرغت»؟ قال : نعم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * حم

__________________

(١) روح المعاني ٢٤ / ٩٤.

٣٤٢

* تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصّلَتءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) حتى بلغ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فقال عتبة : حسبك ما عندك غير هذا؟ قال : لا. فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك؟ قال : ما تركت شيئاً أرى أنّكم تكلمون به إلّاكلمته قالوا : فهل أجابك؟ قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال غير أنّه قال : (أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة.

نعود الآن إلى المجموعة الاولى من آيات هذه السورة المباركة ، التي تطالعنا بالحروف المقطعة في أوّلها (حم).

إنّ البعض اعتبر (حم) اسماً للسورة ، أو أنّ (ح) إشارة إلى «حميد» ، و (م) إشارة إلى «مجيد» وحميد ومجيد هما من أسماء الله العظمى.

ثم تتحدث عن عظمة القرآن فتقول : (تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

إنّ «الرحمة العامة» و «الرحمة الخاصة» لله تعالى هما باعث نزول هذه الآيات الكريمة التي هي رحمة للعدو والصديق ، ولها بركات خاصة للأولياء.

بعد التوضيح الاجمالي الذي أبدته الآية الكريمة حول القرآن ، تعود الآيات التالية إلى بيان تفصيلي حول أوصاف هذا الكتاب السماوي العظيم ، وذكرت له خمسة صفات ترسم الوجه الأصلي للقرآن : فتقول أوّلاً : إنّه كتاب ذكرت مطاليبه ومواضيعه بالتفصيل كل آية في مكانها الخاص ، بحيث يلبّي احتياجات الإنسان في كل المجالات والأدوار والعصور ، فهو : (كِتَابٌ فُصّلَتءَايَاتُهُ). وهو كتاب فصيح وناطق : (قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

وهذا الكتاب بشير للصالحين ، نذير للمجرمين : (بَشِيرًا وَنَذِيرًا). إلّاأنّ أكثرهم : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ).

بناءً على ذلك فإنّ أوّل خصائص هذا الكتاب هو أنّه يتضمّن في تشريعاته وتعاليمه كل ما يحتاجه الإنسان وفي جميع المستويات ، ويلبّي ميوله ورغباته الروحية.

الصفة الثانية أنّه متكامل ، لأنّ «قرآن» مشتق من القراءة ، وهي في الأصل بمعنى جمع أطراف وأجزاء الكلام.

الصفة الثالثة تتمثل بفصاحة القرآن وبلاغته ، حيث يذكر الحقائق بدقّة بليغة دون أيّ نواقص ، وفي نفس الوقت يعكسها بشكل جميل وجذّاب.

٣٤٣

الصفتان الرابعة والخامسة تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم ، عن طريق اسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب ، فآية تقوم بتشويق الصالحين والمحسنين بحيث إنّ النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في آفاق الملكوت والرحمة ، وأحياناً تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد.

ومع ذلك فإنّ المتعصّبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل ، وكأنّهم لا يسمعونها أبداً بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية ، إنّهم في الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق ، ووعي محتويات النذير والوعيد القرآني.

وهؤلاء ـ كمحاولة منهم لثني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن دعوته ، وايغالاً منهم في الغي وفي زرع العقبات ـ يتحدّثون عند رسول الله بعناد وعلو وغرور حيث يحكي القرآن عنهم : (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِىءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ).

مادام الأمر كذلك فاتركنا وشأننا ، فاعمل ما شئت فإنّنا عاكفون على عملنا : (فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ).

«أكنّة» : جمع «كنان» وتعني الستار.

هكذا ... بمنتهى الوقاحة والجهل ، يهرب الإنسان بهذا الشكل الهازل عن جادة الحق.

عبارة (فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) محاولتهم زرع اليأس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. أو قد يكون المراد نوعاً من التهديد له. والتعبير يمثّل منتهى العناد والتحدّي الأحمق للحق ولرسالاته.

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨)

من هم المشركون : الآيات التي بين أيدينا تستمر في الحديث عن المشركين والكافرين ، وهي في الواقع إجابة لما صدر عنهم في الآيات السابقة ، وإزالة لأيّ وهمّ قد يلصق بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. يقول تعالى لرسوله الكريم : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ).

ثم تستمر الآية : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ).

ثم تضيف الآية محذّرة : (وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ).

٣٤٤

الآية التي تليها تقوم بتعريف المشركين ، وتسلّط الضوء على جملة من صفاتهم وتختص هذه الآية بذكرها ، حيث يقول تعالى : (الَّذِينَ لَايُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).

إنّ هؤلاء يعرّفون بأمرين : ترك الزكاة ، وإنكار المعاد.

والمقصود من الزكاة في الآية هو المعنى العام للإنفاق ، أمّا كون ذلك من علائم الشرك ، فيكون بسبب أنّ الإنفاق المالي في سبيل الله يعتبر من أوضح علامات الإيثار والحب لله ، لأنّ المال يعتبر من أحبّ الأشياء إلى قلب الإنسان ونفسه ، وبذلك فإنّ الإنفاق ـ وعدمه ـ يمكن أن يكون من الشواخص الفارقة بين الإيمان والشرك ، خصوصاً في تلك المواقف التي يكون فيها المال بالنسبة للإنسان أقرب إليه من روحه ونفسه ، كما نرى ذلك واضحاً في بعض الأمثلة المنتشرة في حياتنا.

بعبارة اخرى : إنّ المقصود هنا هو ترك الإنفاق الذي يعتبر أحد علامات عدم إيمانهم بالخالق جلّ وعلا ، والأمر من هذه الزاوية بالذات يقترن بشكل متساوي مع عدم الإيمان بالمعاد ، أو يكون ترك الزكاة ملازماً لإنكار وجوبه.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ الله عزوجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها ، وهي الزكاة ، بها حقنوا دماءهم وبها سمّوا مسلمين».

الآية الأخيرة تقوم بتعريف مجموعة تقف في الجانب المقابل لهؤلاء المشركين البخلاء ، وتتعرّض إلى جزائهم حيث يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). «ممنون» : مشتق من «منّ وتعني هنا القطع أو النقص ، لذا فإنّ غير ممنون تعني هنا غير مقطوع أو منقوص.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢)

مراحل خلق السماوات والأرض : الآيات أعلاه نماذج للآيات الآفاقية ، وعلائم العظمة ،

٣٤٥

وقدرة الخالق جلّ وعلا في خلق الأرض والسماء ، وبداية خلق الكائنات ، حيث يأمر تعالى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمخاطبة الكافرين والمشركين. يقول تعالى : (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ). وتجعلون لله تعالى شركاء ونظائر : (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا).

إنّه لخطأ كبير ، وكلام يفتقد إلى الدليل : (ذلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

إنّ الذي يدبّر امور هذا العالم ، أليس هو خالق السماء والأرض؟ فإذا كان سبحانه وتعالى هو الخالق ، فلماذا تعبدون هذه الأصنام وتجعلونها بمنزلته؟!

الآية التي تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد الغذائية ، حيث تقول : (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ). وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين : (سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ).

وبهذا الترتيب فإنّه تبارك وتعالى قد دبّر لكل شيء قدره وحاجته.

المقصود من «السائلين» هنا هم الناس ، أو أنّها تشمل بشكل عام الإنسان والحيوان والنبات.

ووفق هذا التفسير فإنّ الله تعالى لم يحدّد احتياجات الإنسان لوحده منذ البداية وحسب ، وإنّما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضاً.

بعد الإنتهاء من الكلام عن خلق الأرض ومراحلها التكاملية ، بدأ الحديث عن خلق السماوات حيث تقول الآية : (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا). فكانت الإجابة : (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ). وفي هذه الأثناء : (فَقَضهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ). ثم : (وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا). وأخيراً : (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا). نعم : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

إنّ هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أنّ دحو وتوسيع الأرض وتفجّر العيون ونبات الأشجار والمواد الغذائية ، قد تمّ جميعاً بعد خلق السماوات.

ملاحظات

تبقى أمامنا ملاحظات ينبغي أن نشير إليهم :

١ ـ عبارة (بَارَكَ فِيهَا) إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض ، وما على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة والبركة ، حيث تستفيد منها جميع الاحياء الأرضية.

٢ ـ عبارة (فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (أي خلق الجبال ،

٣٤٦

خلق المصادر وبركات الأرض ، خلق المواد الغذائية).

٣ ـ جملة «هي دخان» تبيّن أنّ بداية خلق السماوات كان من سحب الغازات الكثيفة الكثيرة ، وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصّلت إليه البحوث العلمية بشأن بداية الخلق والعالم.

٤ ـ قوله تعالى : (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) لا تعني أنّ كلاماً قد جرى باللفظ ، وإنّما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني ، وهو عين إرادته في الخلق. أمّا التعبير ب «طوعاً أو كرهاً» فهو إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية الحتمية قد ارتبطت بتكوّن السماوات والأرض. والمعنى أنّه يجب أن يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت.

٥ ـ قوله تعالى : (فَقَضهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ) يشير إلى وجود مرحلتين في خلق السماوات ، كل مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين ، وكل مرحلة تتضمن مراحل اخرى ، ومن المحتمل أن تكون هاتان المرحلتان هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة ، ثم مرحلة تبديل المواد المذابة إلى مواد جامدة.

٦ ـ إنّ العدد «سبع» ربّما جاء هنا للكثرة ، بمعنى أنّ هناك سماوات كثيرة وأجرام كثيرة. ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد ، أي إنّ عدد السماوات هي سبع بالتحديد. ومع هذا التقييد ، فإنّ جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيّارة هي من السماء الاولى ، وبذلك يكون عالم الخلقة متشكّلاً من سبع مجموعات كبرى ، واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية.

٧ ـ قوله تعالى : (وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) تدلّ على أنّ جميع النجوم زينة للسماء الاولى ، وهي ليست للزينة وحسب ، بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق ، تعينهم على تعيين اتجاه الحركة.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) (١٦)

٣٤٧

احذّركم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود : بعد البحث المهم الذي تضمّنته الآيات السابقة حول التوحيد ومعرفة الخالق جلّ وعلاه تنذر الآيات ـ التي بين أيدينا ـ المعارضين والمعاندين الذين تجاهلوا كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البينات ، وتحذّرهم أنّ نتيجة الإعراض ، نزول العذاب بهم. يقول تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).

«الصاعقة» : تعني الصوت المهيب في السماء ، ويشتمل على النار أو الموت أو العذاب.

يواصل الحديث القرآني سياقه بالقول : (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ).

إنّ الأنبياء قد استخدموا جميع الوسائل والأساليب لهدايتهم ، حتى ينفذوا إلى قلوبهم المظلمة.

لكن لنرى ماذا كان جوابهم حيال هذه الجهود العظيمة الواسعة لرسل الله تعالى. يقول تعالى : (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلِكَةً) لإبلاغ رسالته بدلاً من إرسال الناس ، والآن ومادام الأمر كذلك : (فَإنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ). وما جئتم به لا نعتبره من الله.

إنّها نفس الذريعة التي ينقلها القرآن مراراً على لسان منكري النبوات ورسالات الله ومكذبي الرسل ، من الذين كانوا يتوقعون أن يكون الأنبياء دائماً ملائكة ، وكأنّما البشر لا يستحقون مثل هذا المقام.

مثال ذلك قولهم في الآية (٧) من سورة الفرقان : (وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا).

إنّ قائد البشر يجب أن يكون من صنف البشر ، كي يعرف مشاكل الإنسان واحتياجاته ويتفاعل مع قضاياهم ، وكي يستطيع أن يكون القدوة والاسوة ، لذلك يصرّح القرآن في الآية (٩) من سورة «الأنعام» بقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنهُ رَجُلاً).

بعد المجمل الذي بيّنته الآيات أعلاه ، تعود الآيات الآن ـ كما هو اسلوب القرآن الكريم ـ إلى تفصيل ما اوجز من خبر قوم عاد وثمود فتقول : (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).

لكنّ القرآن يردّ على هؤلاء ودعواهم بالقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

٣٤٨

تضيف الآية في النهاية قوله تعالى : (وَكَانُوا بَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ).

نعم ، إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوّة ، وأحياناً بدافع من جهله ، فيتوهم أنّه يصارع الله جلّ وعلا.

لكن ما أسهل أن يبدل الله عوامل حياته إلى موت ودمار ، كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد : (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا).

إنّ هذه الريح الصرصر ، وكما تصرّح بذلك آيات اخرى ، كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثم ترطمهم بها ، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية ـ يلاحظ الوصف في سورة القمر الآيتين (١٩ و ٢٠) وسورة الحاقّة الآية (٦) فما بعد.

لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام ، وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم ، نكالاً بما ركبوا من حماقة وعلو وغرور ، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة ، وآثار تلك الحياة المرفهة.

هذا في الدنيا ، وهناك في الآخرة : (وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَخْزَى).

إنّ العذاب الدنيوي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجّي من النار في عذاب الآخرة.

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم : (وَهُمْ لَايُنصَرُونَ).

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (١٨)

عاقبة قوم ثمود : بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد ، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم ، حيث تقول : إنّ الله قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البيّنة ، إلّاأنّهم : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).

لذلك : (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

وهؤلاء مجموعة تسكن «وادى القرى» (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم الله أراضي خصبة خضراء مغمورة ، وبساتين ذات نعم كثيرة ، وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة ، ولقد وهبهم الله العمر الطويل والأجسام القوية ، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك.

٣٤٩

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي ، ومعه المعاجز الإلهية ، إلّاأنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته وحسب ، بل آذوه وأتباعه القليلين ، لذلك شملهم الله بعقابه في الدنيا ، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئاً.

القرآن يجيبنا على ذلك بقول الله عزوجل : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

قال بعض المفسرين : لقد آمن بالنبي صالح (١١٠) أشخاص من بين مجموع القوم.

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها ، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها ؛ والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجاً لفئات من هذه الأمة.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (٢٣)

كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين والظالمين والمجرمين ، أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب الاخروي ، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء الله. يقول تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ).

ولكي تتصل الصفوف ببعضها يتمّ تأخيرالصفوف الاولى حتى تلتحق بها الصفوف الاخرى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١). وحينذاك : (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها ، لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال ، وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى.

__________________

(١) «يوزعون» : من «وزع» وهي بمعنى المنع ، وعندما تستخدم للجنود أو الصفوف الاخرى ، فإنّ مفهومها يعني أن يبقى المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.

٣٥٠

إنّ قوله تعالى (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا) يبيّن أنّ المحكمة تنعقد بالقرب من النار.

المجرمون يستغربون هذه الظاهرة ، وآية استغرابهم قوله تعالى : (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا).

وفي الجواب يقولون : (قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ).

ثم تستمر الآية بقوله تعالى : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

ومرّة اخرى تضيف : (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ).

وإنّ سبب إخفائكم لأعمالكم هو : (وَلكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لَايَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ).

كنتم غافلين عن أنّ الله يسمع ويرى ، يشهد أعمالكم في كل حال ومكان ، ثم هناك عناصر الرقابة التي ترافقكم وهي معكم في كل مكان ، فهل تستطيعون إنجاز عمل مخفي عن أعينكم وآذانكم وجلودكم؟

ثم يقول تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنُتم بِرَبّكُمْ أَرْدَيكُمْ فَأَصْبَحْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ).

توضّح الآيات بشكل قاطع خطورة سوء الظن بالله تعالى ، ومآل ذلك إلى الهلاك والخسران.

وبعكس ذلك فإنّ حسن الظن بالله تعالى سبب للنجاة في الدنيا والآخرة.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) (٢٥)

قرناء السوء : في أعقاب البحث السابق حيث تحدّثت الآيات الكريمة عن مصير «أعداء الله» جاءت الآيتان أعلاه لتشيران إلى نوعين من العقاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء في الدنيا والآخرة. يقول تعالى : (فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ). ولا يمكنهم الخلاص منها لأنّها مصيرهم سواء صبروا أم لم يصبروا.

«مثوى» : من «ثوى» على وزن «هوى» وتعني المقرّ ومحل الاستقرار.

وللتأكيد على هذا الأمر تضيف الآية : (وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ).

٣٥١

«يستعتبون» : مأخوذة في الأصل من «العتاب» وتعني إظهار الخشونة ، ومفهوم ذلك أنّ الشخص المذنب سيستسلم للوم صاحب الحق كي يعفو عنه ويرضى عنه ، لذلك فإنّ كلمة (استعتاب) تعني الإسترضاء وطلب العفو.

ثم تشير الآية الثانية إلى العذاب الدنيوي لهؤلاء فتقول : (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). حيث قام هؤلاء الجلساء بتصوير المساويء لهم حسنات.

«قيضنا» : من «قيض» على وزن (فيض) وتعني في الأصل قشرة البيضة الخارجية ، ثم قيلت لوصف الأشخاص الذين يسيطرون على الإنسان بشكل كامل ، كسيطرة القشرة على البيضة.

وهذه إشارة إلى أنّ أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهم من كل مكان ، حيث يصادرون أفكارهم ، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية الإدراك والإحساس المستقل ، وعندها ستكون الامور القبيحة السيئة جميلة حسنة في نظرهم.

لقد ورد هذا المعنى بشكلٍ أوضح في الآيتين (٣٦ و ٣٧) من سورة الزخرف في قوله تعالى : (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ).

وبسبب هذا الوضع تضيف الآية بأنّ الأمر الالهي صدر بعذابهم وأنّ مصيرهم هو مصير الامم السالفة : (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مّنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ).

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ).

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩)

الضجيج في مقابل صوت القرآن : بعد أن تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الماضين كقوم عاد وثمود ، وتحدّثت عن جلساء السوء وقرناء الشر ، تتحدث المجموعة التي بين أيدينا

٣٥٢

من الآيات البينات عن جانب من جوانب الإنحراف لمشركي عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في هذه الآيات ، حيث يقول : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

هذا الاسلوب في مواجهة تأثير الحق ونفوذه بالرغم من كونه اسلوباً قديماً ، إلّاأنّه يستخدم اليوم بشكلٍ أوسع وأخطر لصرف أفكار الناس وخنق أصوات المنادين بالحق والعدالة ، فهؤلاء يقومون بملء المجتمع بالضوضاء حتى لا يسمع صوت الحق.

فتارة يتمّ اللغو بواسطة الضجة والضوضاء والصفير.

واخرى بواسطة القصص الكاذبة والخرافية.

وثالثة بواسطة قصص الحب والعشق المثيرة للشهوات.

وقد يتجاوز مكرهم مرحلة القول فيقومون بتأسيس مراكز خاصة بالفساد وأنواع الأفلام المبتذلة والمطبوعات المنحرفة الرخيصة ، والألاعيب السياسية الكاذبة والمثيرة ، إنّهم يعمدون إلى الإستعانة بأي أسلوب يؤدّي إلى حرف أفكار الناس واهتماماتهم عن الحق.

الآية الاخرى تشير إلى عذاب هؤلاء فتقول : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا). خاصة اولئك الذين يمنعون الناس من سماع آيات الله.

وهذا العذاب يمكن أن يشملهم في الدنيا بأن يقتلوا على أيدي أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو يقعوا في أسرهم ، وقد يكون في الآخرة ، أو يكون العذاب في الدنيا والآخرة معاً.

قوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ).

كما أنّ قوله تعالى : (كَانُوا يَعْمَلُونَ) دليل على أنّه سيتمّ التأكيد على الأعمال التي كانوا يقومون بها دائماً.

وللتأكيد على قضية العذاب ، يأتي قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ).

وهذه النار ليست مؤقتة زائلة بل : (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ). نعم ، فذلك : (جَزَاءً بِمَا كَانُوا بَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ).

«يجحدون» : من «جحد» إشارة إلى إنكار الحقائق مع العلم بها ، وهذا من أسوأ أنواع الكفر.

لذلك تشير الآية التالية إلى هذا المعنى الذي سيشمل الكفار وهم في الجحيم فيقول :

٣٥٣

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ).

إنّ اولئك كانوا ينهونا عن سماع قول النبي وكانوا يقولون : إنّه ساحر مجنون.

والمقصود من الجن والإنس ـ في الآية ـ هم الشياطين ، والناس الذين يقومون بالغواية مثل الشياطين ، وليس هما شخصان معيّنان.

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَنْ تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢)

نزول الملائكة على المؤمنين الصامدين : بعد أن تحدّث القرآن الكريم عن المنكرين المعاندين الذين يصدّون عن آيات الله ، وأبان جزاءهم وعقوبتهم ، بدأ الآن (في الصورة المقابلة) في الحديث عن المؤمنين الراسخين في إيمانهم ، وأشار إلى سبعة أنواع من الثواب الذي يشملهم جزاء ومثوبة لهم. يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا).

فلا تقلقوا من الصعوبات التي تنتظركم ، ولا تحزنوا على ذنوبكم الماضية.

هناك الكثير من الذين يدّعون محبة الله ، إلّاأنّنا لا نرى الإستقامة واضحة في عملهم وسلوكهم ، فهم ضعفاء وعاجزون بحيث عندما يشملهم طوفان الشهوة يودّعون الإيمان ويشركون في عملهم.

وينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ «الاستقامة» مثلها مثل «العمل الصالح» هي ثمرة لشجرة الإيمان ، إذ الإيمان يدعو الإنسان إلى الاستقامة متى ما نفذ إلى عمق الإنسان ، وتأسست قواعد وجوده النفسي على التقوى ، كما أنّ الاستقامة تقوي في الإنسان ملكة التقوى والسير في طريق الحق والإيمان.

روي أنّ سفيان بن عبدالله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به. قال :

٣٥٤

«قل ربّي الله ثم استقم» (١).

فبعد البشارتين الاولى والثانية والمتمثلتين بعدم (الخوف) و (الحزن) تصف الآية المرحلة الثالثة بقوله تعالى : (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ).

والبشارة الرّابعة يتضمّنها قوله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الْأَخِرَةِ). فلن نترككم وحيدين ، بل نعينكم في الخير وتعصمكم عن الانحراف حتى تدخلوا الجنة.

وهذا ـ أي البشارة الرابعة ـ دليل على أنّ المؤمنين من ذوي الاستقامة يسمعون هذا الكلام من الملائكة في الدنيا عندما يكونون أحياء ، إلّاأنّ ذلك لا يكون باللسان واللفظ ، بل يسمعون ذلك باذُن قلوبهم ، بما يشعرون به من هدوء واستقرار وسكينة وإحساس كبير بالراحة عند المشاكل والصعاب ، وتثبّت أقدامهم من السقوط والإنحراف.

والبشارة الخامسة قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ). أي : في الجنة.

أمّا البشارة السادسة فلا تختص بالنعم المادية وما تريدونه. بل الاستجابة إلى العطايا والمواهب المعنوية : (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ).

أمّا البشارة السابعة والأخيرة فهى أنّكم ستحلون ضيوفاً لدى الباريء عزوجل وفي جنته الخالدة ، وستقدّم لكم كل النعم تماماً مثلما يتمّ الترحيب بالضيف العزيز من قبل المضيف : (نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ).

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦)

ادفع السيّئة بالحسنة : مازالت هذه المجموعة من الآيات الكريمة تتحدث عن الصورة الاخرى عن المؤمنين الذين يتبعون أحسن القول. يقول تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

إنّ الآية الكريمة هذه ترسم ثلاث صفات لذي القول الحسن هي : الدعوة إلى الله ، والعمل الصالح ، والتسليم حيال الحق.

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ / ١٣١٤ ؛ سنن ترمذي ٤ / ٣٢.

٣٥٥

بعد بيان الدعوة إلى الله وأوصاف الدعاة إلى الله ، شرحت الآيات اسلوب الدعوة وطريقتها ، فقال تعالى : (وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيّئَةُ).

في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الإفتراء والإستهزاء والسخرية والكلام البذيء وأنواع الضغوط والظلم ؛ يجب أن يكون سلاحكم ـ أنتم الدعاة ـ التقوى والطهر وقول الحق واللين والرفق والمحبة.

وبالرغم من أنّ (الحسنة) و (السيّئة) تنطويان على مفهومين واسعين ، إذ تشمل الحسنة كل إحسان وجميل وخير وبركة ، والسيئة تشمل كل انحراف وقبح وعذاب ، إلّاأنّ الآية تقصد ذلك الجانب المحدّد من السيّئة والحسنة ، الذي يختص بأساليب الدعوة.

ثم تضيف الآية : (ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ).

إدفع الباطل بالحق ، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة ، وقابل الإساءة بالإحسان ، فلا ترد الإساءة بالإساءة ، والقبح بالقبح ، لأنّ هذا اسلوب من همّه الانتقام ، ثم إنّ هذا الاسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر.

وتشير الآية في نهايتها إلى فلسفة وعمق هذا البرنامج في تعبير قصير ، فتقول : إنّ هذا التعامل سيقود إلى : (فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ).

«ولي» : هنا بمعنى الصديق ؛ و «حميم» : تعني في الأصل الماء الحار المغلي ، ويقال للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص «حميم» والآية تقصد هذا المعنى.

إنّ هذا الاسلوب من التعامل مع المعارضين والأعداء ليس بالأمر العادي السهل ، والوصول إليه يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق ، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تبيّن الاسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل في تعبير قصير ينطوي على معاني كبيرة ، حيث يقول تعالى : (وَمَا يُلَقهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا).

وكذلك : (وَمَا يُلَقهَا إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ).

إنّ هناك ـ بلا شك ـ موانع تحول دون الوصول إلى هذا الهدف العظيم ، وإنّ وساوس الشيطان تمنع الإنسان من تحقيق ذلك بوسائل مختلفة ، لذلك نرى الآية الأخيرة تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بوصفه الاسوة والقدوة فتقول له : (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

«نزغ» : تعني الدخول في عملٍ ما لإفساده ، ولهذا السبب يطلق على الوساوس

٣٥٦

الشيطانية «نزغ» ، وهذا التحذير بسبب ما يراود ذهن الإنسان من مفاهيم مغلوطة خطرة ، إذ يقوم بعض أدعياء الصلاح بتوجيه النصائح على شاكلة قولهم : لا يمكن إصلاح الناس إلّا بالقوّة ، وأمثال ذلك من الوساوس التي تنتهي إلى مقابلة السيئة بالسيئة.

القرآن الكريم يقول : إيّاكم والسقوط في مهاوي هذه الوساوس ، ولا تلجأوا إلى القوّة إلّا في موارد معدودة.

وأخيراً ، تتضمّن الآية الدعوة إلى الاستعاذة بالله في دائرة واسعة.

(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

السجود لله تعالى : تعتبر هذه الآيات بداية فصل جديد في هذه السورة ، فهي تختص بقضايا التوحيد والمعاد ، ودلائل النبوة وعظمة القرآن ، وهي في الواقع مصداق واضح للدعوة إلى الله في مقابل دعوة المشركين إلى الأصنام. تبدأ أوّلاً من قضية التوحيد ، فتدعو الناس إلى الخالق عن طريق الآيات الآفاقية : (وَمِنْءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (١).

فالليل وظلمته للراحة ، والنهار وضوءه للحركة. أمّا الشمس فهي مصدر كل البركات المادية في منظومتنا ، فالضوء والحرارة والحركة ونزول المطر ، ونمو النباتات ونضج الفواكه ، وحتى ألوان الورود الجميلة ، كل ذلك يدين في وجوده إلى الشمس.

القمر يقوم بدوره بإضاءة الليالي المظلمة ، وضوءه دليل السائرين في دروب الصحراء ، وهو يجلب الخيرات بتأثيره على مياه البحار وحدوث الجزر والمد فيه.

ولعل البعض قام بالسجود لهذين الكوكبين السماويين وبعبادتهما بسبب الخيرات

__________________

(١) ينبغي الإلتفات إلى أنّ السجدة هنا واجبة في حال سماع الآية أو تلاوتها.

٣٥٧

والبركات الآنفة الذكر ، فتاهوا في عالم الأسباب. ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة : (لَاتَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

إنّ هذه الآية تستدل على وجود الخالق الواحد عن طريق النظام الواحد الذي يتحكّم بالشمس والقمر والليل والنهار ، وإنّ حاكميته تعالى على هذه الموجودات تعتبر دليلاً على وجوب عبادته.

فالله تعالى يخاطبهم بعد ذلك بقوله : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَايَسَمُونَ) (١).

فليس مهماً أن لا تسجد مجموعة من الجهلة والغافلين حيال جبروت الله وذاته المقدسة الطاهرة ، فهذا العالم الواسع مليء بالملائكة المقربين الذين يركعون ويسجدون ويسبحون له دائماً ولا يفترون أبداً.

ثم إنّ هؤلاء هم بحاجة إلى عبادة الله ولا يحتاج تعالى لعبادتهم ، لأنّ فخرهم وكمالهم لا يتمّ إلّافي ظل العبودية له سبحانه وتعالى.

نعود مرّة اخرى إلى آيات التوحيد التي تعتبر الأرضية للمعاد. يقول تعالى : (وَمِنْءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).

ثم تنتقل الآية من قضية التوحيد المتمثلة هنا بالحياة التي ما زالت تحيطها الكثير من الأسرار والخفايا والغموض ، إلى قضية المعاد ، حيث يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى).

نعم : (إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

فدلائل قدرته واضحة في كل مكان ، فكيف نشكّك بالمعاد ونعتبره محالاً؟

«خاشعة» : من «الخشوع» وتعني في الأصل التضرّع والتواضع الملازم للأدب ؛ واستخدام هذا التعبير بخصوص الأرض الميتة اليابسة ، يعتبر نوعاً من الكناية.

«ربت» : من «ربو» على وزن (غلو) وتعني الزيادة والنمو ، والربا مشتق من نفس هذه الكلمة ، لأنّ المرابي يطلب دينه مع الزيادة.

«اهتزت» : من «هز» على وزن «حظ» وتعني التحريك الشديد.

__________________

(١) «يسأمون» : من كلمة «السئامة» وتعني التعب من الإستمرار في العمل أو في موضوع معيّن.

٣٥٨

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢)

محرّفو آيات الحق : المجموعة التي بين أيدينا من آيات السورة الكريمة ، بدأت بتهديد الذين يقومون بتحريف علائم التوحيد ، وتضليل الناس ، حيث يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىءَايَاتِنَا لَايَخْفَوْنَ عَلَيْنَا).

من الممكن لهؤلاء أن يضلّوا الناس باسلوب المغالطة وباستخدام السفسطة الكلامية ، ويخفوا ذلك عن الناس ؛ إلّاأنّه ليس بوسعهم إخفاء ذرّة ممّا يقومون به عن الله تبارك وتعالى.

«يلحدون» : من «إلحاد» وهي في الأصل من «لحد على وزن (عهد) وتعني الحفرة الواقعة في جانب واحد ، ولهذا السبب يطلق على الحفرة في جانب القبر اسم «اللحد. ثم اطلقت كلمة (إلحاد) على أيّ عمل يتجاوز الحد الوسط إلى الإفراط أو التفريط ، وهي لذلك تطلق لوصف الشرك وعبادة الأصنام ، ويقال لمن لا يؤمن بالله تعالى (الملحد).

والمقصود من «الإلحاد» في آيات الله هو إيجاد الوساوس والتمويه في أدلة التوحيد والمعاد التي ذكرتها الآيات السابقة بعنوان «ومن آياته».

القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى : (أَفَمَن يُلقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىءَامِنًا يَوْمَ الْقِيمَةِ).

الأشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنم ، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن للناس بهدايتهم إلى التوحيد والإيمان ، فإنّهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا؟

وعندما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله : افعل ما شئت. لذا فالآية تقول لأمثال هؤلاء : (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).

لكن عليكم أن تعلموا : (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

٣٥٩

لكن هذا الأمر لا يعني أنّ لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاؤون ، أو أن يتصرّفوا بما يرغبون ، بل هو تهديد لهم لإعراضهم عن كلام الحق.

الآية التي بعدها تتحوّل من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوّة ، وتحذّر الكفار المعاندين بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ).

إنّ إطلاق وصف «الذكر» على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه ، وشرح وتفصيل الحقائق له بشكلٍ إجمالي عن طريق فطرته.

ثم تنطلق الآية لبيان عظمة القرآن فتقول : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ).

إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلّب عليه ، منطقه عظيم واستدلاله قوي ، وتعبيره بليغ منسجم وعميق ، تعليماته جذرية ، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الاحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.

ثم تذكر الآية صفة اخرى مهمة حول عظمة القرآن وحيويته ، فيقول تعالى : (لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ).

يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه ، ولا ينقض بشيء من العلوم ، أو بحقائق الكتب السابقة ، ولا يعارض كذلك بالإكتشافات العلمية المستقبلية.

لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه ، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل.

لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة ، ولن يطاله ذلك مستقبلاً.

لأنّه : (تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

أفعال الله عزوجل لا تكون إلّاوفق الحكمة وفي غاية الكمال. لذا فهو أهل للحمد دون غيره.

(مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْ لَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦)

٣٦٠