مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٥

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-052-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧٩

١
٢

٣
٤

٥٣

سورة النجم

محتوى السورة : هذه السورة ـ كما يقول بعض المفسرين ـ هي أوّل سورة تلاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جهراً وبصوت عال في حرم مكة بعد أن أضحت دعوته علناً ... وأصغى إليها المشركون وسجد لها جميع المسلمين حتى المشركون (١).

إنّ هذه السورة ـ لكونها مكية ـ تحمل بين ثناياها بحوثاً في الاصول الاعتقادية خاصة النبوة والمعاد وفيها تهديد ووعيد وإنذارات مكررة لإيقاظ الكفار وردعهم عن غيّهم.

ويمكن تقسيم محتوى هذه السورة إلى سبعة أقسام :

١ ـ بداية السورة تتحدث بعد القَسم العميق المغزى عن حقيقة الوحي وإتّصال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً بمنزل الوحي جبريل.

٢ ـ ثم يجري الكلام على معراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، له علاقة مباشرة بالوحي أيضاً.

٣ ـ ثم يجري الكلام عن خرافات المشركين في شأن الأصنام وعبادة الملائكة.

٤ ـ ويفتح القرآن سبيل التوبة بوجه المنحرفين وعامة المذنبين ، ويؤمّلهم بمغفرة الله الواسعة ، ويؤكّد على أنّ كلّاً مسؤول عن عمله ، ولا تزر وازرة وزر اخرى.

٥ ـ وإكمالاً لهذه الأهداف يبيّن جوانب من مسألة ـ المعاد ـ ويقيم دليلاً واضحاً على هذه

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ / ٢٠٨.

٥

المسألة بما هو موجود في النشأة الاولى ـ الدنيا ـ.

٦ ـ وكعادة القرآن في سائر السور ترد في هذه السورة إشارات لعواقب الامم المؤلمة لعداوتهم للحق وعنادهم.

٧ ـ وأخيراً فإنّ السورة تختتم بالأمر بالسجود لله وعبادته.

وتسمية السورة ب النجم هي لورود هذا اللفظ في الآية الاولى من السورة ذاتها.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ سورة النجم اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن جحد به.

ومن المسلّم به أنّ مثل هذا الثواب العظيم هو لُاولئك الذين يتّخذون تلاوة هذه السورة وسيلة للتفكير ، ثم العمل ، وأن يطبّقوا تعليمات هذه السورة على أنفسهم في حياتهم.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (٤)

ممّا يجدر بيانه أنّ السورة السابقة الطور ختمت بكلمة النجوم ، وهذه السورة بُدئت ب والنّجم ـ إذ أقسم به الله قائلاً : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى).

والظاهر من الآية ما يقتضيه إطلاق كلمة والنجم القسم بنجوم السماء كافّة التي هي من أدلّة عظمة الله ومن أسرار عالم الوجود الكبرى ومن المخلوقات العظيمة لله تعالى.

والتعويل على غروبها وافولها مع أنّ طلوعها وإشراقها يسترعي النظر أكثر ، هو لأنّ غروب النجم دليل على حدوثه كما أنّه دليل على نفي عقيدة عبادة الكواكب كما ورد في قصّة إبراهيم الخليل : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الْأَفِلِينَ) (١).

لكن لنعرف لِمَ أقسم الله بالنجم؟ الآية التالية توضّح ذلك فتقول : (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى).

__________________

(١) سورة الأنعام / ٧٦.

٦

والتعبير ب الصاحب أي الصديق أو المحبّ لعلّه إشارة إلى أنّ ما يقوله نابع من الحبّ والشفقة.

ومن أجل التأكيد على هذا الموضوع وإثبات أنّ ما يقوله هو من الله فإنّ القرآن يضيف قائلاً : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى).

وهذا التعبير مشابه التعبير الاستدلالي الوارد في الآية آنفة الذكر في صدد نفي الضلالة والغواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ أساس الضلال غالباً ما يكون من اتّباع الهوى.

ثم تأتي الآية التالية لتصرّح : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى).

فهو لا يقول شيئاً من نفسه ، وليس القرآن من نسج فكره! بل كل ما يقوله فمن الله ، والدليل على هذا الإدعاء كامن في نفسه ، فالتحقيق في آيات القرآن يكشف بجلاء أنّه لن يستطيع إنسان مهما كان عالماً ومفكّراً ـ فكيف بالامّي الذي لم يقرأ ولم يكتب في محيط مملوء بالخرافات ـ أن يأتي بكلام غزير المحتوى كالقرآن ، إذ ما يزال بعد مضي القرون والعهود ملهماً للأفكار ، ويمكنه أن يكون أساساً لبناء مجتمع صالح مؤمن سالم.

وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أنّ هذا القول ليس خاصّاً بآيات القرآن ، بل بقرينة الآيات السابقة يشمل سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً وأنّها وفق الوحي ، لأنّ هذه الآية تقول بصراحة : وما ينطق عن الهوى.

والحديث الطريف التالي شاهد آخر على هذا المدعى.

في الدرّ المنثور : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تسد الأبواب التي في المسجد فشق عليهم قال : حبة أنّي لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان وهو يقول : أخرجت عمك وأبابكر وعمر والعباس ، وأسكنت ابن عمك فقال رجل يومئذ ما يالوا برفع ابن عمه قال فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قد شق عليهم فدعا الصلاة جامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطبة قط كان أبلغ منها تمجيداً وتوحيداً فلما فرغ قال : يا أيّها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته. ثم قرأ : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى).

وهذا الحديث الذي يكشف عن علوّ مقام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بين جميع الامة الإسلامية بعد الرسول يدل على أنّه ليست أقوال النبي طبق الوحي فحسب بل حتى أعماله وأفعاله وتقريره وسيرته أيضاً.

٧

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢))

تعقيباً على الآيات المتقدمة التي تحدثت عن نزول الوحي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يجري الكلام في هذه الآيات عن معلم الوحي. تقول الآية : إنّ من له تلك القدرة العظيمة هو الذي علّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى).

وللتأكيد أكثر تضيف الآية بعدها إنّه ذو قدرة خارقة ومتسلط على كل شيء : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى).

وقد علّمه هذا التعليم عندما كان بالافق الأعلى : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى).

ثم اقترب واقترب حتى كان بفاصلة قوسين من معلّمه أو أقل (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى). ثم أنّ الله تعالى أنزل عليه الوحي (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى).

«المِرّة : معناها الفَتل ، وبما أنّ الحبل كلّما فُتل أكثر كان أشدّ إحكاماً وقوة ... فإنّ هذه الكلمة استعملت في الامور المادية أو المعنوية المحكمة والقوية.

«تدلّى : فعل مأخوذ من التدلّي ومعناه ، كما يقول الراغب في مفرداته ، الإقتراب ، فبناءً على ذلك فهو تأكيد على جملة دنا الواردة قبله ، وكلا الفعلين بمعنى واحد تقريباً.

«قاب : بمعنى مقدار ؛ وقوس (معروف معناه) وهو ما يوضع في وترة السهم ليُرمى به فمعنى قاب قوسين ... قدر طول قوسين.

ورد في الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام بأنّ المراد من هذه الآيات الرؤية الباطنية (القلبية) لذات الله المقدسة التي تجلّت للرسول وتكرّرت في المعراج واهتزّ لها النبي وهالته.

فعلى هذا التفسير يبيّن القرآن نزول الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصورة التالية :

إنّ الله الذي هو شديد القوى علّم النبي في وقت بلغ حدّ الكمال والإعتدال في الافق الأعلى. ثم قرب وصار أكثر إقتراباً حتى كان بينه وبين الله مقدار قاب قوسين أو أقل وهناك أوحى الله إليه ما أوحاه. وبما أنّ هذا اللقاء الباطني يصعب تصوّره لدى البعض ، فإنّه يؤكّد

٨

أنّ ما رآه قلب النبي كان حقّاً وصادقاً ولا ينبغي تكذيبه أو مجادلته.

وكما بيّنا فإنّ تفسير هذه الآيات بشهود النبي الباطني لله تعالى هو أكثر صحّة وأكثر إنسجاماً وموافقة للرّوايات الإسلامية ، وأكرم فضيلة للنبي ، ومفهومها أجمل وألطف ، والله أعلم بحقائق الامور.

ونختم هذا البحث بحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخر عن علي عليه‌السلام.

١ ـ في تفسير القرطبي : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هل رأيت ربّك؟ فقال : رأيته بفؤادي.

٢ ـ وفي خطبة الإمام علي (١٧٩) في نهج البلاغة إذ سأله ذعلب اليماني : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه‌السلام : أفأعبد ما لا أرى؟ ....

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (١٧) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (١٨)

هذه الآيات هي أيضاً تتمة للأبحاث السابقة في شأن مسألة الوحي وإرتباط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالله والشهود الباطني ، إذ تقول : (وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى). أي مرّة ثانية ، وكان ذلك (عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى). أي عند شجرة سدر في الجنة تدعى بسدرة المنتهى ومحلها في جنة المأوى : (عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى).

هذه حقائق واقعية شاهدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بام عينيه و (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْءَايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى).

ورغم أنّه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم ، إلّاأنّ الأخبار والروايات الإسلامية ذكرت لها أوصافاً كثيرة. وهذه التعابير تشير إلى أنّ المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار المورقة والباسقة على الأرض أبداً ، بل إشارة إلى ظلّ عظيم في جوار رحمة الله وهناك محل تسبيح الملائكة ومأوى الامم الصالحة.

أمّا (جَنَّةُ الْمَأْوَى) فمعناها الجنة التي يُسكن فيها ؛ والمراد من هذه الجنة هو جنة البرزخ التي تحلّ فيها أرواح الشهداء والمؤمنين بصورة مؤقتة.

والآية : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) إشارة إلى أنّ بصر النبي ، وأنّ عينيه الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة ، وما رآه النبي بعينيه هو عين الواقع ؛ لأنّ زاغ : من مادة زيغ معناه الانحراف يميناً أو شمالاً ؛ وطغى : من الطغيان ، معناه التجاوز عن الحد.

٩

إنّ التعبير ب (نَزْلَةً أُخْرَى) معناه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى الله في شهود باطني عند معراجه في السماء. وبتعبير آخر : نزل الله مرّة اخرى على قلب النبي وتحقّق الشهود الكامل في (المنتهى إليه) القريب إلى الله عند سدرة المنتهى حيث جنّة المأوى والسدرة تغطّيها حجب من أنوار الله.

ورؤية قلب النبي في هذا الشهود لم تكن لغير الحق أبداً ، ولم ير سواه ، ولقد رأى من دلائل عظمة الله في الآفاق والأنفس أيضاً وشاهدها بعينيه.

بحثان

١ ـ ما هو الهدف من المعراج؟ الهدف من المعراج هو بلوغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرحلة الشهود الباطني من جهة ، ورؤية عظمة الله في السماوات بالبصر الظاهري من جهة اخرى والتي أشارت إليه آخر آية من الآيات محل البحث : (لَقَدْ رَأَى مِنْءَايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى).

وفي الآية الاولى من سورة الإسراء : (لِنُرِيَهُ مِنْءَايَاتِنَا) والإطلاع على مسائل مهمّة ـ كثيرة ـ كأحوال الملائكة وأهل الجنة وأهل النار وأرواح الأنبياء والتي كانت مصدر إلهام للنّبي طوال عمره الشريف في تعليم وتربية الناس.

٢ ـ جانب من إيحاءات الله وكلماته لرسوله في ليلة المعراج : في كتاب ارشاد القلوب للديلمي : روي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج فقال : يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟! فقال الله عزوجل : ليس شيء عندي أفضل من التوكل عليّ والرّضا بما قسمت. يا محمّد! وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ، ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ ، ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ ، وليس لمحبتي علم ولا غاية ولا نهاية.

وجاء في جانب آخر : يا أحمد (١) فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نظر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا اعطي شيء من الحلو والحامض اغترّ به. فقال : يا ربّ ، دُلّني على عمل أتقرّب به إليك. قال : اجعل ليلك نهاراً ونهارك ليلاً. قال : ربّ وكيف ذلك؟ قال : اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع.

كما جاء في مكان آخر منه : يا أحمد ، محبّتي محبّة للفقراء فادن الفقراء وقرّب مجلسهم

__________________

(١) إنّ إسم النبي في كل مكان من هذا الحديث ورد بلفظ أحمد إلّافي بدايته ، أجل فاسم النبي في الأرض محمّد وفي السماء أحمد.

١٠

منك ادنِك وبعّد الأغنياء وبعّد مجلسهم منك فإنّ الفقراء أحبّائي.

وجاء في موضع آخر أيضاً : يا أحمد ، أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها. قال يا ربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال : أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه ، قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه ، كسلان عند الطاعة ، شجاع عند المعصية ، أمله بعيد وأجله قريب ، لا يحاسب نفسه ، قليل المنفعة ، كثير الكلام ، قليل الخوف ، كثير الفرح عند الطعام ، وإنّ أهل الدنيا لا يشكرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء ، كثير الناس عندهم قليل ، يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون ، ويدّعون بما ليس لهم ، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساوي الناس ويخفون حسناتهم.

قال : يا ربّ ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا؟ قال : يا أحمد ، إنّ عيب أهل الدنيا كثير ، فيهم الجهل والحمق ، لا يتواضعون لمن يتعلّمون منه ، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء.

ثم يتناول الحديث أهل الجنة فيقول : يا أحمد ، إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم ، كثير حياؤهم ، قليل حمقهم ، كثير نفعهم ، قليل مكرهم ، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب ، كلامهم موزون ، محاسبين لأنفسهم ، متعبين لها ، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة ، إذا كُتب الناس من الغافلين كتبوا من الذاكرين ، في أوّل النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون ، دعاؤهم عند الله مرفوع ، وكلامهم مسموع ، تفرح الملائكة بهم ، ... الناس [الغَفلَة] عندهم موتى والله عندهم حي قيّوم كريم ، يدعون المدبرين كرماً ويريدون المقبلين تلطّفاً قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة ، يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في كل يوم سبعين مرّة من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم ... وإن قاموا بين يدي كأنّهم بنيان مرصوص لا أرى في قلبهم شغلاً لمخلوق ... فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياةً طيّبةً إذا فارقت أرواحهم من جسدهم ولا اسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلها ولأرفعن الحجب كلها دوني ، ولآمرنّ الجنان فلتزيننّ

... يا أحمد ، إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذا طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي.

وجاء في مكان آخر منه : يا أحمد ، هل تدري أيّ عيش أهنأ وأيّ حياة أبقى؟ قال اللهمّ لا. قال : أمّا العيش الهنيء فهو الذي لا يفترّ صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقي ،

١١

يطلب رضاي في ليله ونهاره. وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظّم حق عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيّئة أو معصية وينقّي قلبه عن كل ما أكره ، ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلاً فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّاً حتى أجعل قلبه لي وفراغه وإشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي وافتح عين قلبه وسمعه حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي.

وأخيراً فإنّ هذا الحديث القدسي الكريم يختتم بهذه العبارات المؤثّرة : يا أحمد ، لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة ، ولبس لباس العاري ثم أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سعتها أو رئاستها أو حليّها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد لله ربّ العالمين (١).

هذه الأحاديث القدسية من ربّ العرش التي تحمل روح الإنسان إلى أوج السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار إليه آنفاً.

ونضيف إلى ذلك أنّنا على يقين أنّه كان بين النبي ومحبوبه في تلك الليلة الكريمة أسرار وإشارات وكلمات اخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا الأفكار الساذجة إستيعابها ؛ ولذلك بقيت في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طيّ الكتمان فلم يَبُح بها لأحد إلّالخلصائه المختصين به.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (٢٣)

هذه الأصنام وليدة أهوائكم : بعد بيان الأبحاث المتعلّقة بالتوحيد والوحي والمعراج وآيات عظمة الواحد الأحد في السماء ، يتناول القرآن أفكار المشركين ، فينقضها ويتحدث عن معتقداتهم الخرافية ... فيقول : بعد أن أدركتم عظمة الله وآياته في خلقه فهل أنّ أصنامكم

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ / ٢١.

١٢

مثل اللات والعزّى والصنم الثالث وهو مناة بإمكانها أن تنفعكم أو تضرّكم : (أَفَرَءَيْتُمُ اللتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى).

مع أنّكم تزعمون أنّ قيمة البنت دون قيمة الولد ولو بلغكم أنّ أزواجكم أنجبن بنات حزنتم واسودّت وجوهكم.

(تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيْزَى). فهذه قسمة غير عادلة بينكم وبين الله تعالى فعلام تجعلون نصيب الله دون نصيبكم؟!

وهكذا يتناول القرآن أفكارهم الخرافية مستهزئاً بها! ويقول لهم : إنّكم ترون البنت عاراً وذلّةً وتئدونها وهي حيّة في القبر ، وفي الوقت ذاته تزعمون بأنّ الملائكة بنات الله ، ولا تعبدون الملائكة من دون الله فحسب بل تصنعون لها التماثيل وتجعلون لها تلك القدسية.

ومن هنا يبدو واضحاً أنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون بعض هذه الأصنام على الأقل على أنّها تماثيل الملائكة ، الملائكة التي يسمّون كلّاً منها بربّ النوع ومدير الوجود ومدبّره ، وكانوا يرون أنّ الملائكة بنات الله.

ومن هنا يتبيّن أنّ القرآن لا يقصد إمضاء ما كان عليه العرب من التفريق بين الذكر والانثى ، بل يريد بيان ما هو مقبول ومسلّم عندهم (وهو منطق الجدل) ، وإلّا فلا فرق في نظر الإسلام ومنطقه بين الذكر والانثى من حيث القيمة الإنسانية ، ولا الملائكة فيهم ذكر وانثى ، ولا هم بنات الله ، وليس عند الله من ولد أساساً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن بضرس قاطع : (إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ).

فلا دليل لديكم من العقل ، ولا دليل عن طريق الوحي على مدّعاكم ، وليس لديكم إلّا حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.

ثم يختتم القرآن الآية بالقول : (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ). فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس (وَلَقَدْ جَاءَهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى) .. إلّاأنّهم أغمضوا أعينهم عنه وخلّفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات.

وأساساً فإنّ هوى النفس ذاته يعدّ أكبر الأصنام وأخطرها ، وهو الأصل لظهور الأصنام الاخرى.

١٣

(أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (٢٦)

هذه الآيات أيضاً تتناول بالبحث والتعقيب موضوع عبادة الأصنام وخرافتها ، وهي تتمّة لما سبق بيانه في الآيات المتقدمة. فتتناول أوّلاً الامنيات الجوفاء عند عبدة الأصنام وما كانوا يتوقّعون من الأصنام : (أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى).

تُرى! هل من الممكن أن تشفع هذه الأجسام التي لا قيمة لها ولا روح فيها عند الله سبحانه؟ أو يُلتجأ إليها عند المشكلات؟ كلّا! (فَلِلَّهِ الْأَخِرَةُ وَالْأُولَى).

إنّ عالم الأسباب يدور حول محور إرادته ، وكل ما لدى الموجودات فمن بركات وجوده ، فالشفاعة من اختياراته أيضاً ، وحلّ المشاكل بيد قدرته كذلك.

وهكذا فإنّ القرآن يقطع أمل المشركين تماماً ـ بشفاعة الأصنام.

وفي آخر الآيات محل البحث يقول القرآن مضيفاً ومؤكّداً على هذه المسألة : (وَكَم مّن مَّلَكٍ فِى السَّموَاتِ لَاتُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى).

فحيث لا تستطيع الملائكة على عظمتها حتى ولو بشكل جماعي أن تشفع لأحد إلّابإذن الله ورضاه ، فما عسى يُنتظر من هذه الأصنام التي لا قيمة لها.

بحث

سعة الأماني : الأمل أو التمنّي إنّما ينبع من محدودية قدرة الإنسان وضعفه ، الإنسان إذا كانت له علاقة بالشيء ولم يستطع أن يبلغه ويحقّقه فإنّه يأخذ صورة التمنّي عنده ...

وبالطبع قد تكون أمانيّ الإنسان أحياناً نابعة من روحه العالية وباعثاً على الحركة والجدّ والنشاط والجهاد وسيره التكاملي ... كما لو تمنّى بأن يتقدم الناس بالعلم والتقوى والشخصية والكرامة.

إلّا أنّه كثيراً ما تكون هذه الأحلام والأماني كاذبة ، وعلى العكس من الأماني الصادقة فانّها ـ أي الكاذبة ـ أساس الغفلة والجهل والتخدير والتخلّف كما لو تمنّى الإنسان الخلود في الأرض والعمر الدائم ، وأن يملك أموالاً طائلة ، وأن يحكم الناس جميعاً وأمثال هذا الخيال الموهوم.

ولذلك فقد رغّبت الروايات الإسلامية الناس في تمنّي الخير ، كما في كتاب الخصال عن

١٤

علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تمنّى شيئاً وهو لله عزوجل رضاً لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه.

(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (٢٧) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) (٣٠)

هذه الآيات ـ محل البحث ـ كالآيات المتقدمة ، تبحث موضوع نفي عقائد المشركين ، فتقول أوّلها : (إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى).

أجل ، إنّ هذا الكلام القبيح والمخجل إنّما يصدر من اناس لا يعتقدون بيوم الحساب ولا بجزاء أعمالهم ، فلو كانوا يعتقدون بالآخرة لما تجاسروا وقالوا مثل هذا الكلام ، وأي كلام؟! كلام ليس لهم فيه أدنى دليل ... بل الدلائل العقلية تبرهن على أنّه ليس لله من ولد ، وليس الملائكة إناثاً ، ولا هم بنات الله كذلك.

ثم يتناول القرآن واحداً من الأدلة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول معقّباً : (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيًا).

فالإنسان الهادف والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية ، ولا ينسب أيّة نسبة لأحد دونما دليل .. فالتعويل على الظن والتصور إنّما هو من عمل الشيطان أو من يتّصف بالشيطانية ... وقبول الخرافات والأشياء الموهومة دليل الإنحراف وعدم العقل.

ولكن الظن المعقول وهو ما يخطر في الذهن ، ويكون مطابقاً للواقع غالباً ، وعليه يبني الإنسان أعماله وسلوكياته اليومية عادة ـ كشهادة الشهود في المحكمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك ـ غير داخل في هذه الآيات ، وهذه الامور نوع من العلم العرفي لا الظن.

ومن أجل أن يبيّن القرآن أنّ هؤلاء الجماعة ليسوا أهلاً للإستدلال والمنطق الصحيح ، وقد ألهاهم حب الدنيا عن ذكر الله وجرّهم إلى الوحل في خرافاتهم وأوهامهم يضيف قائلاً : (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا).

١٥

إنّما عبارة (ذكرنا) ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كل توجّه نحو الله ، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن ، أو عن طريق العقل ، أو عن طريق السنّة ، أو تذكّر القيامة وما إلى ذلك.

وربّما لا حاجة إلى التذكير أنّ الأمر بالإعراض عن هذه الفئة (أهل الدنيا) لا ينافي تبليغ الرسالة الذي هو وظيفة النبي الأساسية ، لأنّ التبليغ والإنذار والبشارة كلها لا تكون إلّافي موارد احتمال التأثير ، فحيث يعلم ويتيقّن عدم التأثير فلا يصحّ هدر الطاقات ، وينبغي الإعراض بعد إتمام الحجة.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يثبت القرآن إنحطاط أفكار هذه الفئة فيقول مضيفاً : (ذلِكَ مَبْلَغُهُم مّنَ الْعِلْمِ).

إنّ آية أعلاه يمكن أن تكون إشارةً إلى خرافاتهم كعبادة الأصنام وجعلهم الملائكة بنات الله : أي أنّ منتهى علمهم هو هذه الأوهام.

أو أنّها إشارة إلى حبّ الدنيا والأسر في قبضة الماديات ، أي أنّ منتهى إدراكهم هو قناعتهم بالأكل والشرب والنوم والمتاع الفاني في هذه الدنيا وزبرجها وزخرفها الخ.

وقد جاء في الدعاء المعروف في أعمال شعبان المنقول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا.

وتختتم الآية بالقول : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى).

ختام الآية يشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله يعرف الضالين جيّداً كما يعرف المهتدين أيضاً ، فيصبّ غضبه على الضالّين ويسبغُ لطفه على المهتدين ، ويجازي كلّاً بعمله يوم القيامة.

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (٣٢)

لما كان الكلام في الآيات المتقدمة عن علم الله بالضالين والمهتدين ، فإنّ الآيات أعلاه تتمّة لما جاء آنفاً. تقول : (وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ).

١٦

فالمالكية المطلقة في عالم الوجود له وحده ، والحاكمية المطلقة على هذا العالم له أيضاً ، ولذلك فإنّ تدبير عالم الوجود بيده فحسب. ولما كان الأمر كذلك فهو وحده الجدير بالعبادة والشفاعة.

إنّ هدفه الكبير من هذا الخلق الواسع ليستيقظ الإنسان في عالم الوجود وليسير في مسير التكامل في ضوء المناهج التكوينية والتشريعية وتعليم الأنبياء وتربيتهم ، لذلك فإنّ القرآن يذكر نتيجة هذه المالكية فيختتم الآية بالقول : (لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).

ثم يصف القرآن المحسنين في الآية التالية فيقول : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ).

«الكبائر : جمع كبيرة ؛ والإثم في الأصل هو العمل الذي يُبعد الإنسان عن الخير والثواب ، لذلك يطلق على الذنب عادةً ؛ واللمم : معناه الإقتراب من الذنب. في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : اللمم : الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر الله منه.

والقرائن الموجودة في هذه الآية تشهد على هذا المعنى أيضاً ... إذ قد تصدر من الإنسان بعض الذنوب ، ثم يلتفت إليها فيتوب منها.

أضف إلى ذلك فإنّ الجملة التالية بعد الآية في القرآن تقول : (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ).

وهذا يدل على أنّ ذنباً صدر من الإنسان وهو بحاجة إلى غفران الله. يعنى أنّ الذين أحسنوا من الممكن أن ينزلقوا في منزلق ما فيذنبوا ، إلّاأنّ الذنب على خلاف سجيّتهم وطبعهم وقلوبهم الطاهرة ـ وإنّما تقع الذنوب عَرضاً ، ولذلك فما أن يصدر منهم الذنب إلّا ندموا وتذكّروا وطلبوا المغفرة من الله سبحانه.

ويتحدث القرآن في ذيل الآية عن علم الله المطلق مؤكّداً عدالته في مجازاة عباده حسب أعمالهم فيقول : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ).

وقوله أنشأكم من الأرض إمّا هو بإعتبار الخلق الأوّل عن طريق آدم عليه‌السلام الذي خلقه من تراب ، أو باعتبار أنّ ما يتشكّل منه وجود الإنسان كله من الأرض ، حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة ، ثم بعد ذلك له الأثر في مراحل نمو الإنسان أيضاً.

وعلى كل حال ، فإنّ الهدف من هذه الآية أنّ الله مطّلع على أحوالكم وعليم بكم منذ كنتم ذرّات في الأرض ومن يوم إنعقدت نطفتكم في أرحام الامّهات في أسجاف من الظلمات فكيف ـ مع هذه الحال ـ لا يعلم أعمالكم.

١٧

وهذا التعبير مقدمة لما يليه من قوله تعالى : (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).

فلا حاجة لتعريفكم وتزكيتكم وبيان أعمالكم الصالحة ، فهو مطّلع على أعمالكم وعلى ميزان خلوص نيّاتكم ، وهو أعرف بكم منكم.

في علل الشرائع عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ) قال : «لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه لأنّ الله تعالى أعلم بمن اتّقى منكم.

بحث

ما هي كبائر الإثم : إنّ كل ذنب فيه أحد الشروط التالية يعدّ كبيراً :

أ ـ الذنوب التي ورد الوعيد من قبل الله في شأنها والعذاب لمرتكبها.

ج ـ ب ـ الذنوب المذكورة في نظر أهل الشرع ولسان الروايات بأنّها عظيمة.

الذنوب التي عدّتها المصادر الشرعية أكبر من الذنوب التي هي من الكبائر.

د ـ وأخيراً الذنوب المصرّح بها في الروايات المعتبرة بأنّها من الكبائر.

وقد ورد ذكر الكبائر في الروايات الإسلامية مختلفاً عددها فيه ، إذ جاء في بعضها أنّها سبع. في ثواب الأعمال عن الإمام الصّادق عليه‌السلام قال : ... والكبائر السبع الموجبات : قتل النفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، والتعرب بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف.

وجاء في بعض الروايات أنّها عشر ، وأوصلتها روايات اخر إلى تسع عشرة كبيرةً ، وربّما ترقّى هذا العدد إلى أكثر مما ذكر في بعض الروايات أيضاً.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَنْ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (٤١)

سبب النّزول

في مجمع البيان : نزلت في عثمان بن عفان ، كان يتصدق وينفق ماله ، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح : ما هذا الذي تصنع يوشك أن لا يبقى لك شيء؟ فقال عثمان :

١٨

إنّ لي ذنوباً ، وإنّي أطلب بما أصنع رضى الله وأرجو عفوه. فقال له عبدالله : أعطني ناقتك ، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه ، وأشهد عليه ، وأمسك عن الصدقة. فنزلت الآيات.

وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على دينه ، فعيره بعض المشركين ، وقالوا : تركت دين الأشياخ وظلتهم ، وزعمت أنّهم في النار؟ قال : إنّي خشيت عذاب الله. فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه ، أن يتحمل عنه عذاب الله ، ففعل. فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل ، ومنعه تمام ما ضمن له ، فنزلت الآيات.

التّفسير

كان الكلام في الآيات السابقة في أن يجزي الله تعالى من أساء بإساءته ويثيب المحسنين بإحسانهم ... وبما أنّه من الممكن أن يتصور أن يعذّب أحد بذنب غيره أو أن يتحمل أحد وزر غيره ، فقد جاءت هذه الآيات لتنفي هذا التوهم في المقام ، وبيّنت هذا الأصل الإسلامي المهم أنّ كلّاً يرى نتيجة عمله ، فقالت أوّلاً : (أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى). أي تولّى من الإسلام أو الإنفاق. (وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى) (١). بمعنى أنّه أنفق القليل ثم إمتنع وأمسك وهو يظنّ أنّ غيره سيحمل وزره يوم القيامة ..

(أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى). فأيّ رجل جاءهم من الغيب والقيامة فأخبرهم بأنّه يمكن أخذ الرشوة وتحمّل آثام الآخرين؟

وبعد هذا تأتي الآية الاخرى لتبيّن إعتراض القرآن الشديد على ذلك ، وبيان لأصل كلي مطّرد في الأديان السماوية كلها فتقول : تُرى أهذا الذي إمتنع عن الإنفاق وآمن بالوعود الخيالية ، ويريد أن يخلص نفسه من عذاب الله بإنفاقه اليسير والزهيد من أمواله ، أتغنيه هذه الخيالات والتصورات : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرهِيمَ الَّذِى وَفَّى) (٢).

«إبراهيم : هو ذلك النبي العظيم الذي أدّى حق رسالة الله ، وبلّغ ما أمره به ووفي بجميع عهوده ومواثيقه ، ولم يخش تهديد قومه وطاغوت زمانه ، ذلك الإنسان الذي بذل نفسه للنيران وقلبه للرحمن وولده للقربان وماله للُاخوان.

ثم تأتي الآية الاخرى لتقول : (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

__________________

(١) أكدى : مأخوذ من الكدية ومعناه الصلابة ، ثم أطلق على من يمسك والبخيل.

(٢) وفّى : مصدره توفية معناه البذل والأداء التامّ ..

١٩

«الوزر : في الأصل مأخوذ من الوَزَر ـ على زنة خطر ـ ومعناه المأوى أو الكهف أو الملجأ الجبلي ، ثم استعملت هذه الكلمة في الاعباء الثقيلة! لشباهتها الصخور الجبلية العظيمة ، وأطلقت على الذنب أيضاً ، لأنّه يترك عبئاً ثقيلاً على ظهر الإنسان.

والمراد من الوازرة من يتحمل الوزر.

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلاً : (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى).

أمّا الآية التالية فتقول : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى). فالإنسان لا يرى غداً نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب ، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب ، كما نجد التصريح بذلك في الآية (٣٠) من سورة آل عمران : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا).

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول : (ثُمَّ يُجْزَيهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى).

والمراد من الجزاء الأوفى هو الجزاء الذي يكون طبقاً للعمل ، وبالطبع هذا لا ينافي لطف الله وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء الله.

اشير في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إلى ثلاثة اصول من الاصول الإسلامية ، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي :

أ) كل إنسان مسؤول عن ذنبه ووزره.

ب) ليس للإنسان في آخرته إلّاسعيه.

ج) يُجزي الله كل إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي.

(وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) (٤٩)

كل شيء ينتهي إليه : في هذه الآيات تتجلى بعض صفات الله التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضاً. ففي هذه الآيات وإكمالاً للبحوث الواردة في شأن جزاء

٢٠