مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧)

قلنا في بداية السورة بأنّ هناك مجموعة من آياتها تتحدث حول المبدأ والمعاد والإعتقادات الحقّة ، ومن ربطها مع بعضها نحصل على حقائق جديدة. في هذا المقطع من الآيات يجرّ القرآن المشركين في الواقع إلى المحاكمة ، ثم يبيّن تفسّخ منطقهم الواهي بخصوص شفاعة الأصنام.

في الآية الاولى يقول تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ). ولكن اعلموا أنّ هذه الأصنام أو الشركاء لا يستجيبون لدعائكم أبداً ، ولا يحلّون لكم مشكلة.

ثم تنتقل الآية إلى عرض الدليل على هذا القول ، فيقول تعالى : لأنّهم (لَايَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ).

وللإجابة على هذا التساؤل تقول الآية التي بعدها : لو كان هناك شفعاء لدى الله تعالى فإنّهم لا يشفعون إلّابإذنه وأمره : (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ).

وعليه فإنّ العذر الذي يتعلّل به الوثنيون بقولهم : (هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ) (١). ينتهي بهذا الجواب ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى ، لم يجز شفاعتها أبداً.

لذا تقول العبارة بعدها بأنّه في ذلك اليوم تهيمن الوحشة والإضطراب على القلوب ، ويستولي القلق على الشافعين والمشفوع لهم بانتظار أن يروا لمن يأمر الله بجواز الشفاعة؟ وعلى من ستجوز تلك الشفاعة؟ وتستمر حالة القلق والإضطراب ، حتى حين ... فيزول

__________________

(١) سورة يونس / ١٨.

١٠١

ذلك الفزع والإضطراب عن القلوب بصدور الأمر الإلهي : (حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ).

هنا وحينما يتواجه الفريقان ويتساءلان ، (أو أنّ المذنبين يسألون الشافعين) : (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ). فيجيبونهم : (قَالُوا الْحَقَّ). وما الحق إلّاجواز الشفاعة لمن لم يقطعوا إرتباطهم تماماً مع الله.

وتضيف الآية في الختام : (وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ).

وهذه العبارة متمّمة لما قاله «الشفعاء» ، حيث يقولون : لأنّ الله عليّ وكبير فأي أمر يصدره هو عين الحق ، وكل حق ينطبق مع أوامره.

في الآية التالية يلج القرآن الكريم طريقاً آخر لإبطال عقائد المشركين ، ويجعل مسألة «الرازقية» عنواناً بعد طرحه لمسألة «الخالقية التي مرّت معنا في الآيات السابقة. يقول تعالى : (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

بديهي أن لا أحد منهم يستطيع القول بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي التي تنزل المطر من السماء ، أو تنبت النباتات في الأرض.

الجميل أنّه ـ بدون إنتظار الجواب منهم ـ يردف تعالى قائلاً : (قُلِ اللهُ).

آخر الآية تشير إلى موضوع يمكنه أن يكون أساساً لدليل واقعي ومتوائم مع غاية الأدب والإنصاف ، بطريقة تستنزل الطرف المقابل من مركب الغرور والعناد الذي يمتطيه ، وتدفعه إلى التفكر والتأمل. يقول تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

وهذا إشارة إلى : أنّ عقيدتنا وعقيدتكم متضادّتان ، وعليه ـ بناءً على إستحالة الجمع بين النقيضين ـ فلا يمكن أن تكون الدعوتان على حقّ.

وتستمر الآية التي بعدها بالاستدلال بشكل آخر ـ ولكن بنفس النمط المنصف الذي يستنزل الخصم من مركب العناد والغرور. يقول تعالى : (قُل لَّاتُسَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وهنا أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمور باستعمال تعبير «جرم» فيما يخصّه ، وتعبير «أعمال» فيما يخصّ الطرف الآخر ، وبذا تتّضح أنّ كل شخص مسؤول أن يعطي تفسيراً لأعماله وأفعاله ، لأنّ نتائج أعمال أي إنسان تعود عليه ، حسنها وقبيحها.

الآية التالية توضيح لنتيجة الآيتين السابقتين ، فبعد أن نبّه إلى أنّ أحد الفريقين على الحق والآخر على الباطل ، وإلى أنّ كلّاً منهما مسؤول عن أعماله ، إنتقل إلى توضيح كيفية

١٠٢

التحقّق من وضع الجميع ، والتفريق بين الحق والباطل ومجازاة كل فريق طبق مسؤوليته ، فيقول تعالى ، قل لهم بأنّ الله سوف يجمعنا في يوم البعث ، ويحكم بيننا بالحق ، ويفصل بعضنا عن بعض ، حتى يعرف المهتدون من الضالين ، ويبلغ كل فريق بنتائج أعماله. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ).

وإذا كنتم اليوم ترون أنّكم مخلوطون بعضكم البعض ، وكلّاً يدّعي بأنّه على الحق وبأنّه من أهل النجاة ، فإنّ هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد ، ولابدّ أن يأتي يوم التفريق بين الصفوف ، فربوبية الله إقتضت فصل «الطيب» من «الخبيث» و «الخالص» من «المشوب» و «الحق» عن «الباطل» في النهاية. ويستقرّ كل منهما في مكانه اللائق.

فكّروا الآن ماذا ستعملون في ذلك اليوم ، وفي أي صفّ ستقفون ، وهل أحضرتم إجابة لمساءلة الله في ذلك اليوم؟

وفي آخر الآية يضيف ليؤكّد حتمية ذلك التفريق فيقول : (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ).

هذان الاسمان ـ وهما من أسماء الله الحسنى ـ أحدهما يشير إلى قدرة الله تعالى على عملية فصل الصفوف ، والآخر إلى علمه اللامتناهي ، إذ إنّ عملية تفريق صفوف الحق عن الباطل لا يمكن تحقّقها بدون هاتين الصفتين.

واستخدام كلمة «الربّ» في الآية أعلاه إشارةً إلى أنّ الله هو المالك والمربّي للجميع ، وذلك ممّا يقتضي أن يكون برنامج مثل ذلك اليوم معدّاً ، وهي إشارة لطيفة إلى إحدى دلائل «المعاد».

«فتح» : كما يشير الراغب في مفرداته ، الفتح إزالة الإغلاق والإشكال. وذلك ضربان : أحدهما : يدرك بالبصر كفتح الباب ونحوه ، وكفتح القفل ، والغلق والمتاع ؛ والثاني : يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغمّ ، وذلك ضروب : أحدها : في الامور الدنيوية كغمّ يُفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه ، والثاني : فتح المستغلق من العلوم ، ... إلى أن يقول : و «فتح القضية فتاحاً فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها». وعليه فإنّ استخدام هذه المفردة هنا لأنّ الحكم والقضاء يتمّ أيضاً هناك ، فضلاً عن الفصل والتفريق بينهما الذي هو أحد معاني كلمة «فتح» ـ ومجازاة كل بما يستحق.

في الآية الأخيرة من هذه الآيات والتي هي عبارة عن الأمر الخامس للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يعود القرآن إلى الحديث مرّة اخرى في مسألة التوحيد التي ابتدأ بها ليختمه بها. يقول تعالى : (قُلْ أَرُونِى الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ).

١٠٣

فبعد هذه الجملة مباشرة ، وبكلمة واحدة يشطب على هذه الأباطيل فيقول : (كَلَّا). فهذه الأشياء لا تستحق أن تعبد أبداً وهذه الأوهام والتصورات ليس لها شيء من الواقعية.

ثم لأجل تأكيد وتثبيت هذا المعنى يقول مختتماً الحديث : (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فعزته وقدرته الخارقة ، تقتضي الدخول في حريم ربوبيته ، وحكمته تقتضي توجيه هذه القدرة في محلها.

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠)

الدعوة العالمية : الآية الاولى من هذه الآيات ، تتحدث في نبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والآيات التي تليها تتحدث حول الميعاد.

أشارت الآيات ابتداءً إلى شمولية دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمومية نبوّته لجميع البشر فقالت : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ).

«كافّة» : من مادة «كفّ» وتعني الكفّ من يد الإنسان ، وبما أنّ للإنسان يقبض على الأشياء بكفّه تارةً ويدفعها عنه بكفّه تارةً اخرى ، فلذا تستخدم هذه الكلمة للقبض أحياناً ، وللمنع اخرى. وهنا بمعنى «الجمع» وفي هذه الحالة يكون مفهوم الآية «إنّنا لم نرسلك إلّا لجميع الناس». أي عالمية دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبناءً على ما أشارت إليه الآيات السابقة من أنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الناس ويحكم بينهم تورد هذه الآية سؤال منكري المعاد كما يلي : (وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

ولكن القرآن الكريم يمتنع دائماً عن الإجابة الصريحة على هذا السؤال وتعيين زمان وقوع البعث ، ويؤكّد أنّ هذه الامور هي من علم الله الخاصّ به سبحانه وتعالى ، وليس لأحد غيره الإطّلاع عليها.

لذا فقد تكرّر في الآية التي بعدها ، هذا المعنى بعبارة اخرى. يقول تعالى : (قُل لَّكُم مّيعَادُ

١٠٤

يَوْمٍ لَّاتَسْتْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ).

إنّ إخفاء تأريخ قيام الساعة ـ حتى على شخص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما أسلفنا ـ لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لعباده نوعاً من حرية العمل مقترنة بحالة من التهيّؤ الدائم ، لأنّه لو كان تاريخ قيام القيامة معلوماً فإنّ الجميع سيغطّون في الغفلة والغرور والجهل حينما يكون بعيداً عنهم ، أمّا حين إقترابه منهم فستكون أعمالهم ذات جنبة اضطرارية ، وفي كلتا الحالتين تتحجّم الأهداف التربوية للإنسان.

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣)

لمناسبة البحث الوارد في الآيات السابقة حول مواقف المشركين إزاء مسألة المعاد ، تعرّج هذه الآيات إلى تصوير بعض فصول المعاد المؤلمة لهؤلاء المشركين كي يقفوا على خاتمة أعمالهم. أوّلاً يقول تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْءَانِ وَلَا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ). أي ولا بالكتب السماوية السابقة.

فإنّ إنكار الإيمان بكتب الأنبياء السابقين ، يحتمل أن يكون المقصود به ، نفي نبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال نفي الكتب السماوية الاخرى ، باعتبار أنّ القرآن أكّد على موضوع ورود دلائل على نبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة والإنجيل ، ولهذا يقولون : نحن لا نؤمن لا بهذا الكتاب ولا بالكتب التي سبقته.

ثم تنتقل إلى الحديث حول وضع هؤلاء في القيامة من خلال مخاطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ).

١٠٥

في حين أنّ «المستضعفين» الذين اتّبعوا بجهلهم «المستكبرين» وهم الذين سلكوا طريق الغرور والتسلط على الآخرين ورسموا لهم منهجهم الشيطاني ، هناك : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ).

إنّهم يريدون بذلك إلقاء مسؤولية ذنوبهم على عاتق هؤلاء «المستكبرين» ، مع أنّهم لم يكونوا حاضرين للتعامل معهم بمثل هذه القاطعية في دار الدنيا.

لكن «المستكبرين» لا يبقون على صمتهم بل : (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم).

كلّا ، فلسنا بمسؤولين ، فمع إمتلاككم حرية الإرادة ، استسلمتم لأحاديثنا الباطلة ، وكفرتم وألحدتم متناسين أحاديث الأنبياء المنطقية ، (بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ).

ولكن المستضعفين لا يقتنعون بهذا الجواب ، ويعاودون القول مرّة اخرى لإثبات جرم المستكبرين : (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَروا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا).

فصحيح أنّنا كنّا أحراراً في القبول بذلك ، ولكن باعتباركم عامل الفساد فأنتم مسؤولون ومجرمون ، خاصة وأنّكم كنتم تتحدثون معنا دائماً من موقع القدرة والسلطة.

لذا فإنّ الفريقين يندمون على ما قدّمت أيديهم ، المستكبرون على إضلالهم للآخرين ، والمستضعفون على إيمانهم وقبولهم بتلك الأباطيل المشؤومة ، ولكن لكي لا يفتضحوا أكثر فانّهم يكتمون الندم حينما يواجهون العذاب الإلهي ... (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْللَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا).

فهم في الدنيا حينما يلتفتون إلى إشتباههم ويندمون لم يكونوا يمتلكون الشجاعة لإظهار ندمهم الذي هو أوّل طريق التوبة وإعادة النظر ، وتلك هي الخصلة الأخلاقية الخاصة بهم والتي يمارسونها في الآخرة أيضاً.

فإنّ هؤلاء قد وجدوا نتائج أعمالهم : (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

فالآية تشير أيضاً إلى قضية تجسم الأعمال.

التعبير ب «الذين كفروا» يشير إلى أنّ فريقي الغاوين والمغويين المستضعفين وكل الكفار يلقون ذلك المصير.

١٠٦

(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) (٣٨)

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة في الغاوين من المستكبرين ، فإنّ جانباً آخر من هذا المبحث تعكسه الآيات أعلاه بطريقة اخرى ، فتقول الآية المباركة : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ).

«نذير» : من «الإنذار» وهو الإخبار الذي فيه تخويف ، وإشارة إلى أنبياء الله الذين ينذرون الناس من عذاب الله في قبال الانحرافات والظلامات والذنوب والفساد.

«مترفوها» : جمع «مترف» من مادة «ترف» بمعنى «التوسّع» في النعمة و (المترف) الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش ، وأترفته النعمة أي أطغته.

تشير الآية التالية إلى المنطق الأجوف الذي يتمسك به هؤلاء لإثبات أفضليتهم ولاستغفال العوام فتقول : (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلدًا).

إنّ الله يحبّنا ، فقد أعطانا المال الوفير ، والقوّة البشرية ، وذلك دليل على لطفه بحقّنا وإشارة إلى مقامنا وموقعنا عنده ، ولذلك لن نعاقب أبداً (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

الآية التي بعدها تردّ بأرقى اسلوب على هذا المنطق الأجوف الخدّاع وتنسفه من الأساس ، وبطريق مخاطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تقول الآية الكريمة : قل لهم : إنّ ربّي يرزق من يشاء ويقدر لمن يشاء ، وذلك أيضاً طبق مصالح مرتبطة بامتحان الخلق وبنظام حياة الإنسان ، وليس له أي ربط بقدر ومقام الإنسان عند الله سبحانه وتعالى : (قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ).

وعليه فلا يجب إعتبار سعة الرزق دليلاً على السعادة ، وقلّته على الشقاء ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ). طبعاً أكثر الجهّال المغفّلين هم كذلك.

١٠٧

ثم تتابع الآيات هذا المعنى بصراحة أكثر. تقول : (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُم بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى).

ولكن ليس معنى هذا هو حثّ الإنسان على ترك السعي والدأب اللازم لإقامة الأود ، بل المقصود هو التأكيد على أنّ امتلاك الإمكانات الاقتصادية والقوة البشرية الواسعة لا يمثّل أبداً أيّة قيمة معنوية للإنسان عند الله.

ثم تتناول الآية موضوع المعيار الأصلي لتقييم الناس ، وما يسبّب قربهم منه (على شكل استثناء منفصل) فتقول : (إِلَّا مَنْءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِءَامِنُونَ).

وعليه فجميع المعايير تعود أصلاً إلى هذين الأمرين «الإيمان» و «العمل الصالح».

هنا يشطب القرآن وبصراحة قلّ نظيرها على كل الظنون المنحرفة والخرافات بخصوص عوامل القرب من الله.

كلمة «ضعف» ليست بمعنى «مضاعفة الشيء مرتين فقط ، بل بمعنى «أضعاف مضاعفة لأكثر من مرتين» ، وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى.

«غرفات» : جمع «غرفة» بمعنى الحجرات العلوية من البناء ، والتي غالباً ما تكون إضاءتها أكثر وهواؤها أفضل ، وبعيدة عن الآفات.

التعبير ب «آمنون» فيما يخصّ أهل الجنة ، تعبير جامع يعكس حالة الطمأنينة الروحية والجسدية لهم من كافّة النواحي.

الآية التالية تصف الفريق المقابل لهؤلاء ، فتقول : أمّا هؤلاء الذين يسعون ويجتهدون لتسفيه آياتنا ، لا يؤمنون ولا

يتركون غيرهم يسيرون في طريق الإيمان ، ويتوهّمون أنّهم يستطيعون الفرار من يد قدرتنا ، هؤلاء يحضرون في عذاب أليم يوم القيامة (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِىءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ).

هؤلاء هم الذين اعتمدوا على أموالهم وأولادهم وكثرة عددهم لتكذيب الأنبياء ، وعملوا على إغواء عباد الله.

«معاجزين» : كما ذهب بعض أرباب اللغة إلى أنّ معناه أنّ هؤلاء تصوروا أنّهم يستطيعون الفرار من دائرة قدرة الله تعالى وجزائه وعقابه ، إلّاأنّ هذا التوهّم باطل وسراب خادع.

١٠٨

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (٤٢)

نفور المعبودين من عابديهم : تعود هذه الآيات لتؤكّد مرّة اخرى خطأ الذين يتوهمون بأنّ أموالهم وأولادهم سبب لقربهم من الله فتقول : (قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ).

ثم تضيف الآية : (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

وفي الكافي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة».

والجدير بالتذكير هو أنّ الإنفاق يجب أن يكون من المال الحلال والكسب المشروع ، وإلّا فلا قبول لغيره عند الله ولا بركة فيه.

فمع أنّ محتوى هذه الآية يؤكّد ما عرضته الآيات السابقة إلّاأنّ هناك ما هو جديد من جهتين :

الاولى : أنّ الآية السابقة التي عرضت نفس المفهوم ، كانت تتحدث عن أموال وأولاد الكفار ، بينما الآية محل البحث باحتوائها على كلمة «عباد» تشير إلى المؤمنين.

الثانية : الآية السابقة أشارت إلى سعة الرزق وضيقه بالنسبة إلى مجموعتين مختلفتين ، في حين أنّ هذه الآية تشير إلى حالتين مختلفتين بالنسبة لشخص واحد ، حيناً يتّسع رزقه وحيناً يضيق.

ولأنّ فريقاً من الأثرياء الظالمين الطغاة كانوا في صفّ المشركين ، وادّعوا بأنّهم يعبدون الملائكة وأنّهم شفعاؤهم يوم القيامة ، فقد ردّ القرآن على هذا الإدعاء الباطل فقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلِكَةِ أَهؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ).

والهدف من هذا السؤال هو أن تظهر الحقائق من إجابة الملائكة ، لكي يخسأ هؤلاء الضالّون ويخيب ظنّهم ، ويعلموا بأنّ الملائكة متنفّرين من أعمالهم ، فيصيبهم اليأس إلى

١٠٩

الأبد.

ذكر (الملائكة) من بين المعبودات التي كان المشركون يعبدونها ، إمّا لأنّ الملائكة أشرف المخلوقات التي عبدها الضالّون ، أو أنّه من قبيل أنّ عبدة الأوثان كانوا يعتقدون بأنّ الأحجار والأخشاب هي مظهر ونموذج لموجودات علوية (كالملائكة وأرواح الأنبياء) ، ولذا عبدوها.

والآن لننظر ماذا تقول الملائكة للإجابة على سؤال الباريء عزوجل؟ لقد اختارت الملائكة في الحقيقة أكثر الأجوبة شمولية وأعظمها أدباً : (قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُؤْمِنُونَ).

والمقصود (بالجن) هو (الشيطان) وسائر الموجودات الخبيثة التي شجّعت عبدة الأوثان على ذلك العمل ، وعليه فإنّ المراد من عبادة الجن هي تلك الطاعة والإنقياد لأوامرها والرضى بأضاليلها.

لذا ـ وكاستخلاص للنتيجة ـ تقول الآية الكريمة التي بعدها : (فَالْيَوْمَ لَايَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفَعًا وَلَا ضَرًّا). وبناءً على ذلك فلا الملائكة ـ الذين هم ظاهراً معبودون ـ يستطيعون الشفاعة لهم ، ولا هم يستطيعون مساعدة بعضهم البعض.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ).

التعبير عن «الكفر» ب «الظلم». أو عن «الكافرين والمشركين» ب «الظالمين» ، ذلك لأنّهم قبل كل شيء ظلموا أنفسهم بخلعهم تاج العبودية لله عن رؤوسهم.

وفي الحقيقة فإنّهم سيعاقبون يوم القيامة على شركهم وعلى إنكارهم للمعاد.

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (٤٥)

بأيّ منطق ينكرون آيات الله : تعود هذه الآيات لتكمل البحث الذي تناولته الآيات

١١٠

السابقة حول المشركين الكفار وأقوالهم يوم القيامة ، فتتحدث حول وضع هؤلاء في الدنيا ومواقفهم عند سماعهم القرآن حتى يتّضح أنّ مصيرهم الاخروي المشؤوم إنّما هو نتاج تلك المواقف الخاطئة التي اتّخذوها إزاء آيات الله في الدنيا. تقول الآية الكريمة الاولى : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُءَابَاؤُكُمْ).

فهذا أوّل ردّ فعل لهم إزاء «الآيات البينات» وهو السعي إلى تحريك حس العصبية في هؤلاء القوم المتعصبين.

ثم توضّح الآية مقولتهم الثانية التي قصدوا بها إبطال دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول : (وَقَالُوا مَا هذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى).

«إفك» : بمعنى كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه.

وأخيراً ، كان الإتّهام الثالث الذي ألصقوه بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو (السحر) كما نرى ذلك في آخر هذه الآية : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ).

في الآية التي بعدها ، يشطب القرآن الكريم على جميع تلك الإدّعاءات الواهية ، فيقول : (وَمَاءَاتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ).

وهي إشارة إلى أنّ هذه الإدّعاءات يمكنها أن تكون مقبولة فيما لو جاءهم رسول من قبل بكتاب سماوي يخالف مضمونه الدعوة الجديدة ، فلا بأس أن ينبروا لتكذيبها. أمّا من لا يعتمد إلّاعلى فكره الشخصي ـ بدون أي وحي من السماء ـ وبدون أن يكون له نصيب من علم ، فلا يحق له الحكم لمجرد تلفيقه الخرافات والأوهام.

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، تهدّد تلك المجموعة المتمردة بكلمات بليغة مؤثرة فتقول : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) في حين أنّ هؤلاء لم يبلغوا في القوة والقدرة عشر ما كان لُاولئك الأقوام (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَاءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).

فمدنهم المدمّرة بضربات العقوبة الإلهية الساحقة ليست ببعيدة عنكم ... فهي في الشام القريب منكم ، فليكونوا لكم مرآةً للعبرة ، واستمعوا إلى النصائح التي يقولها الدمار ، وقارنوا مصيركم بمصيرهم ، فلا السنّة الإلهية قابلة للتغيير ولا أنتم أقوى منهم.

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (٤٦)

١١١

الثورة الفكرية أساس لأي ثورة أصيلة : في هذا المقطع من الآيات والآيات التالية ، والتي تشكّل أواخر سورة سبأ المباركة ، يُؤمر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة اخرى بدعوة هؤلاء بالأدلة المختلفة ليؤمنوا بالحق ، ويرجعوا عن ضلالهم. ففي الآية الاولى إشارة إلى اللبنة الأساسية في كل التحولات والتبدّلات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والثقافية ، فتقول : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).

الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول هنا «تتفكّروا» دون أن يذكر بماذا؟ فحذف المتعلق دليل على العموم ، أي في كل شيء ، في الحياة المعنوية والمادية ، في الامور الكبيرة والصغيرة ، وبكلمة : في كل أمر يجب التفكر أوّلاً ، وأهمّ من ذلك كله هو التفكر للعثور على الإجابة للأسئلة الأربعة التالية : من أين جئت؟ لأيّ شيء أتيت؟ إلى أين أذهب؟ وأين أنا الآن؟

تعبير «صاحبكم» إشارة إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّه ليس نكرة بالنسبة لكم ، لقد عرفتموه بالأمانة والصدق والإستقامة.

«جنّة» : بمعنى «جنون» وفي الأصل من مادة «جن» بمعنى ستر الشيء عن الحاسّة ، ومن كون أنّ (المجنون) سُتر عقله ، فقد اطلق عليه هذا التعبير ، والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ العبارة تريد الكشف عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ من يدعو إلى التفكر والإنتباه كيف يكون هو مجنوناً.

جملة (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم) تلخص رسالة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسألة «الإنذار» أي : التحذير من المسؤولية ، ومن المحكمة الإلهية ، والعقاب الإلهي.

فالآية السابقة كانت دعوة للتفكر ونفي أي حالة من عدم التوازن الروحي عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي مطلع هذه الآيات ، يتحدث القرآن في عدم مطالبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأي أجر مقابل تبليغ الرسالة. تقول الآية الاولى : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللهِ).

أنا دعوتكم للتفكر ، والآن تأمّلوا ، واسألوا وجدانكم ، أي سبب يدعوني لأن أنذركم من العذاب الإلهي الشديد؟ ، وأي ربح سوف أجنيه من هذا العمل ، لأنّي أساساً لم اطالبكم بأي أجر أو جزاء.

وأنّكم إن لاحظتم أنّي في بعض ما أخبرتكم به عن الله سبحانه وتعالى ، قلت لكم : (لَّا

١١٢

أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى) (١). فهذا أيضاً يعود نفعه إليكم ، لأنّ مودّة ذي القربى ترتبط بمفهوم (الإمامة والولاية) واستمرار خطّ النبوّة ، الذي هو ضروري لإدامة هدايتكم.

ثم تختم الآية بالقول : (وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ شَهِيدٌ). فإن كنت اريد أجري من الله وحده فلأنّه وحده عالم بكل أعمالي ومطّلع على نواياى.

بالإلتفات إلى ما قيل حول حقانية دعوة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تضيف الآية التي بعدها قائلة أنّ القرآن واقع غير قابل للإنكار لأنّه ملقى من الله سبحانه وتعالى على قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلمُ الْغُيُوبِ).

«يقذف» : من مادة «قذف» وهو الرمي البعيد. والمقصود ب «يقذف» بالحق هو الكتب السماوية والوحي الإلهي على قلوب الأنبياء والمرسلين ، ولأنّه سبحانه وتعالى هو علّام الغيوب ، فهو يعلم بالقلوب المهيّأة ، فينتخبها ويقذف الوحي فيها حتى ينفذ إلى أعماقها.

ويحتمل أن يكون المقصود بتعبير «القذف» هنا هو نفوذ حقّانية القرآن إلى نقاط العالم القريبة والبعيدة ، وهي إشارة إلى أنّ هذا الوحي السماوي سيضيء جميع العالم بنوره في نهاية الأمر.

بعدئذ ولزيادة التأكيد يضيف سبحانه وتعالى : (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ). وعليه فلن يكون للباطل أي دور مقابل الحق ، لا خطّة اولى جديدة ، ولا خطّة معادة ، ولهذا السبب فلم يتمكّن الباطل من طمس نور الحق ومحو أثره من القلوب.

ثم يضيف تعالى لأجل إيضاح أنّ ما يقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو من الله ، وأنّ كل هداية منه ، وأن ليس هناك أدنى خطأ أو نقص في الوحي الإلهي : (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى). أي : إنّني لو اتّكلت على نفسي فسوف أضلّ ، لأنّ الإهتداء إلى طريق الحق من بين أكداس الباطل ليس ممكناً بغير إمداد الله ، ونور الهداية الذي ليس فيه ضلال وتيه هو نور الوحي الإلهي.

وفي ختام الآية يضيف تعالى : (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ).

__________________

(١) سورة الشورى / ٢٣.

١١٣

(قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (٥٠)

ليس للكافرين مفرّ : الآيات الأخيرة من سورة سبأ تعود إلى الحديث في المشركين المعاندين الذين مرّ الحديث فيهم في الآيات السابقة عن طريق مخاطبة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فتصوّر حال تلك المجموعة عند وقوعها في قبضة العذاب الإلهي ، كيف تفكّر في الإيمان ، حين لا يكون لإيمانهم أدنى فائدة. يقول تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ).

وذلك الصراخ والفزع والإضطراب تتحدث عن الدنيا وعذاب الإستئصال ، أو لحظة تسليم الروح ، إذ يقول تعالى في الآية الأخيرة من هذا المقطع : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ).

والمقصود من جملة (أُخِذُوا مِن مَكَانٍ قَرِيبٍ) هو أنّ هؤلاء الأفراد الكافرين والظالمين ، ليس فقط لا يمكنهم الفرار من يد القدرة الإلهية فحسب ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى يأخذهم بالعذاب من مكان قريب منهم جدّاً.

الآية التي بعدها ، تعرض وضع هؤلاء بعد أن أخذهم العذاب الإلهي تقول الآية الكريمة : (وَقَالُواءَامَنَّا بِهِ). ولكن (أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ).

نعم فبحلول الموت وعذاب الإستئصال اغلقت أبواب العودة كليّاً ، وحيل كالسدّ المحكم بين الإنسان وبين أن يكفّر عن ذنوبه ، لذا فإنّ إظهار الإيمان في ذلك الحين ، كأنّه كائن من مكان بعيد ، وهو إيمان إضطراري بسبب الخوف الشديد من العذاب الذي يعاين هناك ، مثل ذلك الإيمان أصلاً لا قيمة له.

«التناوش» : من مادة «نوش» بمعنى التناول ، وبعضهم اعتبروا أنّها بمعنى «التناول» بسهولة. أي كيف يتناولون الإيمان من مكان بعيد ولم يكونوا يتناولونه من قريب.

كيف يستطيعون الآن وبعد أن انتهى كل شيء أن ينبروا لجبران خطاياهم ويؤمنوا ، في حين أنّهم قبل هذا كفروا : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ).

١١٤

ولم يكتفوا بالكفر فقط ، بل إنّهم ألصقوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبتعاليمه مختلف أنواع التّهم ، وحكموا أحكاماً خاطئة فيما يخصّ (عالم الغيب ـ والقيامة ـ والنبوّة) : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ).

«القذف» : الرمي من بعيد ؛ و «الغيب» هو عالم ماوراء الحس ، والجملة كناية لطيفة عمّن يطلق أحكامه على عالم ما وراء الطبيعة بلا سابق علم أو معرفة ، كمن يرمي شيئاً من نقطة بعيدة ، فقلّما يصيب الهدف ، فظنونهم وأمانيهم وأحكامهم لا تصيب أهدافها أيضاً.

ثم يضيف تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ).

ففي لحظة مؤلمة فصل بينهم وبين كل ثرواتهم وأموالهم ، وقصورهم ومقاماتهم ، وأمانيهم ، فكيف سيكون حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار ، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية ... كيف سيكون حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كل ذلك وداعاً أخيراً ، ثم يغمضون عيونهم ويسيرون باتّجاه مستقبل مظلم موحش.

نهاية تفسير سورة سبأ

* * *

١١٥
١١٦

٣٥

سورة فاطر

محتوى السورة : يمكن تلخيص آيات هذه السورة في خمسة أقسام :

١ ـ قسم مهم من آيات هذه السورة يتحدث حول آثار عظمة الله في عالم الوجود ، وأدلة التوحيد.

٢ ـ قسم آخر من آياتها يبحث في ربوبية الله ، وعن خالقيته ورزاقيته ، وخلق الإنسان من التراب ومراحل تكامل الإنسان.

٣ ـ قسم آخر يتحدث حول المعاد ونتائج الأعمال في الآخرة ، ورحمة الله الواسعة في الدنيا ، وسنّته الثابتة في المستكبرين.

٤ ـ قسم من الآيات يشير إلى مسألة قيادة الأنبياء وجهادهم الشديد والمتواصل ضدّ الأعداء المعاندين ، ومواساة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الخصوص.

٥ ـ القسم الأخير منها يتعرّض للمواعظ والنصائح الإلهية فيما يخصّ المواضيع المذكورة أعلاه ، ويعتبر مكمّلاً لها.

سمّيت هذه السورة ب «فاطر» أو «الملائكة» لابتداء آياتها بآية ذكر فيها «فاطر و «الملائكة».

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قرأ سورة الملائكة ،

١١٧

دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنة أن ادخل من أيّ الأبواب شئت».

ومع الإلتفات إلى ما نعلمه من أنّ أبواب الجنة هي تلك العقائد والأعمال الصالحة التي سبّبت الوصول إلى الجنة ، فيمكن أن تكون الرواية السالف ذكرها إشارة إلى أبواب القاعدة الإعتقادية الثلاثية الأساس «التوحيد ـ المعاد ـ النبوّة.

ونقول كما قلنا سابقاً بأنّ القرآن برنامج عمل ، وتلاوته بداية للتفكر والإيمان الذي هو بدوره وسيلة للعمل بمحتوى الآيات ، وكل هذا الثواب العظيم يتحقق بهذه الشروط.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣)

فاتح مغاليق الأبواب : تبدأ هذه السورة بحمد الله والثناء عليه لخلقه هذا الكون الفسيح. يقول تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

«فاطر» : من مادة «فطر» وأصله الشقّ طولاً ، لأنّ خلق الموجودات يشبه شقّ ظلمة العدم وظهور نور الوجود ، استخدم هذا التعبير فيما يخصّ الخلق.

ولأنّ تدبير امور هذا العالم قد نيطت من قبل الباريء عزوجل ـ بحكم كون عالمنا عالم أسباب ـ بعهدة الملائكة ، فالآية تنتقل مباشرةً إلى الحديث في خلق الملائكة وقدراتها العظيمة التي وهبها الله إيّاها. (جَاعِلِ الْمَلِكَةِ رُسُلاً أُولِى أجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

إنّ المقصود من الرسالة مفهوم واسع يشمل كلاً من «الرسالة التشريعية» و «الرسالة التكوينية».

«أجنحة» : جمع «جناح» ما يستعين به الطائر على الطيران ، وهو بمثابة اليد في الإنسان ،

١١٨

ولأنّ الجناح في الطائر يستخدم كوسيلة مساعدة على الإنتقال والحركة والفعالية ، فقد استخدمت هذه الكلمة كناية عن وسيلة الحركة ذاتها وعامل القدرة والاستطاعة ؛ والمقصود في الآية هو القدرة على الإنتقال والتمكن من الفعل.

بعد الحديث عن خالقية الله سبحانه وتعالى ، ورسالة الملائكة الذين هم واسطة الفيض الإلهي ، تنتقل الآيات إلى الحديث عن رحمة الله سبحانه ، والتي هي الأساس لكل عالم الوجود. تقول الآية الكريمة : (مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

الخلاصة أنّ تمام خزائن الرحمة عنده ، وهو يفيض منها على كل من يراه أهلاً لها.

وتشير الآية التالية إلى «توحيد العبادة» على أساس «توحيد» الخالقية والرازقية فتقول الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

فكّروا ملياً ما هو منشأ كل هذه المواهب والبركات والإمكانيات الحياتية التي قيّضت لكم ... (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

فإذا علمتم أنّ مصدر كل هذه البركات هو الله ، فاعلموا أنّ : (لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ).

وعليه فكيف تنحرفون عن طريق الحقّ إلى الباطل ، وتسجدون للأصنام بدلاً من السجود لله سبحانه؟ (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧)

لا يغرنّكم الشيطان والدنيا : بعد أن كان الحديث حول توحيد الخالقية والرازقية ينتقل القسم الثاني من هذه المجموعة من الآيات إلى الحديث في تفصيل البرامج العملية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويوجّه الخطاب إليه أوّلاً ، ثم لعموم الناس ، وبيان المناهج العملية لهم بعد تفصيل البرامج العقائدية سابقاً.

في البداية تقدم الآيات للرسول درس الإستقامة على الصراط السوي ، والذي هو أهمّ

١١٩

الدروس له ، فتقول الآية الكريمة : (وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ). فهؤلاء الرسل الذين سبقوك قاوموا ، ولم يهدأ لهم بال في أداء رسالتهم ، وأنت أيضاً يجب أن تقف بصلابة ، وتؤدّي رسالتك ، والبقية بعهدة الله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). فهو الناظر والرقيب على كل شيء ، وسوف يحاسب على جميع الأعمال.

فهو تعالى لا يتغافل عن المشاق التي تتحمّلها في هذا الطريق ، كما أنّه لن يترك هؤلاء المكذبين المخالفين المعاندين يمضون دون عقاب.

ثم تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية ، فتقول الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ). فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنة والنار كلّها وعود إلهية لا يمكن أن يُخلفها الله تعالى.

ومع الإنتباه إلى هذه الوعود الحقّة : (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ). فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا ، ولا يخدعكم الشيطان بعفو الله ورحمته ..

أجل ، إنّ عوامل الإثارة ، وزخارف الدنيا وزبارجها ، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم ، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهية العظيمة.

«غَرور» : صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع ، والظاهر أنّه إشارة الشيطان.

الآية التالية تنذر وتنبّه جميع المؤمنين فيما يخصّ مسألة وساوس الشيطان ومكائده والتي تعرّضت لها الآية السابقة فتقول : (إِنَّ الشَّيْطنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).

تلك العداوة التي شرع بها الشيطان من أوّل يوم خُلق فيه آدم عليه‌السلام.

في آخر الآية يضيف تعالى للتأكيد أكثر : (إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ). «حزب» : في الأصل بمعنى الجماعة التي لها فعالية ، ولكنّها تطلق عادةً على كل مجموعة تتبع برنامجاً وهدفاً خاصاً.

إنّ الشيطان يدعو حزبه إلى المعاصي والذنوب ولوث الشهوات إلى الشرك والطغيان والإضطهاد ، وبالنتيجة إلى جهنم وبئس المصير.

آخر آية من هذه الآيات توضّح عاقبة «حزب الله» السعيدة وخاتمة «حزب الشيطان» المريرة ، فتقول : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

إنّ الكفر وحده يكفي للخلود في عذاب السعير ، بينما الإيمان بدون العمل لا يكفي لتحقيق النجاة.

١٢٠