مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق ، ويعلّمهم بأنّه مفتوح إن أرادوا العودة ، يقول : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم ، ويدخلهم في رحمته.

ويضيف في الآية التالية : (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا لست أوّل نبي دعا إلى التوحيد ، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلّهم كانوا بشراً ، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام ، ولم يَدّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق ، ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس ، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول.

وتضيف آخر آية من هذه الآيات ، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة : (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

إنّ الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن المجيد حقّاً هو «عبد الله بن سلام» عالم اليهود المعروف ، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين.

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤)

سبب النّزول

إنّ الإسلام لاقى ترحيباً واسعاً وامتداداً سريعاً بين الطبقات الفقيرة وسكان البوادي ، وذلك لأنّهم لم يكونوا يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر ، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ عقولهم ، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.

لقد عدّ الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة ، والذي كان يشكل أقوى نقاط هذا الدين ، نقطة ضعف كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا : أي دين هذا الذي يتبعه سكان

٤٦١

البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا كان ديناً مقبولاً ومعقولاً فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعياً ، ونتخلف نحن أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه.

وقد أجاب القرآن هؤلاء جواباً شافياً كافياً سيتّضح في تفسير هذه الآيات.

التّفسير

شرط الإنتصار الإيمان والإستقامة : تستمر هذه الآيات في تحليل أقوال المشركين وأفعالهم ، ثم تقريعهم وملامتهم بعد ذلك ، فتشير أوّلاً إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم ، مبنيّ على أساس الكبر والغرور ، فتقول : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ).

فما هؤلاء إلّاحفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى ، والعبيد الذين لاحظ لهم من العلم والمعرفة إلّاالقليل ، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه ونحن ـ أعيان المجتمع وأشرافه ـ في غفلة عنه؟

ولذلك فإنّ الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ). أي : إنّ هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن ، لا أنّ القصور في قابلية القرآن على الهداية.

جملة «سيقولون» بصيغة المضارع ، تدل على أنّهم كانوا يرمون القرآن بهذه التهمة دائماً ، وكانوا يتخذون هذا الإتهام غطاء لعدم إيمانهم.

ثم تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقاً ، ولنفي تهمة المشركين إذ كانوا يقولون : هذا إفك قديم ، فقالت : إنّ من علامات صدق هذا الكتاب العظيم أنّ كتاب موسى الذي يعتبر إماماً أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي وصفاته ، وهذا القرآن أيضاً كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في التوراة : (وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهذَا كِتَابٌ مُّصَدّقٌ). وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف تقولون : هذا إفك قديم؟

ثم تضيف بعد ذلك : (لِّسَانًا عَرَبِيًّا) يفهمه الجميع ويستفيدون منه.

ثم تبيّن في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين ، فتقول : (لّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ). وإذا لاحظنا أنّ جملة (ينذر) مضارعة تدل على الاستمرار والدوام ، فسيتّضح أنّ إنذار القرآن كبشارته دائمي مستمر ، فهو يحذر الظالمين

٤٦٢

والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم ، ويبشر المحسنين على الدوام.

والآية التالية تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وبناءً على هذا ، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية ، وفي خط الإستقامة والصبر من الناحية العملية.

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها ، فتقول : (أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

التعبير ب «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنة.

وعبارة (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يدل من جهة على أنّ الجنة لا تمنح مجاناً ، بل إنّ لها ثمناً يجب أن يؤدّى ، ويشير من جهة اخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (١٦)

أيّها الإنسان أحسن إلى والديك : هذه الآيات والتي تليها ، توضيح لما يتعلق بالفريقين : الظالم والمحسن ، اللذين أشير إليهما إجمالاً في الآيات السابقة ، وتتناول الآية الاولى وضع المحسنين ، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها ، والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه ، فتقول : (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا).

«الوصية» و «التوصية» بمعنى مطلق الوصية ، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت ، ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع.

إنّ مسألة الإحسان إلى الوالدين من الاصول الإنسانية ، ينجذب إليها ويقوم بها حتى اولئك الذين لا يلتزمون بدين أو مذهب ، وبناءً على هذا ، فإنّ الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة ، ويرفضون القيام بهذا الواجب ، ليسوا مسلمين حقيقيين ، بل لا يستحقون اسم الإنسان.

٤٦٣

ثم تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حق الام ، فقالت : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلثُونَ شَهْرًا).

تضحي خلالها الام أعظم التضحيات ، وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار ، لأنّ آلام ومعاناة الام في طريق تربية الطفل محسوسة وملموسة أكثر ، ولأنّ جهود الام أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب ، كان التأكيد أكثر على قدر الام في الروايات الإسلامية.

ثم إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلّما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (٣٠) شهراً.

ثم تضيف الآية : إنّ حياة هذا الإنسان تستمر (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ووَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً).

إنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي ، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي.

وفي الحديث : «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، ويقول : بأبي وجه لا يفلح» (١).

إنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث : إنّ الإنسان العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين ، يطلب من ربّه ثلاث طلبات ، فيقول أولاً : (قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ).

أمّا طلبه الثاني فهو : (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ).

وأخيراً يقدم طلبه الأخير فيقول : (وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى).

وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين ، كل منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر ، فتقول : (إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ). فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي ، وأسير في ذلك الخط ما حييت.

والآخر : (وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

والآية التالية بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم ، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث ، فقالت أوّلاً : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).

إنّ جملة (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ) تبيّن أنّ العمل الصالح هو العمل الذي يبعث على رضى الله سبحانه.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ٢٦ / ١٨.

٤٦٤

وتعبير (أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) والذي ورد في آيات عديدة من القرآن المجيد ، يبيّن فضل الله الذي لا يحصى في مقام مكافأة العباد وجزائهم ، حيث يجعل أحسن أعمالهم معياراً لكل أعمالهم الحسنة في الحساب والمثوبة.

والهبة الثانية هي تطهيرهم ، فتقول : (وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيّئَاتِهِمْ).

والموهبة الثالثة هي أنّهم : (فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ). فيطهرون من الهفوات التي كانت منهم ، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه.

وتضيف الآية في نهايتها ـ كتأكيد على هذه النعم التي مرّ ذكرها ـ : (وَعْدَ الصّدقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ).

(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (١٩)

مضيّعو حقوق الوالدين : كان الكلام في الآيات السابقة عن المؤمنين الذين سلكوا طريق القرب من الله ، فبلغوا الغاية ووسعتهم رحمة الله ، وكرمهم لطفه ، وكل ذلك في ظل الإيمان والعمل الصالح ، وشكر نعم الله سبحانه ، والإلتفات إلى حقوق الأبوين والذرية وأدائها.

أمّا هذه الآيات ، فيدور الكلام فيها عمّن يقفون في الطرف المقابل ، وهم الكافرون المنكرون للجميل والحق ، والعاقون لوالديهم ، فتقول : (وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى).

إلّا أنّ أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال ، فتقول الآية : (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ). غير أنّه يأبى إلّاأن يسير في طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه ، ولذلك نراه يجيبهما بكل تكبر وغرور ولا مبالاة : (فَيَقُولُ مَا هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، فما تقولانه عن المعاد والحساب ليس إلّاخرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم ، ولست بالذي يعتقد بها وينقاد لها.

وكما بيّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات ، فإنّ هذه الآيات تبيّن

٤٦٥

عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على الله ، فتقول : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مّنَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ). وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كل رأس مال وجودهم إذ اشتروا به غضب الله عزوجل وسخطه.

أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلاً إلى تفاوت درجات كلا الفريقين ، فتقول : (وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا). فليس كل أصحاب الجنة أو أصحاب النار في درجة واحدة ، بل إنّ لكل منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم ، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم ، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماماً.

«الدرجات» : جمع «درجة» ، وتقال عادةً للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى ؛ و «الدركات» جمع «درك» ، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل ، ولذلك يقال في شأن الجنة : درجات ، وفي شأن النار : دركات ، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معاً ، ولأهمية مقام أصحاب الجنة ، ورد لفظ (الدرجات) للأثنين ، وهو من باب التغليب.

ثم تضيف الآية : (وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعمَالَهُمْ) وهذا التعبير إشارة اخرى إلى مسألة تجسم الأعمال ، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك ، فتكون أعماله الصالحة باعثاً على الرحمة به واطمئنانه ، وأعماله الطالحة سبباً للبلاء والعذاب الأليم.

وتقول الآية أخيراً كتأكيد على ذلك : (وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ) لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها ، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠)

الزهد والإدخار للآخرة : تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين ، وتذكر جانباً من أنواع العذاب الجسمي والروحي الذي سينال هؤلاء ، فتقول : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا).

نعم ، فقد كنتم غارقين في الشهوات ، ولم تكونوا تعرفون شيئاً إلّاالتمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية ، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كل القيود في هذا المجال ، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان ، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كل أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

٤٦٦

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ). فاليوم ترون جزاء كل ذلك التمتع الباطل ، واتّباع الشهوات الأعمى ، وعبادة الهوى ، والإستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

إنّ هذا العرض بحد ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب ، حيث يرى الكافرون بأعينهم كل أقسام جهنم من الخارج قبل أن يردوها ، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذبوا ويتألموا له.

لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم ، الأوّل : الإستكبار ، والثاني : الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث الأنبياء والقيامة ، والثاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي ، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين ، والآخر عن تضييع فروع الدين (١).

(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥)

قوم عاد والريح المدمرة : لمّا كان القرآن يذكر قضايا كلية ، ثم يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها ، ليطبق تلك الكليات. فإنّه هنا يسلك نفس السبيل ، فبعد أن فصل حال المستكبرين المتمردين ، تطرّق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة ، فتقول الآية : (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ).

إنّ التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النبي العظيم وحرصه على قومه.

ثم تضيف الآية : (إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ).

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ١٨ / ٢٠٦.

٤٦٧

«الأحقاف» : تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة مستطيل أو تعرجات ومنحنيات ، على أثر هبوب العواصف في الصحاري ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ أرض قوم عاد كانت أرضاً حصباء كبيرة.

ثإنّ هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض اليمن.

يقول القرآن الكريم : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ). ثم هدّدهم بقوله : (إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

إلّا أنّ هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية ، وخاطبوا هوداً : (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

إلّا أنّ هوداً عليه‌السلام قال في ردّه على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون : (قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ). فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب الإستئصال ، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم ، ولا هو تابع لرغبتي ، بل يجب أن يتمّ الهدف ويتحقق ، ألا وهو إتمام الحجة عليكم ، فإنّ حكمته سبحانه تقتضي ذلك.

ثم يضيف : (وَأُبَلّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ). فهو مهمتي الأساسية ، ومسؤوليتي الرئيسية ، أمّا اتخاذ القرار في شأن طاعة الله وأوامره فهو أمر يتعلق بكم ، وإرادة نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه.

(وَلكِنّى أَرَيكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ). وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم ، فإنّ الجهل المقترن بالكبر والغرور هو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل الله ، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها ...

وأخيراً لم تؤثر نصائح هود عليه‌السلام المفيدة ، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب اولئك ، وبدل أن يقبلوا الحق لجّوا في غيّهم وباطلهم ، وتعصبوا له ، وحتى نوح عليه‌السلام كذّبه قومه بهذا الادّعاء الواهي وهو أنّك إن كنت صادقاً فيما تقول فأين عذابك الموعود؟

والآن ، وقد تمّت الحجة بالقدر الكافي ، وأظهر اولئك عدم أهليتهم للبقاء ، وعدم استحقاقهم للحياة ، فإنّ حكمة الله سبحانه توجب أن يرسل عليهم «عذاب الإستئصال» ذلك العذاب الذي يجتث كل شيء ولا يبقي ولا يذر.

وفجأة رأوا سحاباً قد ظهر في الأفق ، واتسع بسرعة : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا) (١).

__________________

(١) «عارض» : من مادة «عرض» ، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء ، وربّما كان هذا أحد ـ

٤٦٨

لكن ، قيل لهم سريعاً بأنّ هذا ليس سحاباً ممطراً : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ).

والظاهر أنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه ، أو أنّ هوداً لمّا سمع صرخات فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك.

نعم ، إنّها ريح مدمّرة : (تُدَمّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا).

قال بعض المفسرين : إنّ المراد من (كُلَّ شَىْءٍ) البشر ودوابهم وأموالهم ، لأنّ الجملة التالية تقول : (فَأَصْبَحُوا لَايُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ). وهذا يوحي بأنّ مساكنهم كانت سالمة ، أمّا هم فقد هلكوا ، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري البعيدة ، أو في البحر.

روى أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجوّ حتى يرى كأنّها جرادة ، وقيل : أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت فيها كشهب النار ، وروى أنّ أوّل ما عرفوا به أنّه عذاب أليم أنّهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم وأحال الله عليهم الأحقاف ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لها أنين.

وجاء في الآية (٧) من سورة الحاقة : (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ).

ثم كشف الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر (١).

وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة ، وهي أنّ هذا المصير غير مختص بهؤلاء القوم الضالين ، بل : (كَذلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٨)

__________________

ـ علامات السحب الممطرة بأنّها ت تسع في ذلك الأفق ثم تصعد ؛ و «الأودية» : جمع «واد» ، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه.

(١) التفسير الكبير ٢٨ / ٢٨.

٤٦٩

لستم بأقوى من قوم عاد أبداً : إنّ هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب قوم عاد الأليم ، فتخاطب مشركي مكة وتقول : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ).

فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية ، وأقدر منكم من ناحية المال والثروة والإمكانات المادية ، ولكن عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي ، فكيف بكم إذن.

ثم تضيف الآية : (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفِدَةً). فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضاً ، وكانوا يدركون الامور جيداً ، وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه ، لكن : (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفِدَتُهُم مّن شَىْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بَايَاتِ اللهِ).

وأخيراً : (وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).

ثم تخاطب الآية مشركي مكة من أجل التأكيد على هذا المعنى ، ولزيادة الموعظة والنصيحة ، فتقول : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مّنَ الْقُرَى).

اولئك الأقوام الذين لا تبعد أوطانهم كثيراً عنكم ، وكان مستقرهم في أطراف جزيرة العرب.

ثم تضيف الآية بعد ذلك : (وَصَرَّفْنَا الْأَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وتوبخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة ، وتذمهم بهذا البيان : (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ قُرْبَانًاءَالِهَةً).

حقّاً ، إذا كانت هذه الآلة على حق ، فلماذا لا تعين أتباعها وعبادها وتنصرهم في تلك الظروف الحساسة ، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إنّ هذا بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنّون أنّ هذه الآلهة المخترعة هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم وشقائهم.

ثم تضيف : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ). فإنّ هذه الموجودات التي لا قيمة لها ولا أهمية ، والتي ليست مبدأ لأي أثر ، ولا تأتي بأي فائدة ، وهي عند العسر صماء عمياء ، فكيف تستحق الألوهية وتكون أهلاً لها؟

وأخيراً تقول الآية : (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). فإنّ هذا الهلاك والشقاء ، وهذا

٤٧٠

العذاب الأليم ، واختفاء الآلهة وقت الشدّة والعسر ، كان نتيجةً لأكاذيب اولئك وأوهامهم وافتراءاتهم.

(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٣٢)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله ، ثم رجع إلى مكة ، فلما بلغ موضعاً يقال له وادي مجنة : تهجد بالقرآن في جوف الليل ، فمر به نفر من الجن فلمّا سمعوا قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استمعوا له فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض : «أنصتوا». يعني اسكتوا (فلمّا قضي) أي فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من القراءة (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) إلى قوله (أُولئِكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ) فجاؤا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله شرائع الإسلام فأنزل الله على نبيه (قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنّ) السورة كلها.

التّفسير

إيمان طائفة من الجن : جاء في هذه الآيات بحث مختصر حول إيمان طائفة من الجن بنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه السماوي.

لقد كانت قصة قوم عاد تحذيراً لمشركي مكة ، وقصة إيمان طائفة من الجن تحذيراً آخر. تقول الآية أوّلاً : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ).

«صرّفنا» : يعني نقل الشيء وتبديله من حالة إلى اخرى ؛ ولعله إشارة إلى أنّ الجن كانوا

٤٧١

يصغون إلى أخبار السماء عن طريق استراق السمع ، ومع ظهور نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله رجعوا إليه واتّجهوا نحو القرآن.

ثم تضيف الآية : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا). وذلك حينما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتلو آيات القرآن في جوف الليل ، أو في صلاة الصبح.

وأخيراً أضاء نور الإيمان قلوب هؤلاء ، فلمسوا في أعماقهم كون آيات القرآن حقاً ، ولذلك : (فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ).

وتبيّن الآية التالية كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم ، تلك الدعوة المتناسقة الدقيقة ، الوجيزة والعميقة المعنى : (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى).

ومن صفاته أنّا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في محتواها ، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب : (مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ).

وصفته الاخرى أنّه : (يَهْدِى إِلَى الْحَقّ). بحيث إنّ كل من يستند إلى عقله وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.

وآخر صفة أنّه يهدي إلى الرشد : (وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ).

ثم أضافوا : (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللهِ وَءَامِنُوا بِهِ). إذ ستمنحون حينها مكافأتين عظيمتين : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (١).

المراد من : (دَاعِىَ اللهِ) نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يرشدهم إلى الله سبحانه.

وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ كلام مبلغي الجن ، فتقول : (وَمَن لَّايُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ). ينصرونه من عذاب الله ، ولذلك فإنّ : (أُولئِكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

أي ضلال أشد وأسوأ وأجلى من أن يهبّ الإنسان إلى محاربة الحق ونبي الله ، بل حتى إلى محاربة الله الذي لا ملجأ له سواه في كل عالم الوجود ، ولا يستطيع الإنسان أن يفر من حكومته إلى مكان آخر؟!

* * *

__________________

(١) «يجركم» : من مادة «إجارة» ، وقد وردت بمعان مختلفة : الإغاثة ، الإنقاذ من العذاب ، الإيواء ، والحفظ.

٤٧٢

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (٣٥)

فاصبر كما صبر أولوا العزم : تواصل هذه الآيات البحث حول المعاد ، حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان مبلغي الجن ـ هذا من جهة.

ومن جهة اخرى ، فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الاولى عن مسألة التوحيد ، وعظمة القرآن المجيد ، وإثبات نبوّة نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الاصول الإعتقادية الثلاثة.

تقول الآية الاولى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

هذا أحد أدلة المعاد العدديدة التي يؤكّد عليها القرآن ويستند إليها في آيات مختلفة ، ومن جملتها الآية (٨١) من سورة يس.

وتجسّد الآية التالية مشهداً من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد ، فتقول : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ).

وعندما يُعرض الكافرون على النار ، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم : (أَلَيْسَ هذَا بِالْحَقّ). وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة الله العادلة ، وثوابه وعقابه ، وتقولون : ما هذا إلّاأساطير الأوّلين؟

غير أنّ اولئك الذين لا حيلة لهم : (قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا). فهنا يقول الله سبحانه ، أو ملائكة العذاب : (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ).

وبهذا فإنّهم يرون كل الحقائق بام أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الإعتراف الذي لن ينفعهم ، وسوف لن تكون نتيجته إلّاالهم والحسرة ، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.

ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات ، وهي آخر آية في سورة الأحقاف ،

٤٧٣

على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين ، أن : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم ، فقد واجه أولوا العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا.

عبارة (من الرّسل) إشارة إلى فئة خاصة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة ، وهم الذين أشارت إليهم الآية (٧) من سورة الأحزاب : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا).

وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة ، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة.

ثم يضيف القرآن بعد ذلك : (وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ). أي للكفار لأنّ القيامة ستحل سريعاً ، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها ، ويجزون أشد العذاب ، وعندها سيطلعون على أخطائهم ، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي.

إنّ عمر الدنيا قصير جدّاً بالنسبة إلى عمر الآخرة ، حتى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مّن نَهَارٍ).

ثم تضيف الآية كتحذير لكل البشر : (بَلغٌ) لكل اولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى .. لُاولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء ، والعابدين شهواتها .. وأخيراً هو بلاغ لكل سكان هذا العالم الفاني.

وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاماً عميق المعنى ، وينطوي على التهديد : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ).

ملاحظة

كان نبي الخاتم مثال الصبر والإستقامة : إنّ حياة أنبياء الله العظام ـ وخاصة نبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ تبيان لمقاومتهم اللامحدودة أمام الحوادث الصعبة والشدائد العسيرة ، والعواصف الهوجاء ، والمشاكل القاصمة ، ولما كان طريق الحق مليئاً بهذه المشاكل دائماً ، فيجب على سالكيه أن يستلهموا العبر من أولئك العظماء في هذا المسير.

إنّنا ننظر عادة من نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إلى أيّام مرّت على الإسلام ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله صعبة مظلمة ، وهذه النظرة من المستقبل إلى الماضي تجسم الوقائع والحقائق بشكل آخر ، فينبغي علينا أن ندرك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان وحيداً فريداً.

٤٧٤

فأعداؤه شمروا عن سواعدهم للفتك به ، حتى أنّ أقاربه وعشيرته كانوا في الخط الأوّل في هذه المجابهة.

لقد فرضوا عليه الحصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث أغلقوا جميع الأبواب والطرق بوجهه وبوجه أتباعه ، حتى مات بعضهم جوعاً ، وأقعد المرض بعضهم الآخر.

لقد مرّت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيّام يصعب على القلم واللسان وصفها ، فعندما جاء إلى الطائف ليدعو الناس إلى الإسلام ، لم يكتفوا بعدم إجابة دعوته ، بل رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه.

لقد كانوا يحثّون الجهلاء من الناس على أن يصرخوا ، ويسيؤوا في كلامهم إليه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب ، وقال : «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربّي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ...» (١).

كانوا يسمونه ساحراً تارة ، واخرى يخاطبونه بالمجنون.

كانوا يلقون التراب والرماد على رأسه حيناً ، وحيناً يجمعون على قتله ، فيحاصرون بيته بالسيوف والرماح.

إلّا أنّه رغم كل تلك الظروف استمر في صبره وصموده واستقامته.

وأخيراً جنى الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة ، فقد عمّ دينه شرق العالم وغربه ، لا جزيرة العرب وحدها ، ويدوّي اليوم صوت انتصاره صباح مساء في كل أرجاء الدنيا ، وفي قارات العالم الخمسة ، وهذا هو معنى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).

«نهاية تفسير سورة الأحقاف»

* * *

__________________

(١) سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لابن هشام ٢ / ٢٨٥ ؛ تاريخ الطبري ٢ / ٨٠.

٤٧٥
٤٧٦

٤٧

سورة محمد

محتوى السورة : يمكن تلخيص محتوى السورة بصورة عامة في عدة فصول :

١ ـ مسألة الإيمان والكفر ، والمقارنة بين أحوال المؤمنين والكفار في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.

٢ ـ بحوث معبرة بليغة وصريحة حول مسألة الجهاد وقتال المشركين ، والتعليمات الخاصة فيما يتعلق بأسرى الحرب.

٣ ـ شرح أحوال المنافقين الذين كان لهم نشاطات هدّامة كثيرة حين نزول هذه الآيات في المدينة.

٤ ـ فصل آخر يتناول مسألة السير في الأرض ، وتدبر مصير الأقوام الماضية وعاقبتهم ، كدرس للاعتبار والإتعاظ.

٥ ـ وفي جانب من آيات هذه السورة ذكرت مسألة الاختبار الإلهي لمناسبتها موضوع القتال والجهاد.

٦ ـ ورد الحديث في فصل آخر عن مسألة الإنفاق الذي يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الجهاد ، وجاء الحديث عن مسألة البخل الذي يقع في الطرف المقابل.

٧ ـ وتناولت بعض آيات هذه السورة ـ لمناسبة موضوعها ـ مسألة الصلح مع الكفار ـ الصلح الذي يكون أساساً لهزيمة المسلمين وذلّتهم ـ ونهت عنه.

٤٧٧

سمّيت هذه السورة بسورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ اسمه الشريف قد ذكر في الآية الثانية ، واسمها الآخر هو : سورة القتال ، والواقع أنّ مسألة الجهاد وقتال أعداء الإسلام هو أهم موضوع ألقى ظلاله على هذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة : في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة الذين كفروا لم يرتب أبداً ، ولم يدخله شك في دينه أبداً ، ولم يبله الله بفقر أبداً ، ولا خوف من سلطان أبداً ، ولم يزل محفوظاً من الشك والكفر أبداً حتى يموت ، فإذا مات وكّل الله به في قبره ألف ملك يصلون في قبره ، ويكون ثواب صلاتهم له ويشيعونه حتى يوقفونه موقف الأمن عند الله عزوجل ، ويكون في أمان الله ، وأمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله».

إنّ الذين يعيشون محتوى هذه السورة في نفوسهم وأعماق وجودهم ، وتشبّعت به أرواحهم ، وهم أشداء في جهاد الأعداء اللدودين القساة ، والذين لم يدعوا للشك والتزلزل إلى أنفسهم سبيلاً ، تكون أسس دينهم قوية ، وإيمانهم صلباً ، ولا يملكهم خوف ولا تنالهم ذلّة ولا يعتريهم فقر ، وهم في الآخرة منعمون في جوار رحمة الله.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) (٣)

المؤمنون أنصار الحق ، والكافرون أنصار الباطل : إنّ هذه الآيات الثلاث تعتبر في الحقيقة مقدمة لأمر حربي مهم صدر في الآية الرابعة ، فبيّنت الاولى منها وضع الكافرين وحالهم ، والثانية حال المؤمنين ، وقارنت ثالثتهما بين الإثنين ، وذلك لتتهيأ الأرضية والاستعداد للجهاد الديني ضد الأعداء الظالمين العتاة باتضاح حال الفئتين.

تقول الآية الاولى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).

وهي إشارة إلى زعماء الكفر ومشركي مكة الذين كانوا يشعلون نار الحروب ضد الإسلام ، ولم يكتفوا بكونهم كفاراً ، بل كانوا يصدون الآخرين عن سبيل الله بأنواع الحيل والخدع والمخططات.

٤٧٨

والمراد من : (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) أنّه كل أعمالهم التي قاموا بها ، وظاهرها معونة للفقراء والضعفاء ، أو إقراء للضيف ، أو غير ذلك ، ستحبط لعدم إيمانهم.

فإنّ الله سبحانه قد أحبط كل مؤامراتهم وما قاموا به من أعمال لمحو الإسلام والقضاء على المسلمين ، وحال بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم الخبيثة.

والآية التالية وصف لوضع المؤمنين الذين يقفون في الصف المقابل للكافرين الذين وردت صفاتهم في الآية السابقة ، فتقول : (وَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ).

والجدير بالإلتفات إليه أنّ الآية تبيّن ثوابين للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، في مقابل العقابين اللذين ذكرا للكفار الصادين عن سبيل الله.

لقد جاء «البال» بمعان مختلفة ، فجاء بمعنى الحال ، العمل ، القلب ؛ وبناءً على هذا فإنّ إصلاح البال يعني تنظيم كل شؤون الحياة والامور المصيرية ، وهو يشمل الفوز في الدنيا.

وبيّنت الآية الأخيرة العلّة الأساسية لهذا الإنتصار وتلك الهزيمة من خلال مقارنة مختصرة بليغة ، فقالت : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَءَامَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ).

ف «الحق» يعني الحقائق العينية ، وأسماها ذات الله المقدّسة ، وتليها الحقائق المتعلقة بحياة الإنسان ، والقوانين الحاكمة في علاقته بالله تعالى ، وفي علاقته بالآخرين ؛ و «الباطل» يعني الظنون ، والأوهام ، والمكائد والخدع ، والأساطير والخرافات ، والأفعال الجوفاء التي لا هدف من ورائها ، وكل نوع من الانحراف عن القوانين الحاكمة في عالم الوجود.

وتضيف الآية في النهاية : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ). أي : كما أنّه سبحانه قد بيّن الخطوط العامة لحياة المؤمنين والكفار ، وعقائدهم وبرامجهم العملية ونتائج أعمالهم في هذه الآيات ، فإنّه يوضح مصير حياتهم وعواقب أعمالهم.

(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (٦)

٤٧٩

يجب الحزم في ساحة الحرب : إنّ الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث ، فتقول الآية : (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقَابِ).

من البديهي أنّ «ضرب الرقاب» كناية عن القتل ، فإنّ الهدف هو دحر العدو والقضاء عليه ، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له ، فقد أكّدت الآية عليه.

فإنّ هذا الحكم مرتبط بساحة القتال ، لأنّ «لقيتم» ـ من مادة اللقاء ـ تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد.

ثم تضيف الآية : (حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ).

«أثخنتموهم» : من مادة «ثخن» ، بمعنى الغلظة والصلابة ، ولهذا تطلق على النصر والغلبة الواضحة ، والسيطرة الكاملة على العدو.

فإنّ الآية المذكورة تبيّن تعليماً عسكرياً دقيقاً ، وهو أنّه يجب أن لا يُقدم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن لمقاومته ، لأنّ الإقدام على الأسر قد يكون سبباً في تزلزل وضع المسلمين في الحرب ، وسيعيق المسلمين الإهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن أداء واجبهم الأساسي.

وتبيّن الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي يجب أن يقام بحقّهم بعد انتهاء الحرب ، فتقول : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً).

وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي بعد انتهاء الحرب ، بل إنّ ولي أمر المسلمين ـ طبقاً للمصلحة التي يراها ـ يطلق سراحهم مقابل عوض أحياناً ، وبلا عوض أحياناً اخرى ، وهذا العوض ـ في الحقيقة ـ نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو.

طبعاً يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع ، وهو استعباد الأسرى ، إلّا أنّه ليس أمراً واجباً ، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفّذه عندما يراه ضرورة في ظروف خاصة ، ولعلّه لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب ، بل بيّنته الرّوايات الإسلامية فقط.

ثم تضيف الآية بعد ذلك : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا). فلا تكفوا عن القتال حتى تحطّموا قوى العدو ويصبح عاجزاً عن مواجهتكم ، وعندها سيخمد لهيب الحرب.

ثم تضيف الآية : (ذلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ). بالصواعق السماوية ، والزلازل ،

٤٨٠