مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

محمّد أخرج إلينا. فأزعجت هذه الصرخات غير المؤدبة النبي ، فخرج إليهم فقالوا له : جئناك لنفاخرك فأجز شاعرنا وخطيبنا ليتحدث عن مفاخر قبيلتنا ، فأجازهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنهض خطيبهم وتحدّث عن فضائلهم الخيالية الوهمية كثيراً ...

فأمر النبي ثابت بن قيس (١) أن يردّ عليهم فنهض وخطب خطبةً بليغة فلم يُبق لخطبة اولئك من أثر ...

ثم نهض شاعرهم وألقى قصيدة في مدحهم فنهض «حسان بن ثابت» فردّ عليه بقصيدة شافية كافية.

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تُهدى لهم هدايا ليكتسب قلوبهم إليه فكان أن تأثّروا بمثل هذه المسائل فاعترفوا بنبوته.

فالآيات محل البحث ناظرة إلى هذه القضية والأصوات من خلف الحجرات.

التّفسير

إنّ في محتوى هذه السورة قسماً من المباحث الأخلاقية المهمّة والتعليمات الإنضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة ب «سورة الأخلاق» ، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأوّل من السورة محل البحث ، والآيات هذه على نحوين من التعليمات.

الأوّل : عدم التقدّم على الله ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فتقول الآية الاولى في هذا الصدد : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

والمراد من عدم التقديم بين يدي الله ورسوله هو أن لا يُقترح عليهما في الامور ، وترك العجلة والإسراع أمام أمر الله ورسوله ...

والآية الثانية تشير إلى الأمر الثاني فتقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبّىِ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَاتَشْعُرُونَ).

والجملة الاولى : (لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ) إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي ، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك ، والنبي له مكانته ، وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والام والأستاذ لأنّه مخالف للإحترام والأدب أيضاً.

__________________

(١) كان ثابت بن قيس خطيب الأنصار وخطيب النبي كما كان حسّان بن ثابت شاعره [اسد الغابة ١ / ٢٢٩].

٥٢١

أمّا جملة : (لَاتَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) فيمكن أن تكون تأكيداً على المعنى المتقدم في الجملة الاولى ، أو أنّها إشارة إلى مطلب آخر ، وهو ترك مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنداء «يا محمّد» والعدول عنه بالقول : «يا رسول الله» ...

وبديهي أنّ أمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة والإهانة لشخص النبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر ، وإلّا فهو ايذاء له وفيه إثم أيضاً ...

وفي الصورة الاولى تتّضح علة الحبط وزوال الأعمال ، لأنّ الكفر يحبط العمل ويكون سبباً في زوال ثواب العمل الصالح ...

وفي الصورة الثانية أيضاً ، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السيء باعثاً على زوال ثواب الكثير من الأعمال.

وفي الآية الاخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعدّه الله لُاولئك الذين يمتثلون أمر الله ويراعون الآداب عند رسول الله ، فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

«يغضّون» : مشتقة من غضّ ـ على وزن حظّ ـ ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت.

و «امتحن» : مشتقة من الإمتحان ، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص ، ثم استعملت بعدئذ في مطلق الاختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث.

أمّا الآية الاخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر الله وراء ظهورهم ، وعدم إدراكهم فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ).

وأساساً كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل.

«الحجرات» : جمع «حجرة» وهي هنا إشارة إلى البيوت المتعددة لأزواج النبي المجاورة للمسجد .. وأصل الكلمة مأخوذ من «الحَجْر» على وزن الأجر : أي «المنع» لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة» الإنسان ... والتعبير ب «وراء» هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان.

٥٢٢

ويضيف القرآن إكمالاً للمعنى في نهاية الآية قائلاً : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ).

صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحياناً يبلغ قصده بسرعة ، إلّاأنّ الصبر في مثل هذا «المقام» والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.

وحيث إنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلاً هذا الخطأ من قبل ، واستوحشوا من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية ، فإنّ القرآن يضيف قائلاً إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة : (وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

بحثان

١ ـ الأدب أغلى القيم : اهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بمسألة رعاية الأدب ، والتعامل مع الآخرين مقروناً بالإحترام والأدب سواءً مع الفرد أم الجماعة.

يقول الإمام علي عليه‌السلام : «الآداب حُلل مجدّدة» (١).

ويقول في مكان آخر : «الأدب يُغني من الحسب» (٢).

وأساساً فإنّ الدين مجموعة من الآداب ، الأدب بين يدي الله والأدب بين يدي الرسول والأئمة المعصومين ، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلم ، أو الأب والأم والعالم والمفكّر.

٢ ـ الإنضباط الإسلامي في كل شيء وفي كل مكان : إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الإنضباط ، وإذا أريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة حسب رغبتهم ، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين.

وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدّث عن هذا الطريق ، فكم من هزيمة أصابت جيشاً قوياً أو نقصاً حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفاً ... ولقد ذاق المسلمون أيضاً مرارة مخالفة هذه التعاليم مراراً في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده ، ومن أوضح الامور قصة هزيمة المسلمين في معركة احُد لعدم الإنضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الحكمة ٥.

(٢) كنز الفوائد ، أبوالفتح الكراجكي / ٤٧.

٥٢٣

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٨)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فرحاً به ، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية ، فظن أنّهم هموا بقتله ، فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : إنّهم منعوا صدقاتهم وكان الأمر بخلافه. فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهمّ أن يغزوهم فنزلت الآية.

التّفسير

لا تكترث بأخبار الفاسقين : كان الكلام في الآيات الآنفة على ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون ووظائفهم أمام قائدهم ونبيّهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. أمّا الآيات محل البحث فهي تبيّن الوظائف الاخرى على هذه الامة إزاء نبيّها. وتقول ينبغي الاستقصاء عند نقل الخبر إلى النبي فلو أنّ فاسقاً جاءكم بنبإ فتثبّتوا وتحقّقوا من خبره ، ولا تكرهوا النبي على قبول خبره حتى تعرفوا صدقه ... فتقول الآيات أوّلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).

ثم تبيّن السبب في ذلك فتضيف : (أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).

فلو أنّ النبي قد أخذ بقول «الوليد بن عقبة» وعدّ قبيلة بني المصطلق مرتدين وقاتلهم لكانت فاجعة عظمى ...

واستدل جماعة من علماء الاصول على حجية خبر الواحد بهذه الآية لأنّها تقول : «إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا ...» ومفهومها أنّ العادل لو جاء بنبإ فلا يلزم التبيّن.

والآية التالية ـ وللتأكيد على الموضوع المهم في الآية السابقة ـ تضيف قائلةً : (وَاعْلَمُوا

٥٢٤

أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) (١).

فالقرآن يقول : من حسن حظّكم أنّ فيكم رسول الله وهو مرتبط بعالم الوحي ، ولا تصرّوا وتلحّوا عليه ، فإنّ ذلك فيه عنت لكم وليس من مصلحتكم ...

ويشير القرآن معقّباً في الآية إلى موهبة عظيمة اخرى من مواهب الله سبحانه فيقول : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).

فإنّ القرآن يقرّر قاعدةً كلية وعامة في نهاية هذه الآية لواجدي الصفات المذكورة فيها فتقول : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).

أي : لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية «العشق للإيمان والتنفّر من الكفر والفسوق ولم تلوّثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإنّ الرشد والهداية دون أدنى شك في انتظاركم» ...

أمّا آخر الآيات محل البحث فتوضّح هذه الحقيقة وهي أنّ محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول : (فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة الأنبياء إيّاكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود ... «وهو الجنة».

ولا شك أنّ علم الله بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية المخلوقات توجبان أن يتفضّل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده (وهي محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان).

وعلى هذا فإنّ عشق الإيمان والتنفّر من الكفر موجودان في قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنّما هو من جهة اخطائهم وسلوكيّاتهم وأعمالهم ، فإنّ الله لم يُلق في قلب أيّ شخص حبّ العصيان وبغض الإيمان ...

(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠)

__________________

(١) «لعنتّم» : مشتقة من مادة «العنت» ومعناه الوقوع في عمل يخاف الإنسان عاقبته أو الأمر الذي يشقّ على الإنسان ، ومن هنا قيل للألم الحاصل من العظم المكسور عند تعرّضه للضربة بأنّه عنت ..

٥٢٥

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزل في الأوس والخزرج ، وقع بينهما قتال بالسعف والنعال.

التّفسير

المؤمنون إخوة : يقول القرآن هنا قولاً هو بمثابة القانون الكلي العام لكل زمان ومكان : (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).

«اقتتلوا» : مشتقة من مادة «القتال» ومعناها الحرب ، إلّاأنّها كما تشهد بذلك القرائن تشمل كل أنواع النزاع وإن لم يصل إلى مرحلة القتال والمواجهة «العسكرية».

فإنّ من واجب جميع المسلمين أن يصلحوا بين المتنازعين منهم لئلّا تسيل الدماء وأن يعرفوا مسؤوليتهم في هذا المجال ، فلا يكونوا متفرّجين كبعض الجهلة الذين يمرّون بهذه الامور دون اكتراث وتأثّر! فهذه هي وظيفة المؤمنين الاولى عند مواجهة أمثال هذه الامور.

ثم يبيّن القرآن الوظيفة الثانية على النحو التالي : (فَإِن بَغَتْ إِحْدَيهُمَا عَلَى الْأُخْرَى). ولم تستسلم لاقتراح الصلح : (فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ).

وبديهي أنّه لو سالت دماء الطائفة الباغية والظالمة ـ في هذه الأثناء ـ فإثمها عليها ، أو كما يصطلح عليه إنّ دماءهم هدر ، وإن كانوا مسلمين.

وهكذا فإنّ الإسلام يمنع من الظلم وإن أدّى إلى مقاتلة الظالم ، لأنّ ثمن العدالة أغلى من دم المسلمين أيضاً ، ولكن لا يكون ذلك إلّاإذا فشلت الحلول السلمية.

ثم يبيّن القرآن الوظيفة الثالثة فيقول : (فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ).

أي لا ينبغي أن يقنع المسلمون بالقضاء على قوة الطائفية الباغية الظالمة بل ينبغي أن يعقب ذلك الصلح وأن يكون مقدّمة لقلع جذور عوامل النزاع ، وإلّا فإنّه بمرور الزمن ما أن يُحسّ الظالم في نفسه القدرة حتى ينهض ثانية ويثير النزاع.

وحيث إنّه تميل النوازع النفسية أحياناً في بعض الجماعات عند الحكم والقضاء إلى إحدى الطائفتين المتخاصمتين وتنقض «الإستقامة» عند القضاة فإنّ القرآن ينذر المسلمين في رابع تعليماته وما ينبغي عليهم فيقول : (وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (١).

والآية التالية تضيف لبيان العلّة والتأكيد على هذا الأمر قائلةً : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ).

__________________

(١) «المقسطين» : مأخوذة من «القسط» ومعناها في الأصل التقسيم بالعدل.

٥٢٦

وحيث إنّه في كثير من الأوقات تحلّ «الروابط» في أمثال هذه المسائل محل «الضوابط» فإنّ القرآن يضيف في نهاية هذه الآية مرّةً اخرى قائلاً : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وهكذا تتّضح إحدى أهم المسؤوليات الاجتماعية على المسلمين في ما بينهم في تحكيم العدالة الاجتماعية بجميع أبعادها.

بحث

أهمية الأخوة الإسلامية : إنّ جملة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الواردة في الآيات المتقدمة واحدة من الشعارات الأساسية و «المتجذرة» في الإسلام.

فعلى هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ المسلمين على اختلاف قبائلهم وقوميّاتهم ولغاتهم وأعمارهم يشعرون فيما بينهم بالأخوة وإن عاش بعضهم في الشرق والآخر في الغرب ...

ففي مناسك الحج مثلاً حيث يجتمع المسلمون من نقاط العالم كافة في مركز التوحيد تبدو هذه العلاقة والإرتباط والإنسجام والوشائج محسوسة وميداناً للتحقق العيني لهذا القانون الإسلامي المهم ...

وبتعبير آخر : إنّ الإسلام يرى المسلمين جميعاً بحكم الأسرة الواحدة ويخاطبهم جميعاً بالإخوان والأخوات ليس ذلك في اللفظ والشعار ، بل في العمل والتعهدات المتماثلة أيضاً ، جميعهم (أخوة وأخوات).

وفي الروايات الإسلامية تأكيد على هذه المسألة أيضاً.

في كنز الفوائد : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «للمسلم على أخيه ثلاثون حقّاً ، لا براءة له منها إلّا بالأداء العفو ؛ يغفر زلّته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويُقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويرد غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلّته ، ويرعى ذمّته ، ويعود مرضته ، ويشهد ميتته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هديته ، ويكافي صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويشفع مسئلته ، ويسمّت عطسته ، ويرشد ضالّته ، ويردّ سلامه ، ويطيب كلامه ، ويُبرّ أنعامه ، ويصدق أقسامه ، ويوالي وليّه ، ولا يعادي عدوه ، وينصره ظالماً ومظلوماً ، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه ، وأمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه ، ولا يُسلمه ، ولا يخذله ، ويحب له من الخير ما يُحبّ لنفسه ، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه».

٥٢٧

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢)

أسباب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزل قوله : (لَايَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ) في ثابت بن قيس بن شماس وكان في اذنه وقر ، وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي فيسمع ما يقول. فدخل المسجد يوماً والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا مكانهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول : تفسّحوا ، تفسّحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له : أصبت مجلساً فاجلس فجلس خلفه مُغضباً.

فلما انجلت الظلمة قال : من هذا؟ قال الرجل : أنا فلان. فقال ثابت : ابن فلانة ، ذكر امّاً له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه حياء ، فنزلت الآية.

وقوله (وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ) نزل في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سخرن من ام سلمة. وذلك أنّها ربطت حقويها بسبية وهي ثوب أبيض ، وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجره. فقالت عائشة لحفصة : انظري ماذا تجر خلفها ، كأنّه لسان كلب فلهذا كانت سخريتهما.

وقوله (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) نزل في رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اغتابا رفيقهما وهو سلمان ، بعثاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد ، وكان خازن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على رحله ، فقال : ما عندي شيء. فعاد إليهما فقالا : بخل أسامة وقالا لسلمان : لو بعثاه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله. فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما». قالا : يا رسول الله! ما تناولنا يومنا هذا لحماً. قال : «ظلتم تأكلون لحم سلمان وأسامة». فنزلت الآية.

التّفسير

الإستهزاء وسوء الظن والغيبة والتجسس والألقاب السيئة حرام : حيث أنّ القرآن المجيد

٥٢٨

اهتمّ ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بيّن في الآيتين محل البحث قسماً من جذور هذه الإختلافات ليزول الإختلاف (بقطعها) ويُحسم النزاع.

ففي كل من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة امور يمكن أن يكون كل منها شرارة لإشتعال الحرب والاختلاف ، إذ تقول الآية الاولى من الآيتين محل البحث أوّلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَايَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ).

لأنّه : (عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ).

(وَلَا نِسَاءٌ مِّن نّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ).

والخطاب موجّه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يعمّ الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح ، لأنّ أساس السخرية والاستهزاء هو الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ.

ثم تقول الآية في المرحلة الثانية : (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ).

«تلمزوا» : هي من مادة «لَمْز» على زنة «طنز» ومعناها تتّبع العيوب والطعن في الآخرين.

وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضاً قائلة : (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ).

هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديماً وحديثاً ، ماضياً وحاضراً مولعون بالتراشق بالألفاظ القبيحة ، ومن هذا المنطلق فهم يحقّرون الآخرين ويدمّرون شخصياتهم وربّما انتقموا منهم أحياناً عن هذا الطريق ، وقد يتّفق أنّ شخصاً كان يعمل المنكرات سابقاً ، ثم تاب وأناب وأخلص قلبه لله ، ولكن مع ذلك نراهم يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه.

الإسلام نهى عن هذه الامور بصراحة ومنع من إطلاق أي إسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاةً لتحقير المسلم ...

وروي ـ في تفسير مجمع البيان ـ أنّ صفية بنت حيي بن أخطب ، جاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تبكي فقال لها : «ما وراءك»؟ فقالت : إنّ عائشة تعيّرني وتقول يهودية بنت يهوديين! فقال لها : «هلّا قلت أبي هارون وعمّي موسى وزوجي محمّد». فنزلت الآية.

ولذلك فإنّ الآية تضيف قائلةً : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ). أي قبيح جدّاً على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر.

٥٢٩

وتُختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول : (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وأي ظلمٍ أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و «اللاسعة» والتحقير واللمز قلوب المؤمنين التي هي «مركز عشق» الله.

في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ).

المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار ، أي متى ما خطر الظنّ السيء في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الإعتناء به عمليّاً ، ولا ينبغي تبديل اسلوب التعامل معه ولا تغيير الروابط مع ذلك الطرف.

ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثاً ـ في الأمالي للصدوق ـ عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : «... وضَع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يَغلِبُك منه ، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً».

ثم تذكر الآية موضوع «التجسّس» فتنهى عنه بالقول : (وَلَا تَجَسَّسُوا).

وأخيراً فإنّ الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين السابقين ومعلولهما فتقول : (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا).

وهكذا فإنّ سوء الظن هو أساس التجسس ، والتجسس يستوجب إفشاء العيوب والأسرار ، والإطّلاع عليها يستوجب الغيبة ، والإسلام ينهى عن جميعها علةً ومعلولاً.

ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلاً بليغاً يجسّد هذا الأمر فيقول : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ).

أجل ، إنّ كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده ، وابتذال ماء وجهه بسبب اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه.

كلمة «ميتاً» للتعبير عن أنّ الإغتياب إنّما يقع في غياب الأفراد ، فمثلهم كمثل الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم ، وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر عن الإنسان في حق أخيه.

وحيث أنّه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوّثين بهذه الذنوب الثلاثة ويدفعهم وجدانهم إلى التيقّظ والتنبّه فيلتفتون إلى خطئهم ، فإنّ السبيل تفتحه الآية لهم إذ تُختتم بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).

٥٣٠

فلابدّ أن تحيا روح التقوى والخوف من الله أوّلاً : وعلى أثر ذلك تكون التوبة والإنابة لتشملهم رحمة الله ولطفه.

بحوث

١ ـ الأمن الإجتماعي الكامل : إنّ الأوامر أو التعليمات الستة الواردة في الآيتين آنفتي الذكر (النهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والإغتياب) إذا نُفّذت في المجتمع فإنّ سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع الجهات.

إنّ للإنسان رؤوس أموال أربعة ويجب أن تحفظ جميعاً في حصن هذا القانون وهي : «النفس والمال والناموس وماء الوجه».

والتعابير الواردة في الآيتين محل البحث والروايات الإسلامية تدل على أنّ ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات.

الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق ، ولا يكتفي بأن يكفّ الناس عن ضرب بعضهم بعضاً فحسب ، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم ، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنّهم أيضاً .. وأن يُحسّ كلٌّ منهم أنّ الآخر لا يرشقه بنبال الإتهامات في منطقة أفكاره.

وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحقّقه إلّافي مجتمع رسالي مؤمن. يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الصدد : «إنّ الله حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يُظنّ به ظنّ السّوء» (١).

٢ ـ لا تجسّسوا : رأينا أنّ القرآن يمنع جميع أنواع التجسس بصراحة تامّة ، وحيث إنّه لم يذكر قيداً أو شرطاً في الآية فيدلّ هذا على أنّ التجسس على أعمال الآخرين والسعي إلى إذاعة أسرارهم إثم ، إلّاأنّ القرائن الموجودة داخل الآية وخارجها تدل على أنّ هذا الحكم متعلق بحياة الأفراد الشخصية والخصوصية.

ويصدق هذا الحكم أيضاً في الحياة الاجتماعية للأفراد بشرط أن لا يؤثر في مصير المجتمع.

لكن من الواضح أنّه إذا كان لهذا الحكم علاقة بمصير المجتمع أو مصير الآخرين فإنّ المسألة تأخذ طابعاً آخر ، ومن هنا فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أعدّ أشخاصاً وأمرهم أن يكونوا

__________________

(١) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء ٥ / ٢٦٨.

٥٣١

عيوناً لجمع الأخبار واستكشاف المجريات واستقصائها ليحيطوا بما له علاقة بمصير المجتمع.

ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن للحكومة الإسلامية أن تتّخذ أشخاصاً يكونون عيوناً لها أو منظمة واسعة للإحاطة بمجريات الامور ، وأن يواجهوا المؤامرات ضد المجتمع أو التي يراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد ، فيتجسّسوا للمصلحة العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد.

إلّا أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعةً لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي الأصيل ، وأن يسوّغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسّسوا في حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإخلال بالأمن ، فيفتحوا رسائلهم مثلاً ، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر.

والخلاصة أنّ الحد بين التجسس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جداً ، وينبغي على مسؤولي إدارة الامور الاجتماعية أن يراقبوا هذا الحد بدقة لئلّا تهتك حرمة أسرار الناس ، ولئلّا يتهدد أمن المجتمع والحكومة الإسلامية.

٣ ـ الغيبة من أعظم الذنوب وأكبرها : قلنا إنّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماء وجهه وحيثيّته ، وأي شيء يهدّده فكأنّما يهدّد حياته بالخطر.

وأحياناً يعدّ اغتيال وقتل الشخصية أهم من اغتيال الشخص نفسه ، ومن هنا كان إثمه أكبر من قتل النفس أحياناً.

إنّ واحدةً من حِكم تحريم الغيبة أن لا يتعرّض هذا الاعتبار العظيم ورأس المال المعنوي للأشخاص لخطر التمزّق والتلوّث.

والأمر الآخر إنّ الغيبة تولّد النظرة السيئة وتضعف العلائق الاجتماعية وتوهنها وتتلف رأس مال الإعتماد وتزلزل قواعد التعاون «الإجتماعي».

قال البراء خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أسمع العواتق في بيوتهنّ فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع الله عورته ومن تتّبع الله عورته يفضحه في جوف بيته» (١).

__________________

(١) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء ٥ / ٢٥١.

٥٣٢

وأوحى الله تعالى موسى عليه‌السلام : «من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة ، ومن مات مصرّاً عليه فهو أوّل من يدخل النار» (١).

في الكافي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه».

إنّ هذه التأكيدات والعبارات المثيرة إنّما هي للأهمية القصوى التي يوليها الإسلام لصون ماء الوجه وحيثية المؤمنين الاجتماعية ، وكذلك للأثر المخرّب ـ الذي تتركه الغيبة ـ في وحدة المجتمع والإعتماد المتبادل في القلوب.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣)

التقوى أغلى القيم الإنسانية : كان الخطاب في الآيات السابقة موجّهاً للمؤمنين وكان بصيغة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا) ، وقد نهى الذكر الحكيم في آيات متعددة عمّا يوقع المجتمع الإسلامي في خطر ، وتكلّم في جوانب من ذلك.

في حين أنّ الآية محل البحث تخاطب جميع الناس وتبيّن أهم أصل يضمن النظم والثبات ، وتميّز الميزان الواقعي للقيم الإنسانية عن القيم الكاذبة والمغريات الباطلة. فتقول : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).

والمراد ب (خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى) هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى «آدم وحواء» ، فطالما كان الجميع من أصل واحد فلا ينبغي أن تفتخر قبيلة على اخرى من حيث النسب ، وإذا كان الله سبحانه قد خلق كل قبيلة وأولاها خصائص ووظائف معيّنة فإنّما ذلك لحفظ نظم حياة الناس الاجتماعية.

إنّ القرآن بعد أن ينبذ أكبر معيار للمفاخرة والمباهات في العصر الجاهلي ويُلغي التفاضل بالأنساب والقبائل يتّجه نحو المعيار الواقعي القيم ، فيضيف قائلاً : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقكُمْ).

وهكذا فإنّ القرآن يشطب بالقلم الأحمر على جميع الإمتيازات الظاهرية والمادية ، ويعطي الأصالة والواقعية لمسألة التقوى والخوف من الله ، ويقول إنّه لا شيء أفضل من التقوى في سبيل التقرب إلى الله وساحة قدسه.

__________________

(١) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء ٥ / ٢٥٢.

٥٣٣

وبما أنّ «التقوى» صفة روحانية وباطنية ينبغي أن تكون قبل كل شيء مستقرّةً في القلب والروح ، وربّما يوجد مدّعون للتقوى كثيرون والمتصفون بها قلة منهم ، فإنّ القرآن يضيف في نهاية الآية قائلاً : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

فالله يعرف المتقين حقّاً وهو مطّلع على درجات تقواهم وخلوص نيّاتهم وطهارتهم وصفائهم ، فهو يكرمهم طبقاً لعلمه ويثيبهم ، وأمّا المدّعون الكذَبَة فإنّه يحاسبهم ويجازيهم على كذبهم أيضاً.

بحثان

١ ـ القيم الحقّة والقيم الباطلة : لا شك أنّ كل إنسان يرغب بفطرته أن يكون ذا قيمة وافتخار ، ولذلك فهو يسعى بجميع وجوده لكسب القيم ...

إلّا أنّ معرفة معيار القيم يختلف باختلاف الثقافات تماماً ، وربّما أخذت القيم الكاذبة مكاناً بارزاً ولم تُبق للقيم الحقّة مكان في قاموس الثقافة للفرد.

فجماعة ترى بأنّ قيمتها الواقعية في الإنتساب إلى القبيلة المعروفة.

وكان الاهتمام بالقبيلة والإفتخار بالإنتساب إليها من أكثر الامور الوهميّة رواجاً في الجاهلية إلى درجة كانت كل قبيلة تعدّ نفسها أشرف من القبيلة الاخرى ، ومن المؤسف أن نجد رواسب هذه الجاهلية في أعماق نفوس الكثيرين من الأفراد والمجتمعات! وجماعة اخرى تعوّل على مسألة المال والثروة وامتلاكها للقصور والخدم والحشم وأمثال هذه الامور ، فتعدّها دليلاً على القيمة الشخصية وتسعى من أجل كل ذلك دائماً.

وهكذا تخطو كل جماعة في طريق خاص وتنشدّ قلوبها إلى قيمة معينة وتعدّها معيارها الشخصي.

وبما أنّ هذه الامور جميعها أمور متزلزلة ومسائل ذاتية ومادية وعابرة فإنّ مبدأً سماوياً كمبدأ الإسلام لا يمكنه أن يوافق عليها أبداً .. لذلك يشطب عليها بعلامة البطلان ويعتبر القيمة الحقيقية للإنسان في صفاته الذاتية وخاصة تقواه وطهارة قلبه والتزامه الديني.

حتى أنّه لا يكترث بموضوعات مهمة كالعلم والثقافة إذا لم تكن في خطّ «الإيمان والتقوى والقيم الأخلاقية» ...

في الدرّ المنثور عن جابر بن عبدالله قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : «يا أيّها الناس! ألا إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على

٥٣٤

عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلّابالتقوى إنّ أكرمكم عندالله أتقاكم ألا هل بلّغت؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «فليبلغ الشاهد الغائب».

٢ ـ حقيقة التقوى : يستفاد من آيات القرآن أنّ التقوى هي الإحساس بالمسؤولية والتعهد الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجةً لرسوخ إيمانه في قلبه حيث يصدّه عن الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبر ويغسل أعمال الإنسان من التلوّثات ويجعل فكره ونيّته في خلوص من أيّة شائبة.

وقد ذكر بعض الأعاظم للتقوى ثلاث مراحل :

أ) حفظ النفس من (العذاب الخالد) عن طريق تحصيل الإعتقادات الصحيحة.

ب) تجنّب كل إثم وهو أعم من أن يكون تركاً لواجب أو فعلاً لمعصية.

ج) التجلّد والإصطبار عن كل ما يشغل القلب ويصرفه عن الحق ، وهذه تقوى الخواص بل خاص الخاص.

(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥)

سبب النّزول

نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، فأعطنا من الصدقة وجعلوا يمنون عليه ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية (١).

التّفسير

الفرق بين الإسلام والإيمان : كان الكلام في الآية المتقدمة على معيار القيم الإنسانية ، أي التقوى ، وبما أنّ التقوى ثمرة لشجرة الإيمان ، الإيمان النافذ في أعماق القلوب ، ففي الآيتين

__________________

(١) أسباب نزول الآيات ، الواحدي النيسابوري / ٢٦٥.

٥٣٥

الآنفتين بيان لحقيقة الإيمان إذ تقول الآية الاولى : (قَالَتِ الْأَعْرَابُءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ).

وطبقاً لمنطوق الآية فإنّ الفرق بين «الإسلام» و «الإيمان» في أنّ : الإسلام له شكل ظاهري قانوني ، فمن تشهد بالشهادتين بلسانه فهو في زمرة المسلمين وتجري عليه أحكام المسلمين.

أمّا الإيمان فهو أمر واقعي وباطني ، ومكانه قلب الإنسان لا ما يجري على اللسان أو ما يبدو ظاهراً.

في مجمع البيان : روى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الإسلام علانية والإيمان في القلب».

وهذا المعنى نفسه وارد في تعبير آخر في بحث الإسلام والإيمان. في الكافي عن فضيل بن يسار قال : سمعت الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «إنّ الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام ، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء».

ثم تضيف الآية محل البحث فتقول : (وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَايَلِتْكُم مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيًا). وسيوفّيكم ثواب أعمالكم بشكل كامل ولا ينقص منها شيئاً.

وذلك ل (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

«يلتكم» : مشتق من «لَيت» على زنة (ريب) ومعناه الإنقاص من الحق.

والعبارات الأخيرة في الحقيقة إشارات إلى أصل قرآني مسلّم به وهو أنّ شرط قبول الأعمال «الإيمان» ، إذ مضمون الآية أنّه إذا كنتم مؤمنين بالله ورسوله إيماناً قلبياً وعلامته طاعتكم لله والرسول فإنّ أعمالكم مقبولة ، ولا ينقص من أجركم شيء ، ويثيبكم الله ، وببركة هذه الأعمال يغفر ذنوبكم لأنّ الله غفور رحيم.

وحيث إنّ الحصول على هذا الأمر الباطني أي الإيمان ليس سهلاً ، فإنّ الآية التالية تتحدث عن علائمه ، العلائم التي تميّز المؤمن حقّاً عن المسلم والصادق عن الكاذب ، وأولئك الذين استجابوا لله وللرسول رغبةً وشوقاً منهم عن أولئك الذين استجابوا طمعاً أو للوصول إلى المال والدنيا فتقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ).

أجل ، إنّ أوّل علامة للإيمان هي عدم التردد في مسير الإسلام ، والعلامة الثانية الجهاد بالأموال ، والعلامة الثالثة التي هي أهم من الجميع الجهاد بالنفس.

٥٣٦

ولذلك فإنّ الآية تُختتم بالقول مؤكّدة : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

هذا هو المعيار الذي حدّده الإسلام لمعرفة المؤمنين الحق وتمييزهم عن الكاذبين المدّعين بالإسلام تظاهراً ، وليس هذا المعيار منحصراً بفقراء جماعة بني أسد ، بل هو معيار واضح وجلي ويصلح لكل عصر وزمان لفصل المؤمنين عن المتظاهرين بالإسلام ، ولبيان قيمة اولئك الذين يمنّون بأن أسلموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك بحسب الظاهر فحسب ، إلّاأنّه عند التطبيق والعمل لا يوجد فيهم أقلّ علامة من الإيمان أو الإسلام.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (١٨)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قالوا : فلما نزلت الآيتان ـ آنفاً ـ أتو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحلفون أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان ، فأنزل الله سبحانه الآية الاولى من الآيات مورد البحث وأنذرتهم أن لا يحلفوا ، فالله يعرف باطنهم وظاهرهم ، ولا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.

التّفسير

لا تمنّوا عليّ إسلامكم : كانت الآيات السابقة قد بيّنت علائم المؤمنين الصادقين ، وحيث إنّا ذكرنا في شأن النّزول أنّ جماعة جاؤوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا إنّ ادّعاءهم كان حقيقةً وإنّ الإيمان مستقر في قلوبهم ، فإنّ هذه الآيات تنذرهم وتبيّن لهم أنّه لا حاجة إلى الإصرار والقسم ، كما أنّ هذا البيان والإنذار هو لجميع الذين على شاكلة تلك الجماعة ، فمسألة (الكفر والإيمان) إنّما يطّلع عليها الله الخبير بكل شيء.

ولحن الآيات فيه عتاب وملامة ، إذ تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث : (قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ).

ولمزيد التأكيد تقول الآية أيضاً : (وَاللهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ). فذاته المقدسة هي علمه

٥٣٧

بعينه وعلمه هو ذاته بعينها ولذلك فإنّ علمه أزلي أبدي.

ثم يعود القرآن لكلمات الأعراب من أهل البادية الذين يمنّون على النبي بأنّهم أسلموا وأنّهم أذعنوا لدينه في الوقت الذي حاربته القبائل العربية الاخرى. فيقول القرآن جواباً على كلماتهم هذه : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّاتَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلمَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَيكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

«المنّة» : من مادة «المن» ومعناه الوزن الخاص الذي يوزن به ، ثم استعمل هذا اللفظ على كل نعمة غالية وثمينة ، والمنّة على نوعين : فإذا كان فيها جانب عملي كعطاء النعمة والهبة فهي ممدوحة ، ومنن الله من هذا القبيل ، وإذا كان فيها جانب لفظي ، كمنّ كثير من الناس بالقول بعد العمل ، فهي قبيحة وغير محبوبة.

فالإيمان وقبل كل شيء يمنح الإنسان إدراكاً جديداً عن عالم الوجود ، ويكشف عنه حجب الأنانية والغرور ، ويوسع عليه أفق نظرته ، ويجسّد له عظمة خلقه في نظره.

ومن هنا كان على الإنسان أن يؤدّي شكر نعمة الله صباح مساء ، وأن يهوي إلى السجود بعد كل صلاة وعبادة ، وأن يشكر الله على جميع هذه الامور.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث تأكيد آخر على ما ورد في الآية الآنفة إذ تقول : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). فلا تصرّوا على أنّكم مؤمنون حتماً ولا حاجة للقسم .. فهو حاضر في أعماق قلوبكم ، وهو عليم بما يجري في غيب السماوات والأرض جميعاً.

«نهاية تفسير سورة الحجرات»

* * *

٥٣٨

٥٠

سورة ق

محتوى السورة : إنّ محور بحوث هذه السورة هو موضوع «المعاد» والمسائل المرتبطة بالمعاد. تمت الإشارة في هذه السورة إلى الامور التالية :

١ ـ إنكار الكافرين مسألة المعاد وتعجّبهم منها «المراد بالمعاد هنا هو المعاد الجسماني».

٢ ـ الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى مطلق التكوين والخلق وخاصة إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث.

٣ ـ الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.

٤ ـ الإشارة إلى مسألة ثبت الأعمال والأقوال ليوم الحساب.

٥ ـ المسائل المتعلقة بالموت والإنتقال من هذه الدنيا إلى الدار الاخرى.

٦ ـ جانب من حوادث يوم القيامة وأوصاف الجنة والنار.

٧ ـ إشارة إلى حوادث نهاية هذا العالم المذهلة والمثيرة.

وفي الأثناء إشارات (موجزة وذات تأثير بليغ) عن حال الامم الماضية وطغيانها وعاقبتها الوخيمة أمثال قوم فرعون وعاد وقوم لوط وقوم شعيب وقوم تبع وما ورد من تعليمات للنبي في التوجه إلى الله تعالى ... كما وردت في بداية السورة ونهايتها إشارة إلى عظمة القرآن.

٥٣٩

فضيلة تلاوة السورة : يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يهتمّ إهتماماً كبيراً بسورة «ق» حتى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأها في كل جمعة إذا خطب الناس (١).

في تفسير مجمع البيان عن الباقر عليه‌السلام قال : «ومن أدمن في فرائضه ونوافله سورة ق وسّع الله في رزقه وأعطاه كتاباً بيمينه وحاسبه حساباً يسيراً».

وكل هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بقراءة الألفاظ فحسب ، بل القراءة هي بداية لتيقّظ الأفكار ، وهي بدورها مقدّمة للعمل الصالح والإنسجام مع محتوى السورة هذه.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥)

مرّةً اخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطعة ، وهو الحرف «ق» ، وكما قلنا من قبل أنّ واحداً من التفاسير المتينة هو أنّ هذا القرآن على عظمته مؤلّف من حروف بسيطة هي ألف باء الخ ... وهذا يدلّ على أنّ مُبدع القرآن ومنزله لديه علم لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل البسيطة المألوفة.

قال بعض المفسرين : إنّ «ق» إشارة إلى بعض أسماء الله تعالى «كالقادر والقيّوم» وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.

ومن جملة الامور التي تثبت على أنّ هذا الحرف (ق) هو من الحروف المقطعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجيء القسم مباشرةً ـ بعد هذا الحرف ـ بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه : (ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ).

«المجيد» : مشتقة من المجد ومعناها الشرف الواسع ؛ وبما أنّ القرآن عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية ، فهو جدير بأن يكون مجيداً من كل جهة ، فظاهره رائق ، ومحتواه عظيم ، وتعاليمه عالية ، ومناهجه مدروسة ، تبعث الروح والحياة في نفوس العباد.

ثم يبيّن القرآن جانباً من إشكالات الكفار والمشركين العرب الواهية فيذكر إشكالين

__________________

(١) مستدرك ، الحاكم النيسابوري ١ / ٢٨٤ ؛ صحيح مسلم ٣ / ١٣ ؛ مسند أحمد ٦ / ٤٦٣.

٥٤٠