مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته ، أو يمسح على ساقه ، وأبرز في نفس الوقت تعلقه الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية ، وتعلق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.

«طفق» : بإصطلاح النحويين من أفعال المقاربة ، وتأتي بمعنى (شرع) ؛ و «سوق» : هي جمع (ساق) ؛ و «أعناق» : جمع (عنق) ومعنى الآية هو أنّ سليمان شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (٣٤) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨) هذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠)

الإمتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع : هذه الآيات تتحدث عن أحداث اخرى من قصة سليمان. القسم الأوّل من الآيات يتطرّق إلى أحد الإمتحانات التي إمتحن الله بها عبده سليمان ، الإمتحان في ترك العمل بالأولى ، وكيف توجّه بعدها سليمان بقلب خاشع إلى الله سبحانه وتعالى طالباً منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى.

الآية الاولى في بحثنا هذا تقول : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ).

إنّ سليمان عليه‌السلام كان متزوجاً من عدّة نساء ، وكان يأمل أن يُرزق بأولاد صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء ، فحدّث نفسه يوماً قائلاً : لأطوفنّ على نسائي كي ارزق بعدد من الأولاد لعلّهم يساعدونني في تحقيق أهدافي ، ولكونه غفل عن قول (إن شاء الله) بعد تمام حديثه مع نفسه ، تلك العبارة التي تبيّن توكّل الإنسان على الله سبحانه وتعالى في كل الامور والأحوال ، فلم يرزق سوى ولد ميّت ناقص الخلقة جيء به والقي على كرسي سليمان عليه‌السلام.

سليمان عليه‌السلام غرق ـ هنا ـ في تفكير عميق ، وتألّم لكونه غفل عن الله لحظة واحدة وإعتمد على قواه الذاتية ، فتاب إلى الله وعاد إليه.

فإنّ القرآن الكريم ـ من خلال الآية التالية ـ يكرّر الحديث بصورة مفصلة حول قضية توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمّنتها الآية السابقة : (قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى

٢٤١

مُلْكًا لَّايَنبَغِى لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ).

إنّ سليمان طلب من الباريء عزوجل أن يهب له ملكاً مع معجزات خاصة ، لأنّنا نعرف أنّ لكل نبي معجزة خاصة به.

وهذا الأمر لا يعدّ عيباً أو نقصاً بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من الله أن يؤيّدهم بمعجزة خاصة.

الآيات التالية تبيّن موضوع إستجابة الله سبحانه وتعالى لطلب سليمان ومنحه ملكاً يتميّز بإمتيازات خاصة ونعم كبيرة ، يمكن إيجازها في خمسة أقسام :

١ ـ تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير ، كما تقول الآية : (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ).

تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا ، وكل ما نعرفه أنّ تلك الامور الخارقة توضع تحت تصرّف الأنبياء لتسهّل لهم القيام بمهامهم.

٢ ـ النعمة الاخرى التي أنعمها الباريء عزوجل على عبده سليمان عليه‌السلام ، هي تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرّف سليمان لتنجز له بعض الأعمال التي يحتاجها (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ). أي : إنّ مجموعة منها منشغلة في البرّ ببناء ما يحتاج إليه سليمان من أبنية ، واخرى منشغلة بالغوص في البحر.

وبهذا الشكل فإنّ الله وضع تحت تصرّف سليمان قوّة مستعدّة لتنفيذ ما يحتاج إليه ، فالشياطين ـ التي من طبيعتها التمرّد والعصيان ـ سخّرت لسليمان لتبني له ، ولتستخرج المواد الثمينة من البحر.

٣ ـ النعمة الاخرى التي أنعمها الباريء عزوجل على سليمان ، هي سيطرته على مجموعة من القوى التخريبيّة ، لأنّ هناك من بين الشياطين من لا فائدة فيه ، ولا سبيل أمام سليمان سوى تكبيلهم بالسلاسل ، كي يبقى المجتمع في أمان من شرورهم ، كما جاء في القرآن المجيد (وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ).

«مقرّنين» : مشتقة من (قرن) وهي تشير إلى ربط الأيدي والأرجل أو الرقاب بالسلاسل.

«أصفاد» : جمع «صفد» على وزن (مطر) وتعني القيود التي تكبّل بها أيدي السجناء.

وقال البعض : إنّ عبارة (مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ) تعني الجامعة التي تجمع بين الرقبة

٢٤٢

واليدين ، وهذا المعنى قريب من معنى «مقرنين» اللغوي وأكثر مناسبة له.

٤ ـ النعمة الرّابعة التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على نبيّه سليمان هي إعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد ، ومنعها عمّن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة ، (هذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

عبارة (بِغَيْرِ حِسَابٍ) إمّا أن تكون إشارة إلى أنّ الباريء عزوجل قد أعطى لسليمان صلاحيات واسعة لن تكون مورد حساب أو مؤاخذة ، وذلك لصفة العدالة التي كان يتمتّع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات ، أو أنّ العطاء الإلهي لسليمان كان عظيماً بحيث إنّه مهما منح منه فإنّه يبقى عظيماً وكثيراً.

٥ ـ والنعمة الخامسة التي منّ الله سبحانه وتعالى بها على سليمان ، هي المراتب المعنوية اللائقة التي شملته ، كما ورد في آخر آية من آيات بحثنا : (وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَابٍ).

إنّ عبارة (حُسْنَ مَابٍ) التي تبشّره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند الله ، هي ـ في نفس الوقت ـ إشارة إلى زيف الادّعاءات المحرّفة التي نسبتها كتب التوراة إليه ، والتي تدّعي أنّ سليمان انجرّ في نهاية الأمر إلى عبادة الأصنام إثر زواجه من امرأة تعبد الأصنام ، وعمد إلى بناء معبد للأصنام ، إلّاأنّ القرآن الكريم ينفي ويدحض كل تلك البدع والخرافات.

بحث

من جملة الامور التي رسمتها قصة سليمان ، ما يلي :

إنّ إمساكه بزمام امور مملكة قويّة ذات إمكانيات ماديّة واقتصادية واسعة وحضارة ساطعة لا تتنافي مع المقامات المعنوية والقيم الإلهية والإنسانية.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤)

حياة أيّوب المليئة بالحوادث والعبر : إنّ أيّوب هو ثالث نبي من أنبياء الله تستعرض هذه السورة (سورة ص) جوانب من حياته ، وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تذكّر هذه القصة ، وحكايتها للمسلمين ، كي يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم ، ولا ييأسوا من لطف ورحمة الله.

٢٤٣

اسم «أيّوب» أو قصّته وردت في عدّة سور من سور القرآن المجيد ، منها الآية (١٦٣) في سورة النساء ، والآية (٨٤) في سورة الأنعام ، التي ذكرت إسمه في قائمة أنبياء الله الآخرين ، وبيّنت وأثبتت مقام نبوّته ، بخلاف كتاب التوراة الحالي الذي لم يعتبره من الأنبياء ، وإنّما اعتبره أحد عباد الله المحسنين والأثرياء وذا عيال كثيرين.

كما أنّ الآيات (٨٣ و ٨٤) في سورة الأنبياء إستعرضت بصورة مختصرة جوانب من حياة أيّوب عليه‌السلام. أمّا آيات بحثنا هذه فإنّها تستعرض حياته بصورة مفصلة أكثر من أيّ سورة اخرى من خلال أربعة آيات :

فالاولى تقول : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الشَّيْطنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ).

هذه الآية تبيّن أوّلاً علوّ مقام أيّوب عند الباريء عزوجل ، وذلك من خلال كلمة «عبدنا» ، وثانياً فإنّها تشير بصورة خفيّة إلى الإبتلاءات الشديدة التي لا تطاق ، وإلى الألم والعذاب الذي مسّ أيّوب عليه‌السلام.

ففي تفسير علي بن إبراهيم نقرأ أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن بليّة أيّوب التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علة كانت؟ قال : «لنعمة» أنعم الله عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها ، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس من دون العرش فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيّوب حسده إبليس وقال : يا ربّ ، إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلّابما أعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك شكر نعمة أبداً ، فسلّطني على دنياه حتى تعلم أنّه لم يؤدّ إليك شكر نعمة أبداً.

(ولكي يوضّح الباريء عزوجل إخلاص أيّوب للجميع ، ويجعله نموذجاً حيّاً للعالمين حتى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء ، سمح الباريء عزوجل للشيطان في أن يتسلّط على دنيا أيّوب).

«فقيل له : قد سلّطتك على ماله وولده. قال : فانحدر إبليس فلم يبق له مالاً ولا ولداً إلّا أعطبه [أي أهلكه] فازداد أيّوب شكراً لله وحمداً. قال : فسلّطني على زرعه ، قال : قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب لله شكراً وحمداً. فقال : يا ربّ! سلّطني على غنمه ، فسلّطه على غنمه فأهلكها فإزداد أيوب لله شكراً وحمداً ، وقال : يا ربّ سلّطني على بدنه ، فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينه ، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه ، فبقي في ذلك دهراً طويلاً يحمد الله ويشكره ...».

(ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحاً عميقاً ، وذلك عندما زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل).

٢٤٤

«... قالوا : يا أيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله كان يهلكنا إذا سألناه؟ وما نرى إبتلاك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلّامن أمر كنت تستره؟ فقال أيوب : وعزّة ربّي أنّه ليعلم أنّي ما أكلت طعاماً إلّاويتيم أو ضيف يأكل معي وما عرض لي أمران كلاهما طاعة لله إلّاأخذت بأشدهما على بدني».

حقّاً إنّ شماتة أصحابه كانت أكثر ألماً عليه من أيّة مصيبة اخرى حلّت به ، ورغم هذا لم يفقد أيّوب صبره ، وإنّما توجّه إلى الباريء عزوجل وذكر العبارة التي ذكرناها آنفاً ، أي قوله تعالى : (أَنّى مَسَّنِىَ الشَّيْطنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ). ولكونه خرج من الإمتحان الإلهي بنتيجة جيّدة ، فتح الباريء عزوجل ـ مرّة اخرى ـ أبواب رحمته على عبده الصابر المتحمل أيوب ، وأعاد عليه النعم التي إفتقدها الواحدة تلو الاخرى ، لا بل أكثر مما كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد ، وذلك كي يفهم الجميع العاقبة الحسنة للصبر والتحمل والشكر.

في النهاية خرج أيّوب عليه‌السلام سالماً من بودقة الامتحان الإلهي ، ونزول الرحمة الإلهية عليه يبدأ من هنا ، إذ صدر إليه الأمر : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ).

«اركض» : مشتقة من «ركض» على وزن (فقر) وتعني دكّ الأرض بالرجل ، وأحياناً تأتي بمعنى الركض ، وهنا تعطي المعنى الأوّل.

عين باردة لأيوب ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافّة الأمراض التي أصابته (الظاهرية والباطنية).

فإنّ وصف ذلك الماء بالبارد ، قد يكون إشارة إلى التأثيرات الخاصة التي يتركها الماء البارد على سلامة الجسم ، وذلك ما أثبته الطب الحديث اليوم.

النعمة المهمة الاولى التي اعيدت على أيوب هي العافية والشفاء والسلامة ، أمّا بقية النعم التي اعيدت عليه ، فاستعرضها القرآن المجيد : (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ).

المشكلة الوحيدة التي بقيت لأيوب عليه‌السلام هي قسمه بضرب زوجته ، إذ كان قد أقسم أيام مرضه لئن برىء من مرضه ليجلدنّ امرأته مائة جلدة أو أقل لأمر أنكره عليها ، ولكن بعدما برىء من مرضه رغب أيوب في العفو عنها إحتراماً وتقديراً لوفائها ولخدماتها التي قدّمتها إليه أيام مرضه ، ولكن مسألة القسم بالله كانت تحول دون ذلك.

٢٤٥

وهنا شمل الباريء عزوجل أيوب عليه‌السلام مرّة اخرى بألطافه ورحمته ، وذلك عندما أوجد حلّاً لهذه المشكلة المستعصية على أيوب : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ).

«ضغث» : تعني ملء الكفّ من الأعواد الرقيقة ، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد وما شابهها.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا ـ التي هي بمثابة عصارة القصة من أوّلها حتى آخرها ـ تقول : (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

في هذه الآية أنّها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب ، كل واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.

أوّلاً : مقام عبوديته.

ثانياً : صبره وتحمله وثباته.

ثالثاً : إنابته المتكررة إلى الله.

الفرج بعد الشدة نقطة اخرى تكمن في مجريات هذه القصة ، فعندما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كل جانب ، عليه أن لا ييأس ويفقد الأمل ، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه ، كما يقول علي بن أبي طالب عليه‌السلام في نهج البلاغة : «عند تناهي الشدة تكون الفرجة ، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء».

(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ) (٤٨)

الأنبياء الستّة : متابعة للآيات السابقة تستعرض آيات بحثنا هذا أسماء ستّة من أنبياء الله ، وتوضّح بصورة مختصرة بعض صفاتهم البارزة التي يمكن أن تكون انموذجاً حيّاً لكل بني الإنسان. ففي البداية تخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرهِيمَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ).

فالعبودية لله تعني التبعية المطلقة له ، وتعني الاستسلام الكامل لإرادته ، والإستعداد لتنفيذ أوامره في كل الأحوال.

٢٤٦

العبودية لله تعني عدم الاحتياج لغيره ، وعدم التوجه لسواه ، والتفكير بلطفه ورحمته فقط ، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له.

ثم تضيف الآية : (أُولِى الْأَيْدِى وَالْأَبْصَارِ).

وقد وصف الباريء عزوجل أنبياءه بأنّهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قويّة ، وذوو قوّة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.

إنّهم قدوة لكل السائرين في طريق الحق ، فبعد مقام العبودية الكامل لله تعالى ، تسلّحوا بهذين السلاحين القاطعين.

وعلى هذا أنّه ليس المراد من اليد والعين أعضاء الحس التي يمتلكها غالبية الناس ، وإنّما هي كناية عن صفتين هما (العلم والقدرة).

أمّا الصفة الرابعة لهم فيقول القرآن بشأنها : (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ).

إنّهم يتطلّعون إلى عالم آخر ، وافق نظرهم لا ينتهي عند الحياة الدنيا ولذاتها المحدودة ، بل يتطلّعون إلى ما وراءها من حياة أبدية ونعيم دائم ، ولهذا يبذلون الجهد ويسعون غاية السعي لنيلها.

الصفتان الخامسة والسادسة جاءتا في الآية التالية : (وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ).

إنّ إيمانهم وعملهم الصالح كانا السبب في إصطفاء الباريء عزوجل لهم من بين الناس لأداء مهام النبوّة وحمل الرسالة.

وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى مقام ثلاثة أنبياء بارزين ، تشير الآية التالية ، إلى ثلاثة آخرين ، إذ تقول : (وَاذْكُرْ إِسْمعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ).

فكل واحد منهم كان مثالاً واسوة في الصبر والإستقامة وطاعة أوامر الباريء عزوجل ، خاصة «إسماعيل» الذي كان على إستعداد كامل للتضحية بروحه في سبيل الله ، ولهذا السبب اطلق عليه لقب (ذبيح الله).

وإستعراض آيات القرآن الكريم لحياة اولئك العظام ليستلهم منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكل المسلمين العبر ، وتبعث فيه روح التقوى والتضحية والإيثار ، وتجعله في نفس الوقت صابراً صامداً أمام المشاكل والحوادث الصعبة.

الآية (٨٦) من سورة الأنعام بيّنت أنّ (اليسع) من ذرية إبراهيم ، وأنّه من الأنبياء الكبار ؛

٢٤٧

وأمّا (ذو الكفل) فهو أيضاً معروف بأنّه أحد أنبياء الله ، وذكره ورد مع أنبياء آخرين في الآية (٨٥) من سورة الأنبياء.

(هذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢) هذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣) إِنَّ هذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) (٥٤)

هذا ما وُعد به المتّقون : آيات هذه السورة إنتقلت بنا إلى شكل آخر من الحديث ، إذ أخذت تقارن بين المتّقين والعصاة المتجبّرين ، وتشرح مصير كل منهما يوم القيامة ، وهي بصورة عامّة تكمل بحوث الآيات السابقة. في البداية ، وكخلاصة لشرح حال الأنبياء السابقين والنقاط المضيئة في حياتهم ، تقول الآية : (هذَا ذِكْرٌ).

لم يكن الهدف من بيان مقاطع من تاريخ اولئك الأنبياء الرائع والمثير سرد بعض القصص ، وإنّما الهدف الذكر والتذكّر ، كما أكّدت عليه بداية هذه السورة.

فالهدف هو إيقاظ الأفكار ، ورفع المستوى العلمي ، وزيادة قوّة المقاومة والصمود لدى المسلمين الذي نزلت إليهم هذه الآيات.

ثم أخرجت الامور من طابعها الخاصّ وبيان أوضاع وأحوال الأنبياء ، إلى طابعها العام ، لتشرح بصورة عامة مصير المتقين ، إذ تقول : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَابٍ).

بعد هذه الآية القصيرة ، يعمد القرآن المجيد مجدّداً إلى اتّباع اسلوبه الخاص ، وهو اسلوب الإيجاز والتفصيل ، ليشرح ما فاز به المتقون : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ).

عبارة (مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ) إشارة إلى أنّهم لا يتكلّفون حتى بفتح أبواب الجنة ، إذ أنّها تنفتح بدون عناء لإستقبال أهل الجنة ، إذ إنّ الجنة بإنتظارهم ، وعندما تراهم تفتح لهم أبوابها وتدعوهم للدخول إليها.

ثم تبيّن الهدوء والسكينة التي تحيط بأهل الجنة ، إذ تقول : (مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ).

بعد هذا تتطرّق الآيات للزوجات الصالحات في الجنة ، إذ تقول : (وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ).

٢٤٨

«الطرف» : جفن العين ، وأحياناً يأتي بمعنى النظر ، ووصف آخر نساء الجنة بقاصرات الطرف (أي ذوات النظرات القصيرة) يشير إلى إقتصار نظرهن على أزواجهن فقط ، وحبّهن وعشقهن لهم وعدم تفكيرهم بسواهم ، وهذه من أفضل مزايا وحسنات الزوجات.

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى النعم السبع التي يغدقها الباريء عزوجل على أهل الجنة ، والتي وردت في الآيات السابقة. قال تعالى : (هذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ).

وعدٌ لا يُخلف ، ويبعث في نفس الوقت على النشاط لمضاعفة الجهد ، نعم إنّه وعد من الله العظيم.

وللتأكيد على خلود هذه النعم ، جاء في قوله تعالى : (إِنَّ هذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ).

أي : أنّ النعم في الجنان خالدة ولا تنفد ولا تزول كما في الحياة الدنيا ، ولا يظهر عليها أيّ نقص ، لأنّ الله أراد ذلك.

(هذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦) هذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨) هذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (٥٩) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) (٦١)

وهذه هي عاقبة الطغاة : الآيات السابقة إستعرضت النعم السبع وغيرها من النعم التي يغدقها الباريء عزوجل على عباده المتقين ، أمّا آيات بحثنا فإنّها تستخدم اسلوب المقارنة الذي كثيراً ما استخدمه القرآن الكريم ، لتوضيح المصير المشؤوم والعقوبات المختلفة التي ستنال الطغاة والعاصين. قال تعالى : (هذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَابٍ).

ثم تعمد آيات القرآن المجيد إلى الاستفادة من اسلوب الإيجاز والتفصيل ، إذ تقول : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ). أي إنّ جهنم هي المكان المشؤوم الذي سيردونه ، وإنّهم سيحترقون بنيرانها ، فيا لها من فراش سيء.

«مهاد» : تعني الفراش ، وهو مكان إستراحة ، ويجب أن يكون مناسباً ـ في كل الأحوال ـ لوضع الشخص وملائماً لرغبته ، ولكن كيف سيكون حال الذين خصّصت لهم نار جهنم فراشاً؟!

٢٤٩

ثم تتطرّق الآيات إلى أنواع اخرى من العذاب الإلهي ، إذ تقول : (هذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ). أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغسّاق.

«الحميم» : هو الماء الحارّ الشديد الحرارة ، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل جهنم.

و «غسّاق» : من «غسق» على وزن (رمق) وتعني شدّة ظلمات الليل.

وقال الراغب في مفرداته : إنّ (غسّاق) تعني القيح الذي يسيل من جلود أهل جهنم ومن الجراحات الموجودة في أجسامهم.

آيات بحثنا تشير مرّة اخرى إلى نوع آخر من أنواع العذاب الأليم : (وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ). أي أنّ هناك عذاب آخر غير ذلك العذاب.

«أزواج» : تعني الأنواع والأقسام ، وهذه إشارة موجزة إلى أنواع اخرى من العذاب لا تختلف عن أنواع العذاب السابقة ، ولكن آيات القرآن لم تفصح هنا عن أنواعها وقد لا يستطيع أحد في هذه الدنيا فهمها وإدراكها.

وآخر عذاب لهم أنّ جلساءهم في جهنم ذوو ألسنة بذيئة لا تنطق إلّابالقبيح من الكلام ، فعندما يرد رؤساء الضلال النار ، ويرون بأعينهم تابعيهم يساقون نحو جهنم يخاطب بعضهم البعض ويقول له : (هذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ).

فيجيبونهم : (لَامَرْحَبًا بِهِمْ).

ثم يضيفون : (إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ).

«مقتحم» : من «إقتحام» وتعني الدخول في شيء بمشقّة وبصعوبة وخوف ، وغالباً ما تعطي معنى الدخول في شيء من دون أي إطلاع وعلم مسبق.

وتوضّح هذه العبارة أنّ متّبعي سبيل الضلال يردون نار جهنم الرهيبة نتيجة تركهم البحث والتفكير ، واتّباعهم لأهوائهم ، إضافة إلى تقليدهم الأعمى لآبائهم الأوّلين.

فإنّ الصوت يصل إلى مسامع الأتباع الذين يغضبون من كلام أئمّة الضلال ، ويلتفتون إليهم قائلين : (قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَامَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ).

وأراد الأتباع من جوابهم القول : بأنّ من حسن الحظّ أنّكم (أي أئمّة الضلال والشرك) مشتركون معنا في هذا الأمر. وهذا يشفي غليل قلوبنا (وكأنّهم شامتون بأئمّتهم).

لكن الأتباع لا يكتفون بهذا المقدار من الكلام ، لأنّ أئمة الضلال هم الذين كانوا السبب المباشر لإرتكابهم الذنوب ، ولذا فإنّهم يعتبرونهم أصحاب الجريمة الحقيقيين ، وهنا يلتفتون

٢٥٠

إلى الباريء عزوجل قائلين : (قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ).

العذاب الأوّل لأنّهم أضلّوا أنفسهم ، والثاني لأنّهم أضلّونا.

هذه هي نهاية كل من عقد الصداقة مع المنحرفين وبايعهم على السير في طرق الضلال والإنحراف ، فإنّهم عندما يرون نتائج أعمالهم الوخيمة يلعن بعضهم بعضاً ويتخاصمون فيما بينهم.

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات التي تذكر النعم التي يغدقها الباريء عزوجل على المتّقين كانت أكثر تنوّعاً من الآيات التي إستعرضت عذاب الطغاة المتجبّرين ، إذ أشارت آيات القسم الأوّل إلى سبع نعم ، بينما أشارت آيات القسم الثاني إلى خمسة أنواع من العذاب ، يحتمل أن يكون السبب هو سبق رحمة الله لغضبه ، «يامن سبقت رحمتُه غضبَه».

(وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (٦٢) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤)

تخاصم أهل النار : آيات بحثنا تواصل إستعراض الجدال الدائر بين أهل جهنم. تقول اولى تلك الآيات : (وَقَالُوا مَا لَنَا لَانَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مّنَ الْأَشْرَارِ).

فعندما يبحث أفراد اتّبعوا أئمّة الضلال ، أمثال أبي جهل وأبي لهب ، عن أشخاص آخرين مثل عمّار بن ياسر وخباب وصهيب وبلال ، في نار جهنم يرجعون إلى ذاتهم متسائلين ، ويستفسرون من الآخرين : أين اولئك الأشخاص؟

وتضيف الآيات نقلاً عن أهل جهنم : (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ).

إنّنا كنّا نسخر من هؤلاء الرجال العظماء ذوي المقام الرفيع ، ونعتبرهم اناساً حقراء لا يستحقّون أن ننظر إليهم ، ولكن اتّضح لنا الآن أنّ جهلنا وغرورنا وأهواءنا هي التي أسدلت على أعيننا ستائر حجبت الحقيقة عنّا ، فهؤلاء كانوا من المقربين لله ومكانهم الآن في الجنة.

ومن الضروري الإلتفات إلى أنّ أحد أسباب عدم إدراك الحقائق هو عدم أخذها بطابع الجدّ ، إضافة إلى الإستهزاء بها ، إذ يجب على الدوام مناقشة الحقائق بشكل جدّي للوصول إليها.

ثم تخرج الآية الأخيرة بالنتيجة التي تمخّض عنها الجدال بين أهل جهنم ، وتؤكّد على ما مضى بالقول : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ).

٢٥١

فأهل جهنم مبتلون في هذه الدنيا بالخصام والنزاع والحروب. فالنزاع والجدال يتحكّم بهم ، وفي كل يوم يتخاصمون مع هذا وذاك.

وفي يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي تبرز فيه الأسرار وما تخفيه الصدور ، تراهم يتنازعون فيما بينهم في جهنم.

الجدير بالذكر أنّ أهل الجنة متكئون على الأسرّة ، ويتحدثون فيما بينهم بكلام ملؤه المحبة والصدق ، كما ورد في آيات مختلفة من آيات القرآن الحكيم ، بينما تجد أهل النار يعيشون حالة من الصراع والجدال ، إذن فتلك نعمة كبيرة ، وهذا عذاب أليم.

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٧٠)

إنّما أنا نذير : البحوث السابقة كانت تحمل طابع إنذار وتهديد للمشركين والعاصين والظالمين ، أمّا آيات بحثنا فتتابع ذلك البحث ، إذ جاء في اولى آياتها : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ).

صحيح أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مبشّر أيضاً ، ولكن بما أنّ البشرى تخصّ المؤمنين فإنّ الإنذار يخصّ المشركين والمفسدين ، والحديث هنا يخصّ المجموعة الأخيرة ، وإعتمد فيه على الإنذار.

ثم يضيف : (وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

كلمة (القهّار) وردت في هذه العبارة ، كي لا يغترّ أحد بلطف الله ، ويظنّ أنّه يعيش في مأمن من قهر الله ، ولكي لا يغرق في مستنقع الكفر وإرتكاب الذنب.

وتطرح دلائل توحيد الخالق جلّ وعلا في الالوهية والعبودية بشكل مباشر ، وتضيف : (رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).

في الواقع هناك ثلاث صفات من صفات الباريء عزوجل ذكرت في هذه الآية ، وكل واحدة منها جاءت لإثبات مفهوم ما. الاولى : «ربوبيته» لعالم الوجود ، ومالكيته لكل هذا العالم ، المالك المدبّر لشؤون عالم الوجود.

والصفة الثانية والثالثة وصف الباريء عزوجل ب (العزيز) و (الغفّار) وهو دليل آخر على

٢٥٢

توحّده تعالى في الالوهية ، لأنّه الوحيد الذي يستحق العبادة والطاعة ، وإضافة إلى ربوبيته فإنّه يمتلك القدرة على المعاقبة ، وإضافةً إلى إمتلاكه للقدرة على المعاقبة ، فإنّ أبواب رحمته ومغفرته مفتوحة للجميع.

ثم يخاطب الباريء عزوجل نبيّه الأكرم في عبارة قصيرة وقويّة : (قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ).

ثم تقول الآية ، مقدمةً لسرد قصة خلق آدم ، والمكانة الرفيعة التي يحتلّها الإنسان الذي سجدت له كافّة الملائكة : (مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

أي : لا علم لي بالمناقشات التي دارت بين الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي بخصوص خلق الإنسان ، حيث إنّ العلم يأتيني عن طريق الوحي ، والشيء الوحيد الذي يوحى إليّ هو أنّني نذير مبين : (إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

ورغم أنّ الملائكة لم تناقش وتجادل الباريء عزوجل ، ولكنّهم قالوا عندما أخبرهم الباريء عزوجل بأنّه سيجعل في الأرض خليفة ، فقالوا : أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟

مثل هذا النقاش أطلق عليه اسم (التخاصم) وهي تسمية مجازية.

(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٧٤) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣)

تكبّر الشيطان وطرده من رحمة الله : هذه الآيات توضيح لإختصام (الملأ الأعلى) و (إبليس) وبحث حول مسألة خلق آدم عليه‌السلام. الآية الاولى تذكّر بإخبار الله عزوجل

٢٥٣

ملائكته بأنّه سيخلق بشراً من الطين : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مّن طِينٍ).

ولكي لا يتصور البعض أنّ أصل خلق الإنسان هو ذلك الطين وحسب ، أضافت الآية التالية : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).

وبهذا الشكل إنتهت عملية خلق الإنسان ، وذلك بعد إمتزاج روح الباريء عزوجل الطاهرة مع التراب. فخُلق موجود عجيب لم يسبق له مثيل ، ولم توضع لرقيّه وإنحطاطه أيّة حدود. الموجود الذي زوّده الباريء عزوجل بإستعدادات خارقة تجعله لائقاً لخلافة الله ، والذي سجدت له الملائكة بأجمعها فور إكتمال عملية خلقه : (فَسَجَدَ الْمَلِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).

إلّا أنّ إبليس كان الوحيد الذي أبى أن يسجد لآدم لتكبّره وتمرده وطغيانه ، ولهذا السبب أنزل من مقامه الرفيع إلى صفوف الكافرين : (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).

نعم ، فالتكبر والغرور من أقبح الامور التي يبتلى بها الإنسان ، ويحرماه من إدراك الحقائق وفهمها ، ويؤدّيان به إلى التمرد والعصيان ، ويخرجانه أيضاً من صفوف المؤمنين المطيعين لله إلى صفّ الكافرين الباغين والطاغين ، ذلك الصفّ الذي يترأسه إبليس ويقف في مقدّمته.

وهنا إستجوب الباريء عزوجل إبليس : (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ).

وبما أنّ الباريء عزوجل منزّه عن كافّة أشكال الجسم والتجسيم ، فعبارة (يدي) هنا كناية عن القدرة ، ومن الطبيعي أنّ الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته على إنجاز العمل.

ثم تضيف الآية : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ). أي أكان عدم سجودك لأنّك استكبرت ، أم كنت من الذين يعلو قدرهم عن أن يؤمروا بالسجود؟!

ومن دون أي شك فإنّه لا أحد يستطيع أن يدّعي أنّ قدرته ومنزلته أكبر من أن يسجد لله (أو لآدم بأمر من الله).

إلّا أنّ إبليس إختار ـ بكل تعجب ـ الشقّ الثاني ، وكان يعتقد بأنّه أعلى من أن يؤمر بذلك ، لذلك قال ـ بكل وقاحة ـ أثناء تبيانه أسباب معارضته لأوامر الباريء عزوجل : (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).

٢٥٤

وخطأ إبليس أنّ النار أشرف من التراب ، ولا يحقّ لأحد أن يأمر مخلوقاً بالسجود لمخلوق آخر دنى منه.

ولكن أوّلاً : إنّ آدم لم يكن تراباً فقط ، وإنّما نفخت فيه الروح الإلهية ، وهذا هو سبب عظمته.

ثانياً : التراب ليس بأدنى من النار ، وإنّما هو أفضل منها بكثير ، لأنّ كل الحياة أصلها من التراب ، فالنباتات وكل الموجودات الحية بأجمعها تستمدّ غذاءها ومصدر حياتها من التراب.

والنار إنّما يستفاد منها في الوسائل الترابية ، وقد تكون أداة خطرة ومدمّرة.

ولو أمعنا النظر في أدلّة إبليس لرأينا فيها كفراً عجيباً ، لأنّه بكلامه أراد نفي حكمة الله ، والتقليل من شأن أوامره (نعوذ بالله).

وهنا وجب إخراج هذا الموجود الخبيث من صفوف الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي ، فخاطبه الباريء عزوجل بالقول : (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).

فهذا المكان مكان الطاهرين والمقربين ، وليس بمكان المذنبين والعاصين ذوي القلوب المظلمة.

«رجيم» : من «رجم» ، وبما أنّ لازمها الطرد ، فقد وردت بهذا المعنى هنا.

ثم أضاف الباريء عزوجل : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدّينِ).

المهم أنّ الإنسان عندما يرى النتائج الوخيمة لأعماله السيّئة عليه أن يستيقظ من غفلته ، وأن يفكّر في كيفية إصلاح ذلك الخطأ ، ولا شيء أخطر من بقاءه راكباً لموج الغرور واللجاجة واستمراره في السير نحو حافّة الهاوية ، لأنّه في كل لحظة يبتعد أكثر عن الصراط المستقيم ، وهذا هو نفس المصير المشؤوم الذي وصل إليه إبليس.

وهنا تحوّل (الحسد) إلى (عداء) ، كما قال القرآن : (قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

إنّه طلب من الباريء عزوجل أن يمهله إلى يوم يبعثون كي ينتقم من أبناء آدم عليه‌السلام ويدفعهم جميعاً إلى طريق الضلال.

وفي الحقيقة ، إنّه كان يريد الإستمرار في إغواء بني آدم حتى آخر فرصة متاحة له ، لأنّ في يوم البعث تسقط التكاليف عن الإنسان ، ولا معنى هناك للوساوس والإغواءات ، إضافةً إلى هذا فقد طلب من الله عزوجل أن يبقيه حيّاً إلى يوم القيامة ، رغم أنّ كل الموجودين في العالم يموتون في هذه الدنيا.

٢٥٥

وهنا إقتضت مشيئة الله سبحانه ـ بدلائل سنشير إليها ـ أن يستجيب الله لطلب إبليس ، ولكن هذه الإستجابة كانت مشروطة وليست مطلقة ، كما توضّحه الآية التالية : (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ).

ولكن ليس إلى يوم البعث الذي تبعث فيه الخلائق ، وإنّما إلى زمان معلوم. قال تعالى : (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).

وهذا إشارة إلى يوم نهاية العالم ، لأنّ كل الموجودات الحيّة في ذلك اليوم تموت ، وتبقى ذات الله المقدسة فقط ، كما ورد في الآية (٨٨) من سورة القصص : (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

هنا كشف إبليس عما كان يضمره في داخله ، وعن الهدف الحقيقي لطلبه البقاء خالداً إلى زمن معيّن إذ : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).

القسم بالعزّة تبيّن أنّه مصمّم بصورة جديّة على المضي في عمله ، وأنّه سيبقى إلى آخر لحظة من عمره ثابتاً على عهده بإغواء بني آدم.

وبعد قسمه إنتبه إبليس إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هناك مجموعة من عباد الله المخلصين لا يمكن كسبهم بأي طريقة إلى داخل منطقة نفوذه ، لذلك اعترف بعجزه في كسب اولئك فقال : (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

اولئك الذين يسيرون في طريق المعرفة والعبودية لك بصدق وإخلاص وصفاء ، إنّك دعوتهم إليك ، وأخلصتهم لك ، وجعلتهم في منطقة أمنك.

سؤال : لماذا تمّت الباريء عزوجل الموافقة على طلب إبليس في البقاء حيّاً؟

في الجواب نقول : إنّ عالم الدنيا هذا هو ساحة للإختبار والإمتحان (الإختبار الذي هو وسيلة لتربية وتكامل الإنسان) وكما هو معروف فإنّ الاختبار لا يتمّ من دون مواجهة عدو شرس ومجابهة مختلف أنواع الأعاصير والمشاكل.

وبالطبع ، إن لم يكن هناك شيطان ، فإنّ هوى النفس ووساوسها هي التي تضع الإنسان في بودقة الإختبار ، ولكن حرارة هذه البودقة تزداد بوجود الشيطان ، لأنّ الشيطان سيكون في هذه الحالة العامل الخارجي المؤثّر على الإنسان ، وهوى النفس والوساوس ستكون العامل الداخلي.

٢٥٦

(قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

آخر حديث بشأن إبليس : آيات بحثنا هي آخر آيات سورة (ص) ، وهي خلاصة لكل محتوى هذه السورة ، ونتيجة للأبحاث المختلفة التي تناولتها السورة.

في البداية ردّاً على تهديد إبليس في إغواء كل بني آدم عدا المخلصين منهم ، يجيبه الباريء عزوجل بالقول : (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ). أقسم بالحق ، ولا أقول إلّاالحق : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).

فما ورد في بداية السورة إلى هنا حق ، والذي ورد بشأن أحوال الأنبياء الكبار في هذه السورة بسبب حروبهم وجهادهم حقّ ، والحديث في هذه السورة عن القيامة والعذاب الأليم الذي سينزل بالطغاة والنعم التي سيغدقها الباريء عزوجل على أهل الجنة حقّ ، ونهاية السورة حقّ ، والله سبحانه يقسم بالحق ويقول الحق بأنّه سيملأ جهنم بالشيطان وأتباعه.

إنّ هاتين الجملتين تشتملان على الكثير من التأكيد ، لكي لا يبقى لأحد أدنى شك وترديد بهذا الشأن ، إذ لا سبيل لنجاة الشيطان وأتباعه ، والاستمرار بالسير على خطاه يؤدّي إلى جهنم.

وفي نهاية هذا البحث يشير الباريء عزوجل إلى أربعة امور :

ففي المرحلة الاولى يقول : (قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ).

إنّما أجري على الله ، كما ذكرت ذلك آيات اخرى في القرآن المجيد كالآية (٤٧) من سورة سبأ ، والتي تقول : (إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللهِ).

وهذه هي إحدى دلائل صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي المرحلة الثانية يقول : أنا لست من المتكلّفين ، فكلامي مستند على الأدلّة والمنطق ، ولا يوجد فيه أي تكلّف ، وعباراتي واضحة وكلامي خالٍ من الغموض واللفّ والدوران (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ).

٢٥٧

أمّا المرحلة الثالثة فتبيّن الهدف الأصلي من هذه الدعوة الكبيرة من نزول هذا الكتاب السماوي (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ).

المهمّ هو أن يوقظ الناس من غفلتهم ويجعلهم يتعمّقون في التفكير.

هذه العبارة تبيّن أنّ محتوى دعوة الأنبياء في كل المراحل يتناسب مع الفطرة التي فطرنا عليها الباريء عزوجل.

وأمّا في المرحلة الرابعة ، فإنّه يهدّد المعارضين والمخالفين بعبارة قصيرة غزيرة المعنى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ وبَعْدَ حِينٍ).

يقول : من الممكن أن لا تأخذوا هذا الكلام مأخذ الجدّ ، إلّاأنّه سيثبت لكم عاجلاً صدق كلامي ، سيثبت في هذا العالم في ساحات قتال الإسلام ضدّ الكفر ، وفي ساحات العمل الاجتماعي والفكري ، وفي العالم الآخر بواسطة العذاب الإلهي الأليم الذي ستعذّبون به.

«إنتهت تفسير سورة ص»

٢٥٨

٣٩

سورة الزمر

محتوى السورة : إنّ هذه السورة تضمّ عدّة أقسام مهمة :

١ ـ تتطرق السورة إلى مسألة الدعوة إلى توحيد الله.

٢ ـ الأمر المهم الآخر الذي تكرر في عدّة آيات في هذه السورة من بدايتها حتى نهايتها ، هو مسألة (المعاد) والمحكمة الإلهية الكبرى ، ومسألة الثواب والعقاب ، وغرف الجنة ، وكور النار في جهنم ، ومسألة الخوف والرهبة من يوم القيامة ، وظهور نتائج الأعمال في ذلك اليوم ، وتجسّدها في ذلك المشهد الكبير ، وهذه الامور التي تدور حول محور المعاد ممزوجة مع قضايا التوحيد بشكل كبير وكأنّها تشكّل معها نسيجاً واحداً.

٣ ـ قسم آخر من السورة يتناول أهمية القرآن المجيد ، وتأثيره القوي على القلوب والأرواح.

٤ ـ قسم آخر أيضاً يبيّن مصير الأقوام السابقين والعذاب الإلهي الأليم الذي نزل بهم من جرّاء تكذيبهم لآيات الله تعالى.

٥ ـ وقسم آخر من هذه السورة يتحدث عن مسألة التوبة ، وكون أبواب التوبة مفتوحة لمن يرغب في العودة إلى الله.

هذه السورة معروفة باسم سورة (الزمر) وهذا الاسم مأخوذ من الآيتين (٧١) و (٧٣) من هذه السورة.

٢٥٩

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاه ، وأعطاه ثواب الخائفين الذين خافو الله تعالى».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة الزمر أستخفها من لسانه أعطاه الله من شرف الدنيا والآخرة ، وأعزه بلا مال ولا عشيرة ، حتى يهابه من يراه وحرّم جسده على النار وبنى له في الجنة ألف مدينة.

مقارنة فضائل تلاوة سورة الزمر مع محتوياتها ، يوضّح أنّ هذه المكافآت إنّما تعطى لمن كانت تلاوته مقدمة للتفكر والتفكر مقدمة للإيمان والعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣)

عليك الإخلاص في الدين : هذه السورة تبدأ بآيتين تتحدثان عن نزول القرآن المجيد : الأولى تقول : إنّ الله هو الذي أنزل القرآن ، والثانية : تبيّن محتوى وأهداف القرآن.

في البداية تقول : (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

من الطبيعي أنّ كل كتاب تتمّ معرفته من خلال مؤلفه أو منزله ، وعندما ندرك أنّ هذا الكتاب السماوي الكبير مستلهم من علم الله القادر والحكيم ، الذي لا يقف أمام قدرته المطلقة شيء ، ولا يخفى على علمه المطلق أمر ، لأيقنّا بلا عناء أنّ محتوياته حق وكلها حكمة ونور وهداية.

ثم تنتقل السورة إلى عرض محتويات هذا الكتاب السماوي وأهدافه : (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ).

ولكون هدف نزول القرآن يتحدد في إعطاء الدين الخالص للبشرية ، فإنّ آخر الآية يقول : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينَ).

إنّ (الدين) يتناول مجموعة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان ، ويجب على عباد الله المخلصين أن يخلصوا كل حياتهم لله.

٢٦٠