مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

«الغمرة» : في الأصل معناها الماء الغزير الذي يغطّي محلاً ما ... ثم استعملت على الجهل السحيق الذي يغطّي عقل الشخص.

و «ساهون» : جمع ل «ساهٍ» وهي مشتقة من «السهو» والمراد بها هنا الغفلة.

فعلى هذا يكون المراد من كلمة «الخرّاصون» هم الغارقون في جهلهم وكل يوم يتذرّعون بحجة واهية فراراً من الحق.

ولذلك فهم دائماً : (يَسَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ).

جملة «يسألون» والفعل للمضارع يدل على أنّهم يثيرون هذا السؤال أيّان يوم الدين؟! باستمرار ... على أنّه ينبغي أن يكون يوم القيامة وموعده مخفياً ، ليكون محتمل الوقوع في أيّ زمان ، ويحصل منه الأثر التربوي للإيمان بيوم القيامة الذي هو بناء الشخصية والاستعداد الدائم.

إلّا أنّه ومع هذه الحال فإنّ القرآن يردّ عليهم مجيباً بلغة شديدة ويعنّفهم : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ).

وعندئذ يقال لهم هنالك : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩)

ثواب المستغفرين بالأسحار : تعقيباً على الكلام المذكور في الآيات آنفة الذكر الذي كان يدور حول الكذبة والجهلة ومنكري القيامة وعذابهم ، في الآيات محل البحث يقع الكلام عن المؤمنين المتقين وأوصافهم وثوابهم لتتجلّى بمقارنة الفريقين ـ كما هو عليه اسلوب القرآن ـ الحقائق أكثر فأكثر. تقول الآيات هنا : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

وصحيح أنّ البستان بطبيعته يكون ذا سواق وروافد ، لكن ما ألطف أن تتدفّق مياه العيون في داخل البستان نفسه وتسقي أشجاره ... فهذا هو ما تمتاز به بساتين الجنة ... فهي ليست ذات عين واحدة بل فيها عيون ماء متعددة تجري متدفّقه هناك.

ثم يضيف القرآن مشيراً إلى نعم الجنّات الاخر فيتحدث عنها بتعبير مغلق فيقول :

٥٦١

(ءَاخِذِينَ مَاءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ). أي أنّهم يتلقّون هذه المواهب الإلهية بمنتهى الرضا والرغبة والشوق ... ويعقّب القرآن في ختام الآية بأنّ هذه المواهب وهذا الثواب كل ذلك ليس إعتباطاً بل (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ). و «الإحسان» : هنا يحمل معنى وسيعاً بحيث يشمل طاعة الله والأعمال الصالحة الاخر أيضاً.

والآيات التالية تبيّن كيفية إحسانهم ، فتعرض ثلاثة أوصاف من أوصافهم فتقول : أوّلاً :(كَانُوا قَلِيلاً مّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ).

«يهجعون» : مشتقة من الهجوع ، ومعناه النوم ليلاً. فعلى هذا فهم كل ليلة يحيّون قسماً منها بالعبادة وصلاة الليل ، أمّا الليالي التي يرقدون فيها حتى مطلع الفجر ... وتفوت عليهم العبادة فيها كليّاً ... فهي قليلة جدّاً.

والوصف الثاني من أوصافهم يذكره القرآن بهذا البيان : (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

فحيث إنّ عيون الغافلين هاجعة آخر الليل والمحيط هادىء تماماً ، فلا شيء يشغل فكر الإنسان ويقلق باله ... يصلّون ويستغفرون عن ذنوبهم خاصة.

ثم يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنة المتقين فيقول : (وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لّلْسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

كلمة «حق» هنا هو إمّا لأنّ الله أوجب ذلك عليهم : كالزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية الواجبة ؛ أو لأنّهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك.

ويمكن أن يقال إنّ الفرق بين المحسنين وغيرهم هو أنّ المحسنين يؤدّون هذه الحقوق ، في حين أنّ غيرهم ليسوا مقيدين بذلك.

وما وصلنا من روايات عن أهل البيت عليهم‌السلام يؤكّد أيضاً أنّ المراد من «حق معلوم» شيء غير الزكاة الواجبة.

وفي الفرق بين «السائل» و «المحروم» ، فقال بعضهم «السائل» هو من يطلب العون من الناس ، أمّا «المحروم» فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل قصارى جهده ليعيش دون أن يمدّ يده إلى أحد ، أو يطلب العون من أحد ، بل يصبّر نفسه.

فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم المحتاجون ويمدّوا أيديهم إليكم ، بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد المحرومين الذين يعبّر عنهم القرآن بأنّهم

٥٦٢

(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) (١) ... لتساعدوهم وتحفظوا ماء وجوههم.

(وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣)

آيات الله وآثاره في أنفسكم : تعقيباً على الآيات المتقدمة التي كانت تتحدث عن مسألة المعاد وصفات أهل النار وأهل الجنة ، تأتي هذه الآيات ـ محل البحث ـ لتتحدث عن آيات الله ودلائله في الأرض وفي وجود الإنسان نفسه ليطّلع على مسألة التوحيد ومعرفة الله وصفاته التي هي مبدأ الحركة نحو الخيرات كلها من جهة ، وعلى قدرته على مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اخرى ، لأنّ خالق الحياة على هذه الأرض وما فيها من عجائب قادر على تجديد الحياة بعد الموت كذلك. تقول هذه الآية أوّلاً : (وَفِى الْأَرْضِءَايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ).

والحق أنّ دلائل الله وقدرته غير المتناهية وعلمه وحكمته التي لا حد لها في هذه الأرض كثيرة ووفيرة إلى درجة أنّ عمر أي إنسان مهما كان لا يكفي لمعرفتها جميعاً.

ولا بأس أن ننقل هنا جانباً من كلمات بعض العلماء المعروفين في العالم الذين لهم دراسات كثيرة في هذا الصدد : إنّه «كرسي موريسين» فلنصغ إليه قائلاً : «لقد روعي منتهى الدقة في تنظيم العوامل الطبيعية فلو تضخّمت القشرة الخارجية للكرة الأرضية أكثر ممّا كانت عليه عشر مرّات لأنعدم الأوكسجين الذي هو المادّة الأصلية للحياة ، ولو أنّ أعماق البحار كانت أكثر عمقاً ممّا هي عليه قليلاً أو كثيراً ، لأنجذب جميع الأوكسجين والكربون من سطح الأرض ولم يعد أي إمكان لحياة النبات أو الحيوان على سطح الأرض».

ويقول في مكان آخر : «أنّ نسبة الأوكسجين في الهواء هي إحدى وعشرين بالمائة فحسب ، فلو كانت هذه النسبة خمسين بالمائة لأحترق به كل ما من شأنه الاشتعال في هذا العالم ... ولو وصلت شظية صغرى من النار إلى شجرة في غابة لأحترقت الغابة جمعاء» (٢).

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلاً : (وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). أي أفلا تبصرون هذه الآيات في أنفسكم أيضاً.

__________________

(١) سورة البقرة / ٢٧٣.

(٢) أسرار خلق الإنسان ، كرسي موريسين / ٣٣ ـ ٣٦.

٥٦٣

ولا شك أنّ الإنسان أعجوبة عالم الوجود وما هو في العالم الأكبر موجود في عالم الإنسان الأصغر أيضاً ، بل في الإنسان عجائب لا توجد في أي مكان من العالم.

إنّ الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة وخاصة عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة التي لا ترى بالعين المجرّدة وجميعها مسؤولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية إلى عشرة مليون مليارد خلية ، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس الاخر كل منها آية عظمى من آيات الله.

وأهمّ من كل ذلك لغز الحياة التي لم تعرف أسرارها وبناء الروح أو العقل الإنساني الذي يعجز عن إدراكه عقول جميع الناس.

وقد ورد في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (١).

وفي الآية الثالثة من الآيات ـ محل البحث ـ إشارة إلى القسم الثالث من دلائل عظمة الخالق وقدرته على المعاد ، إذ تقول : (وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ).

إنّ سعة مفهوم الرزق تشمل حبّات المطر وغيرها كنور الشمس الذي يأتي من السماء وله أثره الفاعل في الحياة ، والهواء الذي هو أساس حياة الموجودات.

إنّ ما يمنع البصيرة ويصدّها عن مطالعة أسرار الخلق هو «الحرص على الرزق» ، فالله سبحانه يطمئن الإنسان في الآية الأخيرة بأنّ رزقه مضمون ، ليستطيع أن ينظر إلى عجائب العالم ويتحقق فيه قوله : (أَفَلَا تُبْصِرُونَ).

وجملة (وَمَا تُوعَدُونَ) فيمكن أن تكون تأكيداً على مسألة الرزق ووعد الله في هذا المجال ، أو أنّ المراد منها عذاب ينزل من السماء.

فهذه الآيات الثلاث فيها ترتيب لطيف ، فالآية الاولى تتحدث عن أسباب وجود الإنسان وحياته ، والآية الثانية تتحدث عن الإنسان نفسه ، والآية الثالثة تتحدث عن أسباب بقائه ودوامه.

لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تُقسم فتقول : (فَوَرَبّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ).

وقد بلغ الأمر حدّاً أن يقسم الله على ما لديه من عظمة وقدرة ليُطمئن عباده الشاكّين

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ / ٣٢.

٥٦٤

ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حق ولا ريب في كل ذلك.

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قَالُوا كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٣٠)

ضيوف إبراهيم عليه‌السلام : من هذا المقطع ـ فما بعد ـ يتحدث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء الماضين والامم المتقدمة تأكيداً وتأييداً للموضوع آنف الذكر وما حواه من مسائل ، وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط ، ومرّوا على إبراهيم عليه‌السلام على صورة بشر ، ليبشّروه بالولد ، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّاً كبيراً فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيماً كذلك.

فمن جهة ... يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيداً على كون الأرزاق مقدّرة كما اشير إلى ذلك في الآيات المتقدمة.

ومن جهة اخرى يُعدّ دليلاً آخر على قدرة الحق وآية من آيات معرفة الله التي ورد البحث عنها في الآيات آنفاً.

ومن جهة ثالثة يُعدّ بُشرى للُامم المؤمنة بأنّها في رعاية الحق ، كما أنّ الآيات التالية تتحدث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.

ففي البدء يوجّه الله سبحانه الخطاب لنبيّه فيقول : (هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرهِيمَ الْمُكْرَمِينَ).

والتعبير ب «المكرمين» إمّا لأنّ هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحق ، أو لأنّ إبراهيم عليه‌السلام أكرمهم ، أو للوجهين معاً.

ثم يبيّن القرآن حالهم فيقول : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلمًا قَالَ سَلمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ).

فإنّ إبراهيم أدّى ما عليه من حق الضيافة : (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ).

٥٦٥

«راغ» : مشتق من «روغ» ـ على وزن شوق ـ ومعناه التحرّك مقروناً بخطّة خفية.

و «العجل» : على وزن «طفل» معناه ولد البقر وفي الأصل مأخوذة من العجلة ، لأنّ هذا الحيوان في هذه السن وفي هذه المرحلة يتحرك حركة عجلى ، وحين يكبر تزول عنه هذه الصفة تماماً ؛ و «السمين» : معناه المكتنز لحمه ، وإنتخاب مثل هذا العجل إنّما هو لإكرام الضيف وليسع المتعلقين والأكلة الآخرين.

ثم تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه : (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ). إلّاأنّه لاحظ أنّ أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجب و (قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ).

وكان إبراهيم يتصور أنّهم من الآدميين (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لأنّه كان معروفاً في ذلك العصر وفي زماننا أيضاً بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد العرفية ، أنّه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه ولذلك فإنّ الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه ، يثير الظن السيء بأنّه جاء لأمر محذور.

وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (٧٠) من سورة هود طمأنةً له ف (قَالُوا لَاتَخَفْ).

ويضيف القرآن : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلمٍ عَلِيمٍ).

وبديهي أنّ الغلام عند ولادته لا يكون عليماً ، إلّاأنّه من الممكن أن يكون له إستعداد بحيث يكون في المستقبل عالماً كبيراً ... والمراد به هنا هو ذلك المعنى.

والمشهور بين المفسرين أنّ هذا الغلام هو إسحاق.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ). ونقرأ في الآية (٧٢) من سورة هود قوله تعالى : (قَالَت يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِى شَيْخًا).

«صرّة» : مشتقة من الصرّ على وزن الشرّ ، ومعناه في الأصل الشدّ والإرتباط. وفي الآية محل البحث معناها هو الصوت العالي الشديد.

و «صكّت» : معناها الضرب الشديد أو الضرب ، والمراد منها هنا هو أنّ امرأة إبراهيم حين سمعت بالبشرى ضربت بيدها على وجهها ـ كعادة سائر النساء ـ تعجباً وحياءً.

وطبقاً لما يقول بعض المفسرين وما ورد في سفر التكوين فإنّ امرأة إبراهيم كانت آنئذ في سن التسعين وإبراهيم نفسه كان في سن المئة عاماً ... أو أكثر. إلّاأنّ الآية التالية تنقل جواب الملائكة لها فتقول : (قَالُوا كَذلِكِ قَالَ رَبُّكَ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).

والتعبير ب «الحكيم» و «العليم» إشارة إلى أنّه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك امرأة عقيماً عجوزاً وبعلك شيخاً ، فالله يعرف كل هذه الامور.

٥٦٦

(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (٣٧)

مُدن قوم لوط المدمّرة آية وعبرة : تعقيباً على ما سبق من الحديث عن الملائكة الذين حلّوا ضيفاً على إبراهيم وبشارتهم إيّاه في شأن الولد «إسحاق» تتحدث هذه الآيات عمّا دار بينهم وبين إبراهيم في شأن قوم لوط.

توضيح ذلك : إنّ إبراهيم بعد ما ابعد إلى الشام ... واصل دعوة الناس إلى الله ومواجهته لكل أنواع الشرك وعبادة الأصنام ... وقد عاصر إبراهيم الخليل «لوط» أحد الأنبياء العظام ويُحتمل أنّه كان مأموراً من قبله بتبليغ الناس وهداية الضالين ، فسافر إلى بعض مناطق الشام «أي مدن سدوم» فحلّ في قوم مجرمين ملوّثين بالشرك والمعاصي الكثيرة ، وكان أقبحها تورّطهم في الإنحراف الجنسي واللواط ، وأخيراً فقد أمر رهط من الملائكة بعذابهم وهلاكهم إلّاأنّهم مرّوا بإبراهيم قبل إهلاكهم.

وقد عرف إبراهيم من حال الضيف (الملائكة) أنّهم ماضون لأمر مهم ، ولم يكن هدفهم الوحيد البشرى بتولد إسحاق ، لأنّ واحداً منهم كان كافياً لمهمة «البشارة» ، أو لأنّهم كانوا عَجِلين فأحسّ بأنّ لديهم «مأمورية مهمّة. لذلك فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تحكي بداية المحاورة فتقول : (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ).

فأماط الملائكة اللثام عن «وجه الحقيقة» ومأموريتهم ف (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ).

ثم أضافوا قائلين : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ).

والتعبير ب «حجارة من طين» هو ما أشارت إليه الآية (٨٢) من سورة هود بالقول من «سجّيل» ؛ ولعلها في المجموع إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ هلاك قوم لوط المجرمين لم يكن يستلزم إنزال أحجار عظيمة وصخور وجلاميد من السماء ، بل كان يكفي أن يمطروا بأحجار صغيرة ليست صلبة جدّاً كأنّها حبّات «المطر».

ثم أضاف الملائكة قائلين : (مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ).

٥٦٧

والقرآن هنا يكشف عما جرى لرسل الله إلى نبيّه لوط فيقول : (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ).

أجل عدالتنا لا تسمح أن يبتلى المؤمن بعاقبة الكافر.

وهذا هو ما أشارت إليه الآيتان (٥٩ و ٦٠) من سورة الحجر بالقول : (إِلَّاءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ).

إنّ هذا القسم من قصة قوم لوط ورد في هذه السور الخمس في عبارات مختلفة وجميعها يتحدث عن حقيقة واحدة ... إلّاأنّه حيث يمكن أن ينظر إلى حادثة ما من زوايا متعددة وكل زاوية لها بعدها الخاصّ ... فإنّ القرآن ينقل الحوادث التاريخية ـ على هذه الشاكلة ـ غالباً.

وفي مقام التربية يلزم أحياناً أن يعول على مسألة مهمّة مراراً لتترك أثرها العميق في ذهن القارىء.

فإنّ الله سبحانه زلزل مدن قوم لوط وقلب عاليها سافلها ثم أمطرها بحجارة من سجّيل منضود ولم يبق منها أثراً ... حتى أنّ أجسادهم دفنت تحت الأنقاض والحجارة لتكون عبرةً لمن يأتي بعدهم من المجرمين والظالمين غير المؤمنين.

ولذلك فإنّ القرآن يضيف قائلاً في آخر آية من الآيات محل البحث : (وَتَرَكْنَا فِيهَاءَايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ من يعتبر ويتّعظ بهذه الآيات هم الذين لديهم إستعداد للقبول في داخل كيانهم ويحسّون بالمسؤولية.

(وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (٤٦)

دروس العبرة من الأقوام السالفة : يتحدث القرآن في هذه الآيات محل البحث ـ تعقيباً

٥٦٨

على قصّة قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة ـ عن قصص أقوام آخرين ممّن مضوا في العصور السابقة. فيقول أوّلاً : (وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ).

«السلطان» : ما يكون به التسلط ، والمراد به هنا المعجزة أو الدليل والمنطق العقلي القوي أو كلاهما ، وقد واجه موسى فرعون بهما.

إنّ فرعون لم يسلّم لمعجزات موسى الكبرى التي كانت شاهداً على إرتباطه بالله ولم يطأطىء رأسه للدلائل المنطقية ... بل بقي مصرّاً لما كان فيه من غرور وتكبّر : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).

والطريف أنّ الجبابرة المتكبرين حين كانوا يتّهمون الأنبياء بالكذب والإفتراء كانوا يتناقضون تناقضاً عجيباً ، فتارةً يتّهمونهم بأنّهم سحرة ، واخرى بأنّهم مجانين ، مع أنّ الساحر ينبغي أن يكون ذكيّاً وأن يعوّل على مسائل دقيقة ويعرف نفوس الناس حتى يسحرهم ويخدعهم بها ... والمجنون بخلافه تماماً.

إلّا إنّ القرآن يخبر عن فرعون الجبار وأعوانه بقوله : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ).

جملة «فنبذناهم» إشارة إلى أنّ فرعون وجنوده كانوا في درجة من الضعف أمام قدرة الله بحيث ألقاهم في اليمّ كأنّهم موجود لا قيمة ولا مقدار له.

المراد بالمليم ذو الملامة ؛ أي هو الشخص الذي يرتكب عملاً يكون بنفسه ملامة.

والتعبير ب «وهو مليم» إشارة إلى أنّ العقاب الإلهي لم يَمحُه فحسب بل التاريخ من بعده يلومه على أعماله المخزية ويذكرها بكل ما يشينه ويلعنه ويفضح غروره وتكبره بإماطة النقاب عنهما.

ثم يتناول القرآن عاقبة قوم آخرين بالذكر وهم «قوم عاد» ، فيقول : (وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ).

ثم يذكر القرآن سرعة الريح المسلطة على عاد فيقول : (مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ).

«الرميم» : مأخوذ من الرمّة وهي العظام النخرة البالية. وهذا التعبير يدل على أنّ سرعة الريح المسلطة على قوم عاد لم تكن سرعة طبيعية ، بل إضافةً إلى تخريبها البيوت وهدمها المنازل ، فهي محرقة وذات سموم مما جعلت كل شيء رميماً.

٥٦٩

ثم تصل النوبة إلى ثمود قوم صالح إذ أمهلهم الله قليلاً ليتلقوا العذاب بعد ذلك ... فيقول الله فيهم : (وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ).

والمراد ب (حَتَّى حِينٍ) هو الأيام الثلاثة المشار إليها في الآية (٦٥) من سورة هود إمهالاً لهم : (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ).

أجل : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ).

«عتوا» : مشتقة من العتوّ ـ على وزن غلوّ ـ ومعناه الإعراض «بالوجه» ، والإنصراف عن طاعة الله ، والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما كان منهم من إعراض طوال الفترة التي دعاهم فيها نبيّهم صالح كالشرك وعبادة الأوثان والظلم وعقرهم الناقة التي كانت معجزة نبيّهم ، لا الإعراض الذي كان منهم خلال الأيام الثلاثة فحسب ، وبدلاً من أن يتوبوا وينيبوا غرقوا في غرورهم وغفلتهم.

وأخيراً فإنّ آخر جملة تتحدث عن شأن هؤلاء القوم المعاندين. تقول : (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ).

إنّ قوم صالح (ثمود) الذين كانوا من القبائل العربية وكانوا يقطنون «الحجر» وهي منطقة تقع شمال الحجاز مع إمكانات مادية هائلة وثروات طائلة وعمّروا طويلاً في قصور مشيّدة ... اهلكوا بسبب إعراضهم عن أمر الله وطغيانهم وعنادهم والشرك والظلم ، وبقيت آثارهم درساً بليغاً من العبر للآخرين.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى عاقبة خامس امّة من الامم ، وهي قوم نوح ، فتقول : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ).

و «الفاسق» يُطلق على من يخرج على حدود الله وأمره ، ويكون ملوّثاً بالكفر أو الظلم أو سائر الذنوب.

(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١)

والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون : مرّة اخرى تتحدث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة الله في عالم الخلق ، وهي تتمة لما ورد في الآيتين (٢٠ و ٢١) من هذه السورة في

٥٧٠

شأن آياته في الأرض وفي نفس «الإنسان» ووجوده ـ وهي ضمناً دليل على قدرة الله على المعاد والحياة ، فتقول أوّلاً : (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ).

«الأيد» : على وزن الصيد ، معناه القدرة والقوة ـ وقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن المجيد ، وهو هنا بمعنى قدرة الله المطلقة العظيمة في خلق السماوات.

ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جلية في عظمة السماوات ونظامها الخاصّ الحاكم عليها أيضاً.

ومع الأخذ بنظر الإعتبار ما إكتشفه العلماء من اتّساع العالم هو أنّ الله خلق السماوات ويوسعها دائماً.

والعلم الحديث (المعاصر) يقول ليست الكرة الأرضية وحدها تتضخّم وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجاً ، بل السماء أيضاً في اتّساع دائم ، أي أنّ بعض النجوم المستقرة في المجرّات تبتعد عن مركز مجرّاتها بسرعة هائلة حتى أنّ هذه السرعة لها أثرها في الإتّساع في كثير من المواقع.

وبعد خلق السماء والأرض تصل النوبة إلى خلق الموجودات المختلفة في السماء والأرض وأنواع النباتات والحيوانات فتقول الآية التالية في هذا الشأن : (وَمِن كُلّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

جملة (وَمِن كُلّ شَىْءٍ) يشمل جميع الموجودات لا الموجودات الحية فحسب ، فيمكنها أن تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ جميع أشياء العالم مخلوقة من ذرات موجبة وسالبة ، ومن المسلّم به هذا اليوم من الناحية العلمية أنّ الذرات مؤلفة من أجزاء مختلفة ، منها ما يحمل طاقة سالبة تدعى بالألكترون ، ومنها ما يحمل طاقة موجبة وتدعى بالبروتون.

ويضيف القرآن في الآية التالية مستنتجاً مما تقدم من الأبحاث التوحيدية قائلاً : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنّى لَكُم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

والتعبير ب «الفرار» هنا يطلق في ما إذا واجه الإنسان موجوداً أو حادثاً مخيفاً فيُسرع من مكان المواجهة إلى ذلك المكان ويلتجىء إلى نقطة الأمن والأمان ... فالآية تقول : فرّوا من عقيدة الشرك الموحشة وعبادة الأصنام إلى التوحيد الخالص الذي هو منطقة الأمن والأمان الواقعي.

٥٧١

فرّوا من السيئات والقبائح وعدم الإيمان وظلمة الجهل والعذاب الدائم والتجأوا إلى رحمة الحق وسعادته الأبدية.

ولمزيد التأكيد ، يستند القرآن إلى وحدانية العبادة لله الأحد فيقول : (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهًاءَاخَرَ إِنّى لَكُم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

(كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥)

قرأنا في الآية (٣٩) من هذه السورة أنّ فرعون اتّهم موسى عليه‌السلام عندما دعاه إلى الله وترك الظلم أنّه ساحر أو مجنون ، فهذا الإتهام ورد على لسان المشركين في زمان النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً إذ اتّهموه بمثل ما اتّهم فرعون موسى وقد عزّ ذلك على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النبي. فالآيات محل البحث ومن أجل تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين تقول : (كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).

كانوا يتّهمون الرسل السابقين بأنّهم سحرة لأنّهم لم يجدوا جواباً منطقياً لمعاجزهم الباهرة ، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنّه «مجنون» ... لأنّه لم يكن على غرارهم ومتلوّناً بلون المحيط ولم يستسلم للُامور المادية.

ثم يضيف القرآن هل أنّ هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه هذه التهمة إلى جميع الأنبياء : (أَتَوَاصَوْا بِهِ).

ويعقّب القرآن على ذلك قائلاً : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).

وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسّلون بكل كذب واتّهام لإخراج أهل الحق من الساحة.

ولمزيد التسرّي عن قلب النبي وتسليته يضيف القرآن : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ).

وكن مطمئناً بأنّك قد أدّيت ما عليك من التبليغ والرسالة : (فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ).

وهذه الجملة تذكّر بالآيات السابقة التي تدل على أنّ النبي كان يتحرق لقومه حتى يؤمنوا ويتأثر غاية التأثر لعدم إيمانهم حتى كاد يهلك نفسه من أجلهم.

كما تشير الآية (٦) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا).

٥٧٢

قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون ، وظنوا أنّ الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حل حتى نزلت الآية بعدها لتأمر النبي بالتذكير : (وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

فكان أن أحسّ الجميع بالإطمئنان.

والآية تشير إلى أنّ هناك قلوباً مهيّأة تنتظر كلامك يا رسول الله وتبليغك فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحق مخالفين ، فإنّ هناك جماعةً آخرين تتوق إلى الحق من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثّر فيها كلامك اللّين.

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨)

هدف خلق الإنسان من وجهة نظر القرآن : من أهمّ الأسئلة التي تختلج في خاطر كل إنسان هو لِمَ خُلِقنا؟! وما الهدف من خلق الناس والمجيىء إلى هذه الدنيا؟!

فالآيات آنفة الذكر تجيب على هذا السؤال المهم والعام بتعابير موجزة ذات معنى غزير ، وتكمّل البحث الوارد في آخر آية من الآيات المتقدمة حول تذكير المؤمنين ، لأنّ ذلك من أهمّ الاصول التي ينبغي على النبي أن يتابعها ... كما توضّح ـ ضمناً ـ معنى الفرار إلى الله الوارد في الآيات السابقة.

تقول الآيات حاكيةً عن الله سبحانه : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

وأنّه غير مفتقر إلى أيّ منهم أبداً : (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ). بل إنّ الله تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته ... (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).

وبقليل من التأمل في مفهوم آيات القرآن نرى أنّ الهدف الأصلي هو «العبودية» وهو ما اشير في هذه الآيات محل البحث ، أمّا العلم والإمتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله ، ورحمة الله الواسعة نتيجة العبودية لله.

وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة الله ، لكن المهم أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟!

إنّ العبودية هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود ، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حق

__________________

(١) مجمع البيان ٩ / ٢٦٨.

٥٧٣

العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام ، وليس ذلك سوى الله سبحانه. فبناءً على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوج بلوغ الإنسان وإقترابه من الله.

فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق ، ولا يسير إلّافي منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتى (نفسه وشخصه).

وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ الله له الامتحان والاختبار لنيله ، ومنح الإنسان العلم والمعرفة ، وجعل نتيجة كل ذلك فيض رحمته للإنسان.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

هؤلاء يشاركون أصحابهم في العذاب : الآيتان أعلاه هما آخر سورة الذاريات ، وهما نوع من الإستنتاج لما تقدم من الآيات الواردة في السورة ذاتها. فالآية الاولى تقول أنّه بعد أن أصبح معلوماً أنّ هؤلاء المشركين قد انحرفوا عن الهدف الحقيقي للخلقة ، فليعلموا أنّ لهم قسطاً وافراً من العذاب الإلهي كما كان للأقوام السالفة : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ) .. ويقولوا إن كان عذاب الله حقّاً فلِمَ لا يصيبنا؟!

والتعبير ب «الظلم» في شأن هذه الجماعة هو لأنّ الشرك والكفر من أكبر الظلم ، ولأنّ حقيقة الظلم هي وضع الشيء في غير موضعه المناسب ، ومن المعلوم أنّ عبادة الأصنام مكان عبادة الله تعدّ أهم مصداق للظلم ، ولذلك فهم يستحقون العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.

وفي الآية الأخيرة إستكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة ، إذ تقول : (فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ).

وكما أنّ هذه السورة بُدئت بمسألة المعاد والقيامة ، فإنّها إنتهت بالتأكيد عليها كذلك.

«نهاية تفسير سورة الذاريات»

* * *

٥٧٤

٥٢

سورة الطور

محتوى السورة : تتركز بحوث هذه السورة ـ أيضاً ـ على مسألة المعاد وعاقبة الصالحين والمتقين.

يمكن أن يقسّم محتوى هذه السورة إلى ستّة أقسام.

١ ـ الآيات الاولى من السورة التي تبدأ بالقَسم تلو القسم ، وهي تبحث في عذاب الله ، ودلائل القيامة وعلاماتها وعن النار وعقاب الكافرين (الآيات ١ ـ ١٦).

٢ ـ ثم يذكر بتفصيل نعم الجنة ومواهب الله في القيامة ، (الآيات ١٧ ـ ٢٨).

٣ ـ ثم يقع الكلام عن نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما وجّه إليه الأعداء من التّهم ، ويردّ عليها بنحو موجز (الآيات ٢٩ ـ ٣٤).

٤ ـ ثم بحث عن التوحيد باستدلالات واضحة (الآية ٣٥ ـ ٤٣).

٥ ـ ثم عود على مسألة المعاد وبعض أوصاف يوم القيامة (الآيات ٤٤ ـ ٤٧).

٦ ـ والقسم الأخير الذي لا يتجاوز الآيتين يختتم الامور المذكورة آنفاً بأمر نبي الإسلام بالصبر والاستقامة والتسبيح والحمد لله ووعده بأنّ الله حاميه وناصره.

وقد اشتق اسم هذه السورة (الطور) من الآية الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ومن قرأ سورة والطور كان حقّاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنّته».

٥٧٥

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا والآخرة».

وواضح أنّ كل هذا الأجر والثواب العظيم هو لُاولئك الذين يجعلون هذه التلاوة وسيلة للتفكر والتفكر بدوره وسيلة للعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) (٨)

هذه السورة ـ هي الاخرى ـ من السور التي تبدأ بالقسم ... القسم الذي يهدف لبيان حقيقة مهمة ، وهي مسألة القيامة والمعاد ومحاسبة أعمال الناس.

يقول سبحانه وتعالى : (وَالطُّورِ).

«الطور» : في اللغة معناه الجبل ، ولكن مع ملاحظة أنّ هذه الكلمة تكرّرت في عشر آيات من القرآن الكريم ، تسع منها كانت في الكلام على «طور سيناء» وهو الطور أو الجبل الذي نزل الوحي عنده على موسى ، فيُعلم أنّ المراد منه في الآية محل البحث (الطور ذاته). فبناءً على ذلك ، فإنّ الله يقسم في أوّل مرحلة بواحد من الأمكنة المقدسة في الأرض حيث نزل عليها الوحي.

وفي تفسير قوله تعالى (وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) احتمالات متعددة ، ولكن بتناسب القسَم المذكور آنفاً فإنّ الآية تشير هنا إلى «كتاب موسى» أو كل كتاب سماوي.

(فِى رَقّ مَّنشُورٍ). «الرقّ» : من الرقّة ، وهي في الأصل الدقة واللطافة ، كما تطلق هذه الكلمة على الورق أو الجلد الخفيف الذي يكتب عليه ؛ و «المنشور» : معناه الواسع.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ). والمراد منه «الكعبة» وهي بيت الله في الأرض المعمور بالحجاج والزوار ، وهو أوّل بيت وضع للعبادة على الأرض.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ). والمقصود هو «السماء» لأنّنا نقرأ في الآية (٣٢) من سورة الأنبياء : (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا).

ولعل الوجه ـ في التعبير ـ بالسقف هو أنّ النجوم والكرات السماوية إلى درجة من الكثرة بحيث غطّت السماء فصارت كأنّها السقف ، أو إشارة إلى الجو الذي يحيط بالأرض أو ما يسمّى بالغلاف الجوّي ، وهو بمثابة السقف الذي يمنع النيازك والشهب أن تهوي إلى الأرض وتصدّ الأشعّة الضارّة من الوصول إلى الأرض.

٥٧٦

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ). «المسجور : معناه الملتهب ، كما في الآيتين (٧١ و ٧٢) من سورة غافر ، إذ قال سبحانه : (يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ).

هذا «البحر المسجور» هو البحر المحيط بالأرض ، أو البحار المحيطة بها وسيلتهب قبل يوم القيامة ، ثم ينفجر كما نقرأ ذلك في الآية (٦) من سورة التكوير : (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ).

البحر الذي في باطن الأرض وهو مؤلّف من مواد منصهرة مذابة.

ولعلّ أن تكون الآية قَسماً بهما معاً ، إذ كلاهما من آيات الله ومن عجائب هذا العالم الكبرى.

وعلاقة هذه الأقسام الخمسة فيما بينها ، أنّ الظاهر أنّ الأقسام الثلاثة الاول بينها إرتباط وعلاقة ، لأنّها جميعاً تتحدث عن الوحي وخصوصياته ، فالطور محل نزول الوحي ، والكتاب المسطور إشارة إلى الكتاب السماوي أيضاً ، سواءً كان التوراة أو القرآن ، والبيت المعمور هو محل ذهاب وإيّاب الملائكة ورُسل وحي الله.

أمّا القَسمان الآخران فيتحدثان عن الآيات التكوينية «في مقابل الأقسام الثلاثة التي كانت تتحدث عن الآيات التشريعية».

وهذان القَسمان واحد منهما يشير إلى أهمّ دلائل التوحيد وعلائمه وهو «السماء» بعظمتها ، والآخر يشير إلى واحد من علائم المعاد المهمة ودلائله ، وهو الواقع بين يدي القيامة.

فبناءً على هذا فإنّ التوحيد والنبوة والمعاد جمعت في هذه الأقسام [أو الأيمان] الخمسة.

(إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ). إنّ هذه الأقسام والتي تدور حول محور قدرة الله في عالم التكوين والتشريع تدل على أنّ الله قادر على إعادة الحياة وبعث الموتى من قبورهم مرّة اخرى ، وهذا هو غاية الأقسام المذكورة كما قرأنا في الآيات الأخيرة من الآيات محل البحث.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦)

٥٧٧

كانت في الآيات السابقة إشارة وتلميح عن عذاب الله في يوم القيامة ـ بصورة مغلقة ـ أمّا الآيات محل البحث ففيها توضيح وتفسير لما مرّ ، فتتحدث أوّلاً عن بعض حالات يوم القيامة وخصائصه ، ثم عن كيفية تعذيب المكذبين فتقول : (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا).

«المَوْر» : معناه الحركة السريعة والدوران المقترن بالذهاب والإياب والاضطراب والتموّج. وعلى هذا فإنّ النظام الحاكم على الكرات يضطرب بين يدي يوم القيامة وتنحرف عن مداراتها وتتّجه إلى كل جهة ذهاباً وإيّاباً ، ثم تتبدّل وتولّد سماء جديدة بأمر الله كما تقول الآية (١٠٤) من سورة الأنبياء : (يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ).

ثم يضيف القرآن في آية اخرى : (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا).

كل ذلك هو إشارة إلى أنّ هذه الدنيا وما فيها وما عليها تندكّ ويحدث مكانها عالم جديد بأنظمة جديدة ويكون الإنسان أمام نتائج أعماله وجهاً لوجه.

لذا فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلاً : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ).

أجل ، حين تعمّ الوحشة والإضطراب جميع الخلق لتغيّر العالم ، تهيمن على المكذبين وحشة عظيمة وهي العذاب الإلهي ... لأنّ «الويل» : إظهار التأسف والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة.

ثم تبيّن الآيات من هم «المكذبون» فتقول : (الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ).

فيزعمون أنّ آيات القرآن ضرب من الكذب والإفتراء وأنّ معجزات النبي سحر وأنّه مجنون ، ويتلقّون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها ويستهزئون بها.

«خوض» : معناه الدخول في الكلام الباطل ، وهو في الأصل ورود الماء والعبور منه.

ثم تبيّن الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذبين في توضيح آخر ، فتقول : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١). أي يساقون نحو جهنم بعنف وشدة.

ويقال لهم حينئذ : (هذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ).

كما يقال لهم أيضا : (أَفَسِحْرٌ هذَا أَمْ أَنتُمْ لَاتُبْصِرُونَ).

لقد كنتم تزعمون في الدنيا إنّ ما جاء به محمّد سحر ، وليختطف عقولنا! ويرينا اموراً على أنّها معاجز ، ويذكر لنا كلاماً على أنّه وحي منزل من الله.

__________________

(١) «دعّ» : على وزن جدّ معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف.

٥٧٨

لذلك فحين يردون نار جهنم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والإحتقار وهم يلمسون حرارة النار : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!

كما يقال لهم هناك أيضاً : (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَاتَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

أجل ، هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم ، فلا ينفع الجزع والفزع والآه والصراخ ولا أثر لكل ذلك أبداً.

وهذه الآية تأكيد على «تجسم الأعمال» وعودتها نحو الإنسان ، وهي تأكيد جديد أيضاً على عدالة الله ... لأنّ نار جهنم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم ، وأشكالها المتبدلة هناك.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١)

تعقيباً على المباحث الواردة في الآيات المتقدمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محل البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتقين لتتجلى بمقايسة واضحة مكانة كل من الفريقين. تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ).

والتعبير ب «المتقين» بدلاً من المؤمنين ، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان ، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضاً ، خاصة أنّ «التقوى تقع مقدمةً وأساساً للإيمان في بعض المراحل.

ثم يتحدث القرآن عن تأثير هذه النِعَم الكبرى على روحية أهل الجنة فيقول في الآية التالية : (فَاكِهِينَ بِمَاءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ) (١).

__________________

(١) «فاكهين» : مشتقة من فكه ومعناها كون الإنسان مسروزاً ، وجعل الآخرين مسرورين بالكلام العذب.

٥٧٩

خاصةً أنّ الله قد طمأنهم وآمنهم من العقاب : (وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين ... الأوّل بيان النعمة المستقلة قبال نعم الله الاخر ... والثاني أن يكون تعقيباً على الكلام السابق ، أي أنّ أهل الجنة مسرورون من شيئين «بما آتاهم الله من النعم في الجنة ، و «بما وقاهم من عذاب الجحيم».

ثم تشير الآية الاخرى إلى نعم المتقين في الجنة فتقول : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

والتعبير ب «هنيئاً» هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنة وشرابها السائغة غير منغّصة ، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند الإفراط أو التفريط بها ... إضافةً إلى كل ذلك لا يحصل عليها بمشقة ، ولا يخاف من إنتهائها ، ولذلك فهي هنيئة.

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنة هنيئة بذاتها ، ولكن قول الملائكة لأهل الجنة «هنيئاً» هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصة.

والنعمة الاخرى التي يتمتع بها أهل الجنة هي كونهم : (مُتَّكِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ).

فهم يلتذّون بالاستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين ، وهذه لذة معنوية فوق أية لذة اخرى.

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محل البحث ، لأنّ مجالس الانس والسرور ترتّب الأسرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنباً إلى جنب ، فجلّاسها على سرر مصفوفة متقابلون.

والتعبير ب «متكئين» إشارة إلى منتهى الهدوء ، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكىء عادةً ، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك.

ثم يضيف القرآن بأنّا زوّجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة (وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) (١).

هذه بعض من نعم أهل الجنة المادية والمعنوية ، إلّاأنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب ،

__________________

(١) «الحور» : جمع حوراء وأحور ، فهو جمع للمذكّر والمؤنث سواء ، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفّاف أو هو كناية عن الجمال ، لأنّ الجمال يتجلّى في العينين قبل كل شيء ، والعين جمع لأعين وعيناء ، معناه العين الواسعة ؛ وهكذا فإنّ الحور العين مفهوماً واسعاً يشمل الأزواج جميعاً الذكور والإناث من أهل الجنة فالذكور للإناث وبالعكس.

٥٨٠