مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

٤٥

سورة الجاثية

محتوى السورة : يمكن تلخيص محتوى هذه السورة في سبعة فصول :

١ ـ عظمة القرآن المجيد وأهميته.

٢ ـ بيان جانب من دلائل التوحيد أمام المشركين.

٣ ـ ذكر بعض ادّعاءات الدهريين ، والرد عليها بجواب قاطع.

٤ ـ إشارة وجيزة إلى عاقبة بعض الأقوام الماضين ، كبني إسرائيل.

٥ ـ تهديد الضالين المصرّين على عقائدهم المنحرفة والمتعصبين لها تهديداً شديداً.

٦ ـ الدعوة إلى العفو والصفح ، لكن مع الحزم وعدم الانحراف عن طريق الحق.

٧ ـ الإشارات البليغة المعبّرة إلى مشاهد القيامة المهولة.

واسمها مقتبس من الآية (٢٨) منها ؛ و «الجاثية» : تعني الجثو على الركب ، وهي إشارة إلى وضع كثير من الناس في ساحة القيامة ، في محكمة العدل الإلهية تلك.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ومن قرأ حم الجاثية ستر الله عورته ، وسكن روعته عند الحساب».

* * *

٤٤١

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٦)

إنّ هذه السورة هي سادس السور التي تبدأ بالحروف المقطعة (حم) وهي تشكل مع السورة الآتية ـ أي سورة الأحقاف ـ سور الحواميم السبعة.

يقول الطبرسي رحمه‌الله في بداية هذه السورة : إنّ أحسن ما يقال هو أنّ (حم) اسم هذه السورة ، ثم ينقل عن بعض المفسرين ، أنّ تسمية هذه السورة ب (حم) للإشارة إلى أنّ هذا القرآن المعجز بتمامه يتكون من حروف الألف باء.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية التالية عن عظمة القرآن مباشرة فتقول : (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

«العزيز» : هو القوي الذي لا يقهر ؛ و «الحكيم» : هو العارف بأسرار كل شيء ، وتقوم كل أفعاله على أساس الحكمة والدقّة.

ثم تناولت الآية التي بعدها بيان آيات الله سبحانه ودلائل عظمته في الآفاق والأنفس ، فقالت : (إِنَّ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَأَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ).

إنّ عظمة السماوات من جانب ، ونظامها العجيب الذي مرّت عليه ملايين السنين الذي لم ينحرف عما سار عليه قيد أنملة ، من جانب آخر ، ونظام خلقة الأرض وعجائبها ، من جانب ثالث ، يكون كل منها آية من آيات الله سبحانه.

غير أنّ علامات التوحيد هذه ، وعظمة الله تعالى إنّما يلتفت إليها وينتفع بها المؤمنون ، أي طلّاب الحق والسائرون في طريق الله.

ثم انتقلت السورة من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ، فقالت : (وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍءَايَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

كل واحد من هذه المخلوقات آية بنفسه ، ودليل على علم مبدئ الخلقة وحكمته وقدرته اللامتناهية.

٤٤٢

وتذكر الآية التالية ثلاث مواهب اخرى لكل منها أثره الهام في حياة الإنسان والكائنات الحية الاخرى ، وكل منها آية من آيات الله تعالى ، وهي مواهب «النور» و «الماء» و «الهواء» ، فتقول : (وَاخْتِلفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِءَايَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

إنّ نظام «النور» و «الظلمة» وحدوث الليل والنهار حيث يخلف كل منهما الآخر نظام موزون دقيق جدّاً ، وهو عجيب في وضعه وسنّته وقانونه.

ويحتمل في تفسير الآية أنّ لا يكون المراد من اختلاف الليل والنهار تعاقبهما ، بل هو إشارة إلى اختلاف المدة وتفاوت الليل والنهار ، في فصول السنة ، فيعود نفعه على الإنسان من خلال ما ينتج عن هذا الإختلاف من المحاصيل الزراعية المختلفة والنباتات والفواكه ، ونزول الثلوج وهطول الأمطار والبركات الاخرى.

ثم تتناول الحديث في الفقرة الثانية عن الرزق السماوي ، أي «المطر». والماء يشكل الجانب الأكبر والقسم الأساسي من بدن الإنسان ، وكثير من الحيوانات الاخرى ، والنباتات.

ثم تتحدث في الفقرة الثالثة عن هبوب الرياح .. تلك الرياح التي تنقل الهواء المليء بالأوكسجين من مكان إلى آخر ، وتضعه تحت تصرف الكائنات الحية ، وتبعد الهواء الملوث بالكاربون إلى الصحاري والغابات لتصفيته ، ثم إعادته إلى المدن.

والعجيب أنّ هاتين المجموعتين من الكائنات الحية ـ أي الحيوانات والنباتات ـ متعاكسة في العمل تماماً ، فالاولى تأخذ الأوكسجين وتعطي غاز ثاني أوكسيد الكاربون ، والثانية على العكس تتنفس ثاني أوكسيد الكاربون وتزفر الأوكسجين ، ليقوم التوازن في نظام الحياة ، ولكي لا ينفذ مخزون الهواء النقي المفيد من جو الأرض بمرور الزمان.

إنّ هبوب الرياح ، إضافة إلى ذلك فإنّه يلقح النباتات فيجعلها حاملة للأثمار والمحاصيل ، وينقل أنواع البذور إلى الأراضي المختلفة لبذرها هناك ، وينمي المراتع الطبيعية والغابات ، ويهيج الأمواج المتلاطمة في قلوب المحيطات ، ويبعث الحركة والحياة في البحار ويثير أمواجها العظيمة ، ويحفظ الماء من التعفّن والفساد ، وهذه الرياح نفسها هي التي تحرك السفن على وجه المحيطات والبحار وتجريها.

وتقول الآية الأخيرة ، إجمالاً للبحوث الماضية ، وتبياناً لعظمة آيات القرآن وأهميتها : (تِلْكَءَايَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ).

٤٤٣

«التلاوة» : من مادة «تلو» أي الإتيان بالكلام بعد الكلام متعاقباً ، وبناء على هذا فإنّ تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية متعاقبة.

والتعبير «بالحق» إشارة إلى محتوى هذه الآيات ، وهو أيضاً إشارة إلى كون نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والوحي الإلهي حقّاً. وبعبارة اخرى ، فإنّ هذه الآيات بليغة معبرة تضمنت في طياتها الاستدلال على حقانيتها وحقانية من جاءها.

وحقّاً إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شيء سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب الآية : (فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ).

حقّاً إنّ للقرآن الكريم محتوىً عميقاً من ناحية الاستدلال والبراهين على التوحيد ، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى الله سبحانه حتى القلوب التي لها أدنى استعداد ـ أو أرضية صالحة ـ وتدعو كل مرتبط بالحق إلى الطهارة والتقوى ، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته بعد ذلك.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (١٠)

ويل لكل أفّاك أثيم : رسمت الآيات السابقة صورة عن فريق يسمعون كلام الله مدعماً بمختلف أدلة التوحيد والمواعظ والإرشاد ، فلا يترك أثراً في قلوبهم القاسية ، أمّا هذه الآيات فتتناول بالتفصيل عواقب أعمال هذا الفريق ، فتقول أوّلاً : (وَيْلٌ لِّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ).

«الأفّاك» : صيغة مبالغة ، وهي تعني الشخص الذي يكثر الكذب جدّاً ، وتقال أحياناً لمن يكذب كذبة عظيمة حتى وإن لم يكثر من الكذب.

و «الأثيم» : من مادة إثم ، أي المجرم والعاصي ، وتعطي أيضاً صفة المبالغة.

ويتّضح من هذه الآية جيداً أنّ الذين يقفون موقف الخصم العنيد المتعصب أمام آيات الله سبحانه هم الذين غمرت المعصية كيانهم ، فانغمسوا في الذنوب والآثام والكذب ، لا اولئك الصادقون الطاهرون ، فإنّهم يذعنون لها لطهارتهم ونقاء سريرتهم.

٤٤٤

ثم تشير الآية التالية إلى كيفية اتخاذهم لموضع الخصام هذا ، فتقول : (يَسْمَعُءَايَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا).

وتهدده الآية في نهايتها بالعذاب الشديد ، فتقول : (فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). فكما أنّه آذى قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين وآلمهم ، فإنّنا سنبتليه بعذاب أليم أيضاً.

ثم تضيف الآية التي بعدها : (وَإِذَا عَلِمَ مِنْءَايَاتِنَا شَيًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا).

إنّه يتخذ كل آياتنا هزواً ، سواء التي علمها والتي لم يعلمها ، وغاية الجهل أن ينكر الإنسان شيئاً أو يستهزيء به وهو لم يفهمه أصلاً ، وهذا خير دليل على عناد اولئك وتعصّبهم.

ثم تصف الآية عقاب هؤلاء في النهاية فتقول : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ).

وتوضح الآية التالية العذاب المهين ، فتقول : (مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ).

إن التعبير بالوراء مع أنّ جهنم أمامهم وسيصلونها في المستقبل ، يمكن أن يكون ناظراً إلى أنّ هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم.

إنّ الآية تضيف مواصلةً الحديث أنّ هؤلاء إن كانوا يظنون أنّ أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئاً من أثقالهم ، وأنّها ستغني عنهم من الله شيئاً ، فإنّهم قد وقعوا في اشتباه عظيم ، حيث : (وَلَا يُغْنِى عَنْهُم مَا كَسَبُوا شَيًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ).

ولمّا لم يكن هناك سبيل نجاة وفرار من هذا المصير ، فإنّ هؤلاء يجب أن يبقوا في عذاب الله ونار غضبه : (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

ولقد استصغر هؤلاء آيات الله سبحانه ، ولذلك سيعظم الله عذابهم ، وقد اغتر هؤلاء وتفاخروا فألقاهم الله في العذاب الأليم.

(هذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥)

٤٤٥

مواصلة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول عظمة آيات الله ، تتناول هذه الآيات نفس الموضوع ، فتقول : (هذَا هُدًى). فهو يميز بين الحق والباطل ، ويضيء حياة الإنسان ، ويأخذ بيد سالكي طريق الحق ليوصلهم إلى هدفهم ومنزلهم المقصود ، لكن : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ).

«الرجز» : يعني الاضطراب والإهتزاز وعدم الإنتظار ، وتطلق هذه الكلمة أيضاً على مرض الطاعون والإبتلاءات الصعبة ، أو العواصف الثلجية الشديدة ، والوساوس الشيطانية وأمثال ذلك ، لأنّ كل هذه الامور تبعث على الإضطراب وعدم الإنتظام والانضباط.

ثم تحول زمام الحديث إلى بحث التوحيد الذي مرّ ذكره في الآيات الاولى لهذه السورة ، فتعطي المشركين دروساً بليغة مؤثرة في توحيد الله سبحانه ومعرفته. فتارة تدغدغ عواطفهم ، وتقول : (اللهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية ، تطرقت الآية التي بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة ، فتقول : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مّنْهُ).

فلماذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره ، ويتسكع على أعتاب المخلوقات الضعيفة ، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

لقد كانت الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها ، وهنا تحاول هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره ، فما أعظم رحمة ربّنا سبحانه! إنّه يتحدث مع عباده بكل لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره ، فمرّة بحديث القلب ، واخرى بلسان الفكر ، والهدف واحد من كل ذلك ، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى سلوك السبيل القويم.

ثم تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق ، فحولت الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : (قُلْ لِلَّذِينَءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَايَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ).

فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية ، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة ، وألفاظهم بذيئة ، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية ، غير أنّ عليكم أن تقابلوهم

٤٤٦

بكل رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم ، فتبعد المسافة بينهم وبين الحق.

لكن ، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي ، فقد أضافت الآية : (لِيَجْزِىَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

لقد اعتبر بعض المفسرين هذه الجملة تهديداً للكفار والمجرمين ، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح ، لكن لا مانع من أن تكون تهديداً لتلك الفئة من جانب ، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر ، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضاً. تقول الآية : (مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ).

إنّ هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مراراً ، وبعبارات مختلفة ، يشكل جواباً لمن يقول : ماذا يضر عصياننا الله تعالى ، وما تنفعه طاعتنا؟

فتقول هذه الآيات : إنّ كل ضرر ذلك وكل نفعه يعود عليكم ، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة ، وتحلّقون إلى سماء قرب الله عزوجل ، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي ، فتبتعدون عن الله عزوجل وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٦) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢٠)

آتينا بني إسرائيل كل ذلك ، ولكن ... : متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم الله المختلفة وشكرها والعمل الصالح ، تتناول هذه الآيات نموذجاً من حياة بعض الأقوام الماضين الذين غمرتهم نعم الله سبحانه ، إلّاأنّهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.

تقول الآية الاولى : (وَلَقَدْءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مّنَ

٤٤٧

الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).

تبيّن هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل.

النعمة الاولى هي الكتاب السماوي ، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف الدينية والحلال والحرام ، وطريق الهداية والسعادة ؛ والثانية مقام الحكومة والقضاء.

أمّا النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبوّة ، حيث اصطفى الله سبحانه أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.

وقد ورد في رواية أنّ عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي ، وفي رواية اخرى : «إنّ عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي».

وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثاً جامعاً شاملاً عن المواهب المادية ، فتقول : (وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيّبَاتِ).

النعمة الخامسة ، هي تفوقهم وقوّتهم التي لا ينازعهم فيها أحد ، كما توضح الآية ذلك في ختامها فتضيف : (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).

لا شك أنّ المراد من «العالمين» هنا هم سكان ذلك العصر.

وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها الله سبحانه لهؤلاء المنكرين للجميل ، فتقول : (وَءَاتَيْنَاهُمْ بَيّنَاتٍ مّنَ الْأَمْرِ).

«البيّنات» : يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها الله سبحانه موسى بن عمران عليه‌السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل ، أو أنّها إشارة إلى الدلائل والبراهين المنطقية الواضحة ، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.

فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة ، والدلائل البيّنة الواضحة لا يبقى مجال للاختلاف ، إلّاأنّ الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أن اختلفوا ، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ).

ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

وبهذا فقد فقدوا قوّتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم النعمة ، واختلافهم فيما بينهم ، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.

بعد بيان المواهب التي منّ الله تعالى بها على بني إسرائيل ، وكفرانها من قبلهم ، ورد

٤٤٨

الحديث عن موهبة عظيمة أهداها الله سبحانه لنبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين ، فقالت الآية : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الْأَمْرِ).

«الشريعة» : تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل ، ثم أطلقت على كل طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.

لقد استعملت هذه الكلمة مرّة واحدة في القرآن الكريم ، وفي شأن الإسلام فقط.

والمراد من «الأمر» هنا هو دين الحق الذي مرّت الإشارة إليه في الآية السابقة أيضاً ، حيث قالت : (بَيّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ).

ولمّا كان هذا المسير مسير النجاة والنصر ، فإنّ الله سبحانه يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك أن (فَاتَّبِعْهَا).

وكذلك لما كانت النقطة المقابلة ليس إلّااتباع أهواء الجاهلين ورغباتهم ، فإنّ الآية تضيف في النهاية : (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ).

وتعتبر الآية التالية تبياناً لعلّة النهي عن الإستسلام أمام مقترحات المشركين وقبول طلباتهم ، فتقول : (إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيًا). فإذا ما اتبعت دينهم الباطل وأحاط بك عذاب الله تعالى فإنّهم عاجزون عن أن يهبّوا لنجدتك وإنقاذك ، ولو أنّ الله سبحانه سلب منك نعمة فإنّهم غير قادرين على إرجاعها إليك.

ومع أنّ الخطاب في هذه الآيات موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاأنّ المراد منه جميع المؤمنين.

ثم تضيف الآية : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). فكلّهم من جنس واحد ، ويسلكون نفس المسير ، ونسجهم واحد ، وكلّهم ضعفاء عاجزون.

لكن لا تذهب بك الظنون بأنّك وحيد ، ومن معك قليل ولا ناصر لكم ولا معين ، بل : (وَاللهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ).

وكتأكيد لما مرّ ، ودعوة إلى اتباع دين الله القويم ، تقول آخر آية من هذه الآيات : (هذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). «البصائر» : جمع «بصيرة» ، وهي النظر ، ومع أنّ هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في وجهات النظر الفكرية والنظريات العقلية ، إلّاأنّها تطلق على كل الامور التي هي أساس فهم المعاني وإدراكها.

هذا تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه.

٤٤٩

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (٢٣)

ليسوا سواءً محياهم ومماتهم : متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما : المؤمنون والكافرون ، أو المتقون والمجرمون ، فإنّ أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة أصولية بينهما ، فقالت : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).

«اجترحوا» : في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر إصابته بحادث ، ولما كان إرتكاب الذنب والمعصية كأنّما يجرح روح المذنب ، فقد استعملت كلمة الإجتراح بمعنى إرتكاب الذنب.

فإنّ الآية تقول : إنّه لظن خاطئ أن يتصوروا أنّ الإيمان والعمل الصالح ، أو الكفر والمعصية ، لا يترك أثره في حياة الإنسان ، فإنّ حياة هذين الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماماً.

أمّا الآية التالية فإنّه تفسير لسابقتها وتعليل لها ، إذ تقول : (وَخَلَقَ اللهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ). فكلّ العالم يوحي بأنّ خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق ، وأن يحكم العدل والحق كل مكان ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين.

وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين ، إذ تقول : (أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَيهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

ولا صنم أخطر من إتباع هوى النفس الذي يوصد كل أبواب الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟

في تفسير القرطبي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى».

٤٥٠

لأنّ الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة مهمة ، أمّا صنم الهوى ، فإنّه يغوي الإنسان ويسوقه إلى إرتكاب أنواع المعاصي ، والإنزلاق في هاوية الإنحراف.

(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٢٥)

عقائد الدهريين : في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد ، غاية ما هناك أنّه ذكر هنا اسم جماعة خاصة منهم ، وهم «الدهريون» الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقاً ، في حين أنّ أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهراً بالله ، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند الله ، فتقول الآية أوّلاً : (وَقَالُوا مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا).

فكما يموت من يموت منّا ، يولد من يولد منّا وبذلك يستمر النسل البشري : (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ).

وبهذا فإنّهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ ، والجملة الاولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد ، أمّا الجملة الثانية فتشير إلى إنكار المبدأ.

إنّ القرآن الكريم أجاب هؤلاء العبثيين بجملة وجيزة عميقة ، تلاحظ في موارد اخرى من القرآن الكريم أيضاً ، فقال : (وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (٢٨) من سورة النجم في من يظنون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه : (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيًا).

وقد ورد هذا المعنى أيضاً في القول بقتل المسيح ، [النساء ١٥٧] وعقيدة مشركي العرب في الأصنام ، [يونس ٦٦].

وأشارت الآية التالية إلى إحدى ذرائع هؤلاء الواهية وحججهم الباطلة فيما يتعلق بالمعاد ، فقالت : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

كان هؤلاء يرددون أنّه إذا كانت حياة الأموات وبعثهم حقّاً فأحيوا آباءنا كنموذج لإدعائكم ، حتى نعرف مدى صدقكم ، ولنسألهم عمّا يجري بعد الموت ، وهل يصدّقون ما تقولونه أم يكذبونه؟

٤٥١

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١)

الكل جاثٍ في محكمة العدل الإلهي : هذه الآيات جواب آخر على كلام الدهريين ، الذين كانوا ينكرون المبدأ والمعاد ، وقد أشير إلى كلامهم ، في الآيات السابقة ؛ فتقول الآية أوّلاً : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لَارَيْبَ فِيهِ).

لم يكن هؤلاء يعتقدون بالله ولا باليوم الآخر ، ومحتوى هذه الآية استدلال عليهما معاً ، حيث أكّدت على مسألة الحياة الاولى.

ومن جهة اخرى ، تقول لهم : كيف يكون القادر على إنشاء الحياة الاولى عاجزاً عن إعادتها ثانياً؟

ولمّا كان كثير من الناس لا يتأمل هذه الدلائل ولا يدقق النظر فيها ، فإنّ الآية تضيف في النهاية : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ).

أمّا الآية التالية فهي دليل آخر على مسألة المعاد ، وقد قرأنا الشبهة المطروحة حوله في آيات القرآن الاخرى ، فتقول : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). فلما كان مالكاً لتمام عالم الوجود الواسع وحاكماً عليه ، فمن المسلّم أن يكون قادراً على إحياء الموتى ، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء بالأمر العسير.

لقد جعل الله سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة ، ومتجراً وافر الربح إلى ذلك العالم ، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ).

إنّ الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الاخرى هي رأس مال الإنسان في سوق التجارة هذا ، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فانٍ سريع الزوال ، ولذلك فإنّهم حين يأتون يوم القيامة ، يوم لا ينفع إلّاالقلب السليم والإيمان والعمل الصالح سيرون خسارتهم الباهظة

٤٥٢

بام أعينهم ، ولات ساعة مندم.

«يخسر» : من الخسران ، وهو فقدان رأس المال ؛ و «المبطل» : من مادة «إبطال» ، فلها في اللغة معان مختلفة ، كإبطال الشيء ، والكذب ، والاستهزاء والمزاح ، وطرح أمر باطل وذكره ، وكل هذه المعاني يمكن أن تقبل في مورد الآية.

الأشخاص الذين أبطلوا الحق ، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه ، والذين كذبوا أنبياء الله ، وسخروا من كلامهم ، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.

وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّاً ، فتقول : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً).

ثم تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة ، فتقول : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كل الحسنات والسيئات ، والقبائح والأفعال الجميلة ، وأقوال الإنسان وأعماله ، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم : (لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (١).

وعبارة (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) يوحي بأنّ لكل امة كتاباً يتعلق بأفرادها جميعاً ، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصة بكل فرد.

ثم يأتيهم الخطاب من قبل الله مرّة اخرى ، فيقول مؤكّداً : (هذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ). فقد كنتم تفعلون كل ما يحلو لكم ، ولم تكونوا تصدّقون مطلقاً أنّ كل أعمالكم هذه تسجل في مكان ما ، ولكن (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

«نستنسخ» : من مادة «إستنساخ» ، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ ، وهو إزالة الشيء بشيء آخر ، ثم استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.

وتبيّن الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم ، حيث تنال كل فئة جزاء أعمالها ، فتقول : (فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ).

والتعبير ب «ربّهم» يحكي عن لطف الله الخاص ، يكتمل بتعبير «الرحمة» بدل «الجنة».

وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

__________________

(١) سورة الكهف / ٤٩.

٤٥٣

إنّ ل «رحمة الله» معنى واسعاً يشمل الدنيا والآخرة ، وقد أطلقت في آيات القرآن الكريم على معان كثيرة ، فتارة تطلق على مسألة الهداية ، واخرى على الإنقاذ من قبضة الأعداء ، وثالثة على المطر الغزير المبارك ، ورابعة على نعم اخرى كنعمة النور والظلمة ، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنة ومواهب الله سبحانه في القيامة.

«الفوز» : تعني الظفر المقترن بالسلامة ، وقد استعملت في (١٩) مورداً من آيات القرآن المجيد ، فوصف الفوز مرّة بالمبين ، واخرى بالكبير ، أمّا في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم ، وهو مستعمل عادة في شأن الجنة.

وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لُاولئك السابقين ، فتقول : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ).

ومما يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط ، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب الله وسببه فلم يجر لها ذكر ، وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب.

(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

يوم تبدو السيّئات : الآية الاولى من هذه الآيات توضيح لما ذكر في الآيات السابقة بصورة مجملة ، توضيح لمسألة استكبار الكافرين على آيات الله ودعوة الأنبياء ، فتقول : (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَارَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ).

وتتحدث الآية التالية عن جزاء هؤلاء وعقابهم ، ذلك الجزاء الذي لا يشبه عقوبات

٤٥٤

المحاكم الدنيوية ، فتقول : (وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُوا). فستتجسد القبائح والسيئات أمام أعينهم ، وتتّضح لهم ، وتكون لهم قريناً دائماً يتأذون من وجوده إلى جانبهم ويتعذبون من صحبته : (وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).

والأشد ألماً من كل ذلك هو الخطاب الذي يخاطبهم به الله الرحمن الرحيم ، فيقول سبحانه : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا).

لا شك أنّ النسيان لا معنى له بالنسبة إلى الله سبحانه الذي يحيط علمه بكل عالم الوجود ، لكنّه هنا كناية لطيفة عن احتقار الإنسان المجرم العاصي وعدم الإهتمام به.

وتتابع الآية الحديث ، فتقول : (وَمَأْوَيكُمُ النَّارُ). وإذا كنتم تظنون أنّ أحداً سيهبّ لنصرتكم وغوثكم ، فاقطعوا الأمل من ذلك ، واعلموا أنّه : (وَمَا لَكُم مّن نَّاصِرِينَ).

أمّا لماذا ابتليتم بمثل هذا المصير؟ ف (ذلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْءَايَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا).

وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكّده باسلوب آخر ، فتقول : (فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ).

فقد كان الكلام هناك عن مأواهم ومقرهم الثابت ، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النار .. حيث قال هناك : ما لهم من ناصرين ، وهنا يقول : لا يقبل منهم عذر ، والنتيجة هي أنّ لا سبيل لنجاتهم.

وفي نهاية هذه السورة ، ولإكمال بحث التوحيد والمعاد ، والذي كان يشكل أكثر مباحث هذه السورة ، تبيّن الآيتان الأخيرتان وحدة ربوبية الله وعظمته ، وقدرته وحكمته ، وتذكر خمس صفات من صفات الله سبحانه في هذا الجانب ، فتقول أوّلاً : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ). لأنّه (رَبّ السَّموَاتِ وَرَبّ الْأَرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ).

وبعد وصف ذاته المقدسة بمقام الحمد والربوبية ، تضيف الآية في الصفة الثالثة : (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). لأنّ آثار عظمته ظاهرة في السماء المترامية الأطراف ، والأرض الواسعة الفضاء ، وفي كل زاوية من زوايا العالم.

وأخيراً تقول الآية في الوصفين الرابع والخامس : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وبذلك تكمل مجموعة العلم والقدرة والعظمة والربوبية والمحمودية ، والتي هي مجموعة

٤٥٥

من أهمّ صفات الله ، وأسمائه الحسنى.

وبوصف الله سبحانه بالعزيز والحكيم تنتهي سورة الجاثية كما بدأت بهما ، وكل محتواها وما تضمنته شاهد على عزّة الله سبحانه وحكمته السامية.

«نهاية تفسير سورة الجاثية»

* * *

٤٥٦

٤٦

سورة الأحقاف

محتوى السورة : إنّ هذه السورة تتابع الأهداف التالية :

١ ـ بيان عظمة القرآن.

٢ ـ محاربة كل أنواع الشرك والوثنية بشكل قاطع.

٣ ـ توجيه الناس إلى مسألة المعاد ومحكمة العدل الإلهي.

٤ ـ إنذار المشركين والمجرمين من خلال بيان جانب من قصة قوم عاد ، الذين كانوا يسكنون أرض «الأحقاف» ، ومنها اخذ اسم هذه السورة.

٥ ـ الإشارة إلى سعة دعوة نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكونها عامة تتخطى حتى حدود البشر ، أي إنّها تشمل طائفة الجن أيضاً.

٦ ـ ترغيب المؤمنين وترهيب الكافرين وإنذارهم ، وإيجاد دوافع الخوف والرجاء.

٧ ـ دعوة نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى التحلي بالصبر والاستقامة إلى أبعد الحدود ، والإقتداء بسيرة الأنبياء الماضين.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ كل ليلة أو كل جمعة سورة الأحقاف لم يصبه الله بروعة في الدنيا ، وآمنه من فزع يوم القيامة».

ومن البديهي أنّ كل هذه الحسنات والدرجات لا تمنح لمجرد التلاوة اللفظية ، بل التلاوة

٤٥٧

البنّاءة المؤدّية إلى السير في طريق الإيمان والتقوى ، ولمحتوى سورة الأحقاف هذا الأثر حقّاً إذا كان الإنسان طالب حقيقة ومستعداً للعمل والتطبيق.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (٣)

خلق هذا العالم على أساس الحق : هذه السورة هي آخر سورة تبدأ ب (حم) وتسمى جميعاً الحواميم.

إنّ هذه الآيات التي تهزّ الأعماق ، وتحرك الوجدان ، والتي تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه تتكون من حروف الهجاء البسيطة ، من الألف والباء ، والحاء والميم وأمثالها ، وكفى بها دليلاً على عظمة الله سبحانه إذ أظهر هذا المركّب العظيم من مثل هذه المفردات البسيطة.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تضيف الآية مباشرة : (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

إنّه نفس التعبير الذي ورد في بداية ثلاث سور من الحواميم ، وهي : المؤمن ، والجاثية ، والأحقاف.

ولا شك في الحاجة إلى قوّة لا تقهر ، وحكمة لا حد لها ، لكي تنزل مثل هذا الكتاب.

ثم تحولت الآيات من كتاب التدوين إلى كتاب التكوين ، فتحدثت الآية عن عظمة السماوات والأرض وكونهما حقاً ، فقالت : (مَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى). فلا ترى في كتاب سمائه كلمة تخالف الحق ، ولا تجد في مجموع عالم خلقه شيئاً نشازاً لا ينسجم والحق.

لكن مع أنّ القرآن حق ، وخلق العالم حق أيضاً : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ).

فالآيات القرآنية تهددهم وتنذرهم بصورة متلاحقة متوالية ، وتحذرهم بأنّ محكمة عظمى أمامهم ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّ نظام الخلقة بدقته وأنظمته الخاصة يدل بنفسه على أنّ في الأمر حساباً ونظاماً ، غير أنّ هؤلاء الغافلين لم يلتفتوا لا إلى هذا ولا إلى ذاك.

٤٥٨

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (٦)

أضلّ الناس : كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنّها جميعاً من صنع الله العزيز الحكيم ، ومن أجل تكملة هذا البحث ، تخاطب هذه الآيات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول : (قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّموَاتِ).

كنتم تقرّون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضية مطلقاً ، فعلام تمدون أكفكم إلى الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تسمع ولا تعقل ، تستمدون منها العون في حلّ معضلاتكم ، ودفع البلاء عنكم ، واستجلاب البركات إليكم؟

وإذا قلتم ـ على سبيل الفرض ـ : إنّها شريكة في أمر الخلق والتكوين ف (ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

إنّ جملة (أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ...) إشارة إلى دليل العقل ؛ وجملة (ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هذَا) إشارة إلى الوحي السماوي ، والتعبير ب (أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ) إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم ، أو آثار العلماء السابقين.

بعد ذلك تبيّن الآية التالية عمق ضلالة هؤلاء المشركين وانحرافهم ، فتقول : (وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللهِ مَن لَّايَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ). ولا يقف الأمر عند عدم إجابتهم وحسب ، بل إنّهم لا يسمعون كلامهم : (وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ).

والأشد أسفاً من ذلك أنّه : (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ).

أمّا المعبودات من العقلاء ، فإنّهم سيهبّون لإظهار عدائهم لهؤلاء الضالين ، فالمسيح عليه‌السلام يظهر اشمئزازه وتنفره من عابديه ، وتتبرأ الملائكة منهم ، بل وحتى الشياطين والجن تظهر عدم رضاها. وأمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا حياة ، فإنّ الله سبحانه سمنحها العقل والحياة لتنطق بالبراءة من هؤلاء العبدة وتبدي غضبها عليهم.

٤٥٩

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠)

لم أكن أوّل نبيّ : يستمر الحديث في هذه الآيات عن حال المشركين ، وكيفية تعاملهم مع آيات الله ، فتقول : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ). فهم لا يستطيعون إنكار نفوذ القرآن السريع في القلوب ، وجاذبيته التي لا تقاوم من جهة ، وهم من جهة اخرى غير مستعدين لأن يخضعوا أمام عظمته وكونه حقّاً ، ولذلك فإنّهم يفسّرون هذا النفوذ القوي بتفسير خاطئ منحرف ويقولون : إنّه سحر مبين ، وهذا القول ـ بحدّ ذاته ـ اعتراف ضمني واضح بتأثير القرآن الخارق في قلوب البشر.

بناءً على هذا ، فإنّ «الحق» ـ في الآية المذكورة ـ إشارة إلى آيات القرآن.

غير أنّ هؤلاء لم يكتفوا بإطلاق هذه التهمة وإلصاقها به ، بل إنّهم تمادوا فخطوا خطوةً أوسع ، وأكثر صراحةً : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ).

إنّ الله سبحانه يأمر نبيّه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع ، ويعطيهم البرهان الجلي بأنّه قل لهم إذا كان كذلك فاللازم أن يفضحني ولا تستطيعون الدفاع عنّي مقابل عقابه : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللهِ شَيًا).

وهذا كما ورد في الآيات (٤٤ ـ ٤٧) من سورة الحاقّة : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ).

ثم يضيف مهدداً : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ) وسيعاقبكم في الوقت اللازم.

ثم يقول في الجملة التالية كتأكيد أكبر مقترن بتعامل مؤدب جدّاً : (كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ). فهو يعلم صدق دعوتي ، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة ، كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي ، وهذا كاف لي ولكم.

٤٦٠