مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

فإذا كانوا يتصورون أنّهم أشد قوة من اولئك فهم على إشتباه عظيم ، لأنّ الأقوام السالفة كانت أقوى منهم : (وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

إضافةً إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة ، فإنّ قدرته وقوته لا شيء إزاء قوة الله ، لماذا؟ لأنّه (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ ومِن شَىْءٍ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ). فهو العليم القدير : (إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) ، لا يخفى عليه شيء ، ولا يستعصي على قدرته شيء ، ولا يغلبه أحد.

(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً) (٤٥)

لولا لطف الله ورحمته : الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر ، وبعد تلك البحوث الحادّة والتهديدات الشديدة التي مرّت في الآيات المختلفة للسورة ، تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهية بالبشر ، تماماً كما ابتدأت السورة بذكر إفتتاح الله الرحمة للناس.

زيادة على ذلك ، فإنّ الآية السابقة التي تهدّد المجرمين والكفار بمصير الأقوام الغابرين ، تطرح كذلك السؤال التالي ، وهو إذا كانت السنّة الإلهية ثابتة على جميع الطغاة والعاصين ، فلماذا لا يُعاقب مشركو مكة؟! وتجيب على السؤال قائلة : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا). ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكّر في مصيرهم وتهذيب أخلاقهم : (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) (١).

نعم لو أراد الله مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية ، صواعق ، وزلازل ، وطوفانات ، فيدمّر المجرمين ولا يبقى أثراً للحياة على هذه الأرض. (وَلكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس.

هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصة ، فهو إمهال إلى أن يحلّ أجلهم (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا).

نهاية تفسير سورة فاطر

* * *

__________________

(١) «دابّة» : من مادة «دبّ» والدبّ والدبيب مشي خفيف ، ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر ، ويستعمل في كل حيوان وإن اختّصت في التعارف بالخيل.

١٤١
١٤٢

٣٦

سورة يس

محتوى السورة : يلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسية :

١ ـ تتحدث السورة أوّلاً عن رسالة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم.

٢ ـ قسم آخر من السورة يتحدث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله ، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد ، وجهادهم المتواصل المرير ضد الشرك.

٣ ـ قسم آخر منها ، والذي يبدأ من الآية (٣٣) وحتى الآية (٤٤) ، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر.

٤ ـ قسم مهم آخر منها يتحدث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلة المختلفة عليه ، وكيفية الحشر والنشر ، والسؤال والجواب في يوم القيامة ، ونهاية الدنيا ، ثم الجنة والنار.

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محركة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهال ، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

فضيلة تلاوة السورة : سورة يس من أهمّ السور القرآنية ، إلى حد أنّ الأحاديث لقّبتها ب «قلب القرآن». ففي المجمع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ لكل شيء قلباً ، وقلب القرآن يس».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ، فمن

١٤٣

قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي ، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكّل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم ومن كل آفة».

إنّ عظمة فضيلة هذه السورة إنّما هي لعظمة محتواها .. محتوىً يوقظ من الغفلة ويضخّ في النفس الإيمان ، ويولد روح المسؤولية ويدعو إلى التقوى ، بحيث إنّ الإنسان إذا تفكّر في هذه الآية وجعل ذلك التفكر يلقي بظلاله على أعماله ، فإنّه يفوز بخير الدنيا والآخرة.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (١٠)

هذه السورة تبدأ ـ كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة اخرى ـ بحروف مقطعة وهي (يس).

في تفسير علي بن إبراهيم : قال الصادق عليه‌السلام : «يس» اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والدليل عليه قوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

بعد هذه الحروف المقطعة ـ وكما هو الحال في أغلب السور التي تبدأ بالحروف المقطعة ـ يأتي الحديث عن القرآن المجيد ، فيورد هنا قسماً بالقرآن ، إذ يقول : (وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ).

الملفت للنظر أنّه وصف «القرآن» هنا ب «الحكيم» ، في حين أنّ الحكمة عادةً صفة للعاقل ، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد ، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر.

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأن يقسم ، ولكن الأقسام القرآنية تتضمن ـ دائماً ـ فائدتين أساسيتين : الاولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم ، والثانية بيان عظمة الشيء الذي يقسم به الله تعالى.

١٤٤

الآية التي بعدها توضّح الأمر الذي من أجله أقسم الله تعالى في مقدمة السورة الكريمة : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

بعد ذلك تضيف الآية : (تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ).

فإنّ عزّته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاخرى للبشارة ، وبإقترانهما جعل هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.

الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي : (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَءَابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ). أي إنّه لم يأت نذير لآبائهم.

إنّ الهدف من نزول القرآن الكريم كان تنبيه الناس الغافلين ، وتذكيرهم بالمخاطر المحيطة بهم ، والذنوب والمعاصي التي إرتكبوها ، والشرك وأنواع المفاسد التي تلوّثوا بها.

ثم يتنبّأ القرآن الكريم بما يؤول إليه مصير الكفار والمشركين فيقول تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ).

والمراد من «القول» هنا الوعيد الإلهي لكل أتباع الشيطان بالعذاب في جهنم.

فإنّ ذلك يخصّ اولئك الذين قطعوا كل إرتباط لهم بالله سبحانه وتعالى ، وأغلقوا عليهم منافذ الهداية بأجمعها ، فهم لن يؤمنوا أبداً.

الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة ، فتقول : (إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْللاً فَهِىَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ). أي : مرفوعي الرأس لوجود الغلّ حول الأعناق.

«أغلال» : جمع «غل» من مادة «غلل» ويعني تدرع الشيء وتوسطه ، ومنه الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و «الغل» الحلقة حول العنق أو اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة ، وبما أنّ العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد استعملت هذه المفردة في هذا المورد.

ويا له من تمثيل رائع حيث شبّه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين بحال هذا الإنسان ، فقد طوّقوا أنفسهم بطوق «التقليد الأعمى» ، وربطوا ذلك بسلسلة «العادات والتقاليد الخرافية» فكانت تلك الأغلال من العرض والإتّساع أنّها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق ، وبذلك فإنّهم أسرى لا يملكون القدرة والفعّالية والحركة ، ولا قدرة الإبصار.

فإنّ الآية أعلاه ، تعتبر شرحاً لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم.

١٤٥

الآية التالية تتناول وصفاً آخر لحالة تلك المجموعة ، وتمثيلاً ناطقاً عن عوامل وأسباب عدم تقبّلهم الحقائق فتقول : (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا). وحوصروا بين هذين السدّين وأمسوا لا يملكون طريقاً لا إلى الأمام ولا إلى الوراء ، آنئذ : (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ).

فكذلك حال المستكبرين المعاندين العمي الصمّ في قبال الحقائق.

لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة : (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). فمهما كان حديثك نافذاً في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي ، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة.

(إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (١٢)

من هم الذين يتقبّلون إنذارك : كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي إستعداد لتقبّل الإنذارات الإلهية ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه ، أمّا هذه الآيات فتتحدّث عن فئة اخرى هي على النقيض من تلك الفئة ، وذلك لكي يتّضح المطلب بالمقارنة بين الفئتين كما هو اسلوب القرآن. تقول الآية الاولى من هذه المجموعة : (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).

التعبير ب «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الاستدلال والبرهان.

جملة «فبشّره» تكميل للإنذار ، إذ إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في البدء ينذر ، وحين يتحقق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله ، هنا يبشّره الباريء عزوجل.

يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها ، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّاالله سبحانه.

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين ، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة ، تقول الآية الكريمة : (إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوتَى).

١٤٦

(وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ). وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر ، أمّا التعبير «وآثارهم فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي ، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

ثم تضيف الآية لزيادة التأكيد : (وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ).

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩)

واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية : لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمؤمنين الصادقين ، والكفار المعاندين ، تطرح هذه الآيات نموذجاً من موقف الامم السابقة بهذا الصدد ، وتتحدث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين لتكون تنبيهاً لمشركي مكة من جهة ، وتسلية للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم ، فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم ، بسبب تشابه ظروف تلك القصة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلاً تقول الآية الكريمة : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ).

«القرية» : في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس ، وتطلق أحياناً على نفس الناس أيضاً ، لذا فمفهومها يتّسع حتى يشمل المدن والنواحي ، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مراراً على المدن المهمة مثل «مصر» و «مكة» وأمثالهما.

١٤٧

والمراد من القرية هنا «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام ، فإنّه يظهر جيداً من آيات هذه السورة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام ، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

ثم تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول : (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ).

وفي أسماء هؤلاء الرسل قال بعض المفسرين : إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس».

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين قبال دعوة الرسل. القرآن الكريم يقول : إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذّرع بها الكثير من الكفار دائماً في مواجهة الأنبياء (قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ).

فإذا كان مقرّراً أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه ، فيجب أن يكون ملكاً مقرّباً وليس إنساناً مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية.

فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالين ولم يضعفوا ، وفي جوابهم : (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ). ومسؤوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل بيّن فحسب.

(وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ).

ويستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالاً أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم ، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده ، وذلك لا يمكن تحقّقه إلّامن خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضاً أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسى عليه‌السلام.

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات ، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة ، وإنتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ).

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء ، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم ، أو كإنذارات إلهية لهم.

وإنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل ، وأظهروا سوء نواياهم من

١٤٨

خلال التهديد الصريح والعلني ، وقالوا : (لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ).

ومن الممكن أنّ ذكر «العذاب الأليم» إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حد الموت.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء : (قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكّرْتُم). فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم ، ورحلت بركات الله عنكم ، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم ، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة ، وليس في دعوتنا.

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء : (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ).

فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحق ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات.

(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (٢٩) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) (٣٠)

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف : تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصة. والإشارة تتعلق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة ... وكيف وقفوا حتى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل. تشرع هذه الآيات بالقول : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).

١٤٩

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسرين أنّ اسمه «حبيب النجار» ، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء ، أسرع وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحق بما إستطاع ؛ بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك.

التعبير ب «رجل» بصورة النكرة إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً ، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله درساً بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام ، إلّاأنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم ، وأنّ السكوت غير جائز حتى للفرد الواحد.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد ، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلاً إلى هذه القضية : (اتَّبِعُوا مَن لَايَسْئَلُكُمْ أَجْرًا). فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل ، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة مادية شخصية ، ولا يريدون منكم مالاً ولا جاهاً ولا مقاماً ، وحتى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة : لا يريدون منكم أجراً ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مراراً فيما يخصّ الأنبياء العظام ، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم ، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات (وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِن أَجْرٍ).

ثم يضيف : إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون : (وَهُمْ مُّهْتَدُونَ).

ثم ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل ، فيقول : (وَمَا لِىَ لَاأَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى).

فإنّ من هو أهل لأن يُعبد هو الخالق والمالك والوهّاب ، وليس الأصنام التي لا تُضرّ ولا تنفع.

وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). أي : لا تتصوروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط ، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضاً ، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام ، فيكمل قائلاً : (ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرّ لَّاتُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيًا وَلَا يُنقِذُونِ).

١٥٠

هنا أيضاً يتحدث عن نفسه حتى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والإستعلاء عليهم ، وهو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون : نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعاً لنا أمام الله.

ثم يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر : إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد : (إِنّى إِذًا لَّفِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

فأيّ ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السماوات والأرض.

وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من إستعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثرة أعلن لجميع الحاضرين : (إِنّىءَامَنتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ).

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة (فَاسْمَعُونِ)؟

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك ، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ).

إنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنة كان مقترناً باستشهاد هذا الرجل المؤمن.

والمقصود من الجنة هنا ، هي (جنة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الروايات أنّ الجنة الخالدة يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين ، كما أنّ جهنم ستكون نصيب المجرمين.

فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة ، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان ، وهناك لم تكن له سوى امنية واحدة : (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ).

يا ليت قومي يعلمون بأي شيء (بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ). أي : ليت أنّ لهم عين تبصر الحق ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة ، فيروا ما حُجب عنهم من النعمة والإكرام والإحترام من قبل الله ، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ .. لو أنّهم يبصرون ويؤمنون ، ولكن يا حسرةً.

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين ، والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم؟

١٥١

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص : (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ).

فلسنا بحاجة إلى تلك الامور ، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء.

ثم يضيف تعالى : (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).

فإنّها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها ، صيحة أسكتت جميع الصيحات ، هزّة أوقفت كل شيء عن التحرك.

الآية الأخيرة تتعرّض إلى طريقة جميع متمردي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء الله بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول : (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مّن رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).

هؤلاء الضالون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الإستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط ، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والإستهزاء منهم.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (٣٢)

الغفلة الدائمة : تتحدث هاتان الآيتان ـ استناداً إلى ما مرّ في الآيات السابقة ـ عن الغفلة المستمرّة لمجموعة كبيرة من البشر في هذا العالم على مرّ العصور والقرون ، فتقول الآية : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّنَ الْقُرُونِ).

فهؤلاء الكفار ليسوا بدعاً من الأمر ، فقد كان قبلهم أقوام آخرون تمرّدوا على الحقّ مثلهم عاشوا في هذه الدنيا ، ومصائرهم الأليمة التي ملأت صفحات التاريخ ، فهل يكفي ذلك المقدار لتحقّق العبرة والاعتبار؟

في آخر الآية يضيف تعالى : (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَايَرْجِعُونَ). أي : أنّ رجوعهم إلى هذه الدنيا لجبران مافاتهم وتبديل ذنوبهم حسنات ، فلم يبق لهم سبيل للرجوع أبداً.

هذا التفسير يشبه بالضبط ما قاله علي بن أبي طالب عليه‌السلام في نهج البلاغة حينما تحدّث في أخذ العبرة من الموتى فقال : «لا» عن قبيح يستطيعون انتقالاً ولا في حسن يستطيعون ازدياداً.

وتضيف الآية التالية : (وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ). أي : أنّ المسألة لا تنتهي

١٥٢

بهلاكهم وعدم استطاعتهم العودة إلى هذه الدنيا ، كلّا ، فعاجلاً سيحضر الجميع في عرصة المحشر للحساب ، ثم العقاب الإلهي المتلاحق والمستمر في إنتظارهم.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (٣٦)

آيات اخرى : مما مرّ بحثه في الآيات السابقة حول جهاد الرسل ضد الشرك وعبادة الأوثان ، وكذلك التعرض إلى مسألة المعاد في الآية الأخيرة من المقطع السابق ، توضّح الآيات ـ مورد البحث ـ مسألتي التوحيد والمعاد معاً لإيقاظ المنكرين لهاتين المسألتين ودفعهم إلى الإيمان. تتعرض الآية الاولى إلى قضية إحياء الأرض الميتة والبركات التي تعود على الإنسان من ذلك فتقول : (وَءَايَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ).

قضية الحياة والبقاء من أهمّ دلائل التوحيد ، فبرغم التطور والتقدم الحاصل في وسائل الدراسة وفي العلوم بشكل عام ، لا زال الكثير من الأسرار تنتظر الحل ، وحتى الآن لم يُعلم تحت تأثير أي العوامل تتحول موجودات ميتة إلى خلايا حية؟

جملة (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) إشارة إلى أنّ الإنسان يستفيد من بعض بذور النباتات للتغذية ، بينما بعضها غير قابل للأكل ، ولكن له فوائد اخرى كتغذية الحيوانات ، وصناعة الأصباغ ، والأدوية ، والامور الاخرى التي لها أهميّة في حياة الإنسان.

الآية التالية توضيح وشرح للآية الاولى من هذه الآيات ، فهي توضّح كيفية إحياء الأرض الميتة ، فتقول : (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ).

كان الحديث في الآية الاولى عن الحبوب الغذائية ، بينما الحديث هنا عن الفواكه المقوّية والمغذّية والتي يعدّ «التمر» و «العنب» أبرز وأهمّ نماذجها حيث يعتبر كل منهما غذاءً كاملاً.

الآية التالية تشرح وتوضّح الهدف من خلق تلك الأشجار المباركة المثمرة فتقول : إنّ الغرض من خلقها لكي يأكلوا من ثمارها دون حاجة إلى بذل جهد في ذلك ودون تدخّل

١٥٣

الإنسان في صناعتها ... (لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ).

ثمار على شكل غذاء كامل تظهر على أغصان أشجارها ، قابلة للأكل بمجرد جنيها من أغصانها ، ولا تحتاج إلى طبخ أو أيّة تغييرات اخرى. ذلك إشارة إلى غاية لطف الله بهذا الإنسان وكرمه.

فالهدف هو تحريك حس تشخيص الحق ، والشكر في الإنسان ، لكي يضعوا أقدامهم على أوّل طريق معرفة الله عن طريق الشكر ، لأنّ شكر المنعم أوّل قدم في طريق معرفته.

الآية الأخيرة من الآيات موضع البحث ، تتحدث عن تسبيح الله وتنزيهه ، وتشجب شرك المشركين الذي ذكرته الآيات السابقة ، وتوضّح طريق التوحيد وعبادة الأحد الصمد للجميع فتقول : (سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ).

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يسبّحه أحد ، إنّما ذلك تعليم للعباد ومنهاج عملي من أجل طي طريق التكامل.

إنّ هذه الآية واحدة من الآيات التي توضّح محدودية علم الإنسان ، وتدلّل على أنّ هناك الكثير من الحقائق الخافية علينا وعن معلوماتنا حتى الآن.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤٠)

هذه الآيات تتحدث في قسم آخر من آثار عظمة الله في عالم الوجود. تقول الآية الكريمة الاولى : (وَءَايَةٌ لَهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ).

«نسلخ» : من مادة «سلخ» وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان ، والتعبير في الآية تعبير لطيف ، فكأنّ نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل ، يُنزع عنه إذا حلّ الغروب ليبدو لونه الذاتي ، والتأمّل في هذا التعبير يوضّح هذه الحقيقة ، وهي أنّ الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية ، وأنّ النور والإضاءة صفة عارضة عليها تأتيها من مصدر آخر ، فهو

١٥٤

كاللباس الذي يرتدى ، وحينما يُخلع ذلك الثوب ، يظهر اللون الطبيعي للبدن.

الآية التي بعدها تتعرض إلى النور والإضاءة وتذكر الشمس ، فتقول : (وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا).

هذه الآية تبيّن بوضوح حركة الشمس بشكل مستمر. أمّا ما هو المقصود من تلك الحركة؟ أحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية ، هو ما كشفه العلماء أخيراً من حركة الشمس مع منظومتها باتّجاه معيّن ضمن المجرة التي تكون المجموعة الشمسية جزءاً منها ، وقيل أنّ حركتها باتّجاه نجم بعيد جدّاً أطلقوا عليه اسم «وجا».

فإنّ حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرّة حجم الأرض ، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي ، ليس مقدوراً لغير الله سبحانه الذي تفوق قدرته كل قدرة وبعلمه اللامتناهي ، لذا فإنّ الآية تضيف في آخرها : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

أمّا آخر ما قيل في تفسير هذه الآية فهو أنّ تعبير الآية يشير إلى نظام السنّة الشمسية الناشىء عن حركة الشمس عبر الأبراج المختلفة ، ذلك النظام الذي يعطي لحياة الإنسان نظاماً وبرنامجاً معيّناً يؤدّي إلى تنظيم حياته من مختلف النواحي. لذا فإنّ الآية التالية تتحدث عن حركة القمر ومنازله التي تؤدي إلى تنظيم أيام الشهر ، وذلك لأجل تكميل البحث السابق ، فتقول الآية : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).

المقصود ب (المنازل) تلك المستويات الثمانية والعشرون التي يطويها القمر قبل الدخول في «المحاق» والظلام المطلق.

هذا النظام العجيب ينظّم حياة الإنسان من جهة ، ومن جهة اخرى فهو تقويم سماوي طبيعي لا يحتاج إلى تعلّم القراءة والكتابة لمتابعته.

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، تتحدث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين والشهور ، والنهار والليل ، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لها نظاماً وبرنامجاً لا يقع بسببه أدنى اضطراب أو إختلال في وضعها وحركتها ، وبذا ثبت تاريخ البشر وإنتظم بشكل كامل ، تقول الآية : (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

من المعلوم أنّ الشمس تطوي في دورانها خلال العام الأبراج الإثني عشر ، في حين أنّ القمر يطوي منازله خلال شهر واحد ، وعليه فحركة القمر أسرع من حركة الشمس في مدارها إثنتي عشرة مرّة ، لذا فإنّ الآية تقول بأنّ الشمس بحركتها لا يمكنها أن تدرك القمر

١٥٥

في حركته فتقطع في شهر واحد ما تقطعه في سنة واحدة. وبذا يختلّ النظام السنوي لها.

يتّضح ممّا قلنا أنّ المقصود من حركة الشمس في هذا البحث ، هي الحركة بحسب حِسّنا بها.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ) (٤٤)

حركة السفن في البحار آية إلهية : تحدّثت الآيات السابقة عن دلالة قدرة الباريء عزوجل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار وكذلك الأرض وبركاتها ، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدث الباريء عزوجل عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار ، يعني حركة السفن التجارية والسياحية على سطحها. لذا فإنّ الآيات الكريمة تقول أوّلاً : (وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).

فإنّ حركة السفن والبواخر التي هي من أهم وأضخم وسائل الحمل والنقل البشري ، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه المركّبات الاخرى ، كل ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع منها السفن ، والطاقة التي تحرّكها ، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية. وكل هذه القوى والطاقات التي سخّرها الله للإنسان ، كل واحدة منها وكلها معاً آية من آيات الله سبحانه وتعالى.

ولكي لا يتوهم أنّ المركب الذي أعطاه الله للإنسان هو السفينة فقط ، تضيف الآية التالية قائلة : (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ).

المراكب التي تسير على الأرض ، أو في الهواء وتحمل البشر وأثقالهم.

الآية التالية ـ لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة ـ تتعرّض لذكر الحالة الناشئة من تغيير هذه النعمة فتقول : (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ).

فنصدّر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم ، أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كل إتّجاه بأمرنا ، ولكننا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإنّ ذلك لينتبهوا إلى أهميّة هذه النعمة الغامرة.

وأخيراً تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول : (إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ).

نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأية وسيلة إلّابرحمتنا ولطفنا بهم.

١٥٦

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٤٧)

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن الآيات الإلهية في عالم الوجود ، تنتقل هذه الآيات لتتحدث عن ردّ فعل الكفار المعاندين في مواجهة هذه الآيات الإلهية ، وكذلك توضّح دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم وإنذارهم بالعذاب الإلهي الأليم. يفتتح هذا المقطع بالقول : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

إنّ المقصود ب «ما بين أيديكم» العقوبات الدنيوية التي أوردت الآيات السابقة نماذج منها ؛ والمقصود ب «ما خلفكم عقوبات الآخرة ، وكأنّه يراد القول بأنّها خلفهم ولم تأت إليهم وسوف تصل إليهم في يوم ما وتحيط بهم ؛ والمقصود ب «التقوى» من هذه العقوبات ، هو عدم إيجاد العوامل التي تؤدي إلى وقوع هذه العقوبات.

الآية التالية تؤكّد نفس المعنى وتشير إلى لجاجة هؤلاء الكفار وإعراضهم عن آيات الله وتعاليم الأنبياء ، تقول الآية الكريمة : (وَمَا تَأْتِيهِم مّنْءَايَةٍ مّنْءَايَاتِ رَبّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ).

فلا الآيات الأنفسية تؤثّر فيهم ، ولا الآفاقية ، ولا التهديد والإنذار ، ولا البشارة والتطمين بالرحمة الإلهية ، فهم مبتلون بالعمى الكلي بحيث لا يتمكّنون حتى من رؤية أقرب الأشياء إليهم ، وحتى أنّهم لا يفرّقون بين ظلمة الليل وشمس الظهيرة.

ثم يشخّص القرآن الكريم أحد الموارد المهمة لعنادهم وإعراضهم فيقول : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسك به الأنانيون والبخلاء في كل عصر وزمان ويقولون : إنّ فلاناً أصبح فقيراً بسبب عمل إرتكبه وأدّى به إلى الفقر ، مثلما أنّنا أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف الله ورحمته ، وعليه فليس فقره ولا غنانا كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ

١٥٧

الدنيا إنّما هي دار امتحان وإبتلاء ، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة ، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان : الغنى والفقر ، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة ، أم أنّه يطأ كل ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق مما تفضّل الله به عليه ، أم لا؟

(وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (٥٣)

صيحة النشور : بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة ، تتعرض هذه الآيات إلى الحديث عن إستهزائهم بالقيامة ، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافاً إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

تقول الآية الكريمة الاولى : (وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة ، فمعنى هذا أنّكم لستم بصادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم ، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى : (مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ).

فكل ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم ، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب ، ليتخلّف وراءها صمت مطبق ، وتخلو الأرض من أيّ صوت أو إزعاج.

١٥٨

في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم».

«صيحة صاح : رفع الصوت ، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت ، وصيح الثوب كذلك.

«يخصّمون» : من مادة «خصم» بمعنى النزاع.

والمقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والامور المعيشية الاخرى.

فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع ، هذا أوّلاً. وأمّا ثانياً فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه ، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كل شيء وتنتهي الدنيا بأسرها. لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلاً : (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله ، يحاول جاهداً أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله ، ثم يقوم بإنجاز بعض الامور المعلّقة ، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصية أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الامور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضاً فهل يبقى أحد حيّاً ليستمع الوصية.

ثم تشير الآيات إلى مرحلة اخرى ، مرحلة الحياة بعد الموت ، فتقول : (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ).

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد ، وتنتفض من القبر بشراً سويّاً ، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة ، وكما أنّهم ماتوا جميعاً بصيحة واحدة ، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد ، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، ولا حياتهم كذلك.

«أجداث» : جمع «جدث» وهو القبر ، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية ، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديداً من نفس المواد السابقة.

١٥٩

وقوله تعالى : (رَبّهِمْ) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

تضيف الآية التالية : (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّامن الإعتراف الواضح الصريح بالحقائق ، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث : «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ثم تقول الآية لبيان سرعة النفخة : (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ).

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت ، كما كان الأمر عند هلاكهم ، فالصيحة الاولى للموت ، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

(فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (٥٦) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧) سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨)

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر ، ثم ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفار الطالحين ، فتقول الآية الكريمة الاولى : (فَالْيَوْمَ لَاتُظْلَمُ نَفْسٌ شَيًا). فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئاً ، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئاً.

ثم تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلاً حيّاً عليها فتقول : (وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

ثم تنتقل الآيات لتتعرض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة ، وقبل كل شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول : (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ).

«شغل» : ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي

١٦٠