مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

منها ... الأوّل هو حكايته عنهم : (بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ).

وبعد إشكالهم الأوّل على نبوّة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو كيف يكون النبي بشراً؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على مسألة اخرى كانت عندهم أمراً غريباً وهي : (أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).

إنّ القرآن يردّ عليهم بطرق متعددة ؛ فتارةً يشير إلى علم الله الواسع فيقول : (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ).

إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار تراباً ومن يجمعها؟! أو من يعرف عنها شيئاً؟! فجواب ذلك معلوم ... فالله الذي أحاط بكل شيء علماً يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء ، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من «المغناطيس» فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على الله من ذلك.

وإذا كان إشكالهم أنّه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد ، فالجواب على ذلك أنّ جميع أعمال الناس في لوح محفوظ ، ولا يضيع أي شيء في هذا العالم ، وكل شيء ـ حتى أعمالكم ـ سيظلّ باقياً وإن تغيّر شكله.

ثم يردّ القرآن عليهم بجواب آخر ، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ). أي : إنّهم جحدوا الحق مع علمهم به ، وإلّا فإنّه لا غبار على الحق ، وكما سيتّضح في الآيات المقبلة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مراراً في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشك والتردد.

لذلك فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفاً : (فَهُمْ فِى أَمرٍ مَّرِيجٍ). فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائماً في تناقض في القول وحيرة في العمل وإضطراب في السلوك.

فتارةً يتّهمون النبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أو كاهن.

وتارةً يقولون بأنّه يعلّمه بشر.

وهذه الكلمات المتفرقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحق ، إلّاأنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى ، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبداً.

«مريج» : مشتقة من مرج ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش ، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعددة بأنّها «مرج» أو «مرتع».

٥٤١

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١)

انظروا إلى السماء لحظةً : هذه الآيات تواصل البحث عن دلائل المعاد ، فتارةً تتحدث عن قدرة الله المطلقة لإثبات المعاد ، واخرى تستشهد له بوقائع ونماذج تحدث في الدنيا تمثّل حالة المعاد ، فهي تستجلب وتُلفت أنظار المنكرين إلى خلق السماوات فتقول : (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا).

والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسق وإستحكام ونظم ودقة.

جملة (وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) أي لا إنشقاق فيها ، إمّا أن يكون بمعنى عدم النقص والعيب ، أو أن يكون معناه عدم الإنشقاق والإنفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبّر عنها بالغلاف الجوّي للأرض أو ما يعبّر القرآن عنه بالسقف المحفوظ.

ثم تشير الآيات إلى عظمة الأرض فتقول : (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).

أجل ، خلق الأرض من جهة ، ثم اتّساعها «وخروجها من تحت الماء» من جهة اخرى ، ووجود الجبال «الرواسي» عليها وإرتباط بعضها ببعض كأنّها السلاسل التي تشدّ الأرض وتحفظها من الضغوط الداخلية والخارجية والجزر والمدّ الحاصلين من جاذبية الشمس والقمر من جهة ثالثة ... ووجود أنواع النباتات بما فيها من عجائب واتّساق وجمال من جهة رابعة جميعها تدلّ على قدرته اللّامحدودة.

أمّا الآية التالية فهي بمثابة الإستنتاج إذ تقول : (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ).

أجل إنّ من له القدرة على خلق السماوات بما فيها من عظمة وجمال وجلال ، والأرض بما فيها من نعمة وجمال ودقّة ، كيف لا يمكنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرّة اخرى وأن يجعل لهم معاداً وحياة اخرى.

٥٤٢

أمّا الآية التالية ففيها إستدلال آخر على هذا الأمر إذ تقول : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ).

ثم تضيف الآية : (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ).

«باسقات» : جمع «باسقة» بمعنى الشجرة المرتفعة العالية ؛ و «الطلع» : ثمر النخل وما يكون منه الرطب والتمر بعدئذ ؛ «النضيد» : معناها المتراكم بشكل دقيق.

والآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول : (رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

وهكذا فإنّ هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد وتحريك إحساس الشكر فيهم في مسير المعرفة تذكّرهم بأنّهم يرون مثلاً للمعاد كل سنة في حياتهم في هذه الدنيا ، فالأرض الميتة الخالية واليابسة تهتزّ وتنبت النباتات عليها عند نزول قطرات الغيث وكأنّ أصداء القيامة تترنّم على شفاه النباتات قائلة : «وحده لا شريك له».

فهذه الحركة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات تكشف عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ باريء عالم الموجودات قادر على إحياء الموتى مرّةً اخرى ، لأنّ وقوع الشيء أقوى دليل على إمكانه.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥)

لست وحدك المبتلى بالعدوّ : تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعددة. ففي البداية ومن أجل تثبيت قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتسليته تقول : لست وحدك المرسل الذي كذّبه الكفار وكذّبوا محتوى دعواته ولا سيّما المعاد فإنّه : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ).

وجماعة «ثمود» هم قوم صالح النبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة «الحجر» شمال الحجاز. أمّا «أصحاب الرسّ» فالكثير من المفسرين يعتقدون أنّهم طائفة كانت تقطن اليمامة ، وكان عندهم نبيّ يُدعى حنظلة فكذّبوه. وألقوه في البئر في آخر الأمر.

٥٤٣

ثم يضيف القرآن قائلاً : (وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ). والمراد بإخوان لوط هم قومه ، وقد عبّر القرآن عن لوط بأنّه أخوهم ، وهذا التعبير مستعمل في اللغة العربية بشكل عام.

وكذلك من بعدهم : (وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ). و «الأيكة» : معناها الأشجار الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض ـ أو الملتفّة أغصانها ـ و «أصحاب الأيكة» هم طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير «مدين» وهي منطقة ذات أشجار كثيرة.

والمراد من «قوم تبّع» طائفة من أهل اليمن ، لأنّ «تبّع» لقب لملوك اليمن ، باعتبار أنّ هؤلاء القوم يتبعون ملوكهم.

ثم إنّ الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ).

فإنّ هؤلاء الامم كذّبوا أنبياءهم وكذّبوا مسألة المعاد والتوحيد أيضاً ، وكانت عاقبة أمرهم نُكراً ووبالاً عليهم ، فمنهم من ابتلي بالطوفان ، ومنهم من أخذته الصاعقة ، ومنهم من غرق بالنيل ، ومنهم من خُسفت به الأرض أو غير ذلك ، وأخيراً فإنّهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرّة.

ثم يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول : (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ).

ثم يضيف القرآن : إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو الله ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كل تلك الدلائل الواضحة : (بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ).

وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى ، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلاً هو الله إذ خلقهم من تراب ، إلّاأنّهم من جهة اخرى حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمراً عجيباً ولا يمكن تصوّره وقبوله.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨)

كتابه جميع الأقوال : يُثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد ، وهو

٥٤٤

ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْانسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ).

«توسوس» : مشتقة من الوسوسة وهي ـ كما يراه الراغب في مفرداته ـ الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان ، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره ، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده وأعماله وأقواله ، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْانسَانَ) يمكن أن تكون إشارةً إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه.

أجل ، هو الخالق ، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات ، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا.

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلاً : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

وهذا ما أشار إليه القرآن في الآية (٢٤) من سورة الأنفال ، إذ قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي ، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب.

إنّ الإلتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان ، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله ... فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واعٍ ملتزم ورع تقيّ.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلاً : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ). أي : أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله «التامة» على ظاهر الإنسان وباطنه ، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله.

«تلقّى» : معناها الأخذ والتسلّم ؛ و «المتلقّيان» : هما ملكان مأموران بكتابة أعمال الناس ؛

٥٤٥

و «قعيد» : مأخوذة من القعود ومعناها «جالس» والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان. وبتعبير آخر : أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله ، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارةً ، واخرى في حال الجلوس ، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصدّان أعماله.

وورد في الروايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب الحسنات ، وملك الشمال كاتب السيّئات ، وصاحب اليمين أميرٌ على صاحب الشمال ، فإذا عمل الإنسان حسنةً كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات ، فإذا إستغفر الله منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث فتتحدث عن الملكين أيضاً فتقول : (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان ، وفي هذه الآية إهتمام بخصوص ألفاظه ، وهذا الأمر هو للأهمية القصوى للقول وأثره في حياة الناس ، حتى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدي إلى تغيير مسير المجتمع نحو الخير أو الشرّ.

«الرقيب» : معناها المراقب ؛ و «العتيد» : معناها المتهيء للعمل.

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢)

القيامة ، والبصر الحديد : تعكس الآيات أعلاه مسائل اخرى تتعلق بيوم المعاد : «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر». فتقول أوّلاً : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ).

سكرة الموت : هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والإنقلاب والتبدّل ، وربّما إستولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

٥٤٦

وللإمام علي عليه‌السلام كلام بليغ ـ في الخطبة ١٠٩ في نهج البلاغة ـ يرسم لحظة الموت وسكراتها إذ يقول : «اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وأنّه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره ، وفيم أذهب دهره! ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها».

ثم يضيف القرآن في ذيل الآية قائلاً : (ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١).

أجل ، إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء ، أو أنّهم لعلائقهم وإرتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها ، أو لسواد صحيفة أعمالهم. أيّاً كان فهم منه يهربون ... ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في إنتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه.

ثم يتحدث القرآن عن النفخ في الصور فيقول : (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ).

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية ، وهي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ).

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله ، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فرداً فرداً) فيقال : (لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

أجل ، إنّ أستار عالم المادة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور ، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة ، وتماط عنك حجب الجهل

__________________

(١) «تحيد» : مشتقة من مادة «حيد» ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه ..

٥٤٧

والتعصّب واللجاجة ، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال ، وما كان مستوراً وراء حجاب الغيب يبدو ظاهراً اليوم ، لأنّ هذا اليوم يوم البروز ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر.

(وَقَالَ قَرِينُهُ هذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٣٠)

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين : مرّةً اخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اخرى عن المعاد ، صورة مثيرة مذهلة حيث إنّ الملك ـ قرين الإنسان ـ يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه. تقول الآية الاولى من هذه الآيات : يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال هذا الإنسان حاضر لديّ : (وَقَالَ قَرِينُهُ هذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ). فيكشف الستار عن كل صغيرة وكبيرة صدرت منه.

والمراد من «قرينه» هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأموراً بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل الله.

ثم يخاطب الله الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما : (أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ).

«عنيد» : مشتقة من العناد ، ومعناها التكبر وحبّ الذات وعدم الخضوع للحق.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف الذميمة المنحطّة التي يتّصف بها هؤلاء الكفار ـ إذ تقول الآية : (مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ).

«معتد» : معناها المتجاوز على الحدود ، سواءً أكان متجاوزاً لحقوق الآخرين أو لحدود الله وأحكامه ؛ و «مريب» : مشتقة من الريب ، وتعني من هو في شك ، الشك المقرون بسوء الظن ، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شك من أمرهم ... فيضلّوا عن سواء السبيل.

ثم تضيف الآية التالية لتذكر وصفاً ذميماً لمن كان من طائفة الكفار فتقول : (الَّذِى جَعَلَ

٥٤٨

مَعَ اللهِ إِلهًاءَاخَرَ). أجل : (فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ).

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار ، فالأوصاف الخمسة المتقدمة بعضها لبعض بمثابة العلة والمعلول ، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف ، لأنّ معنى الكفار هو من أصرّ على كفره كثيراً ، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضاً ، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتدياً متجاوزاً على حقوق الآخرين وحدود الله.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشك والريب وسلب الإيمان عنهم.

وفي الوصف السادس أي : (الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهًاءَاخَرَ) يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الإنحرافات الآنف ذكرها ، والمراد من هذا الوصف هو الشرك ، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الامور المتقدمة.

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اخرى مما يجري على هؤلاء الكفار وعاقبتهم ، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغوي في يوم القيامة ، فكل من الكفار يلقي التبعات على الشياطين ، إلّاأنّ قرينه «الشيطان» يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن : (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِن كَانَ فِى ضَللٍ بَعِيدٍ). فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة ، بل هو الذي سلكه باختياره وإرادته وإختار هذا الطريق.

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تتحدث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب ، ولا يظهر فيها كلام على إعتراض الكفار وردّهم على الشيطان ، إلّاأنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالاً ، لأنّها تقول حاكية عن رب العزة : (قَالَ لَاتَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ). وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة : (قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا) (١).

ومن جهة اخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢).

__________________

(١) سورة الإسراء / ٦٣.

(٢) سورة ص / ٨٥.

٥٤٩

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان رب العزة : (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلمٍ لّلْعَبِيدِ).

والمراد من «القول» هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه الله سبحانه مراراً في آيات متعددة وذكرنا آنفاً أمثلةً منها.

والتعبير ب «ظلّام» وهو صيغة مبالغة معناه إشارة إلى أنّ مقام عدل الله وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيراً جدّاً ولكان مصداقاً للظلّام ، فعلى هذا فإنّ الله بعيد عن أي أنواع الظلم.

إنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحرية «في الإرادة» فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله ، ولا الكفار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان ، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبداً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ).

إنّ هذه الآية تدل دلالة واضحة أنّ أهل جهنم كثيرون ، وأنّ صورة جهنم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد الله جدّي وحق يربك الفكر في كل إنسان فيهزّه ويحذّره ألّا يكون واحداً من أهلها.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧)

مع الإلتفات إلى أنّ أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد والامور التي تتعلق به ، ومع ملاحظة أنّ الآيات آنفة الذكر تتحدث عن كيفية القاء الكفار المعاندين في نار جهنم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي جرّتهم وساقتهم إلى نار جهنم. ففي هذه الآيات محل البحث تصوير لمشهد آخر ، وهو دخول المتقين الجنة بمنتهى التكريم

٥٥٠

والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في الجنة ، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنة.

فتبدأ الآيات بالقول : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ).

«ازلفت» : من مادة «زُلفى» ـ على زنة كبرى ـ ومعناها القرب ، أي قُرّبت.

ثم تبيّن الآيات أوصاف أهل الجنة فتقول : (هذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ).

«أوّاب» : من مادة «أوب» ـ على زنة ذوب ـ ومعناها العودة ؛ ومع ملاحظة أنّ هذه الصيغة هي للمبالغة فإنّها تدلّ على أنّ أهل الجنة رجال متقون بحيث إنّ أي عامل أو مؤثّر أراد أن يبعدهم عن طاعة الله فهم يلتفتون ويتذكّرون فيرجعون إلى طاعته فوراً ، ويتوبون عن معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام «النفس المطمئنة».

«الحفيظ» : معناه الحافظ ، والمراد منه هو الحافظ لعهد الله إذ أخذه من بني آدم ألّا يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (٦٠) من سورة يس ؛ والحافظ لحدود الله وقوانينه والحافظ لذنوبه والمتذكّر لها مما يستلزم التوبة والجبران.

وإستدامةً لبيان هذه الأوصاف فإنّ الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين منها ، وهما بمثابة التوضيح لما سبق ذكره ، إذ تقول الآية : (مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ). أي : أنّهم لا يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وإبتعادهم عنهم.

وهذا الخوف «أو الخشية» يكون سبباً للإنابة ، فيكون قلبهم متوجّهاً إلى الله ويقبل على طاعته دائماً ويتوب من كل ذنب ، وأن يواصلوا هذه الحالة حتى نهاية العمر ويردوا عرصات المحشر على هذه الكيفية.

ثم تضيف الآية الاخرى بأنّ اولئك الذين يتمتعون بالصفات الأربع هذه حين تتلقّاهم الملائكة عند أبواب الجنة يقولون لهم بنهاية التجلّة والإكرام : (ادْخُلُوهَا بِسَلمٍ).

«السلام» من كل أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة ، السلامة الكاملة في لباس الصحّة والعافية.

ولطمأنتهم يُضاف أنّ ذلك اليوم يوم الدعّة و (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ).

وإضافةً لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام ، وبشرى الخلود في الجنة ، يبشّرهم الله بشريين اخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعاً كما أنّهم يتصفون بأربع صفات يقول : (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا).

٥٥١

وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه : (لَدَيْنَا مَزِيدٌ) من النعم التي لم تخطر ببال أحد.

وبعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنة وأهل النار ودرجاتهما ، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والاستنتاج فيقول : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِى الْبِلدِ). فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها ، إلّاأنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم ... فهل وجدوا منفذاً ومخرجاً للخلاص من الموت والعذاب الإلهي : (هَلْ مِن مَّحِيصٍ).

«القرن» و «الإقتران» : في الأصل هو «القرب» أو «الإقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء ، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة ، ويجمع على «قرون» ، فإهلاك القرون معناه إهلاك الامم السابقة.

و «البطش» معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة ، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.

و «المحيص» : معناها الانحراف والعدول عن الشيء ، ومن هنا فقد استعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة.

فإنّ الآية تنذر الكفار المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للاعتبار ، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين الذين كانوا امماً وأقواماً أشد من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضاً».

ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّداً أكثر فيقول : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

والمراد ب «القلب» هنا وفي الآيات الاخر من القرآن التي تتكلم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك.

أمّا (أَلْقَى السَّمْعَ) فكناية عن الإصغاء ومنتهى الإستماع بدقة.

و «الشهيد» : يطلق على من هو حاضر القلب.

وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعه يعني ما يلي : إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة ... فالفريق الأوّل من يتمتع بالذكاء والعقل ... ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره.

أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى ، إلّاأنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.

٥٥٢

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (٤٠)

خالق السماوات والأرض قادر على إحياء الموتى : تعقيباً على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعددة في شأن المعاد ، تشير الآيات محل البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد ... ثم تأمر النبي بالصبر والاستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه ، فتقول الآية الاولى من هذه الآيات : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ).

«اللغوب» : بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من كان قادراً على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعاً ، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يُلبسه ثوباً جديداً من الحياة.

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعددة فإنّ القرآن يخاطب النبي ويأمره بالصبر ـ لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحق وتصرّ على الباطل فيقول : (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ). إذ بالصبر والإستقامة ـ وحدهما ـ يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وبما أنّ الصبر والإستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد ، فخير دعامة لهما ذكر الله والإرتباط بالمبدأ ـ مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم ـ لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيباً على الأمر بالصبر قائلاً : (وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).

وكذلك : (وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ).

و «التسبيح» في الأوقات الأربعة إشارة إلى الصلوات الخمس اليومية وبعضاً من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي :

ف (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) إشارة إلى صلاة الصبح ، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

٥٥٣

أمّا قوله : (وَمِنَ الَّيْلِ) فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله : (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (٤٥)

يخرج الجميع أحياءً عند صيحة القيامة : هذه الآيات محل البحث التي تختتم بها سورة «ق» كسائر آياتها تتحدث على المعاد والقيامة كما أنّها تعرض جانباً منهما أيضاً وهو موضوع النفخة في الصور ، وخروج الأموات من القبور في يوم النشور ... فتقول : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ).

والمخاطب بالفعل «استمع» هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه إلّاأنّه من المسلّم به أنّ المقصود جميع الناس.

والمراد من «استمع» إمّا هو الإنتظار والترقّب ، لأنّ من ينتظر حادثة تبدأ بصوت مهول يُرى في حالة ترقّب دائماً ، فهو منتظر لأن يسمع الصوت ؛ أو هو الإصغاء إلى كلام الله فيكون المعنى «استمع كلام الله» إذ يقول : يوم يسمعون الصيحة الخ.

هذا المنادي هو «إسرافيل» الذي ينفخ في الصور ... وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إليه لا بالإسم بل بتعبيرات خاصة.

عبارة (مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) إشارة إلى أنّ هذه الصيحة ينتشر صداها في الفضاء بدرجة أنّها كما لو كانت في اذن كل أحد.

ولكي يعرف من الحاكم في هذه المحكمة الكبرى ، فإنّ القرآن يضيف قائلاً : (إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ).

ثم يضيف القرآن فيخبر عن ميقات النشور فيقول : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا).

أي : يخرجون مسرعين من القبور. ويضيف مختتماً : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ).

و «الحشر» : معناه الجمع من كل جهة ومكان.

٥٥٤

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث وهي آخر آية من سورة «ق» ذاتها فهي تخاطب النبي وتسرّي عنه وتسلّي قلبه لما يلاقيه من المعاندين والكفرة فتقول : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ).

فمسؤوليتك البلاغ والدعوة نحو الحق والبشارة والنذارة : (فَذَكّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ).

وذلك إشارة إلى أنّ القرآن كافٍ للإنذار وإيقاظ المؤمنين ، فكل صفحة منه تذكر بيوم القيامة وآياته المختلفة التي تتحدث عن قصص الماضين وعاقبتهم وتصف أهل النار وأهل الجنة وما يقع عند قيام الساعة في محكمة عدل الله هي خير موعظة ونصيحة لجميع الناس.

«نهاية تفسير سورة ق»

* * *

٥٥٥
٥٥٦

٥١

سورة الذاريات

محتوى السورة : يدور محور هذه السورة حول المسائل المتعلقة بالمعاد ويوم القيامة والثواب والعقاب لكل من المؤمنين والكافرين.

إنّ مباحث هذه السورة تدور حول خمسة محاور وهي :

١ ـ إنّ القسم المهم منها يتكلم عن المعاد وبداية السورة ونهايتها أيضاً هما حول المعاد.

٢ ـ القسم الآخر ناظر إلى مسألة توحيد الله وآياته في نظام الخلق والوجود ، وهي تكمل مبحث المعاد طبعاً.

٣ ـ وفي قسم آخر يقع الكلام على ضيف إبراهيم من الملائكة وما امروا به من تدمير مدن قوم لوط.

٤ ـ والآيات الاخر من هذه السورة فيها إشارات إلى قصّة موسى عليه‌السلام وبعض الامم كعاد وثمود وقوم نوح.

٥ ـ وقسماً من هذه السورة يتحدث عن مواجهة الامم المعاندين لأنبيائهم وتأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر والاستقامة بوجه المشاكل والشدائد وتسرّي عنه وتسلّي قلبه.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصّادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة الذاريات في يومه أو ليلته أصلح الله له معيشته ، وأتاه برزق واسع ونور له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة».

٥٥٧

والهدف هو التلاوة بتفكر ... التفكر الباعث على العمل.

وقد اشتق اسم هذه السورة ، أي (الذاريات) من الآية الاولى فيها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (١) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (٢) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (٤) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) (٦)

قسماً بالأعاصير والسُحُب الذاريات : هذه السورة هي الثانية بعد سورة «الصافات» التي تبدأ بالقَسم المتكرر ، القسم العميق والباعث على التفكر.

والطريف في الأمر أنّ هذا القَسم يرتبط محتواه بمحتوى يوم القيامة والنشور.

والحقيقة أنّ كل قسم في القرآن هو بنفسه ـ وإن كثرت الأقسام ـ أو الأيمان ـ وجه من وجوه إعجاز القرآن هذا الكتاب السماوي ، وهو من أجمل جوانبه وأبهاها وسيأتي تفصيل كل ذلك في موقعه.

وفي مستهلّ السورة يقسم الله سبحانه بخمسة أشياء مختلفة ، فيقول الله في البداية : (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) (١). أي قسماً بالرياح التي تحمل السحب في السماء وتذرو البذور على الأرض في كل مكان ...

ثم يضيف : (فَالْحَامِلتِ وِقْرًا). قسماً بالسحب التي تحمل أمطاراً ثقيلة معها ..

(فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا). و «الجاريات» : هنا هي السفن. أي : قسماً بالسفن التي تجري في الأنهار العظيمة والبحار الشاسعة بيسر وسهولة ..

(فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْرًا). و «المقسّمات» : هنا معناها الملائكة الذين يقسّمون الامور.

فهناك تفسير آخر يمكن ضمّها إلى هذا التفسير ، وهو أنّ المراد ب «الجاريات» هي الأنهار التي تجري بماء المزن ؛ و «المقسّمات» أمراً هي الأرزاق التي تقسّم بواسطة الملائكة عن طريق الزراعة.

وعلى هذا فإنّ الكلام عن الرياح ثم الغيوم وبعدها الأنهار وأخيراً نمو النباتات في الأرض يتناسب تناسباً قريباً مع مسألة المعاد ، لأنّنا نعرف أنّ واحداً من أدلة إمكان المعاد هو إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث وقد ذكر ذلك عدة مرات في القرآن بأساليب مختلفة.

__________________

(١) «الذّاريات» : جمع «الذّارية» ، ومعناها الريح التي تحمل معها الأشياء وتنشرها في الفضاء.

٥٥٨

وبعد ذكر هذه الأقسام الأربعة التي تبيّن أهمية الموضوع الذي يليها ، يقول القرآن : (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ).

ومرّة اخرى لمزيد التأكيد يضيف قائلاً : (وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ). «الدين» : هنا معناه الجزاء كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ). أي يوم الجزاء.

وأساساً فإنّ واحداً من أسماء يوم القيامة هو «يوم الدين» و «يوم الجزاء». ويتضح من ذلك أنّ المراد من الوعود الواقعة «هنا» هي ما يوعدون عن يوم القيامة وما يتعلق بها من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار وسائر الامور المتعلقة بالمعاد ، فعلى هذا تكون الجملة الاولى شاملة لجميع الوعود ، والجملة الثانية تأكيد آخر على مسألة الجزاء.

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (١١) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤)

والسماء ذات الحُبك : تبدأ هذه الآيات كالآيات المتقدمة بالقسم وتتحدث عن إختلاف الكفار وجدلهم حول يوم الجزاء والقيامة. فتقول الآيات في البداية : قسماً بالسماء ذات الخطوط والتعرّجات الجميلة : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ).

«الحبك» : جمع «حباك» وفي اللغة معان كثيرة لها ، وجميع هذه المعاني تعود إلى معنى واحد وهي التجاعيد والتعاريج الجميلة التي تظهر على صفحات الرمل في الصحراء أو صفحات الماء أو التجاعيد في الشعر أو السُحب في السماء.

وتطبيق هذا المعنى على السماء ووصفها بها (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) هو إمّا لنجومها ذات المجاميع المختلفة وصورها الفلكية.

وإمّا للأمواج الجميلة التي ترتسم في السحب أو لمجرّاتها العظيمة. فعلى هذا يكون معنى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) أنّ القرآن يقسم بالسماء ومجراتها العظيمة.

أمّا الآية التالية فهي جواب للقسم وبيان لما وقع عليه القسم ، إذ تقول مؤكّدة : (إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ). فدائماً أنتم تتناقضون في الكلام ؛ ففي مسألة المعاد تقولون أحياناً : لا نصدّق أبداً أن نعود أحياء بعد أن تصير عظامنا رميماً.

وتارةً تقولون نحن نشك في هذه القضية ونتردد.

٥٥٩

وتارةً تضيفون أن هاتوا آباءنا وأسلافنا من قبورهم ليشهدوا أنّ بعد الموت قيامةً ونشوراً لنقبل بما تقولون.

وتقولون في شأن النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله تارةً بأنّه شاعر ، أو بأنّه ساحر ، وتارةً تقولون أنّه لمجنون ، وتارةً تقولون إنّما يعلمه بشر فهو معلّم.

كما تقولون في شأن القرآن بأنّه : أساطير الأوّلين تارةً ، أو تقولون بأنّه شعر ، وتارةً تسمّونه سحراً ، وحيناً آخر تقولون أنّه كذب إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون ... الخ.

فقسماً بحُبك السماء وتجاعيدها إنّ كلامكم مختلف ومليء بالتناقض ، وكأنّ هذا التناقض في كلامكم دليل على أنّه لا أساس لكلامكم أبداً.

وهذا التعبير إنّما هو استدلال على بطلان إدّعاء المخالفين في شأن التوحيد والمعاد والنبي والقرآن «وإن كان إعتماد هذه الآيات في الأساس على مسألة المعاد كما تدل عليه القرينة في الآيات التالية».

وفي الآية التالية يبيّن القرآن علة الانحراف عن الحق فيقول : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ). أي : يؤفك عن الإيمان بالقيامة والبعث كل مخالف للحق ، وإلّا فإنّ دلائل الحياة بعد الموت واضحة وجليّة.

«الإفك» : في الأصل يطلق على صرف الشيء.

ومع ملاحظة أنّ الكلام كان في الآيات المتقدمة على المعاد والقيامة ، فمن المعلوم أنّ المراد الأصلي من الإنحراف والإفك هنا هو الانحراف عن هذه العقيدة ... كما أنّه حيث كان الكلام في الآية المتقدمة عن اختلاف كلام الكفار وتناقضهم فيعلم أنّ المراد هنا من الآية هم اولئك المنحرفون عن الإيمان بالمعاد الذين انحرفوا عن مسير الدليل العقلي والمنطق السليم الباحث عن الحق.

وفي الآية التالية ذمّ شديد للكاذبين وتهديد لتخرصاتهم ، إذ تقول : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ).

«الخراص» : من مادة «خَرْص» ومعناه في الأصل كل كلام يقال تخميناً أو ظنّاً ، وحيث إنّ مثل هذا الكلام غالباً ما يكون كذباً فقد استعملت هذه الكلمة في الكذب أيضاً.

إنّ القضاء بلا دليل ولا مدرك أو مستند بيّن بل على الظن والحدس هو عمل يسوق إلى الضلال ويستحق اللعن والعذاب.

ثم يعرّف القرآن هؤلاء الخراصين الكذبة فيقول : (الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ).

٥٦٠