مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

القول قطعاً بأنّ الذين يعتقدون بإقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى إطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد ، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شك في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس ، توضّح هذه الحقيقة فحينما تساءل الإنسان : (قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ) أجابه القرآن بصراحة ووضوح : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).

إنّ كل تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضية ، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح تراباً متناثراً وضائعاً في هذه الأرض؟ (وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١).

إنّهم يقولون : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرِجُونَ) (٢).

وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلاً على الجنون أو الكذب على الله : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٣).

لهذا السبب فإنّ إستدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموماً تدور حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلاً وشاهداً على هذا الادّعاء.

علاوةً على أنّ القرآن الكريم يذكر مراراً وتكراراً بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنة ، كلها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضاً ، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كل حال ، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر : فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساوٍ لإنكار أصل المعاد.

__________________

(١) سورة السجده / ١٠.

(٢) سورة المؤمنون / ٣٥.

(٣) سورة سبأ / ٧.

١٨١

علاوةً على هذه الأدلة النقلية ، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيراً.

٦ ـ الجنة والنار : الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماماً ولكنّه بشكل أكمل وأجمل ، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة ، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضاً غير كاملة.

فوفقاً لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر ، القرآن الكريم يقول : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١).

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضاً تتفاوت تماماً مع الأنظمة في هذا العالم ، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات ، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتى الجلد : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (٢). (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ) (٣).

على كل حال ، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة ، وعادةً فإنّ اللغة التي نتحدث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك ، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقن هو أنّ الجنة هي مركز كل النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية ، وجهنم هي مركز لكل أنواع العذاب الأليم المادي والمعنوي أيضاً.

«نهاية تفسير سورة يس»

* * *

__________________

(١) سورة السجده / ١٧.

(٢) سورة يس / ٦٥.

(٣) سورة فصّلت / ٢١.

١٨٢

٣٧. سورة صافَّات

محتوى السورة : يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام :

١ ـ يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن ، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

٢ ـ يتحدث عن الكافرين ، وإنكارهم للنبوّة والمعاد ، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة ، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم ، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنة إضافةً إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

٣ ـ يشرح تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) ويتحدث هذا القسم بشكل مفصل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته.

٤ ـ يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن إعتباره من أسوأ صور الشرك ، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجن والملائكة.

٥ ـ يتناول في عدّة آيات قصار إنتصار جيوش الحق على جيوش الكفر والشرك والنفاق ، وإبتلاءهم ـ أي الكافرين والمشركين والمنافقين ـ بالعذاب الإلهي ، وتنزّه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه.

إنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

١٨٣

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن قرأ سورة الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد كل جنّي وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمناً بالمرسلين».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة الصافات في كل يوم جمعة لم يزل محفوظاً من كل آفة ، مدفوعاً عنه كل بليّة في حياته الدنيا ، مرزوقاً في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق ، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ، ولا جبار عنيد ، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيداً ، وأماته شهيداً ، وأدخله الجنة مع الشهداء في درجة من الجنة».

إنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر ، ومن ثم الإعتقاد ، ومن بعد العمل ، ومن دون شك فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة ، سيحفظ من شرّ الشياطين ، ويتطهّر من الشرك ، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي ، ويمارس أعمالاً صالحة ، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفّاً (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) (٥)

الملائكة المستعدة لتنفيذ المهام : هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم ، القَسَم المليء بالمعاني والمثير للتفكّر ، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في آفاق وأجواء هذا العالم ، ويجعله متهيّئاً لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين ، وليس بحاجة إلى القسم.

ونلفت الإنتباه إلى نقطتين لحل مشكلة القسم في كل آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى : أنّ القسم يأتي دائماً بالنسبة إلى امور مهمة وذات قيمة ، ولذلك فإنّ أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهمية الأشياء المقسم بها.

الثانية : أنّ القسم يأتي للتأكيد ، وللدلالة على أنّ الامور التي يقسم من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

إنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله تعالى.

الاولى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا).

١٨٤

الثانية : (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا).

الثالثة : (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا).

إنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة ...

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة ، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن إرتكاب المعاصي والذنوب ، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم ، أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيراً طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي على الرسل.

«الصافّات» : هي جمع كلمة «صافّة وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضاً ، وتشير إلى مجموعة مصطفّة ، إذن ف «الصافّات تعني الصفوف المتعددة.

و «الزاجرات» : مأخوذة من «الزجر» ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كل منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني ، أي القسم بالملائكة والإنس؟الآية التالية توضّح ذلك وتقول : (إِنَّ إَلهَكُمْ لَوَاحِدٌ).

قسم بتلك المقدسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر ، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير لله سبحانه وتعالى.

ثم يضيف : (رَّبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ).

فالشمس في كل يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم ، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية ، حيث إنّها لا تزيد ولا تقلّ بمقدار ١١٠٠٠ من الثانية ، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين ، كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (١٠)

١٨٥

حفظ السماء من تسلّل الشياطين : الآيات السابقة تحدثت عن طوائف الملائكة المكلفة بتنفيذ المهام الجسام ، والآيات مورد البحث تتحدث عن الطائفة المقابلة لها ، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجن ، وتتضمّن كذلك درساً في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ).

حقّاً إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال ، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه ، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان ، (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع ، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية ـ أي تزيين السماء بالكواكب ـ بصورة أفضل).

أمّا الآية : (وَحِفْظًا مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ) فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

«مارد» : مشتقة من «مرد» التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع ، وهنا المقصود هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

ثم يضيف القرآن الكريم : إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم ، فكلّما حاولوا عمل شيء ما لسماع الحديث ، رشقوا بالشهب من كل جانب : (لَّايَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ).

نعم ، إنّهم يطردون من السماء بشدّة ، وقد أعدّ لهم عذاب دائم ، كما جاء في قوله تعالى : (دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ).

(لَّا يَسَّمَّعُونَ) بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلّاأنّه لا يسمح لهم بذلك.

(الْمَلَإِ الْأَعْلَى) ، تعني ملائكة السماوات العلى ، لأنّ كلمة «ملأ» تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة.

وعندما يوصف الملأ ب (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون» : مشتقة من «قذف» وتعني رمي الشيء إلى مكان بعيد ، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب.

١٨٦

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الإقتراب من السماء فحسب ، بل سيصيبهم في النهاية ـ مع ذلك ـ عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضاً إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لإستراق السمع ، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك ، كما جاء في الآية الشريفة : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).

«الخطفة» : أي اختلاس الشيء بسرعة.

و «الشهاب» : شيء مضيء متولد من النار ، ويرى نوره في السماء على شكل خط ممتد.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوماً ، وإنّما تشبه النجوم ، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء ، عندما تدخل في مجال جاذبية الأرض ، تنجذب نحوها ، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض وإحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

و «ثاقب» : تعني النافذ والخارق.

وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كل شيء يصيبه ويحرقه.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٥)

الذين لا يقبلون الحق أبداً : هذه الآيات تعالج قضية منكري البعث ، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباريء عزوجل خالق السماوات والأرض ، وتبدأ بالإستفسار منهم وتقول : إسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا).

نعم ، فنحن خلقناهم من مادة تافهة ، من طين لزج : (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لَّازِبٍ).

فالمشركون الذين ينكرون المعاد ، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السماوات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السماوات والأرض والملائكة ، إلّاأنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول : إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض

١٨٧

والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم ، يعدّ لا شيء ، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.

ولأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء ، وبعد فترة أضحى طيناً متجمّعاً ذا رائحة نتنة ، ثم تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعددة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثم يضيف القرآن الكريم : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ).

وما يكمن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل ـ فقط ـ وعدم المعرفة ، بل إنّها اللجاجة والعناد ، إذ أنّهم كلّما ذكّروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهية لا يتذكّرون (وَإِذَا ذُكّرُوا لَايَذْكُرُونَ).

والأنكى من ذلك ، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك ، لا يكتفون بالإستهزاء ، وإنّما يدعون الآخرين للإستهزاء أيضاً : (وَإِذَا رَأَوْاءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ).

(وَقَالُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ).

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والإنتقاص منها.

(أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) (٢٣)

هل نبعث من جديد : الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد ، وتواصل الردّ عليها ، فالآية الاولى تعكس إستبعاد البعث من قبل منكريه بهذا النص : (أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضاً؟ (أَوَءَابَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ). فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقيّة من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا تراباً في اليوم الأوّل ، ومن التراب خلقوا ، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله ، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته ، وإن كانوا يشكّكون بإستحالة التراب ، فقد أثبت ذلك من قبل.

١٨٨

ثم يردّ القرآن على تساؤلاتهم عندما يقول للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل لهم : نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلّاء ، (قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ).

فهل تتصورون أنّ عملية إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة ، أو هي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلّا ، فإنّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور ، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون : (فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ).

تعبير (زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) مع الإلتفات إلى معنى الكلمتين ، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة ، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباريء عزوجل.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم ، ويقولون : الويل لنا فهذا يوم الدين : (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هذَا يَوْمُ الدّينِ).

نعم ، فعندما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها ، وعلى علامات العقاب فإنّهم ـ من دون أن يشعروا ـ يصرخون ويبكون ، ويعترفون بحقيقة البعث.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباريء عزوجل أو من ملائكته : نعم ، اليوم هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون ، (هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ).

وبما أنّ المجرمين لا يفكّرون إلّابالجزاء والعقاب الذي سينالهم ، يطلق على يوم القيامة اسم يوم الجزاء ، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم ، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل.

يوم فصل الحق عن الباطل ، فيجب أن تتبيّن كل الخطوط المتضادة والبرامج الحقيقية والكاذبة ويوم المحاكمة.

فطبيعة الدنيا هي إختلاط الحق بالباطل ، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحق عن الباطل ، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل).

ثم يصدر الباريء عزوجل أوامره إلى ملائكته المكلفين بإرسال المجرمين إلى جهنم أن (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ).

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون (مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ).

«احشروا» : مشتقة من «حشر» ، ويقول الراغب في مفرداته : إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

١٨٩

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين ، أو إلى من يعتقد إعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم ، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين.

جملة (مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ) تشير إلى آلهة المشركين ، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة.

ففي أحد الأيام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه ، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم ، وهم مجبرون على القبول به ، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألماً في أعماقهم.

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٧) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ) (٣٢)

الحوار بين القادة والأتباع الضالين : الآيات السابقة إستعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد إعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، إلى مكان معين ، ومن ثم هدايتهم إلى صراط الجحيم.

واستمراراً لهذا الإستعراض يقول القرآن : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُولُونَ).

ولكن عمّاذا يسألون؟ هناك روايات يذكرها الشيعة والسنّة في أنّهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١).

وبالطبع ، فإنّ مثل هذه الروايات لا تحدّ من المفهوم الواسع للآيات ، بل تعكس مصاديقها الواضحة. بناءً على ذلك فإنّه ليس هناك أي مانع من أن يسأل عن كل شيء ، عن العقائد وعن التوحيد والولاية ، وعن الحديث والعمل ، وعن النعم والمواهب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في إختيار الإنسان.

على أيّة حال ، فعندما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم ، تكون أيديهم مقطوعة عن

__________________

(١) الرواية هذه وردت في الصواعق المحرقة / ٨٩ ، عن الديلمي عن أبي سعيد الخدري نقلاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما وردت عن الحاكم بن أبوالقاسم الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ / ١٦٠ ، نقلاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٩٠

كل شيء وقاصرة عن تحصيل العون ، ويقال لهم : أنتم الذين كان أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه ، لِمَ لا ينصر بعضكم بعضاً الآن (مَا لَكُمْ لَاتَنَاصَرُونَ).

فكل الدعائم التي تصوّرتم إنّها دعامات مطمئنة في الدنيا ازيلت عنكم ، ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض ، كما أنّ آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم العون لكم ، لأنّهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم.

الآية التي تليها تضيف : إنّهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر الله وخاضعون له ، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الإعتراض ، (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ).

وهنا يبدأ كل واحد منهم بلوم الآخر ، ويسعى إلى إلقاء أوزاره على عاتق الآخر ، والتابعون يعتبرون رؤساءهم وأئمّتهم هم المقصّرون ، فيقابلونهم وجهاً لوجه ، ويبدأ كل منهم بسؤال الآخر ، كما تقول الآية : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ).

وهنا يقول التابعون لمتبوعيهم : إنّكم شياطين ، إذ كنتم تأتوننا بعنوان النصيحة والهداية والتوجيه وإرادة الخير والسعادة لنا ، ولكن لم يكن من وراء مجيئكم سوى المكر والضياع (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ).

إذ أنّنا ـ بحكم فطرتنا ـ كنّا نسعى وراء الخير والطهارة والسعادة ، ولذا لبّينا دعوتكم. نعم فكل الذنوب التي إرتكبناها أنتم مسؤولون عنها ، لأنّنا لم نكن نملك شيئاً سوى حسن النية وطهارة القلب ، وأنتم الشياطين الكذّابون لم يكن لديكم سوى الخداع والمكر.

«يمين» : تعني (اليد اليمنى) أو (الجهة اليمنى) والعرب تعتبرها في بعض الأحيان كناية عن الخير والبركة والنصيحة.

وفي المقابل فإنّ المتبوعين والقادة يجيبون تابعيهم بالقول : (قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

ودليلنا واضح ، إذ لم تكن لنا أي سلطة عليكم ، ولم نضغط عليكم ونجبركم لعمل أي شيء : (وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مّن سُلْطَانٍ).

إنّما أنتم قوم طغاة ومعتدون ، وأخلاقكم وطبيعتكم الظالمة صارت سبب تعاستكم (بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ).

وكم هو مؤلم أن يرى الإنسان قائده وإمامه الذي كان قد إرتبط به قلبيّاً طوال عمره ، قد تسبّب في تعاسته وشقائه ثم يتبرّأ منه.

١٩١

في الحقيقة ، إنّ كلتا المجموعتين صادقة في قولها.

فجدالكم لا يؤدي إلى نتيجة ، وهنا يعترف أئمة الضلال بهذه الحقيقة ، ويقولون : بهذا الدليل ثبت أمر الله علينا ، وصدر حكم العذاب بحق الجميع ، وسينالنا جميعاً عذاب الله (فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبَّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ).

إنّكم كنتم طاغين ، وهذا هو مصير الطغاة ، أمّا نحن فقد كنا ضالين ومضلين.

فنحن أضللناكم كما كنّا نحن أنفسنا ضالين (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ).

بناء على ذلك ما الذي يثير العجب في أن نكون جميعاً شركاء في هذه المصائب وهذا العذاب؟

إنّ سبب تأثيرنا عليكم هو وجود روح الطغيان في داخلكم ؛ هذا الطغيان هيّأ لديكم أرضية التأثّر بإغوائنا ، وعبر هذا الطريق تمكّنا من نقل الخرافات إليكم.

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠)

مصير أئمة الضلال وأتباعهم : الآيات السابقة بحثت موضوع التخاصم الذي يدور بين أئمة الضلال وتابعيهم يوم القيامة قرب جهنم ، أمّا الآيات أعلاه فقد وضّحت ـ في موضع واحد ـ مصير المجموعتين ، وشرحت أسباب تعاستهم. ففي البداية تقول : إنّ التابع والمتبوع والإمام والمأموم مشتركون في ذلك اليوم بالعذاب الإلهي ، (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ).

وبالطبع فإنّ إشتراكهم في العذاب لا يمنع من وجود إختلاف في المكان الذي سيلقون منه في جهنم ، إضافةً إلى اختلاف نوع العذاب الإلهي ؛ إذ من الطبيعي أنّ الذي يتسبّب في انحراف الآلاف من البشر لا يتساوى عذابه مع فرد ضالّ عادي.

وللتأكيد أكثر على تحقق العذاب تقول الآية التي تلتها : (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ).

إنّ هذه هي سنّتنا ، السنّة المستمدّة من قانون العدالة.

ثم توضّح السبب الرئيسي الكامن وراء تعاسة اولئك ، وتقول : (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا

١٩٢

إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ).

إنّ التكبر والغرور ، وعدم الإنصياع للحق ، والعمل بالعادات الخاطئة والتقاليد الباطلة بإصرار ولجاجة ، والنظر إلى كل شيء باستخفاف واستحقار ، تؤدّي جميعاً إلى إنحراف الإنسان.

لكن هؤلاء برّروا إرتكابهم للذنوب الكبيرة بتبريرات أسوأ من ذنوبهم ، كقولهم : هل نترك آلهتنا وأصنامنا من أجل شاعر مجنون؟ (وَيَقُولُونَ أَئِنّا لَتَارِكُواءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ).

لقد أطلقوا على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كلمة (شاعر) لأنّ كلامه كان ينفذ إلى قلوبهم ويحرّك عواطفهم ، فأحياناً كان يتكلّم إليهم بكلام يفوق أفضل الأشعار وزناً ، في الوقت الذي لم يكن حديثه شعراً ، وكانوا يعتبرونه (مجنوناً) لكونه لم يتلوّن بلون المحيط الذي يعيش فيه ، ووقف موقفاً صلباً أمام العقائد الخرافية التي يعتقد بها المجتمع المتعصّب حينذاك ، الموقف الذي اعتبره المجتمع الضال في ذاك الوقت نوع من الإنتحار الجنوني ، في الوقت الذي كان أكبر فخر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو عدم إستسلامه للوضع السائد حينذاك.

وهنا تدخل القرآن لردّ إدّعاءاتهم التافهة والدفاع عن مقام الوحي ورسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما قال : (بَلْ جَاءَ بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ).

فمحتوى كتابه من جهة ، وتوافق دعوته مع دعوات الأنبياء السابقين من جهة اخرى ، هي خير دليل على صدق حديثه.

وأمّا أنتم أيّها المستكبرون الضالون ، فإنّكم ستذوقون العذاب الإلهي الأليم : (إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ).

ولا تتصوّروا أنّ الله منتقم ، وأنّه يريد الإنتقام لنبيّه منكم ، كلّا ليس كذلك : (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

وجزاؤكم إنّما هو نتيجة أعمالكم وتكبّركم وكفركم وعدم إيمانكم بالله وزعمكم بأنّ آيات الله هي (شعر) ورسوله (مجنون) إضافةً إلى ظلمكم وإرتكابكم القبائح.

آخر آية في هذا البحث ، والتي هي مقدمة للبحث المقبل ، تستثني مجموعة من العذاب ، وهي مجموعة عباد الله المخلصين : (إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

وكلمة (عِبَادَ اللهِ) يمكنها لوحدها أن تبيّن إرتباط هذه المجموعة بالله سبحانه وتعالى ، وعندما تضاف إليها كلمة (مخلصين) فإنّها تعطي لتلك الكلمة عمقاً وحياةً.

نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها ، وإنّما يعاملها الله سبحانه وتعالى بفضله

١٩٣

وكرمه ، ويمنحها من الثواب بغير حساب.

(أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٤) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (٤٩)

جوانب من النعم لأهل الجنة : الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن عباد الله المخلصين ، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنة ، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام :

تقول الآية أوّلاً : إنّ لهم رزقاً معلوماً ومعيّناً (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ).

وهي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر ذات الله ، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق الله ، اللذة التي لا يمكن أن يدركها العبد ما لم يتذوّقها ويعيش رحابها.

ثم ينتقل إلى بيان نعم اخرى ، ويعدّد قبل كل شيء بعض نعم الجنة التي تقدّم لأهل الجنة بكل إحترام وتكريم : (فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ).

ثم يقول : إنّ أماكنهم في حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنة (فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

فأيّ نعمة يتمنّونها موجودة هناك ، وكل ما يطلبون يجدونه أمامهم.

وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة ، وهي إستئناس أهل الجنة بمجالس السّمر التي يعقدونها مع أصدقائهم في جوّ ملؤه الصفاء ، إذ يجلسون على سرر متقابلة وينظر كل منهم إلى الآخر : (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ).

«سرر» : هي جمع «سرير» وهي الأسرّة التي يجلس عليها الناس في مجالس سمرهم.

أمّا القسم الخامس فيتحدث عن نعمة اخرى من النعم التي تغدق على أهل الجنة ، إذ تطرّق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع الخمور الطاهرة ، ومتى ما أرادوا فإنّهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من النشاط والروحية : (يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مّن مُّعِينٍ).

وهذه الكؤوس ليست في مكان معيّن يذهبون إليها لأخذها ، وإنّما يطاف بها عليهم : (يُطَافُ عَلَيْهِم).

١٩٤

«كأس» : يطلقها أهل اللغة على إناء الشراب المملوء ، فيما يطلقون كلمة «قدح» عليه إن كان خالياً ؛ و «معين» : مشتقة من «معن» على وزن (صحن) وتعني الجاري ، إشارة إلى أنّ هناك عيوناً جارية من الخمر الطاهر ، تملأ منها ـ في كل لحظة ـ الكؤوس ، ومن ثم يطاف بها على أهل الجنة.

ثم ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب ، إذ يقول : إنّها بيضاء اللون ومتلألئة وتعطي لذة للشاربين بها (بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لّلشَّارِبِينَ).

إنّها أشربة طاهرة ، خالية من الألوان الشيطانية ، وبيضاء اللون شفّافة.

الآية السابقة التي تطرّقت إلى الشراب والكؤوس ربّما تجلب إلى الأذهان مفاهيم اخرى ، أمّا الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافّة تلك المفاهيم عن الأذهان : (لَافِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزِفُونَ).

«غول» : على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشيء بصورة غير محسوسة.

«ينزفون» : من مادة «نزف» على وزن (حذف) وتعني فقدان الشيء تدريجيّاً. والمقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّاً والوصول إلى حالة السكرة ، أمّا خمر الجنة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق ، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ.

أمّا القسم السادس ، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنات النعيم : (وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ). أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهنّ عليهم فقط ، ولهذه الزوجات أعيناً واسعة وجميلة.

«طرف» : في الأصل تعني جفن العين ، وهذه الكلمة كناية عن النظر ، إذ إنّ أجفان العين تتحرّك عندما ينظر الإنسان إلى شيء ما ؛ إذن فإنّ عبارة (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة ، وأنّهنّ ينظرن إلى أزواجهنّ فقط.

هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقن إلّاأزواجهن ، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم ، ولا توجد محبّة اخرى في قلوبهنّ ، وهذا هو أكبر إمتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمل به.

إنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفاً آخر لزوجات الجنة ، إذ توضّح طهارتهن وقداستهنّ من خلال هذه العبارة : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ). أي إنّهن نظيفات وظريفات.

الهبات التي منّ الله تعالى بها على أهل الجنة ـ المذكورة في الآيات السابقة ـ هي مجموعة من الهبات الماديّة والمعنوية ، وإن كان حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنة خفيّة عن أهل الدنيا ، إلّاإذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.

١٩٥

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (٦١)

البحث عن رفيق السوء : عباد الله المخلصون الذين إستعرضت الآيات السابقة النعم المادية والمعنوية التي أغدقت عليهم ، كالفاكهة ، والحور ، والأصدقاء الطيبين الذين يجالسونهم ويتحدثون معهم ، وفجأة يتذكّرون أصدقاءهم في الدنيا ، أصدقاءهم الذين إنفصلوا عنهم في الطريق ، ولم يجدوا لهم أي أثر في الجنة ، فيسعون إلى معرفة مصيرهم.

نعم ، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بالحديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض ، (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ).

فجأةً خطر في ذهن أحدهم أمر ، فالتفت إلى أصحابه قائلاً : لقد كان لي صديق في الدنيا (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ).

ومع الأسف ، فإنّه انحرف عن الطريق الصحيح ، وصار منكراً ليوم البعث ، وكان دائماً يقول لي : هل تصدّق هذا الكلام وتعتقد به؟ (يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ).

هل أنّنا إذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً نحيا مرّة اخرى ، لنساق إلى الحساب : (أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ) (١).

وهنا يخاطب من كان يتحدث معهم من أهل الجنة ، بالقول : ليتني أعرف أين هو الآن؟ وفي أيّة ظروف يعيش؟

ويضيف : أيّها الأصدقاء ، هل تستطيعون البحث عنه ، ومعرفة حاله ، (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ) (٢).

__________________

(١) «مدينون» : من مادة «دين» وتعني الجزاء ، وهنا تعني : هل أنّنا سنجزى؟

(٢) «مطّلعون» : من مادة «إطّلاع» وتعني التفتيش والبحث ، والإشراف على شيء من مكان عالٍ ، وأخذ المعلومات.

١٩٦

وأثناء بحثه عن قرينه وصديقه ينظر إلى جهنم ، ويرى فجأةً صديقه وسط جهنم : (فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) (١).

فيخاطبه قائلاً : أقسم بالله لقد كدت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه (قَالَ تَاللهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ) (٢).

فلولا لطف الله الذي منعني من ذلك ونعمته التي سارعت لمساعدتي ، لكنت اليوم من المحضرين للعذاب مثلك في نار جهنم (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).

وهنا يلقي نظرة اخرى إلى صديقه في جهنم ، ويقول له موبّخاً إيّاه : ألم تكن أنت القائل لي في الدنيا بأنّنا لا نموت (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ). سوى مرّة واحدة في الدنيا ، وبعدها لا حياة اخرى ولا عذاب (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

هنا اختتم الحديث بجملة عميقة المعاني : (إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية ، وتشمله الألطاف الإلهية.

ثم يقول تبارك وتعالى في ختام البحث جملة توقظ القلوب وتهزّ الأعماق : (لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ). أي لمثل هذا فليعمل الناس ، ومن أجل نيل هذه النعم فليسع الساعون.

فما أجمل التعبير الذي صاغته الآيات القرآنية المذكورة أعلاه ، عندما دعت المؤمنين إلى هذا الهدف ، أي نيل الجنان المملوءة بالملذّات الروحية والجسمية ، التي تشمل الشراب الطاهر الذي يغرق الإنسان في الظلّ الملكوتي ، والقرناء والأصدقاء الطيبين ذوي القلوب الصافية الذين تزيل مجالستهم كل أشكال الغم.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٧٠)

__________________

(١) «سواء» : تعني الوسط.

(٢) «تردين» : من مادة «إرداء» وتعني السقوط من مكان عالٍ ، وهلاك الساقط.

١٩٧

جوانب من العذاب الأليم لأهل النار : بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنة ، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعدّه الله لأهل جهنم ، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقاً ، بحيث تترك أثراً عميقاً في النفوس يردعها عن إرتكاب الأعمال السيّئة والمحرّمة. ففي البداية تقول : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ).

«نُزُل» : تعني الشيء الذي يهيّأ لورود الضيف فيقدّم إليه إذا ورد ، والبعض الآخر قال : إنّها تعني الشيء الأوّل الذي يقدّم للضيف حين وروده.

و «زقّوم» : اسم نبات مرّ وذي طعم ورائحة كريهة.

و «شجرة» : لا تأتي دائماً بمعناها المعروف ، وإنّما تعني في بعض الأحيان (النبات) ؛ والقرائن هنا تشير إلى أنّ المراد من الشجرة هو المعنى الثاني أي (النبات).

ثم يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة ، ويقول : (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ).

«فتنة» : تعني المحنة والعذاب ، كما تعني الامتحان ، وهو إشارة إلى أنّ المشركين عندما سمعوا كلمة (الزقّوم) عمدوا إلى السخرية والاستهزاء ، فيما كان هذا الأمر إمتحاناً لُاولئك الطغاة.

ويضيف القرآن الحكيم : (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ).

ولكن الظالمين المغرورين يواصلون إستهزاءهم ، ويقولون : كيف يمكن لنبات أو شجر أن ينبت في قعر جهنم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟

وكأنّهم كانوا غافلين عن أنّ الاصول التي تحكم في ذلك العالم ـ أي الآخرة ـ تختلف كثيراً عن الاصول الحاكمة في العالم الدنيوي.

ثم يضيف القرآن الكريم : (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ).

إنّ التشبيه هنا استخدم لبيان شدّة قباحة ثمار الزقّوم وشكلها الباعث على النفور والإشمئزاز.

ويواصل القرآن الكريم إستعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين : (فَإِنَّهُمْ لَأَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ).

هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة ، حيث إنّ أكل هذا النبات

١٩٨

الذي ينبت في جهنم ذو الرائحة الكريهة والطعم المرّ واللبن الذي يورم ويحرق الأبدان فور ما يصيبها ، وتناوله ـ وبكميّات كبيرة ـ يعدّ عذاباً أليماً.

ومن البديهي ، فإنّ من يتناول هذا الطعام السيء الطعم والمرّ ، يصيبه العطش ، ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مّنْ حَمِيمٍ).

«الشوب» : هو الشيء المخلوط أو الممزوج مع شيء آخر ؛ و «حميم» : هو الماء الحار البالغ في حرارته ، وهذا هو غذاء أهل جهنم ، وهذا هو شرابهم.

وبعد هذه الضيافة إلى أين يذهبون ، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضاً بالقول : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ).

الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدّى إلى دخول اولئك إلى جهنم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك ، تناولته في آيتين مليئتين بالمعاني والحقائق : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْاءَابَاءَهُمْ ضَالّينَ).

وإنّهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة ، (فَهُمْ عَلَى ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ).

«يهرعون» : من مادة «هرع» أي أسرع ، وهي إشارة إلى أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم قلباً وديناً وإنّهم كانوا يحثّون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنّهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة وإختيار ، وإشارة اخرى إلى تعصّبهم وتمسّكهم بالخرافات التي كان أجدادهم الضالّون يعتقدون بها.

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤)

الامم الضالة السابقة : بما أنّ المسائل السابقة المتعلقة بالمجرمين والضالين لا تختّص بزمان ومكان معينين ، فالقرآن يتوسّع في الآيات التي تبحث بشكل مفصّل عن هذه المسائل ، ويهيء الأرضية في عدة آيات قصيرة ومختصرة لشرح امور كثيرة عن الامم السابقة ، والتي بالإطلاع عليها تكون أدلّة ناطقة للبحوث السابقة.

ومن تلك الامم أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم ، إذ يقول : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ).

١٩٩

ثم يضيف القرآن المجيد أنّ ضلالتهم لم تكن بسبب إفتقادهم القائد وعدم موعظتهم : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ).

إذ أنّنا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك بالله والكفر به ، والظلم والإعتداء ، وتقليد الآخرين بصورة عمياء ، ولإطّلاعهم على مسؤولياتهم.

ثم يقول في عبارة ذات معان عميقة : (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ).

إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض أحوالها وأوضاعها بصورة مفصّلة في الآيات القادمة.

أمّا آخر آية في بحثنا فإنّها تستثني جماعة من العذاب الإلهي : (إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

إنّ هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الامم ، وتدعو إلى التمعّن في العذاب الأليم الذي ابتلوا به ، والذي أهلكهم وأبادهم جميعاً ماعدا عباد الله المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب.

(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٨٢)

مقتطفات من قصة نوح : من هنا يبدأ سرد قصص تسعة أنبياء من أنبياء الله الكبار ، والذين كانت الآيات السابقة قد تطرّقت إليهم بصورة خفيّة ، وتشرع الآيات بنوح شيخ الأنبياء وأوّل اولي العزم من الرسل. بدأ البحث بالإشارة إلى دعاء نوح الشديد على قومه بعد أن يئس من هدايتهم : (وَلَقَدْ نَادَينَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ).

هذا الدعاء يمكن أن يكون إشارة إلى الدعاء الذي ورد في سورة نوح : (وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (١).

فإنّ الله سبحانه وتعالى يجيبه في الآية التي تليها بالقول : (وَنَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

__________________

(١) سورة نوح / ٢٦ و ٢٧.

٢٠٠