مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

أبو حمزة الثمالي في تفسيره : حدّثني عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها : نأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنقول له : إن تَعرُك امور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك. فأتوه في ذلك فنزلت : (قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى). فقرأها عليهم وقال : «تودّون قرابتي من بعدي». فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله. فقال المنافقون : إنّ هذا الشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك أن يذلّلنا لقرابته من بعده. فنزلت : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا). فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتدّ عليهم فأنزل الله : (وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَن عِبَادِهِ) الآية. فأرسل في أثرهم فبشّرهم وقال : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَءَامَنُوا) وهم الذين سلّموا لقوله.

التّفسير

أجر الرسالة في مودّة أهل البيت عليهم‌السلام : بما أنّ الآية (١٣) من هذه السورة كانت تتحدث عن تشريع الدين من قبل الخالق بواسطة الأنبياء اولي العزم ، لذا فإنّ أوّل آية في هذا البحث ـ كاستمرار للموضوع ـ تقول في مجال نفي تشريع الآخرين ، وأنّ جميع القوانين ليست معتبرة قبال القانون الإلهي ، وأنّ التقنين يختص بالخالق : (أَمْ لَهُمْ شُرَكؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ).

وبعد ذلك يقوم القرآن بتهديد المشرّعين بالباطل ، حيث تقول الآية : (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ) حيث يصدر الأمر بعذابهم.

وفي نفس الوقت يجب عليهم أن لاينسوا هذه الحقيقةوهي : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

المقصود من (كلمة الفصل) هي المدّة المقررة المعطاة من قبل الخالق لمثل هؤلاء الأفراد ، كي تكون لهم حرية العمل وتتم الحجة عليهم.

كما أنّ عبارة (ظالمين) تتحدث عن المشركين الذين لهم عقائد منحرفة قبال القوانين الإلهية وذلك بسبب اتساع مفهوم الظلم ، وإطلاقه على أيّ عمل ليس في مورده.

ويظهر أنّ المقصود من (العذاب الأليم) هو عذاب يوم القيامة.

ثم تذكر الآية بياناً مجملاً حول (عذاب الظالمين) ثم بياناً مفصّلاً عن (جزاء المؤمنين) ، فتقول : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ).

٣٨١

«روضات» : جمع (روضة) وتعني المكان الذي يشتمل على الماء والشجر الكثير ، لذا فإنّ كلمة (روضة) تطلق على البساتين الخضراء ، ونستفيد من هذه العبارة بشكل واضح أنّ بساتين الجنة متفاوتة ، والمؤمنون من ذوي الأعمال الصالحة في أفضل بساتين الجنة.

إلّا أنّ الفضل الإلهي بخصوص المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة لا ينتهي هنا ، فسوف يشملهم اللطف الإلهي بحيث : (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبّهِمْ).

وبهذا الترتيب لا يوجد أيّ قياس بين (العمل) و (الجزاء) ، بل إنّ جزاءهم غير محدود من جميع الجهات.

والأجمل من ذلك عبارة (عِندَ رَبّهِمْ) حيث توضّح اللطف الإلهي اللامتناهي بشأنهم ، وهل هناك فوز أكبر من أن يصلوا إلى قرب مقام الخالق.

وليس غريباً أن تقول الآية في نهايتها : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

ولبيان عظمة هذا الجزاء تقول الآية التي بعدها : (ذلِكَ الَّذِى يُبَشّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).

يبشرهم حتى لا تَصعُب عندهم آلام الطاعة والعبودية ومجاهدة هوى النفس والجهاد حيال أعداء الله.

وقد يتوهم أنّ نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد جزاءً وأجراً على إبلاغ هذه الرسالة ، لذا فإنّ القرآن يأمر الرسول بعد هذا الكلام ليقول : (قُلْ لَّاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى). أي حبّ أهل بيتي.

ومودّة ذوي القربى ومحبّتهم ترتبط بقضية الولاية وقبول قيادة الأئمة المعصومين عليهم‌السلام من آل الرسول حيث تعتبر في الحقيقة استمراراً لقيادة النبي واستمراراً للولاية الإلهية ، وجليّ أنّ قبول هذه الولاية والقيادة كقبول نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون سبباً لسعادة البشرية نفسها وستعود نتائجها إليها.

في تفسير القرطبي : في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : لمّا أنزل الله عزوجل : (قُلْ لَّا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى) قالوا : يا رسول الله! من هؤلاء الذين نودهم؟ قال : «علي وفاطمة وأبناؤهما.

٣٨٢

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة ، وهي أنّه ورد في آخر الآية : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حَسَنًا إنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ). وهل هناك حسنة أفضل من أن يكون الإنسان دائماً تحت راية القادة الإلهيين ، يحبّهم بقلبه ، ويستمر على خطهم ، يطلب منهم التوضيح للقضايا المبهمة في كلام الخالق ، يعتبرهم القدوة والأسوة وسيرتهم وعملهم هو المعيار.

«اقترف» مأخوذة في الأصل من (قرف) على وزن (حرف) وتعني قطع القشرة الإضافية من الشجرة ، أو من الجروح الحاصلة ، حيث تكون أحياناً علامة على شفاء الجرح وتحسنه ، هذه الكلمة استخدمت فيما بعد في الإكتساب سواء كان حسناً أو سيئاً.

والطريف في الأمر أنّ بعض التفاسير تنقل عن ابن عباس و (السدّي) أنّ المقصود من (اقتراف الحسنة) في الآية الشريفة هو مودة آل محمّد.

وجاء في حديث عن الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام : «اقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».

وواضح أنّ المقصود من هذه التفاسير أنّ معنى اكتساب الحسنة لايتحدد بمودّة أهل البيت عليهم‌السلام ، بل له معنى أوسع وأشمل ولكن بما أنّ هذه الجملة وردت بعد قضية مودّة ذي القربى ، لذا فإنّ أوضح مصداق لإكتساب الحسنة هو هذه المودّة.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (٢٦)

هذه الآيات تعتبر استمراراً للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها ، ومودّة ذوي القربى وأهل البيت عليهم‌السلام. فأوّل آية تقول : إنّ هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي ، بل : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا). وهذا الإعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين : (فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) ويجرّدك من قابلية إظهار هذه الآيات.

وفي الحقيقة ، فإنّ هذا الأمر إشارة إلى الاستدلال المنطقي المعروف ، وهو أنّه إذا ادعى شخص النبوّة ، وجاء بالآيات البينات والمعاجز ، وشمله النصر الإلهي ، فلو كذب على الخالق فإنّ الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته.

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع : (وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ).

٣٨٣

فهذه هي مسؤولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقاً لحكمته ، وإلّا فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أنّ من الاخطاء الكبيرة أن يتصور بعض المشركين قيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا العمل مخفياً ذلك عن علم الخالق : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وبما أنّ الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحاً أمام العباد ، لذا فإنّ الآيات القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير إلى أنّ الابواب التوبة مفتوحة دائماً ، ولذا تقول الآية محل البحث : (وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيّئَاتِ).

إلّا أنّكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالاً اخرى ، فلا تتصوروا أنّ ذلك يخفى عن علم الخالق ، لأنّه : (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).

أمّا آخر آية فتوضّح الجزاء العظيم للمؤمنين ، والعذاب الأليم للكافرين في جمل قصيرة فتقول : إنّ الله تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). بل : (وَيَزِيدُهُم مّن فَضْلِهِ). وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا : (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).

هذه السورة (سورة الشّورى) من السور المكية إلّاأنّ بعض المفسرين يعتقدون أنّ هذه الآيات الأربع (٢٣ ـ ٢٦) نزلت في المدينة ، وسبب النزول الذي ذكرناه في بداية تفسير هذه الآيات يشهد على هذا المعنى.

وأيضاً فإنّ الروايات التي تفسّر أهل البيت بعليّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين عليهم‌السلام تناسب هذا المعنى ، لأنّنا نعلم أنّ زواج علي من سيدة النساء عليهما‌السلام تمّ في المدينة ، وولادة الحسن والحسين عليهما‌السلام كانتا في العام الثالث والرابع الهجري على ما رواه المؤرخون.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (٣١)

٣٨٤

سبب النّزول

في تفسير القرطبي : قال خباب بن الأرت : أنّ الآية (وَلَوْ بَسَطَ) ... فينا نزلت ، نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت.

التّفسير

ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أنّ الخالق يستجيب دعوة المؤمنين ، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال : لماذا نرى البعض منهم فقراء ، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟ تقول الآية : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ وَلكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ).

وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده ، وهذا يحدث بسبب : (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).

فهو يعلم بمقدار استيعاب أيّ شخص فيعطيه الرزق وفقاً لمصلحته ، فلا يعطيه كثيراً ليطغى ، ولا قليلاً فيعيش الضنك من الفقر.

صحيح أنّ الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد ، إلّاأنّه لا يمنعهم أو يحرمهم ، لذا فإنّ الآية التي بعدها تقول : (وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ).

ولماذا لا يكون هذا : (وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ).

هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق ، لأنّ نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب.

ولهذه المناسبة ـ أيضاً ـ فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهم آيات علم وقدرة الخالق ، حيث تقول : (وَمِنءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِّن دَابَّةٍ).

وتقول الآية في نهايتها : (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ).

والمقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية ، فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة.

ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أنّ المقصود من (الجمع) الجانب المقابل ل (بث) ، أي أنّ (بث) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها ، ثم إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها. فكما أنّ العديد من الأحياء ـ (على مدى التاريخ) ـ انتشرت بشكل عجيب ، ثم انقرضت واختفت فيما بعد ، كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق.

٣٨٥

وبما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية ، لذا يُطرح سؤال في هذا المجال ، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التي تصيبنا.

الآية الاخرى تجيب على هذا السؤال وتقول : (وَمَا أَصَابَكُم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

ثم إنّ هذا الجزاء ليس جزاءً على جميع أعمالكم القبيحة ، لأنّه (وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ).

تبيّن هذه الآية وبوضوح أنّ فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل الحياتية التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي.

في جامع الأخبار عن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «إنّ البلاء للظالم أدب ، وللمؤمن امتحان ، وللأنبياء درجة ، وللأولياء كرامة».

على أيّة حال ، فقد يتصوّر البعض أنّهم يستطيعون الهروب من هذا القانون الإلهي الحتمي ، لذا فإنّ آخر آية في هذا البحث تقول : (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ) (١).

وفي السماء بطريق أولى وكيف تستطيعون الهروب من قدرته وحاكميته في حين أنّ كل عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له. وإذا كنتم تعتقدون بوجود من سيساعدكم وينصركم ، فاعلموا : (وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ).

وفي الحقيقة فإنّ آخر آية تجسّد ضعف وعجز الإنسان ، والآية التي قبلها عدالة الخالق ورحمته.

(وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٣٦)

__________________

(١) «معجزين» : من كلمة «إعجاز» ، إلّاأنّها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن عذابه ، حيث يقتضي معناها ذلك.

٣٨٦

هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفن : مرّة اخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد ، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص ، وهنا تذكر موضوعاً يتعامل معه الإنسان كثيراً في حياته المادية ، خصوصاً المسافرين عبر البحار وسكّان السواحل ، حيث تقول الآية : (وَمِنْءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلمِ).

«جوار» : جمع «جارية» وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للإختصار ، وعادةً فإنّ الآية تقصد حركة السفن ، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.

«أعلام» : جمع «علم» تعني الجبل ، إلّاأنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شيء معيّن ، مثل (علم الطريق) و (علم الجيش) وما شابه.

أمّا سمّي الجبل بالعلم لأنّه ظاهر من بعيد ، وأحياناً كانوا يشعلون النار فوق قمّته حتى تكون مناراً للسائرين.

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية ـ كما في الآيات المتعددة الاخرى ـ بسبب هبوب الرياح المنتظمة ، من آيات الخالق.

وللتأكيد أكثر تقول الآية : (إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ).

وكإستنتاج تضيف الآية في نهايتها : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

فهبوب الرياح ، وحركة السفن ، وخلق البحار ، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكّم بهذه الامور ... كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.

«صبّار» و «شكور» صيغتا مبالغة ، فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان ، لأنّ المؤمن صبور في المشاكل والإبتلاءات وشكور في النعم.

في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر».

مرّة اخرى ، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية ، تقول الآية الاخرى : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا). أي لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي إرتكبها المسافرون.

إلّا أنّه بالرغم من ذلك فإنّ اللطف الإلهي يشمل الإنسان : (وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ).

ونقرأ في الآية (٤٥) من سورة فاطر : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى).

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ). وما لهم من ملجأ سوى ذاته

٣٨٧

المنزّهة.

«محيص» ، مأخوذة من كلمة «حيص على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما ، وبما أنّ (محيص) اسم مكان ، لذا وردت هذه الكلمة ، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.

والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول : (فَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا).

ولكن (وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَءَامَنُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد ، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.

في صحيح مسلم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والله ما الدنيا في الآخرة إلّامثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع»؟

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠)

هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.

فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبيّة ، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية ، وهذه البرامج توضّح اسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.

فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أنّ الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ).

«كبائر» : جمع «كبيرة» وتعني الذنوب الكبيرة. وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيت عليهم‌السلام بأنّها : «التي أوجب الله عزوجل عليها النار» (١).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٧٥ ؛ تفسير العياشي ١ / ١٥١ ؛ ثواب الأعمال / ١٩٧.

٣٨٨

وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكّل هو الاجتناب عن (الكبائر).

أمّا ثاني صفة ، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضاً ، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية : (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ).

فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده ، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.

وهذه الصفة لا تتوفر إلّافي ظل الإيمان الحقيقي والتوكّل على الحق.

في تفسير على بن إبراهيم عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «ومن ملك نفسه إذا رغب ، وإذا رهب ، وإذا غضب ، حرّم الله جسده على النار».

الآية الاخرى تشير إلى الصفة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة ، حيث تقول : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبّهِمْ).

(وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ).

(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).

(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).

فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب ، إلّا أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة ، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق ، والتسليم حيال أوامره.

وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين : (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ). أي : أنّهم إذا تعرّضوا للظلم لا يستسلمون له ، بل يطلبون النصر من الآخرين.

فإنّ المظلوم مكلّف بمقاومة الظالم وطلب النصرة ، وأيضاً فإنّ المؤمنين مكلّفون بإجابته.

هذا البرنامج الإيجابي البنّاء يحذّر الظالمين من مغبّة ظلم المؤمنين ، حيث إنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم ، وهو أيضاً يؤمّل المظلومين بأنّ الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.

ولكن بما أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حدّ العدل وينتهي إلى الإنتقام والحقد والتجاوز عن الحد ، لذا فإنّ الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول : (وَجَزَاؤُا سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِّثْلُهَا).

وعمل الظالم يجب أن يسمى ب (سيّئة) إلّاأنّ جزاءه وعقابه ليس (سيّئة) وإذا وجدنا أنّ

٣٨٩

الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب العقاب أليم ومؤذٍ ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سيء) بالرغم من أنّ قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملاً حسناً بحد ذاته.

إنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها ، وكأنّما تريد الآية القول : إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من الأذى ، وإذا ندم الشخص عندها يستحق العفو.

لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو ، لأنّ (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

وتقول الآية في نهايتها : (إِنَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

فإنّ كلّاً من العفو والعقاب له موقعه الخاص ، فالعفو يكون عندما يستطيع الإنسان الإنتقام ، وهذا يسمى العفو البنّاء.

والعقاب والإنتقام والردّ بالمثل يكون عندما يبقى الظالم مستمراً في غيّه وضلاله ، والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد ، فالعفو هنا يكون من موقع الضعف فيجب الردّ بالمثل.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣)

الظلم والإنتصار : تعتبر هذه الآيات تأكيداً وتوضيحاً وتكميلاً للآيات السابقة بشأن الإنتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب. فأوّلاً تقول الآية : (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ).

لأنّ الإنتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأيّ مظلوم ، ونصر المظلومين مسؤولية كل إنسان حر ومتيقظ الضمير.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ). وإضافة إلى عقابهم الدنيوي : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ينتظرهم في الآخرة.

«بغى» : تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شيء ما ، ولكن كثيراً ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الآخرين ، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق ، لذا فإنّ للظلم مفهوماً خاصاً وللبغي مفهوماً عاماً يشمل أيّ تعدٍ أو تجاوز للحقوق الإلهية.

٣٩٠

أمّا آخر آية فتشير مرّة اخرى إلى الصبر والعفو ، لكي تؤكّد أنّ الإنتقام والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو ، حيث تقول : (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

عبارة (عزم الامور) إشارة إلى أنّ هذا العمل من الأعمال التي أمر الله بها ولا يمكن أن تنسخ ، أو أنّه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان العزم لها.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٦)

هل من سبيل للرجعة : الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين ، أمّا الآيات التي نبحثها فتشير إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.

فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أيّ وليّ ، فتقول : (وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ).

إنّه لا الهداية ولا الضلالة مفروضة وجبرية ، إنّما هما نتيجتان مباشرتان لأعمال الناس. فأحياناً يقوم الإنسان بعمل معيّن وبسببه يسلب الخالق منه التوفيق ويطمس على قلبه ويمنع عنه نور الهداية ويتركه سابحاً في الظلمات.

ثم تضيف الآية : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ).

ولكن مهما كانت هذه الطلبات فإنّها ستواجه بالرفض ، لأنّ العودة غير ممكنة أبداً.

الآية الاخرى تذكر ثالث عقاب لهذه المجموعة حيث تقول : (وَتَرَيهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ).

هذه صورة لحالة شخص يخشى من شيء أشدّ خشية ولا يريد أن ينظر إليه بعينين مفتوحتين ، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتغافل عنه ، لذا فهو مجبور على النظر إليه ، لكن

٣٩١

بطرف خفي.

أمّا آخر عقاب ذكر هنا ، فهو سماع اللوم والتوبيخ الأليم من المؤمنين ، كما جاء في آخر الآية : (وَقَالَ الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ).

فهل هناك خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه ، ثم زوجه ، وأبناءه وأقرباءه؟ ونصيبه نار الفراق وهو في داخل العذاب الإلهي؟!

ثم تضيف : يا أهل المحشر : (أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ).

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة ، وهي أنّ (العذاب الخالد) لهؤلاء الظالمين ، يدل على أنّ المقصود هم الكافرون ، والآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة ، حيث تقول : (وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ اللهِ).

ولتأكيد هذا المعنى تقول الآية في نهايتها : (وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ).

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)

بما أنّ الآيات السابقة ذكرت جانباً من العقاب الأليم الموحش للكافرين والظالمين ، فإنّ الآيات أعلاه تحذّر جميع الناس من هذا المصير المشؤوم ، وتدعوهم إلى الإستجابة لدعوة الخالق والعودة إلى طريق الحق. فأوّل آية تقول : (اسْتَجِيبُوا لِرَبّكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ).

وإذا كنتم تتصورون وجود ملجأ آخر سوى لطفه ، وأحداً يحميكم غير رحمته ، فإنّكم على خطأ ، لأنّ : (مَا لَكُم مّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مّن نَّكِيرٍ).

عبارة (يَوْمٌ لَّامَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) تشير إلى يوم القيامة ، وليس إلى يوم الموت. كما أنّ

٣٩٢

عبارة (من الله) تشير إلى أنّ أحداً لا يستطيع أن يتخذ قراراً بالعودة قبال أمر الخالق جلّ وعلا.

الآية التي بعدها تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتواسيه قائلة : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا). فلا تحزن عليهم لأنّك لست مسؤولاً عن حفظهم من الانحراف.

(إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلغُ) سواء قبلوا بذلك أم لم يقبلوا.

ثم ترسم صورة لحال هذه الجماعة غير المؤمنة والمعرضة عن الحق فتقول : (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا). ويغفل عن ذكر الخالق : (وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ).

فلا النعم الإلهية وشكر المنعم توقظ هذا الإنسان وتجرّه نحو الشكر والمعرفة والطاعة ، ولا العقوبات التي تصيبه بسبب الذنوب توقظه من نوم الغفلة ، ولا دعوة الرسول تؤثر فيه.

فعوامل الهداية من حيث «التشريع» هي دعوة رسل الخالق ، ومن حيث «التكوين» قد تكون النعم وقد تكون المصائب ، إلّاأنّ هؤلاء الجهلة ذوي القلوب الميتة لا تؤثّر فيهم أيّ من هذه العوامل.

ثم لبيان حقيقة أنّ أيّ نعمة ورحمة في هذا العالم مصدرها الخالق ، ولا يملك الأفراد شيئاً من عندهم ، أشارت الآية إلى قضية عامة ومصداق واضح لهذه الحقيقة ، حيث تقول : (لِّلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).

و «نموذج» واضح لهذه الحقيقة وأنّ كل ما موجود هو منه ، والأفراد لا يملكون شيئاً من عندهم هو أنّه : (يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا).

وبهذا الترتيب فإنّ الناس يُقسّمون إلى أربع مجاميع : من عنده الأولاد الذكور ويريد البنات ، ومن عنده البنات ويريد الذكور ، ومن عنده الذكور والإناث ، والمجموعة التي تفتقد الأبناء ويأملون ويرغبون فيهم.

«عقيم» : مأخوذة من «عقم» تعني في الأصل الجفاف والتصلب المانع من قبول التأثير ، والنساء العقيمات تطلق على اللواتي تكون أرحامهنّ غير مستعدة لتقبّل النطفة ونمو الطفل. و «اليوم العقيم» يطلق على اليوم الذي ليس فيه سرور وفرح ، كما يسمى يوم القيامة باليوم العقيم بسبب عدم وجود يوم بعد ذلك اليوم يمكن فيه التعويض عن الماضي.

٣٩٣

إنّ استخدام عبارة (يهب) تعتبر دليلاً واضحاً على أنّ الإناث والذكور من هدايا الخالق وهباته ، وليس صحيحاً للمسلم الحقيقي التفريق بين الإثنين.

كما أنّ استخدام عبارة (يزوّجهم) لا تعني التزويج هنا ، بل تعني جمع الهبتين (الإناث والذكور) لبعض الناس. وبعبارة اخرى : فإنّ مصطلح (التزويج) يأتي أحياناً بمعنى الجمع بين الأشياء المختلفة أو الأنواع المتعددة ، لأنّ (زوج) تعني في الأصل شيئين أو شخصين متقارنين.

وعلى أيّة حال ، فإنّ المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في كل شيء وليس في قضية ولادة الأبناء فحسب ، فهو القادر والعليم والحكيم ، حيث يقترن علمه بقدرته ، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها : (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).

(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي : إنّ اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه ، فإنّا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ موسى لن ينظر إليه». فنزل قوله (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللهُ) الآية.

التّفسير

طرق ارتباط الأنبياء بالخالق : هذه السورة ، كما قلنا في بدايتها ، تهتم بشكل خاص بقضية الوحي والنبوّة ، فهي تبدأ بالوحي وتنتهي به ، لأنّ الآيات الأخيرة تتحدث عن هذا الموضوع (أي الوحي). وبما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن النعم الإلهية ، لذا فإنّ هذه الآيات تتحدث عن أهمّ نعمة إلهية وأكثرها فائدة لعالم البشرية ، ألا وهي قضية الوحي والإرتباط بين الأنبياء والخالق. تقول الآية : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا). لأنّ الخالق منزّه عن الجسم والجسمانية.

(أَوْ مِن وَرَاىِ حِجَابٍ) كما كان يفعل موسى حيث إنّه كان يتحدث في جبل الطور.

(أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) كما كان يقوم به جبرائيل الأمين وينزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ).

فلا يوجد طريق آخر سوى هذه الطرق الثلاثة لتحدّث الخالق مع عباده ل (إِنَّهُ عَلِىٌ

٣٩٤

حَكِيمٌ). فهو أعلى وأجل من أن يرى أو يتكلم عن طريق اللسان ، وكل أفعاله حكيمة ، ويتمّ ارتباطه بالأنبياء وفق برنامج.

هذه الآية تعتبر ردّاً على الذين يتصورون ـ بجهالة ـ أنّ الوحي يعني مشاهدة الأنبياء للخالق وهم يتكلمون معه.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

القرآن روح من الخالق : بعد البحث العام الذي ورد في الآية السابقة بخصوص الوحي ، تتحدث الآيات التي نبحثها عن نزول الوحي على شخص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تقول : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا).

والمقصود من كلمة (روح) في هذه الآية هو القرآن الكريم ، لأنّه أساس حياة القلوب وحياة جميع الأحياء.

فإنّ الآية تضيف : (مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا). فهذا هو اللطف الإلهي الذي شملك وأنزل عليك هذا الوحي السماوي وآمنت بكل ما يحتويه.

وتضيف الآية في نهايتها : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

فالقرآن نور للجميع وليس لك فحسب ، وهو وسيلة لهداية البشر إلى الصراط المستقيم.

وقد ورد نفس هذا المعنى بعبارة اخرى في الآية (٤٤) من سورة فصّلت حيث تقول الآية : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ فِىءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ).

ثم تقول الآية مفسّرة للصراط المستقيم : (صِرَاطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ).

أمّا آخر جملة في هذه الآية ـ وهي آخر آية في سورة الشورى ـ فهي دليل على أنّ الطريق المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الخالق ، حيث تقول : (أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

٣٩٥

هذه الجملة بُشرى للمتقين ، وهي في نفس الوقت تهديد للظالمين والمذنبين ، لأنّ الجميع سوف يرجعون إلى الخالق.

وهي دليل على أنّ الوحي يجب أن يكون من الخالق فقط ، لأنّ جميع الامور ترجع إليه ، وتدبير كل شيء بيده.

وهكذا نرى أنّ بداية ونهاية هذه الآيات منسجمة فيما بينها ومترابطة ، ونهاية السورة ـ أيضاً ـ يتلاءم مع بدايتها والموضوع العام الساري عليها.

بحث

ماذا كان دين الرسول الأعظم قبل نبوّته : لا يوجد شك في أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسجد لصنم قبل بعثته أبداً ، ولم ينحرف عن خط التوحيد ، فتاريخ حياته يعكس بوضوح هذا المعنى ، إلّاأنّ العلماء يختلفون في الدين الذي كان عليه :

فأفضل قول هو : لقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يملك برنامجاً خاصاً من قبل الخالق وكان يعمل به ، وفي الحقيقة فقد كان له دين خاص حتى زمان نزول الإسلام عليه.

والدليل على هذا الكلام الجملة التي ورد في الخطبة (١٩٢) في نهج البلاغة ، وهو : «ولقد قرن الله به ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره».

فوجود مثل هذا الملك يدل على وجود برنامج خاص.

«نهاية تفسير سورة الشورى»

* * *

٣٩٦

٤٣

سورة الزخرف

محتوى السورة : يمكن تلخيص مباحث هذه السورة في سبعة فصول :

١ ـ في بداية السورة يتحدث عن أهمية القرآن المجيد ، ونبوّة نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومواجهة المشركين لهذا الكتاب السماوي.

٢ ـ يذكر قسماً من أدلة التوحيد في الآفاق ، ونعم الله المختلفة على البشر.

٣ ـ ثم يكمّل هذه الحقيقة عن طريق محاربة الشرك ، ونفي ما ينسب إلى الله عزوجل من الأقاويل الباطلة ، ومحاربة التقاليد العمياء.

٤ ـ وينقل جانباً من قصص الأنبياء الماضين واممهم ، وتاريخهم لتجسيد هذه الحقائق.

٥ ـ ويتعرض إلى مسألة المعاد ، وجزاء المؤمنين ، ومصير الكفار المشؤوم ، ويحذّر المجرمين ويهدّدهم بتهديدات وتحذيرات وإنذارات قوية.

٦ ـ ويتناول القيم الباطلة التي كانت ولا تزال حاكمة على أفكار الأشخاص الماديين ، ووقوعهم في مختلف الإشتباهات حينما يقيّمون مسائل الحياة ويزنونها بالميزان الدنيوي.

٧ ـ وهو فصل المواعظ والنصائح العميقة المؤثّرة حيث يكمل الفصول الاخرى.

وقد أخذ اسم هذه السورة (الزخرف) من الآية (٣٥) منها ، والتي تتحدث في القيم المادية.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن قرأ سورة الزخرف ، كان

٣٩٧

ممّن يقال له يوم القيامة : يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، ادخلوا الجنة بغير حساب».

إنّ هذه البشارة العظمى ، والفضيلة التي لا تقدّر ، لا تحصل بمجرد التلاوة الخالية من التدبر والإيمان والعمل الصالح ، لأنّ التلاوة مقدمة للفكر ، والإيمان والعمل الصالح ثمرة له.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٧) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة ، وهي حروف (حم). وهذه رابع سورة تبدأ ب (حم).

ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثانية ، فيقول : (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ).

قسماً بهذا الكتاب الواضحة حقائقه ، والبيّنة معانيه ومفاهيمه ، والظاهرة دلائل صدقه.

ثم يضيف : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

إنّ كون القرآن «عربياً ، إمّا بمعنى أنّه نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم في بيان الحقائق ، أو بمعنى فصاحته ، لأنّ أحد معاني كلمة «عربي هو (الفصيح) وهي إشارة إلى أنّا قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها ، لتظهر الحقائق جيّداً من خلال كلماته وجمله ، ويدركها الجميع جيداً.

ثم يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات اخرى لهذا الكتاب السماوي فيقول : (وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ).

«الام» : في اللغة تعني أصل كل شيء وأساسه ، وإنّما يقول العرب للأم امّاً لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد ، وعلى هذا فإنّ (ام الكتاب) يعني الكتاب الذي يكون أساساً لكل الكتب السماوية. إنّه كتاب علم الله المحفوظ لديه ، والذي ادرجت فيه كل حقائق العالم ، وكل

٣٩٨

حوادث الماضي والمستقبل ، وكل الكتب السماوية ، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه ، إلّاإذا أراد الله سبحانه أن يُعلم أحداً بالمقدار الذي يريده عزوجل.

وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي ، وأصله وأساسه لديه سبحانه ، ولهذا يقول في الصفة الثانية : (لعليّ) وفي الثالثة (حكيم).

واعتبر البعض الآخر علوّ القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر ، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم.

وفي الآية التالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه فيقول : (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحًا أن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ).

صحيح أنّكم لم تألوا جهداً في مخالفتكم للحق وعدائه ، إلّاأنّ رحمة الله سبحانه واسعة بحدّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزاً في طريقها ، ونظل ننزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم ، وآياته التي تبعث الحياة فيكم ، حتى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الإستعداد وتثوب إلى طريق الحق ، وهذا هو مقام رحمة الله العامة ، أي : رحمانيته التي تشمل العدو والصديق ، والمؤمن والكافر.

«الصفح» : في الأصل بمعنى جانب الشيء وطرفه ، ويأتي أيضاً بمعنى العرض والسعة ، وهو في الآية بالمعنى الأوّل. أي : أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟

«المسرف : من الإسراف ، وهو تجاوز الحدّ ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقاً.

ثم يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل ، وتسليةً لخاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتهديداً للمنكرين المعاندين : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِىّ فِى الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّن نَّبِىّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).

إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبداً ، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد ، ووجود يعمّ عطاؤه كل العباد ، بل إنّه سبحانه قد خلقهم للرحمة (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١). ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقاً.

__________________

(١) سورة هود / ١١٩.

٣٩٩

لكن ، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأنّ لطف الله اللامتناهي سيحول دون عقابهم في النهاية ، لأنّ العقاب بنفسه من مقتضى حكمته ، ولذلك يضيف في الآية التالية : (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ).

فالآية تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّنا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه الأقوام العاصية الطاغية ، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو نقصان ، وكان من بينهم أقوام أقوى وأشدّ من مشركي العرب كثيراً ، ولهم إمكانيّات وثروات وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة ... كفرعون وآل فرعون.

«البطش» : بمعنى أخذ الشيء بالقوة ، وهنا اقترن بكلمة «أشدّ» وتعطي مفهوم شدّة القوة والقدرة أكثر.

والضمير في (مِنْهُم) يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات السابقة.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤)

بعض أدلّة التوحيد : من هنا يبدأ البحث حول التوحيد والشرك ، فتستعين الآيات بفطرة هؤلاء وطينتهم لإثبات التوحيد. يقول سبحانه : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).

إنّ هذا التعبير الذي ورد بتفاوت يسير في أربع آيات من القرآن الكريم ـ العنكبوت / ٦١ ، لقمان / ٢٥ ، الزمر / ٣٨ والزخرف في الآية التي نبحثها ـ دليل على كون معرفة الله سبحانه أمر فطري مغروس في طينة البشر وطبيعتهم من جانب ، ومن جانب آخر يدلّ على أنّ المشركين كانوا مقرّين بأنّ خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه.

٤٠٠