مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

٤٠

سورة غافر

محتوى السورة : سورة غافر هي طليعة الحواميم ، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضاً ، نزلت جميعاً في مكة ، وهي تبتدأ ب «حم».

يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية :

١ ـ تتحدث عن بعض أسماء الله الحسنى ، خصوصاً تلك التي ترتبط باحياء معاني الخوف والرجاء في القلوب ، مثل قوله تعالى : (غَافِرِ الذَّنبِ) و (شَدِيدِ الْعِقَابِ).

٢ ـ تهديد الكفار والطواغيت بعذاب في هذه الدنيا ، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة ، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.

٣ ـ بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون ، بدأت بالحديث ـ بشكل واسع ـ عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي اصطلح عليه ب «مؤمن» آل فرعون وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسى عليه‌السلام من كيدها.

٤ ـ تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك ، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته ، وفي ذلك تتناول جانباً من دلائل التوحيد ، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

٥ ـ تنتهي السورة بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للتحمل والصبر ، ثم تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

٣٠١

إنّ تسمية السورة ب «غافر» يعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثالثة من آيات السورة المباركة ، أمّا تسميتها ب «المؤمن» فيعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون».

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الحواميم ديباج القرآن».

وروى أبو بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «الحواميم» ريحان القرآن ، فاحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها. وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر. وإنّ الله ليرحم تاليها وقارءها ، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكل حميم أو قريب له ، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقرّبون.

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم ، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به ، والإلتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك ، فإنّه سيكون مستحقاً للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة ، حيث افتتحت السورة ب (حم).

إنّ الحروف التي تبدأ بها سورة غافر ـ كما يستفاد ذلك من بعض الروايات ومن آراء المفسرين ـ تشير إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة ، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك عن الإمام الصادق عليه‌السلام (١).

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان» ، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أنّ «ح يشير إلى الحاكمية ، فيما يشير «م إلى المالكية الإلهية.

ويتّضح في نهاية الفقرة عدم وجود تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر ، بل هي تعمد جميعاً إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

__________________

(١) يلاحظ معاني الأخبار ، للشيخ الصدوق / ٢٢ (باب : معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن).

٣٠٢

في الآية الثانية ـ كما جرى على ذلك الاسلوب القرآني ـ حديث عن عظمة القرآن ، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ ، إنّما يشتكّل في مادته الخام من حروف الألف باء ... وهنا يكمن معنى الإعجاز. يقول تعالى : (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

إنّ قدرته تعالى تجعل الأشياء الاخرى عاجزة عن الوقوف إزاءها ، فقدرته ماضية في كل شيء ، وعزّته مبسوطة ، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال ، بحيث يستوعب كل احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

والآية التي بعدها تعدّد خمساً من صفاته تعالى ، يبعث بعضها الأمل والرجاء ، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر. يقول تعالى : (غَافِرِ الذَّنبِ).

(وَقَابِلِ التَّوْبِ).

(شَدِيدِ الْعِقَابِ).

(ذِى الطَّوْلِ).

(لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

(مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) (٦)

بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى نزول القرآن ، وإلى بعض الصفات الإلهية التي تستهدف بعث الخوف والرجاء ، ورد كلام في الآيات التي بين أيدينا عن قوم امتازوا بالمجادلة والمنازعة حيال آيات الله ... الآية الكريمة توضّح مصير هذه المجموعة ضمن تعبير قصير وقاطع ، فتقول : (مَا يُجَادِلُ فِىءَايَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا).

صحيح أنّ هذه المجموعة قد تملك العدّة والعدد ، إلّاأنّ ذلك لن يدوم إلّالفترة ، فلا تغتر

٣٠٣

وتنخدع إذاً لتحرّكهم في البلاد وتنقّلهم في المدن المختلفة ، واستعراضهم لقوّتهم : (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلدِ).

«يجادل» : مشتقة من «جدل» وهي في الأصل تعني لفّ الحبل وإحكامه ، ثم عمّ استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه ، ولهذا فإنّ كلمة (مجادلة) تطلق على عمل الاشخاص المتقابلين ويريد كل شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب خصمه.

«تقلب» : مشتقة من «قلب» وتعني التغيير ، و «تقلّب» هنا بمعنى التصرّف في المناطق والبلاد المختلفة للسيطرة والتسلّط عليها ، وتعني الذهاب والإياب فيها أيضاً.

إنّ هدف الآية تحذير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين به ـ في بداية البعثة ـ من الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة ، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية أو القوة السياسية والاجتماعية للكفار ، ويعتبرونها دليلاً على حقانيتهم أو سبباً لقوتهم الحقيقية ، إذ هناك الكثير منهم في تاريخ هذه الدنيا ، وقد انكشف ضعفهم وسقطت عنهم سرابيل القوة المزعومة ليبيّن عجزهم حيال العقاب الإلهي.

لذلك توضّح الآية التي بعدها عاقبة بعض الامم السابقة التي ضلّت الطريق وانكفأت عن جادّة الحق والصواب ، فتقول في عبارات قاطعة واضحة تحكي عاقبة قوم نوح وحالهم ومن تلاهم من أقوام وجماعات : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ).

هؤلاء هم «الأحزاب» الذين تآزروا ووقفوا ضدّ دعوات الأنبياء الإلهيين ، لتعارض مصالحهم مع روح هذه الدعوات ومضامينها الربانية.

إنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الوقوف ضدّ الدعوات النبوية الكريمة ، بل خططت كل امّة منهم لأن تمسك بنبيّها فتسجنه وتؤذيه ، بل وحتى تقتله : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ).

ثم لم يكتفوا بهذا القدر أيضاً ، بل لجأوا إلى الكلام الباطل لأجل القضاء على الحق ومحوه ، وأصرّوا على إضلال الناس وصدّهم عن شريعة الله : (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (١).

إلّا أنّ هذا الوضع لم يستمر طويلاً ، ولم يبق لهم الخير دوماً ، إذ حينما حان الوقت المناسب جاء الوعد الإلهي : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).

__________________

(١) «ليدحضوا» : مصدرها ثلاثي «إدحاض» وتعني الإزالة والإبطال.

٣٠٤

لكم ـ أيّها الناس ـ أن تشاهدوا خرائب مدنهم حين سفركم وأثناء تجوالكم ... انظروا عاقبتهم المشؤومة المظلمة مدوّنة على صفحات التاريخ وفي صدور أهل العلم ، فانظروا واعتبروا.

الآية الأخيرة ـ في المقطع الذي بين أيدينا ـ تشير إلى الجزاء الاخروي الذي ينتظر هؤلاء ، بالإضافة إلى قسطهم من العقاب الدنيوي : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أصْحَابُ النَّارِ).

إنّ المعنى الظاهري للآية واسع ، يشمل جميع الكفار والمعاندين من جميع الأقوام.

إنّ حتمية العقاب الإلهي لهؤلاء القوم يعود إلى ذنوبهم المستمرة ، والأعمال التي يقومون بها بملء إرادتهم خلافاً لرسالة الله.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)

دعاء حملة العرش للمؤمنين : يتضح من اسلوب الآيات السابقة أنّها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلّة محرومة ، بينما كان الأعداء في أوج قوّتهم ، بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين والصابرين ، بأنّكم لستم وحدكم. فالقرآن يقول : (الَّذِى يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَءَامَنُوا).

أمّا قولهم ودعاؤهم فهو : (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا). فأنت عالم بذنوب عبادك المؤمنين ورحيم بهم : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).

يوضّح هذا الكلام للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم الذين تعبدون الله وتسبحونه

٣٠٥

وتحمدونه ، فقبلكم الملائكة المقربون وحملة العرش ومن يطوف حوله ، يسبحون الخالق جلّ وعلا ويحمدونه.

وهي من جانب آخر تحذّر الكفار وتقول لهم : إنّ إيمانكم أو عدمه ليس مهماً.

ومن جانب ثالث ، في الآية إخبار للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم في هذا العالم ـ بالرغم من أنّكم أقلية في محيطكم ـ فأعظم قوّة غيبية في العالم وحملة العرش هم معكم ويساندونكم ويدعون لكم.

في الآية التي تليها استمرار دعاء حملة العرش للمؤمنين. يقول تعالى : (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدتَّهُمْ).

وأيضاً : (وَمَن صَلَحَ مِنْءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ).

لماذا؟ ل (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

والوعد الإلهي الذي أشارت إليه الآية فهو نفس الوعد الذي ورد مراراً على لسان الأنبياء لعامة الناس.

أمّا تقسيم المؤمنين إلى مجموعتين ، فهو في الواقع يكشف عن حقيقة أنّ هناك مجموعة تأتي بالدرجة الاولى ، وهي تحاول أن تتبع الأوامر الإلهية بشكل كامل.

أمّا المجموعة الاخرى فهي ليست بدرجة المجموعة الاولى ولا في مقامها ، وإنّما بسبب انتسابها إلى المجموعة الاولى ومحاولتها النسبية في اتباعها سيشملها دعاء الملائكة.

بعد ذلك تذكر الآية الفقرة الرابعة من دعاء الملائكة للمؤمنين : (وَقِهِمُ السَّيَاتِ وَمَن تَقِ السَّيَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ).

ثم ينتهي الدعاء بهذه الجملة ذات المعنى الكبير : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

هل هناك فوز أعظم من أن تغفر ذنوب الإنسان ، ويبتعد عنه العذاب لتشمله الرحمة الإلهية ويدخل الجنة الخالدة ، وثم يلتحق به أقرباؤه الذين يودّهم؟

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (١٢)

٣٠٦

اعترفنا بذنوبنا فهل من خلاص : تحدثت الآيات السابقة عن شمول الرحمة الإلهية للمؤمنين ، أمّا مجموعة الآيات التي بين أيدينا فهي تتحدث عن «غضب» الله تعالى على الكافرين ، كي يكون بالمستطاع المقارنة بين صورتين ومشهدين متقابلين. في البداية تقول الآية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ).

من الذي ينادي هؤلاء بهذا النداء؟

يبدو أنّ ملائكة العذاب ينادونهم بهذا النداء لتوبيخهم وفضحهم ، في مقابل ما تفعله ملائكة الرحمة من إكرام المؤمنين والصالحين.

«المقت» : تعني في اللغة البغض والعداوة الشديدة. وهذه الآية تبيّن أنّ غضب الله تعالى على الكافرين هو أشدّ من عداوتهم لأنفسهم.

أمّا فيم يتعلّق مقت الكفار لأنفسهم ، يتمثل في ارتكاب هؤلاء في الحياة الدنيا لأكبر عداوة إزاء أنفسهم برفضهم لنداء التوحيد ، فهل ثمّة عداء للنفس أكثر من أن يغلق الإنسان أمامه أبواب السعادة الأبدية ، ويفتح على نفسه أبواب العذاب.

عندما يشاهد المجرمون أوضاع يوم القيامة وأهوالها ، ويرون مشاهد الغضب الإلهي حيالهم ، سينتبهون من غفلتهم الطويلة ويفكّرون بطريق للخلاص ، فيعترفون بذنوبهم ويقولون : (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنَ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ).

عندما تزول حجب الغرور والغفلة ، وينظر الإنسان بالعين الحقيقية ، فلا سبيل عندها سوى الإعتراف بالذنوب.

والمقصود من (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) هو الموت في نهاية العمر والموت في نهاية البرزخ ؛ أمّا المقصود من (أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنَ) فهي الإحياء في نهاية البرزخ والإحياء في القيامة.

وعلى هذا الأساس فإنّ هناك حياة جسمانية وحياة برزخية ، ففي نهاية العمر يحل الموت بحياتنا الجسمانية ؛ لكن في نهاية العالم يحل بحياتنا البرزخية.

يترتب على ذلك أن تكون هناك حياتان بعد هذين الموتتين : حياة برزخية ، وحياة في يوم القيامة.

من الطبيعي أن يكون الجواب على طلب الكافرين بالعودة إلى هذه الدنيا للتكفير عمّا

٣٠٧

فاتهم هو الرفض. وهذا الرفض من الوضوح بحيث لم تشر إليه الآيات التي نبحثها ، لكن نستطيع أن نعتبر الآية التي بعدها دليلاً على ما نقول ، إذ تقول : (ذلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا).

فعندما يدور الكلام عن التوحيد والتقوى والأوامر الحقّة تشمئزون وتحزنون ، أمّا إذا دار الحديث عن الكفر والنفاق والشرك فستفرحون وتنبسط أساريركم ، لذلك ستكون عاقبتكم ما رأيتم.

وفي نهاية الآية ، ومن أجل أن لا ييأس هؤلاء المشركون ذوو القلوب المظلمة ، تقول الآية إنّ الحاكمية تختص بذات الله سبحانه وتعالى : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىّ الْكَبِيرِ). إذ لا يوجد غيره قاض وحاكم في محكمة الآخرة ، ولا يوجد غيره علي وكبير ، فلا يستطيع أحد أن يغلبه ، ولا يوجد طريق للهروب من حكمه.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) (١٥)

ادع الله وحده رغماً على الكافرين : هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار ، استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة ، فهي استدلال على التوحيد والربوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام. تقول الآية أوّلاً : (هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْءَايَاتِهِ).

ثم توضّح واحدة من هذه الآيات : (وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا).

قطرات المطر تهب الحياة ، ونور الشمس يحيي الكائنات ، والهواء سرّ الوجود والحياة ؛ حياة جميع الكائنات ، حيوانات ، نباتات ، اناس ... كلّها تنزل من السماء.

وأخيراً تضيف الآية الكريمة : برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع ، وتغمر الوجود بضيائها ، إلّاأنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئاً ، وإنّما يتذكّر ـ فقط ـ من ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب : (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ).

٣٠٨

الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ). وأخلصوا نيّاتكم : (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).

تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت ، وبعض الصفات المهمة ، فتقول : (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ).

فهو رفيع في علمه ، وفي قدرته ، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية ، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث إنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها.

تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى : (ذُو الْعْرشِ).

فكلّ عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته.

وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي : (يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوة والوحي ، حيث تحيي هذه الامور القلوب ، وتكون في الانسان كالروح لجسد الإنسان.

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء ، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق «الروحي» والمعنوي المتمثل في نزول الوحي.

والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء عليهم‌السلام؟

الإجابة يقدّمها القرآن في نهاية الآية بقوله : (لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ).

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم ...

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين ...

إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته ، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره ...

إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين ...

إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم ...

هو يوم التقاء الإنسان والملائكة ...

وأخيراً ، يوم التلاق ، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة العدل الإلهي.

(يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (١٧)

٣٠٩

يوم التلاقي : هذه الآيات والتي تليها ، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم القيامة. يبيّن تعالى أنّ يوم التلاقي ، هو : (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ) ... إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار ، ثم تنكشف الأسرار الباطنية والمخفية.

الوصف الثاني لذلك اليوم المهول ، هوانكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى شيء منها على الله تعالى : (لَايَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ).

بالطبع ... في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شيء على الله العالم المطلق ، ولكن «البروز» في ذلك اليوم يكون مؤكّداً أكثر بحيث إنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض ؛ أمّا بالنسبة لله فالمسألة لا تحتاج إلى بحث أو كلام.

الخصوصية الثالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة لله تعالى ، ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم : (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ).

يأتي الجواب : (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).

إنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معيّن ، بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق ، الملائكة والإنسان ، المؤمن والكافر ، تطرحه جميع ذرّات الوجود ، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم ، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته ، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحة.

الخصوصية الرابعة لذلك اليوم ، هو كونه يوم جزاء : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ). أجل ، إنّ ظهور وبروز الاحاطة العلمية لله تعالى وحاكميته ومالكيته وقهاريته كلّها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة ، والمفرحة من جهة اخرى.

أمّا الخصوصية الخامسة لذلك اليوم ، فهي ما يختصره قوله تعالى : (لَاظُلْمَ الْيَوْمَ).

وكيف يمكن أن يحصل الظلم ، في حين أنّ الظلم إمّا أن يكون عن جهل ، والله عزوجل قد أحاط بكل شيء علماً.

وإمّا أن يكون عن عجز ، والله عزوجل هو القاهر والمالك والحاكم على كل شيء.

الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي ، هي سرعة الحساب لأعمال العباد ، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).

وسرعة الحساب بالنسبة لله تعالى تجري كلمح البصر. ورد في الخبر : «أنّه تعالى يحاسب للخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر».

٣١٠

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٢٠)

يوم تبلغ القلوب الحناجر : هذه الآيات تستمر ، كالآيات السابقة ، في وصف القيامة. يقول تعالى : (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْأَزِفَةِ).

«الآزفة» : باللغة بمعنى (القريب). وإذا نظرنا بتأمّل فسنجد أنّ عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة حيال يوم القيامة ، ولأنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر أىّ تاريخ لهذا اليوم المهول ، حتى للأنبياء عليهم‌السلام ، لذا يجب الإستعداد دائماً لاستقبال ذلك اليوم.

الوصف الثاني ليوم الآزفة هو : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ) من شدة الخوف.

الصفة الثالثة لذلك اليوم تعبّر عنها الآية ب (كَاظِمِينَ). أي إنّ الهمّ والغمّ سيشمل كل وجودهم ، إلّاأنّهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.

«كاظم» : مشتقة من «كظم» وهي في الأصل تعني غلق فوهة القربة المملوءة بالماء ، ثم أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضباً إلّاأنّهم لا يظهرونه لسبب من الأسباب.

الصفة الرابعة ليوم التلاقي هو يوم : (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ). أي صديق ، نعم إنّ تلك المجموعة من الأصدقاء الكذابين التي تحيط بالشخص كذباً وتملّقاً ـ كما يحيط الذباب بالحلويات ـ طمعاً في مقامه وقدرته وجاهه وماله.

الصفة الخامسة تقول عنها الآية : (وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ).

ذلك أنّ شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنّما تكون بإذن الله تعالى ، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام ، الذين كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أنّ أصنامهم ستشفع لهم في حضرة الله جلّ وعلا.

وفي المرحلة السادسة تذكر الآية أحد صفات الخالق جلّ وعلا ، والتي تعتبر في نفس الوقت وصفاً لكيفية القيامة ، حيث تقول : (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ).

إنّ الله تبارك وتعالى يعلم الحركات السرية للعيون وما تخفيه الصدور من أسرار ، وسيقوم تعالى بالحكم والقضاء العادل عليها.

٣١١

الآية التي تليها تتحدث عن صفة سابعة للقيامة تتمثل في قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِى بِالْحَقّ). أمّا غيره : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَايَقْضُونَ بِشَىْءٍ).

في ذلك اليوم يختص الله وحده بالقضاء ، وهو جلّ جلاله لا يقضي إلّابالحق.

وفي الختام وللتأكيد على المطالب المذكورة في الآيات السابقة تضيف الآية : (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

فهو تعالى سميع وبصير بمعنى الكلمة ، أي إنّ كل المسموعات والمبصرات حاضرة عنده ، وهذا تأكيد على إحاطته وعلمه بكل شيء ، وقضاوته بالحق ، فإنّه لو لم يكن سميعاً وبصيراً مطلقاً فلا يستطيع أن يقضي بالحق.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٢٢)

اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين : إنّ اسلوب القرآن الكريم في كثير من الآيات أنّه بعد أن يتعرض لكليات القضايا الحساسة والمهمة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد الإنسان ليريه الحوادث الماضية والحالية ، لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن أحوال الامم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حلّ بهم من جزاء أليم ، وتدعوا الناس للاعتبار بمصير اولئك ، بعد ما كانت الآيات السابقة قد حدّثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه. يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ).

إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للاعتبار به ليس تاريخاً مدوّناً نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له ، فهذه قصور الظالمين الخربة ، وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب ، والقصور المدفونة تحت الأرض ... ها هي كلّها تحكي عظة الدرس ، وعظيم العبرة ، خصوصاً وأنّ القرآن يزيدنا معرفة بهؤلاء فيقول عنهم : (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الْأَرْضِ).

٣١٢

كانوا يملكون السلطات القوية ، والجيوش العظيمة ، والمدنية الباهرة التي لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكة.

ولكن عاقبة هؤلاء القوم ، بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوّة وحياة ونماء ، هي كما يقول تعالى : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ).

فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي عندما نزل بساحتهم.

الآية التي بعدها فيها تفصيل لما قيل سابقاً بإيجاز. يقول تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا). فلم يكن الأمر أنّهم كانوا غافلين ولم يعرفوا الأمر ، ولم يكن كفرهم وارتكابهم الذنوب بسبب عدم إتمام الحجّة عليهم ، فلقد كانت تأتيهم رسلهم تترا ، كما يستفاد من قوله تعالى : (كَانَت تَّأْتِيهِمْ) إلّاأنّهم لم يخضعوا للأوامر الإلهية.

وحينئذ : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ). وعاقبتهم أشدّ العقاب : (إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (٢٧)

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة ، فقد شرعت الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث ، من خلال قصة موسى وفرعون ، وهامان وقارون. يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ).

أرسله تعالى : (إِلَى فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَقرُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ).

إنّ «آيات» في الآية التي نحن بصددها تشير إلى «معجزات موسى» بينما يشير «سلطان مبين» إلى منطق موسى عليه‌السلام القوي وأدلته القاطعة في مقابل الفراعنة.

٣١٣

وبذلك كانت دعوة موسى عليه‌السلام تستهدف القضاء على الحاكم الظالم ، والمخططات الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم ، وبتر تجاوزات الأثرياء المستكبرين ، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية.

الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النبي موسى عليه‌السلام : (فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَءَامَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ).

وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر ـ كاسلوب طاغوتي ـ على الفترة التي سبقت ولادة موسى عليه‌السلام فحسب ، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى عليه‌السلام.

ويعبّر هذا الاسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الصاقات الفعالة ، وترك غير الفاعلين للإستفادة منهم في خدمة النظام.

القرآن يجيب : (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَللٍ).

لقد قضى الله تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله ، وأن يزهق الباطل وأنصاره.

لقد اشتد الصراع بين موسى عليه‌السلام وأصحابه من جانب ، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. يقول تعالى : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ).

نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشاريه أو بعضهم على الأقل كانوا يعارضون قتل موسى ، لخوفهم أن يطلب عليه‌السلام من ربّه نزول العذاب بساحتهم ، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية.

وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى عليه‌السلام بدليلين ، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي ، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي ، فقال في الأوّل ، كما يحكي القرآن ذلك : (إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ).

وفي الثاني : (أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الْأَرْضِ الْفَسَادَ).

والآن لنر كيف كان رد فعل موسى عليه‌السلام والذي يبدو أنّه كان حاضراً في المجلس؟

يقول القرآن في ذلك : (وَقَالَ مُوسَى إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُم مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لَّايُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ).

٣١٤

ويستفاد من قول موسى عليه‌السلام أيضاً أنّ من تحلّ فيه صفتا «التكبر» و «عدم الإيمان بيوم الحساب» فهو إنسان خطر ، علينا أن نستعيذ بالله من شرّه وكيده.

(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (٢٩)

أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله : مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ موسى عليه‌السلام وفرعون ، لم تطرح في أيّ مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون ، ولكنه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا ، وإنّما تكتم عليه واعتبر نفسه ـ من موقعه في بلاط فرعون ـ مكلفاً بحماية موسى عليه‌السلام من أيّ خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.

فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون ، بادر باسلوبه المؤثّر للقضاء على هذا المخطط. يقول تعالى : (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللهُ). أتقتلوه في حين أنّه : (وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ).

ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين : (وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ).

ثم تضيف الآيات : (إِنَّ اللهَ لَايَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ).

فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية ، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.

ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر ، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلينٍ وحكمة ، حيث

٣١٥

قال لهم ـ كما يحكي ذلك القرآن ـ : أنّ بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللهِ إِن جَاءَنَا).

ويظهر أنّ هذا الكلام أثّر في حاشية فرعون وبطانته ، فقلّل من غضبهم وغيظهم ، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع ، فقطع الكلام بالقول : (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى).

وهو إنّي أرى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.

ثم إنّني : (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).

وهذه هو حال كافة الطواغيت والجبارين على طول التاريخ ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره.

(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (٣٣)

التحذير من العاقبة : كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبياً بمواصفات التمدّن والثقافة ، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة ، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيراً ، وكانوا على علم بما آل إليه مصيرهم. لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التاريخ وأخذ يحذّرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم ، عساهم أن يتيقظوا ويتجنّبوا قتل موسى عليه‌السلام. يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه : (وَقَالَ الَّذِىءَامَنَ يقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُم مّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ).

ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنّني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الأقوام السالفة : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ).

هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك ؛ أو أنّ العقوبات الإلهية لا تشملكم ؛ ترى ماذا عمل اولئك حتى أصابهم ما أصابهم ، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين ، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم ... لذلك كلّه فإنّي أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم.

٣١٦

ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم ويقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبما جنت أيديكم : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ).

ثم تضيف الآية على لسانه : (وَيَا قَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ). أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض ، إلّاأصواتكم لا تصل إلى أيّ مكان.

«التناد» : مأخوذة أصلاً من كلمة «ندا» وتعني «المناداة» والمشهور بين المفسرين أنّ (يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة. يعني (يوم مناداة البعض للبعض الآخر). وهذا المعنى يعبّر عن ضعف الإنسان وعجزه عندما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب والملمّات ، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة ، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.

وفي عالمنا هذا ثمّة أمثلة عديدة على «يوم التناد» مثل الأيام التي ينزل فيها العذاب الإلهي ، أو الأيام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدود لكثرة ما إرتكب من ذنوب وخطايا ، وقد نستطيع أن نتصور صوراً اخرى عن يوم التناد في حياتنا من خلال الحالات التي يمرّ بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث يصرخ الجميع عندها طالبين للحلّ والنجاة.

الآية التالية تفسّر يوم التناد بقولها : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ).

ومثل هؤلاء حق عليهم القول : (وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). إنّ هؤلاء الذين ضلّوا في الحياة الدنيا بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكّبهم عن الطريق المستقيم ، سيظلّون في الآخرة عن الجنة والرضوان والنعم الإلهية الكبرى.

(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥)

عجز المتكبرين عن الإدراك الصحيح : هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون ، ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات ، يظهر أنّ مؤمن آل فرعون طرح كلامه في خمسة مقاطع.

٣١٧

المقطع الأوّل : راعى فيه مؤمن آل فرعون الإحتياط ، ودعا القوم إلى الحذر من الأضرار المحتملة.

المقطع الثاني : وفيه وجّه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمل بما حلّ بالأقوام السابقة.

المقطع الثالث : كامن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا ، إذ تذكّرهم الآيات ـ من خلال خطاب مؤمن آل فرعون ـ بجزء من تأريخهم ، هذا التاريخ الذي لا يبعد كثيراً عنهم ، ولم تُمح بعد أواصر الإرتباط الذهني والتاريخي فيما بينهم وبينه ؛ وهذا الجزء يتمثّل في نبوّة يوسف عليه‌السلام ، الذي يعتبر أحد أجداد موسى ، حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى : (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ). وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنّكم : (فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ).

وشكّكم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية ، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.

ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية ، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات ، قلتم : (حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً).

بناء على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ).

لقد سلكتم سبيل الإسراف والتعدّي على حدود الله تعالى كما قمتم بالتشكيك في كل شيء ، حتى غدا ذلك كلّه سبباً لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية ، فسدرتم في وادي الضلال والغي ، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.

الآية التي تليها تعرّف «المسرف المرتاب» بقول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءَايَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ).

وللكشف عن قبح هذه المواقف عند الله وعند الذين آمنوا ، تقول الآية : (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ وَعِندَ الَّذِينَءَامَنُوا).

ذلك لأنّ الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي ، يعتبر أساساً لضلال المجادلين وتنكّبهم عن جادة الهداية والصواب ، وكذلك في اغواء الآخرين.

في النهاية ، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق ، تقرّر الآية قوله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ).

٣١٨

إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستاراً مظلماً حول فكر الإنسان ، ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح.

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) (٣٧)

أريد أن أطّلع إلى إله موسى : بالرغم من النجاح الذي أحرزه مؤمن آل فرعون في إثناء عزم فرعون عن قتل الكليم عليه‌السلام ، إلّاأنّه لم يستطع أن يثنيه عن غروره وتكبّره وتعاليه إزاء الحق. يقول تعالى في وصف هذا الموقف : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا همنُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ). أي لعلي أحصل على وسائل وتجهيزات توصلني إلى السماوات.

(أَسْبَابَ السَّموَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَإِنّى لَأَظُنُّهُ كذِبًا).

ولكن ماذا كانت النتيجة؟! (وَكَذلِكَ زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍ).

«الصرح» : في الأصل تعني الوضوح ؛ و «التصريح» : بمعنى التوضيح ، ثم عُمّم معنى الكلمة على الأبنية المرتفعة والقصور الجميلة العالية ؛ و «تباب» : تعني الخسارة والهلاك.

فمن خلال عملية التأمّل والتمحيص ، يمكن أن تنتهي إلى ثلاثة أهداف كانت تكمن وراء هذا التصرف. والأهداف هذه هي :

أوّلاً : أراد فرعون أن يختلق وضعاً يعمد من خلاله إلى إلهاء الناس وصرف أذهانهم عن قضية نبوّة موسى عليه‌السلام وثورة بني إسرائيل.

ثانياً : استهدف فرعون من خلال تنفيذ مشروع الصرح اشتغال أكبر قطّاع من الناس ، وعلى الأخص العاطلين منهم ، لكي يجد هؤلاء في هذا الشغل عزاءً ـ ولو مؤقتاً ـ عن مظالم فرعون وينسون جرائمه وظلمه ، ومن ناحية ثانية فإنّ اشتغال مثل هذا العدد الكثير يؤدّي إلى إرتباطهم بخزانة فرعون وأمواله ، وبالتالي إرتباطهم بنظامه وسياساته.

ثالثاً : لقد كان من خطة فرعون بعد انتهاء بناء الصرح ، أن يصعد إلى أعلى نقطة فيه ، ويرمق السماء ببصره ، أو يرمي سهماً نحو السماء ، ويرجع إلى الناس فيقول لهم : لقد انتهى كل

٣١٩

شيء بالنسبة لإله موسى ، والآن انصرفوا إلى أعمالكم براحة بال.

طبعاً ، يمكن للخطط السياسية والمواقف المضلّلة أن تخدع الناس شطراً من الزمان ، وتؤثّر فيهم لفترة من الوقت ، إلّاأنّها تنتهي بالفشل على المدى البعيد.

(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) (٤٠)

اتّبعوني أهدكم سبيل الرشاد : أشرنا آنفاً إلى أنّ مؤمن آل فرعون أوضح كلامه في مجموعة من المقاطع ، وفي هذه المجموعة من الآيات الكريمة نقف على المقطع الرابع ، بعد أن أشرنا في الآيات السابقة إلى ثلاثة منها.

إنّ هذا المقطع من كلام مؤمن آل فرعون ينصبّ في مضمونه على إلفات نظر القوم إلى الحياة الدنيوية الزائلة ، وقضية المعاد والحشر والنشر ، إذ إنّ تركيز هذه القضايا في حياة الناس له تأثير جذري في تربيتهم.

يقول تعالى : (وَقَالَ الَّذِىءَامَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ).

ثم تضيف الآية : (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْأَخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ).

إنّ القضية ليست فناء هذه الدنيا وبقاء الآخرة وحسب ، بل الأهم من ذلك هي قضية الحساب والجزاء ، حيث يقول تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ).

إنّ مؤمن آل فرعون ـ بكلامه هذا أثار أوّلاً قضية عدالة الله تبارك وتعالى ، حيث يقاضي الإنسان بما اكتسبت يداه خيراً أو شرّاً.

ومن جهة ثانية أشار في كلامه إلى الثواب والفضل الإلهي لذوي العمل الصالح.

ومن جهة ثالثة أشار للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح.

ورابعة يشير أيضاً إلى مساواة الرجل والمرأة في محضر الله تبارك وتعالى ، وفي القيم الإنسانية.

٣٢٠