مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

ثم يشير سبحانه إلى خمس نعم من نعم الله العظيمة ، والتي تعتبر كل منها نموذجاً من نظام الخلقة ، وآية من آيات الله سبحانه ، فيقول أوّلاً : (الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا).

ونعلم أنّ الهدوء النفسي هو الدعامة الأساسيّة للاستفادة من النعم الاخرى والتنعّم بها.

ثم يضيف سبحانه لتبيان النعمة الثانية : (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

إنّا نعلم أنّ التظاريس تعمّ كل اليابسة تقريباً ، وفيها الجبال والتلال والهضاب ، والبديع أن توجد بين أعظم سلال جبال العالم فواصل يستطيع الإنسان أن يشقّ طريقه من خلالها ، وقلّما اتّفق أن تكون هذه الجبال سبباً لإنفصال أقسام الكرة الأرضية عن بعضها تماماً ، وهذا واحد من أسرار نظام الخلقة ، ومن مواهب الله سبحانه وعطاياه للعباد.

وذكرت الموهبة الثالثة ـ وهي موهبة نزول المطر ، وإحياء الأراضي الميّتة ـ في الآية التالية : (وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ). من قبوركم يوم البعث.

وبعد ذكر نزول المطر وحياة النباتات ، يشير في المرحلة الرابعة إلى خلق أنواع الحيوانات ، فيقول سبحانه : (وَالَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا).

إنّ التعبير ب «الأزواج» كناية عن أنواع الحيوانات بقرينة ذكر النباتات في الآية السابقة.

ونعلم أنّ قانون الزوجية سنّة حياتية في كل الكائنات الحية ، والعيّنات الاستثنائية لا تقدح بجامعية هذا القانون.

وفي المرحلة الخامسة تبيّن الآيات آخر نعمة من هذه السلسلة فيقول سبحانه : (وَجَعَلَ لَكُم مّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ).

إنّ هذه النعمة هي إحدى مواهب الله سبحانه للبشر ، وكراماته التي منّ بها عليهم ، وهي لا تلاحظ في الأنواع الاخرى من الموجودات.

وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول : (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).

وتذكر آخر آية ـ من هذه الآيات ـ قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب ، إذ يقولون : (وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ).

هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد ، لأنّ الإنتباه إلى الخالق والمبدأ ، يلفت نظر الإنسان نحو المعاد دائماً.

٤٠١

وهي أيضاً إشارة إلى أن لا تغترّوا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها ، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها ، بل يجب أن تذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) (١٩)

كيف تزعمون أنّ الملائكة بنات الله : بعد تثبيت دعائم التوحيد بوسيلة ذكر آيات الله سبحانه في نظام الوجود ، وذكر نعمه ومواهبه ، تتناول هذه الآيات ما يقابل ذلك ، أي محاربة الشرك وعبادة غير الله تعالى ، فتطرّقت أوّلاً إلى أحد فروعها ، أي عبادة الملائكة فقالت : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا).

إنّ التعبير ب «الجزء» يبيّن من جانب أنّ هؤلاء كانوا يعتبرون الملائكة أولاد الله تعالى ، لأنّ الولد جزء من وجود الأب والأمّ ، وينفصل عنهما كنطفة تتكوّن وتتلقّح ، وإذا ما تلقّحت تَكَوّن الولد من تلك اللحظة. ويبيّن من جانب آخر قبولهم عبادتها ، لأنّهم كانوا يظنّون الملائكة جزءاً من الآلهة في مقابل الله سبحانه.

ثم تضيف : (إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ). فمع كل هذه النعم الإلهية التي أحاطت بوجوده ، والتي مرّ ذكر خمس منها في الآيات السابقة ، فإنّه بدل أن يطأطيء رأسه إعظاماً لخالقه ، وإجلالاً لولي نعمته ، سلك سبيل الكفر واتّجه إلى مخلوقات الله ليعبدها.

في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكرية لدى هؤلاء من أجل إدانة هذا التفكير الخرافي ، لأنّهم كانوا يرجّحون جنس الرجل على المرأة ، وكانوا يعدّون البنت عاراً ـ عادةً ـ يقول تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفكُم بِالْبَنِينَ).

فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم ، فكيف ترجّحون أنفسكم وتعلونها على الله ، فتجعلون نصيبه بنتاً ، ونصيبكم ولداً؟

وتتابع الآية التالية هذا البحث ببيان آخر ، فتقول : (وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ

٤٠٢

مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ).

والمراد من (بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) هم الملائكة الذين كانوا يعتبرونهم بنات الله ، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أنّها آلهتهم ، وأنّها شبيهة به ـ سبحانه ـ ومثله.

إنّ لفظة (كظيم) من مادة «كظْم» ، وتعني الحلقوم ، وجاءت أيضاً بمعنى غلق فم قربة الماء بعد امتلائها ، ولذلك فإنّ هذه الكلمة استعملت للتعبير عمّن امتلأ قلبه غضباً أو غمّاً وحزناً ، وهذا التعبير يحكي جيّداً عن خرافة تفكير المشركين البله في عصر الجاهليّة فيما يتعلق بولادة البنت ، وكيف أنّهم كانوا يحزنون ويغتمّون عند سماعهم بولادة بنت لهم ، إلّا أنّهم في الوقت نفسه كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة بنات الله سبحانه.

وتضيف في الآية الكريمة : (أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١).

لقد ذكر القرآن هنا صفتين من صفات النساء غالباً ، تنبعثان من ينبوع عاطفتهن ، إحداهما : تعلّق النساء الشديد بأدوات الزينة ، والاخرى : عدم إمتلاكهن القدرة الكافية على إثبات مرادهن أثناء المخاصمة والجدال لحيائهن وخجلهنّ.

وتذكر الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ هذا المطلب بصراحة أكثر ، فتقول : (وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا).

ثم تجيبهم الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري فتقول : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ).

وتضيف في النهاية : (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسَلُونَ).

(وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٢٢)

لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين : أعطت الآيات السابقة أوّل جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافيّة ، حيث كانوا يظنون أنّ الملائكة بنات الله ، وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع ، وتسلك مسالك اخرى لإبطال هذه الخرافة القبيحة ، فتتعرض أوّلاً لأحد الأدلّة الواهية لهؤلاء ثم تجيب عليه فتقول : (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم).

__________________

(١) «ينشّؤا» : من مادة «الإنشاء» ، أي إيجاد الشيء ، وهنا بمعنى تربية الشيء وتنميته ؛ و «الحلية» : تعني الزينة ؛ و «الخصام» : هو المجادلة والنزاع على شيء ما.

٤٠٣

إنّ هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر ، وأنّ كل ما يصدر منا فهو بإرادة الله ، وكل ما نفعله فهو برضاه.

وتجيب الآية في النهاية على هذا الاستدلال الواهي لعبدة الأصنام ، فتقول : (مَّا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

إنّ هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضى الله سبحانه عن أعمالهم ، بل هم ـ ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين ـ يتخذون مسألة الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد ، فيقولون : إنّ يد القضاء والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا.

«يخرصون» : من «الخرص» ، وهو في الأصل بمعنى التخمين ، وأطلقت هذه الكلمة أوّلاً على تخمين مقدار الفاكهة ، ثم أطلقت على الحدس والتخمين ، ولمّا كان الحدس والتخمين يخطيء أحياناً ولا يطابق الواقع ، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً ، و «يخرصون» في هذه الآية من هذا القبيل.

وتشير الآية التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به ، فتقول : (أَمْءَاتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ). أي : يجب على هؤلاء أن يتمسّكوا بدليل العقل لإثبات هذا الإدّعاء ، أو بدليل النقل ، في حين لم يكن لهؤلاء دليل لا من العقل ولا من النقل ، فإنّ كل الأدلّة العقلية تدعو إلى التوحيد ، وكذلك دعا كل الأنبياء والكتب السماوية إلى التوحيد.

وأشارت آخر آية ـ من هذه الآيات ـ إلى ذريعتهم الأصلية ، وهي في الواقع خرافة لا أكثر ، أصبحت أساساً لخرافة اخرى ، فتقول : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَاءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ).

لم يكن لهؤلاء دليل إلّاالتقليد الأعمى للآباء والأجداد ، والعجيب أنّهم كانوا يظنون أنّهم مهتدون بهذا التقليد ، في حين لا يستطيع أي إنسان عاقل حر أن يستند إلى التقليد في المسائل العقائدية والأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفكري ، خاصة إذا كان التقليد تقليد «جاهل لجاهل».

(وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢٥)

٤٠٤

تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين في عبادتهم للأصنام ، وهو تقليد الآباء والأجداد ، فتقول : إنّ هذا مجرد ادعاء واهٍ من مشركي العرب : (وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَاءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ).

إنّ هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ليعلموا أنّ ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشيء الجديد ، إذ إنّ هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التاريخ.

وتبيّن الآية التالية جواب الأنبياء السابقين على حجج هؤلاء المشركين والمنحرفين بوضوح تام ، فتقول : (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِءَابَاءَكُمْ).

هذا التعبير هو أكثر التعابير المؤدبة الممكن طرحها أمام قوم عنيدين مغرورين ، ولا يجرح عواطفهم أو يمسها مطلقاً.

إنّ مثل هذه التعبيرات القرآنية تعلمنا آداب المحاورة والمجادلة وخاصة أمام الجاهلين المغرورين.

ومع كل ذلك ، فإنّ هؤلاء كانوا غرقى الجهل والتعصب والعناد بحيث لم يؤثّر فيهم حتى هذا المقال المؤدب الرقيق ، فكانوا يجيبون أنبياءهم بجواب واحد فقط : (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ).

من البديهي أنّ مثل هؤلاء الأقوام الطاغين المعاندين ، لا يستحقون البقاء ، وليست لهم أهليّة الحياة ، ولابدّ أن ينزل عذاب الله ، ولذلك فإنّ آخر آية ـ من هذه الآيات ـ تقول : (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ). فبعضهم بالطوفان ، وآخرون بالزلزلة المدمرة ، وجماعة بالعاصفة والصاعقة ، وخلاصة القول : إنّا دمّرنا كل فئة منهم بأمر صارم فأهلكناهم.

وأخيراً وجهت الآية الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أجل أن يعتبر مشركو مكة أيضاً ، فقالت : (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ) فعلى مشركي مكة المعاندين أن يتوقعوا مثل هذا المصير المشؤوم.

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) (٣٠)

٤٠٥

التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة : أشارت هذه الآيات إشارة موجزة إلى قصة إبراهيم ، وما جرى له مع قوم بابل عبدة الأوثان ، لتكمل بذلك بحث ذم التقليد ، الذي ورد في الآيات السابقة ، وذلك لأنّه :

أوّلاً : إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان الجد الأكبر للعرب ، وكانوا يعدونه محترماً ويقدّسونه ، ويفتخرون بتأريخه ، فإذا كان اعتقادهم وقولهم هذا حقّاً فيجب عليهم أن يتبعوه عندما مزّق حجب التقليد ، وإذا كان سبيلهم تقليد الآباء ، فلماذا يقلّدون عبدة الأوثان ولا يتّبعون إبراهيم عليه‌السلام.

ثانياً : إنّ عبدة الأصنام استندوا إلى هذا الاستدلال الواهي ـ وهو اتّباع الآباء ـ فلم يقبله إبراهيم منهم أبداً.

ثالثاً : إنّ هذه الآية نوع من التطييب لخاطر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين الأوائل ليعلموا أنّ مثل هذه المخالفات والتوسّلات بالمعاذير والحجج الواهية كانت موجودة دائماً ، فلا ينبغي أن يضعفوا أو ييأسوا.

تقول الآية الاولى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ).

ولمّا كان كثير من عبدة الأصنام يعبدون الله أيضاً ، فقد استثناه إبراهيم مباشرة فقال : (إِلَّا الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).

إنّه عليه‌السلام يذكر في هذه العبارة الوجيزة دليلاً على انحصار العبوديّة بالله تعالى ، لأنّ المعبود هو الخالق والمدبر ، وكان الجميع مقتنعين بأنّ الخالق هو الله سبحانه ، وكذلك أشار عليه‌السلام في هذه العبارة إلى مسألة هداية الله التكوينية والتشريعية التي يوجبها قانون اللطف.

ولم يكن إبراهيم عليه‌السلام من أنصار أصل التوحيد ، ومحاربة كل أشكال الشرك طوال حياته وحسب ، بل إنّه بذل قصارى جهده من أجل ابقاء كلمة التوحيد في هذا العالم إلى الأبد ، كما تبيّن ذلك الآية التالية ، إذ تقول : (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).

والطريف أنّ كل الأديان التي تتحدث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها وأفكارها من تعليمات إبراهيم عليه‌السلام التوحيدية ، وأنّ ثلاثة من أنبياء الله العظام ـ وهم موسى وعيسى عليهما‌السلام

__________________

(١) «العقب» : في الأصل بمعنى كعب القدم ، إلّاأنّ هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.

٤٠٦

ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من ذرّيته ، وهذا دليل على صدق تنبؤ القرآن في هذا الباب.

والآية التالية جواب عن سؤال وهو : في مثل هذه الحال لِمَ لا يعذّب الله مشركي مكة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة : (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ).

فتقول الآية مجيبة : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلَاءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ).

فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة ، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد ، بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا النبي العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بهدايتهم.

إلّا أنّ العجيب أنّه : (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ).

(وَقَالُوا لَوْ لَا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٣٢)

لمَ لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء : كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء ، فكانوا يتّهمونهم بالسحر تارة ، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام الله وراء ظهورهم ، وتشير الآيات ـ مورد البحث ـ إلى حجّة واهية اخرى من حجج اولئك المشركين ، فتقول : (وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ هذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). أي : مكة والطائف.

لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة ، إذ كان المعيار في تقييمهم للبشر هو المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.

وهذا هو السبب في بلاء المجتمعات البشرية العظيم ، والعامل الأساس في انحرافها الفكري ، حيث تقلب الحقائق تماماً في بعض الأحيان.

ويردّ القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل الخرافي ، ويجسد النظرة الإلهية الإسلامية تماماً ، فيقول : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبّكَ). فيمنحوا النبوّة من يشاؤون ، وينزلوا عليه الكتاب السماوي.

فضلاً عن ذلك ، فإنّ وجود التفاوت والإختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة ، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقاً ، بل : (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ

٤٠٧

فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا).

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعية ، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلّاعن طريق التعاون والخدمة المتبادلة.

بناءً على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت ، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإنسانية ، إذ : (وَرَحْمَتُ رَبّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) ؛ بل إن كل المقامات والثروات لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة الله والقرب منه.

(وَلَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥)

قصور فخمة سُقُفها من فضة! (قيم كاذبة) : تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإسلام» وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم ، فتقول الآية الاولى : (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ).

ولجعلنا لهم بيوتاً لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ).

ثم تضيف الآية الاخرى : (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكُونَ).

ولم تكتف الآية بهذا ، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وانواع الزينة (وَزُخْرُفًا).

ثم تضيف الآية : (وَإِن كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ).

«الزخرف» : في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير ، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة ، فقد قيل له : زخرف ؛ وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه : كلام مزخرف ، لأنّهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولاً.

إنّ هذه الاسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية ، حقيرة لا قيمة لها عند الله تعالى فلا ينبغي أن تكون إلّامن نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق ، ولو لم

٤٠٨

يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل الله تعالى هذه الامور من نصيب هذه الفئة فقط ، ليعلم الجميع أنّ هذه الامور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإنسان وقيمته ومقامه.

ومن هنا يتّضح أنّ وجود جماعة من الكفار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلاً على رفعة شخصيتهم ، ولا أنّ حرمان المؤمنين منها ، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة ، يضر بإيمانهم وتقواهم ، وهذا هو التفكير الإسلامي والقرآني الصحيح.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٤٠)

أقران الشياطين : لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شيء على أساس المعايير المادية ، فإنّ الآيات ـ مورد البحث ـ تتحدث عن أحد الآثار المميتة الناشئة عن الإرتباط بالدنيا والتعلق بها ، ألا وهو الإبتعاد عن الله سبحانه. تقول الآية الاولى : (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (١).

نعم ، إنّ الغفلة عن ذكر الله ، والغرق في لذات الدنيا ، والإنبهار بزخارفها ومغرياتها يؤدّي إلى تسلط شيطان على الإنسان يكون قرينه دائماً ، ويلقي لجاماً حول رقبته يشدّه به ، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء.

ثم أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين ، فقالت : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ).

وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ). وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال ، فيبقى الإنسان الغافل الجاهل على ضلاله ، وتستمر الشياطين في إضلاله ، حتى ترفع الحجب ، وتنفتح عين رؤيته على الحقيقة : (حَتَّى

__________________

(١) «نقيّض» : من مادة قيض ، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة ، ثم جاءت بمعنى جعل شيء مستولياً على شيء آخر.

٤٠٩

إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنَ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

نعم ، إنّ عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا ، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد ، بل إنّهما ـ برأي بعض المفسرين ـ يقرنان بسلسلة واحدة.

إلّا أنّ هذا الأمل لا يتحقق مطلقاً ، ولا يمكن أن يقع الإفتراق أو البون بين هؤلاء وبين الشياطين ، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف : (وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ). فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع أنواع العذاب الاخرى إلى الأبد.

وبهذا فإنّ القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الإفتراق عن الشياطين إلى يأس دائم.

ويترك القرآن هنا هذه الفئة وشأنها ، ويوجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتحدث عن الغافلين عمي القلوب الذى كذّبوا إرتباطه بالله ، وهم من جنس من تقدم الكلام عنهم في الآيات السابقة ، فيقول : (أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

إنّ القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة للإنسان : السمع والبصر والحياة الظاهرية ، والسمع والبصر والحياة الباطنية ، والمهم هو القسم الثاني من الإدراك والنظر والحياة ، فإنّها إذا تعطلت فلا ينفع حينئذ موعظة وإرشاد ، ولا إنذار وتحذير.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥)

متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن الكفار المعاندين الظالمين الذين لا أمل في هدايتهم ، تخاطب هذه الآيات نبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مهدّدة الكفار أشدّ تهديد من جانب ، ومسليّة خاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ).

والمراد من الذهاب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بين اولئك القوم ، وفاته.

ثم تضيف الآية : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ).

فهم في قبضتنا على أية حال ، سواء كنت بينهم أم لم تكن ، والعقاب والإنتقام الإلهي حتمي في حقّهم إذا ما استمروا في أعمالهم.

٤١٠

بعد هذه التحذيرات تأمر الآية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). وعدم قبول جماعة من هؤلاء به لا يدل على عدم حقانيتك.

ثم تضيف الآية الاخرى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ). فإنّ الهدف من نزوله إيقاظ البشر ، وتعريفهم بتكاليفهم : (وَسَوْفَ تُسَلُونَ).

ثم تطرّقت الآية الأخيرة إلى نفي عبادة الأصنام وإبطال عقائد المشركين بدليل آخر ، فقالت : (وَسَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمنِءَالِهَةً يُعْبَدُونَ).

إشارة إلى أنّ كل أنبياء الله قد دعوا إلى التوحيد ، ووقفوا جميعاً ضد الوثنية بحزم ، وعلى هذا فإنّ نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مخالفته الأصنام لم يقم بعمل لم يسبقه به أحد ، بل أحيا بفعله سنة الأنبياء الأبدية.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) (٥٠)

الفراعنة المغرورون ونقض العهد : في هذه الآيات إشارة إلى جانب ممّا جرى بين نبي الله موسى بن عمران عليه‌السلام وبين فرعون ، ليكون جواباً لمقالة المشركين الواهية بأنّ الله إن كان يريد أن يرسل رسولاً ، فلماذا لم يختر رجلاً من أثرياء مكة والطائف لهذه المهمة العظمى؟ قالت الآية الاولى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ فَقَالَ إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ).

المراد من «الآيات» : المعجزات التي كانت لدى موسى ، والتي كان يثبت حقانيته بواسطتها ، وكان أهمها العصا واليد البيضاء.

يقول القرآن الكريم في الآية التالية : (فَلَمَّا جَاءَهُم بَايَاتِنَا إِذَا هُم مّنْهَا يَضْحَكُونَ).

وهذا الموقف هو الموقف الأوّل لكل الطواغيت والجهال المستكبرين.

إلّا أنّنا أرسلنا بآياتنا الواحدة تلو الاخرى لإتمام الحجة : (وَمَا نُرِيهِم مّنْءَايَةٍ إِلَّا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا).

٤١١

وقد أريناهم بعد معجزتي العصا واليد البيضاء معاجز الطوفان والجراد والقمل والضفادع وغيرها.

ثم تضيف الآية :

(وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

إنّ هذه الحوادث وإن كانت تنبه هؤلاء بصورة مؤقتة ، فيلجأون إلى موسى ، غير أنّهم بمجرد أن تهدأ العاصفة ينسون كل شيء ، ويجعلون موسى غرضاً لسهام أنواع التهم ، كما نقرأ ذلك في الآية التالية : (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ).

أي تعبير عجيب هذا! فهم من جانب يسمّونه ساحراً ، ومن جانب آخر يلجأون إليه لرفع البلاء عنهم ، ومن جانب ثالث يعدونه بتقبل الهداية.

إنّ موسى رغم كل هذه التعبيرات اللاذعة والمحقرة لم يكفّ عن السعي لهدايتهم مطلقاً ، ولم ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم ، بل استمرّ في طريقه ، ودعا ربّه مرات كي تهدأ عواصف البلاء ، وهدأت ، لكنّهم كما تقول الآية التالية : (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ).

كل هذه دروس حيّة وبليغة للمسلمين ، وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي لا ينثنوا مطلقاً أمام عناد المخالفين وتصلبهم.

وهي أيضاً تحذير للأعداء اللجوجين المعاندين ، بأنّهم ليسوا أقوى من فرعون وآل فرعون ولا أشد ، فلينظروا عاقبة أمر اولئك ، وليتفكروا في عاقبتهم.

(وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦)

إذا كان نبيّاً فلم لا يملك أسورة من ذهب : لقد ترك منطق موسى عليه‌السلام من جهة ، ومعجزاته المختلفة من جهة اخرى ، وزعزعت أفكار الناس واعتقادهم بفرعون.

هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى عليه‌السلام عن التأثير في أفكار شعب مصر ، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول : (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى

٤١٢

مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ).

وبهذا فقد عظّم فرعون القيم المبتدعة السيئة ، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية ، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم يضيف : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).

وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين ـ حكومة مصر ، وملك النيل ـ وذكر لموسى نقطتي ضعف : الفقر ولكنة اللسان.

هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أيّة لكنة في اللسان ، لأنّ الله تعالى قد استجاب دعاءه ، ورفع عنه عقدة لسانه ، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى) (١).

ومن المسلّم أنّ دعاءه قد استجيب ، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً.

ثم تشبث فرعون بذريعتين أخريين ، فقال : (فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلِكَةُ مُقْتَرِنِينَ).

إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية ، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه ، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.

أمّا أنبياء الله فإنّهم بطرحهم هذه المسائل ـ بالذات ـ جانباً كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة ، وأن يزرعوا محلّها القيم الإنسانية الأصيلة ـ أي العلم والتقوى والطهارة ـ لأنّ نظام القيم إذا لم يُصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه السعادة أبداً.

وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة ، وهي : إنّ فرعون لم يكن غافلاً عن واقع الأمر تماماً ، وكان ملتفتاً إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير ، إلّاأنّه : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ).

إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الإستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها ، هي الإبقاء على الناس في مستوى متردٍ من الفكر والثقافة والوعي ، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل ، لأنّ يقظتها ووعيها ، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات ، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة.

والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة : (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) إشارة إلى أنّ

__________________

(١) سورة طه / ٢٧.

٤١٣

هؤلاء القوم الضالين لو لم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة الله عزوجل وحكم العقل ، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات ويصغون إليها.

نعم ، كان هؤلاء قوماً فاسقين يتبعون فاسقاً.

كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول الله موسى عليه‌السلام ، لكنّنا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ والإرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة ، إذ لم يسلموا للحق. تقول الآية : (فَلَمَّاءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ). فقد اختار الله سبحانه لهؤلاء عقوبة الإغراق بالخصوص من بين كل العقوبات ، وذلك لأنّ كل عزّتهم وشوكتهم وافتخارهم وقوّتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة ، والذي كان فرعون يؤكّد عليه من بين كل مصادر قوّته ، إذ قال : (أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى).

نعم ، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوّتهم ، سبب هلاكهم وفنائهم ، ويكون قبراً لهم ليعتبر الآخرون.

«آسفونا» : من مادة «الأسف» ، وهو الحزن والغم ، ويأتي بمعنى الغضب.

والطريف أنّ غضب الله يعني «إرادة العقاب» ، ورضاه يعني «إرادة الثواب».

وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مرّ من كلام : (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلْأَخِرِينَ).

«السلف» : في اللغة يعني كل شيء متقدم ، ولذلك يقال للأجيال السابقة : سلف ، وللأجيال الآتية : خلف ، ويسمّون المعاملات التي تتمّ قبل الشراء «سلفاً» لأنّ ثمن المشتري يدفع من قبل ؛ و «المَثَل» : يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة ، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة ومصيرهم المؤلم عبرة عظمى ، فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٢)

٤١٤

سبب النّزول

في جامع البيان : جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعرض له النضر بن الحارث ، وكلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هؤُلَاءِءَالِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) [أنبياء ٩٨ و ٩٩]. ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل عبدالله بن الزبعري بن قيس بن عدي السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبدالله الزبعري : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد ، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبدالله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمّداً : أكل من عبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله الزبعري (ورأوا أنّه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قول عبدالله بن الزبعري ، فقال) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم كل من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنّما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته» (١).

فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى) ... أنبياء ١٠١ و ١٠٢. أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى ونزل فيما يذكرون أنّهم يعبدون الملائكة وأنّها بنات الله (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا ...) أنبياء ٢٦ ـ ٢٩ والآيات بعدها. ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) ... الزخرف ٥٧ و ٥٨ (٢).

التّفسير

أي الآلهة في جهنم : تتحدث هذه الآيات حول مقام عبودية المسيح عليه‌السلام ، ونفي مقولة المشركين بالوهيته والوهية الأصنام ، وهي تكملة للبحوث التي مرت في الآيات السابقة حول دعوة موسى ومحاربته للوثنية الفرعونية ، وتحذير لمشركي عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكل مشركي العالم. تقول الآية الاولى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (٣).

__________________

(١) جامع البيان ١٧ / ١٢٧.

(٢) البداية والنهاية ٣ / ١١٠.

(٣) «يصدّون» : من مادة «صد» ، تعني الضحك والصراخ ، وإحداث الضجيج والغوغاء ، حيث يضعون يداً بيد عند السخرية والإستهزاء عادة. (يراجع لسان العرب ، مادة : صدد).

٤١٥

إنّ المثل كان من جانب المشركين ، وضرب فيما يتعلق بالأصنام ، لأنّا نقرأ في الآيات التالية : (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً).

إنّ المشركين قالوا أنّ عيسى بن مريم قد كان معبوداً ، فينبغي أن يكون في جهنم بحكم هذه الآية ، وأي شيء أفضل من أن نكون نحن وأصنامنا مع عيسى؟! قالوا ذلك وضحكوا واستهزؤوا وسخروا.

ثم استمرّوا : (وَقَالُواءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ). فإذا كان من أصحاب الجحيم ، فإنّ آلهتنا ليست بأفضل منه ولا أسمى.

ولكن ، اعلم أنّ هؤلاء يعلمون الحقيقة ، و (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ).

بل : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنهُ مَثَلاً لّبَنِى إِسْرَاءِيلَ).

لقد كان عيسى مقرّاً طوال حياته بالعبودية لله ، ودعا الجميع إلى عبوديته سبحانه ، ولمّا كان موجوداً في امته لم يسمح لأحد بالانحراف عن مسير التوحيد ، ولكن المسيحيين أوجدوا خرافة ألوهية المسيح ، أو التثليث ، بعده.

ولئلا يتوهموا أنّ الله سبحانه محتاج لعبوديتهم ، وأنّه يصر عليها ، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية : (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلِكَةً فِى الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ). ملائكة تخضع لأوامر الله ، ولا تعرف عملاً إلّاطاعته وعبادته.

والآية التالية تشير إلى خصيصة اخرى من خصائص المسيح عليه‌السلام وتقول : إنّ عيسى سبب العلم بالساعة (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ). إمّا أنّ ولادته من غير أب دليل على قدرة الله اللامتناهية ، فتحل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت ، أو من جهة نزول المسيح عليه‌السلام من السماء في آخر الزمان طبقاً لروايات عديدة ، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.

ثم تقول الآية بعد ذلك : إنّ قيام الساعة حتم ، ووقوعها قريب : (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) لا من حيث الإعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.

(وَاتَّبِعُونَ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم ، ويحذركم منه ، ويدلكم على طريق النجاة من أخطار يوم البعث؟!

إلّا أنّ الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والإرتباط بها ، فاحذروا : (وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).

لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل ، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم ـ آدم وحواء ـ

٤١٦

وإخراجهما من الجنة ، واخرى عندما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم ، إلّاالمخلَصين منهم.

(وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٦٥)

مرّت الإشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيح عليه‌السلام في الآيات السابقة ، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث. تقول الآية أوّلاً : (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ).

إنّ «الحكمة» اطلقت على كل العقائد الحقة ، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإنسان من أنواع الانحراف في العقيدة والعمل ، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه ، وعلى هذا فإنّ للحكمة هنا معنى واسعاً يشمل «الحكمة العلمية» و «الحكمة العملية».

ولهذه الحكمة ـ إضافة إلى ما مرّ ـ هدف آخر ، وهو رفع الاختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع ، وتجعل الناس حيارى مضطربين ، ولهذا السبب نرى المسيح عليه‌السلام يؤكّد على هذه المسألة.

وتضيف الآية في النهاية : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

بعد ذلك ، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإبهام في مسألة عبوديته ، تقول الآية : (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ).

وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر ، فهو مالكي ودليلي.

وللتأكيد أكثر يضيف : (فَاعْبُدُوهُ). إذ لا يستحق العبادة غيره ، ولا تليق إلّابه ، فهو الرب والكل مربوبون ، وهو المالك والكل مملوكون.

ثم يؤكّد كلامه بجملة اخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة ، فيقول : (هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ).

نعم ، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه ... ذلك الطريق الذي لا انحراف فيه ولا إعوجاج.

٤١٧

لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ).

فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض.

وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.

وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس).

وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبدالله ورسوله ، غير أنّ عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت ، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.

وهددهم الله سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم ، فقال : (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ).

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) (٦٩)

ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة : كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين ، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في امّة عيسى عليه‌السلام ، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم. يقول تعالى : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).

في الدرّ المنثور قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تقوم الساعة والرجلان يحلبان اللقحة ، والرجلان يطويان الثوب». ثم قرأ : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ).

ثم رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضاً ، ويسيرون معاً في طريق المعصية والفساد ، والإغترار بزخارف الدنيا ، فتقول : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (١).

__________________

(١) «الأخلاء» : جمع «خليل» ـ من مادة خلة ـ بمعنى المودّة والمحبّة ، وأصلها من الخلل أي الفاصلة بين جسمين ، ولما كانت المحبّة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه ، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.

٤١٨

إنّ تبدل مثل هذه المودّة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي ، لأنّ كلاً منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته.

أمّا المتقين تبقى روابط أخوتهم ، وأواصر مودّتهم خالدة ، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة ، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر ، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.

والآية التالية تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم ، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والإعتزاز في ذلك اليوم العصيب. يقول لهم الله تعالى : (يَا عِبَادِ لَاخَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ).

كم هو جميل هذا النداء! نداء مباشر من الله سبحانه من دون واسطة توصله ... نداء يبدأ بأحسن الصفات : يا عبادي! نداء يزيل قلق الإنسان في يوم ليس فيه إلّاالقلق والاضطراب ... نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه ، وينقيه ... نعم ، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.

وتبيّن آخر آية ـ من هذه الآيات ـ هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحاً ، بذكر جملتين اخريين ، فتقول : (الَّذِينَءَامَنُوا بَايَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ).

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) (٧٣)

فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين : تبيّن هذه الآيات جزاء عباد الله المخلصين ، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة ، وتبشرهم بالجنة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية. تقول أوّلاً : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ). وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو الله تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم : ادخلوا الجنة.

ثم أشارت إلى أوّل نعمة من تلك النعم ، فقالت : (أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ). ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معاً اللذة والسرور ، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا ، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.

٤١٩

ثم تضيف : (تُحْبَرُونَ).

«تحبرون» : من مادة «حِبْر» أي الأثر المطلوب ، وتطلق أحياناً على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه.

وتقول في بيان النعمة الثالثة : (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ). فهم يضافون ويخدمون بأفضل الأواني ، وألذّ الأطعمة ، في منتهى الهدوء والإطمئنان والصفاء.

«الصحاف» : جمع «صحفة» ، وهي في الأصل من مادة «صحف» ، أي التوسع ، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب ، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.

وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين اخريين جمعت فيهما كل نعم العالم المادية والمعنوية ، فتقول : (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).

وعلى قول الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان : وقد جمع الله سبحانه بقوله (مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم ، لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان.

ولما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة ، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عندما ذكرت الصفة السادسة فقالت : (وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). لئلّا يكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم ، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.

وهنا ، من أجل أن يتّضح أنّ كل نعم الجنة هذه تعطى جزاءً لا اعتباطاً وعبثاً ، تضيف الآية : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

أي أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم ، إلّاأنّ ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشيء المجاني المعطى من قبل الله تعالى ، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.

والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنة التي هي من أفضل نعم الله ، فتقول الآية : (لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ).

وجاء في الحديث : «لا ينزع رجل في الجنة ثمرة من ثمرها إلّانبت مثلاها مكانها» (١).

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ / ٣٩٢.

٤٢٠