مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-051-3
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩٢

يمكن أن يكون ذلك الغمّ نتيجة إستهزاء قومه الكافرين المغرورين به ، وتجريحهم إيّاه بكلمات نابية وساخرة تستهدف إهانته وأتباعه المؤمنين ، أو نتيجة تكذيب قومه اللجوجين إيّاه.

ويضيف القرآن الكريم : (وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ).

وإضافةً إلى ذلك يقول القرآن : أنّنا جعلنا لنوح ثناءً وذكراً جميلاً في الأجيال والامم اللاحقة : (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ).

فقد وصفه القرآن المجيد بالنبي المقاوم والشجاع والصبور والرحيم والعطوف ، وأطلق عليه لقب شيخ الأنبياء.

فبعد تحمّله كافّة الصعاب والآلام ، منحه الله سبحانه وتعالى وساماً خالداً يفتخر به في العالمين (سَلمٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ).

ولكي تكون خصوصيات نوح عليه‌السلام مصدر إشعاع للآخرين ، أضاف القرآن الكريم : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ). و (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

إنّ درجة عبودية نوح لله وإيمانه به ـ إضافةً إلى إحسانه وعمله الصالح الذي ذكرته الآيتان الأخيرتان ـ كانت السبب الرئيسي وراء اللطف الإلهي الذي شمل نوحاً وأنقذه من الغمّ الكبير ، وبعث إليه بالسلام ، السلام الذي يمكن أن يشمل كل من عمل بما عمل به نوح ، لأنّ معايير الألطاف الإلهية لا تتخلّف ، ولا تختّص بشخص دون آخر.

أمّا الآية الأخيرة في بحثنا فقد وضّحت بعبارة شديدة اللهجة مصير تلك الامّة الظالمة الشريرة الحاقدة : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْأَخَرِينَ).

إذ إنهمر المطر سيلاً من السماء ، وتفجّرت الأرض عيوناً ، وغطّت المياه اليابسة كبحر هائج دكّ بأمواجه المتلاطمة الشامخة عروش الطغاة ودمّرها ، لافظاً إيّاهم بعدئذ أجساداً هامدة لا حياة فيها ولا روح.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا ذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) (٩٤)

٢٠١

خطّة إبراهيم الذكية في تحطيم الأصنام : آيات بحثنا هذا تتناول بشيء من التفصيل حياة النبي الشجاع إبراهيم عليه‌السلام محطّم الأصنام بعد آيات إستعرضت جوانب من تاريخ نوح عليه‌السلام المليء بالحوادث. الآية الاولى ربطت بين قصة إبراهيم وقصة نوح بهذه الصورة : (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرهِيمَ). أي : إنّ إبراهيم كان سائراً على خطى نوح عليه‌السلام في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص ، وكل واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل. قال تعالى : (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

في الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه».

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة ، حيث نقرأ في سورة الشعراء ، وفي الآيات (٨٨ و ٨٩) على لسان النبي الكبير إبراهيم عليه‌السلام قوله تعالى : (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

نعم ، من هنا تبدأ قصة إبراهيم ذي القلب السليم ، والروح الطاهرة ، والإرادة الصلبة ، والعزم الراسخ ، مع قومه ، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عبّاد الأصنام ، وبدأ بأبيه وعشيرته : (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ). ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟

أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات ، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟

ثم يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام ، ويقول : (أَئِفْكًاءَالِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ).

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة : (فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ). إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّاً ، ونعمه تحيط بكم من كل جانب ، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون الله.

وجاء في كتب التاريخ والتّفسير ، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنوياً ، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم ، ثم يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه ، ثم يخرجون جميعاً إلى خارج المدينة ، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.

وحين دعاه قومه ليلاً للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ).

(فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ). وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.

٢٠٢

بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم ، (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ).

إنّ أهل بابل كانوا يستقرئون النجوم ، وبالطبع كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم ، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم ، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة ، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيم عليه‌السلام بأنّه يقول بمثل قولهم ، نظر إلى السماء وقال حينذاك : إنّي سقيم ، فتركوه ظنّاً منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

ولكن روحه متعبة من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم ، رغم أنّهم تصوّروا شيئاً آخر ، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.

وبهذه الطريقة بقي إبراهيم عليه‌السلام وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجّهين إلى خارجها ، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه ، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها ، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها ، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام ، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد ، ثم نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئاً ، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم عبدتكم ، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوع ، ما لكم لا تأكلون؟ (فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) (١).

ثم أضاف : لِم لا تتكلّمون؟ لِم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ (مَا لَكُمْ لَاتَنطِقُونَ).

بعد ذلك شمر عن ساعديه ، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكل ما لديه من قوّة : (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ).

إنّ إنقضاض إبراهيم عليه‌السلام على الأصنام ، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة.

وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم ، واتّجهوا فوراً إلى معبدهم ، فشاهدوا مشهداً رهيباً وغامضاً.

ثم تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد ، تحوّل إلى صراخ وإستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟

ولم يمرّ وقت طويل ، حتى تذكّروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم إسمه إبراهيم ، كان يستهزىء بأصنامهم (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ).

__________________

(١) «راغ» : من مادة «روغ» وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.

٢٠٣

«يزفّون» : مشتقة من «زفّ» وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران ، ثم تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.

(قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠٠)

فشل مخطّطات المشركين : بعد أن حطّم إبراهيم الأصنام ، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة ، وقد شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصلة ، بينما اكتفى القرآن في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حساس واحد من مواقف إبراهيم عليه‌السلام وهو آخر كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام : (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ).

فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئاً من صنع يديه؟

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان ، وليس صنيعة يده ، من الآن فكّروا واعرفوا معبودكم الحقيقي : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).

فهو خالق الأرض والسماء ، ومالك الوقت والزمان ، ويجب السجود لهذا الخالق وحمده وعبادته.

إنّ هذه الحجّة كانت من الوضوح والقوّة إلى حد جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين وغير قادرين على ردّهاودحضها.

ومن المعروف أنّ الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل.

ولإيقاف إنتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل ، عمد الطغاة الذين أحسّوا بخطر إنتشاره على مصالحهم الخاصة إلى استخدام منطق القوّة والنار ضد إبراهيم عليه‌السلام ، حيث هتفوا بالإعتماد على قدراتهم الدنيوية : أن ابنوا له بنياناً عالياً ، واشعلوا في وسطه النيران ثم ارموه فيه : (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ).

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة ، ومن ثم إشعال النيران في داخلها ، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة ، إنّما تمّ ـ كما يحتمل ـ للحؤول دون إمتداد النيران إلى خارجها ، ومنع وقوع أخطار محتملة قد تنجم عنها ، ولإيجاد جهنم واقعية

٢٠٤

كتلك التي كان إبراهيم يتهدّد ويتوعّد عبدة الأوثان بها.

«الجحيم» : في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على بعض.

وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى تفاصيل هذا الحادث الذي ورد في سورة الأنبياء ، وإنّما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركّزة ولطيفة : (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ).

«كيد» : في الأصل تعني الإحتيال ، أكان بطريقة صحيحة أم خطأ ، مع أنّها غالباً ما تستعمل في موارد مذمومة ، وهي إشارة إلى المخطّط الواسع الذي وضعه طغاة بابل للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.

إبراهيم عليه‌السلام الذي نجا بإرادة الله من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة التي رسمها أعداؤه له ، صمّم على الهجرة إلى أرض بلاد الشام ، إذ إنّ رسالته في بابل قد إنتهت ؛ (وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ).

من البديهي أنّ الله لا يحويه مكان ، والهجرة التي تتمّ في سبيله من المجتمع الملوّث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي ، فإنّها هجرة إلى الله.

الآيات ـ هنا ـ عكست أوّل طلب لإبراهيم عليه‌السلام من الباريء عزوجل ، إذ طلب الولد الصالح ، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّه الرسالي ، ويتمم ما تبقّى من مسيرته ، وذلك حينما قال : (رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ).

فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم ، ورزقه أولاداً صالحين (إسماعيل وإسحاق).

(فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١١٠)

بحثنا في الآيات السابقة إنتهى عند هجرة إبراهيم عليه‌السلام من بابل بعد أن أدّى رسالته هناك ، وطلبه من الله أن يرزقه ولداً صالحاً ، إذ لم يكن له ولد ، وأوّل آية في هذا البحث تتحدث عن الإستجابة لدعاء إبراهيم ، إذ قالت الآية : (فَبَشَّرْنهُ بِغُلمٍ حَلِيمٍ).

٢٠٥

في الواقع إنّ ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية ، الاولى أنّه سيرزق طفلاً ذكراً ، والثانية أنّ هذا الطفل يبلغ سنّ الفتوّة ، أمّا الثالثة فهي أنّ صفته حليم.

أخيراً ، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهية ، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال ، إجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى غلاماً ، وهنا يقول القرآن : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ). يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف امور الحياة وإعانته على اموره.

فقد ذهب جمع من المفسرين : إنّ عمر إسماعيل كان (١٣) عاماً حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحيّر ، والذي يدلّ على بدء امتحان عسير آخر لهذا النبي ذي الشأن العظيم ، إذ رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح إبنه الوحيد وقطع رأسه.

امتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن ، إبراهيم الذي نجح في كافّة الإمتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس ، ولكن قبل كل شيء ، فكّر إبراهيم عليه‌السلام في إعداد إبنه لهذا الأمر ، حيث (قَالَ يَا بُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى).

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده ، والذي تعلّم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده ، رحّب بالأمر الإلهي بصدر واسع وطيبة نفس ، وبصراحة واضحة قال لوالده : (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ).

ولا تفكّر في أمري ، فإنّك (سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

فما أعظم كلمات الأب والإبن وكم تخفي في بواطنها ؛ فمن جهة ، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (١٣) عاماً بقضية الذبح ، حيث جعله هنا شخصية مستقلّة حرّة الإرادة.

ومن جهة اخرى ، عمد الإبن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به.

وبهذا الشكل يجتاز الأب وإبنه المرحلة الاولى من هذا الإمتحان الصعب بإنتصار كامل.

كتب البعض : إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي ، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته.

يا أبت ، أحكم شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي ، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّداً ، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلاً بالنسبة لي ولك.

٢٠٦

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم ، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

ثم أضاف : أوصل سلامي إلى والدتي ، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّىء من آلامها.

قربت اللحظات الحسّاسة ، فعندما رأى إبراهيم عليه‌السلام درجة إستسلام ولده للأمر الإلهي إحتضنه وقبّل وجهه ، وفي هذه اللحظة بكى الإثنان.

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني ، فيقول تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١).

كبّ إبراهيم عليه‌السلام إبنه على جبينه ، ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبة إبنه ، وروحه تعيش حالة الهيجان ، إلّاأنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة.

وهنا غرق إبراهيم في حيرته ، ومرّر السكّين مرّة اخرى على رقبة ولده ، ولكنّها لم تؤثّر بشيء كالمرّة السابقة. نعم ، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين : إذبحي ، لكن الله الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي ، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباريء عزوجل.

وهنا ينهي القرآن كل حالات الإنتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة : (وَنَادَيْنهُ أَنْ يَا إِبْرهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ).

ثم يضيف القرآن الكريم : (إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلؤُا الْمُبِينُ).

عملية ذبح الإبن البارّ المطيع على يد أبيه ، لا تعدّ عملية سهلة وبسيطة بالنسبة لأب إنتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الإبن.

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله ، إذ استقبل أمر الذبح بصدر مفتوح وإطمئنان يحفّه اللطف الإلهي ، وإستسلام في مقابل هذا الأمر.

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصاً ، وتتحقق امنية إبراهيم في تقديم القربان لله ، بعث الله كبشاً كبيراً إلى إبراهيم ليذبحه بدلاً عن إبنه إسماعيل ، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض (منى) : (وَفَدَيْنهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

__________________

(١) «تلّه» : من مادة «تلّ» وتعني في الأصل المكان المرتفع ؛ و (تلّه للجبين) تعني أنّه وضع أحد جوانب وجه إبنه على مكان مرتفع من الأرض.

٢٠٧

وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح ، هو إتّساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن ، وحالياً يذبح في كل عام أكثر من مليون اضحية تيمّناً بذلك الذبح العظيم وإحياءاً لذلك العمل العظيم.

النجاح الذي حقّقه إبراهيم عليه‌السلام في الإمتحان الصعب ، لم يمدحه الله فقط ذلك اليوم ، وإنّما جعله خالداً على مدى الأجيال : (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ).

ولما إمتاز به إبراهيم عليه‌السلام من صفات حميدة ، خصّه الباريء عزوجل بالسلام : (سَلمٌ عَلَى إِبْرهِيمَ).

نعم ، إنّا كذلك نجزي ونثيب المحسنين : (كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ). جزاء يعادل عظمة الدنيا ، جزاء خالد على مدى الزمان ، جزاء يجعل من إبراهيم أهلاً لسلام الله عزوجل عليه.

من هو ذبيح الله؟ ظاهر آيات القرآن الكريم المختلفة تؤكّد على أنّ إسماعيل هو ذبيح الله.

وجاء في روايات عن الإمامين المعصومين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، أنّهما أجابا على أسئلة تستفسر عن الذبيح ، فأجابا أنّه إسماعيل.

(إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (١١٣)

إبراهيم ذلك العبد المؤمن : الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصة إبراهيم وإبنه وتكملها. في البداية تصف الآية القرآنية إبراهيم : (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل ، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كل وجوده وكيانه وحتى إبنه العزيز البارّ ، في صحن الإخلاص فداءً لربّه سبحانه وتعالى.

ثم تتناول هذه الآيات نعمة اخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم : (وَبَشَّرْنهُ بِإِسْحقَ نَبِيًّا مّنَ الصَّالِحِينَ).

الآية الأخيرة تتحدث عن البركة التي أنزلها الباريء جلّ وعلا على إبراهيم وإبنه إسحاق : (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحقَ).

«بركة» : مشتقة من «برك» على وزن (درك) وتعني صدر البعير ، وتدريجياً أعطت هذه

٢٠٨

الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما ؛ والآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهية على إبراهيم وإسحاق وعلى اسرتهم.

وهذه البركات لا تشمل كل أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته ، وإنّما تشمل ـ فقط ـ المؤمنين والمحسنين منهم ، إذ تقول الآية في آخرها : (وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ).

«محسن» : جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله ؛ و «ظالم» : جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب. فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء ، وتقول لهم : إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للإفتخار ، إن لم ترافقها صلة في الفكر والالتزام بالرسالة.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٢)

النعم التي منّ بها الله على موسى وهارون : الآيات المباركة هذه تشير إلى جوانب من النعم الإلهية التي أغدقها الله جلّ شأنه على موسى وأخيه هارون.

الآية الاولى تشير إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهرُونَ).

«المنّة» : في الأصل من «المنّ» ويعني الحجر الذي يستعمل للوزن ، ثم أطلق على النعم الكبيرة والثقيلة ، فلو كانت لها جنبة عملية وموضوعية فالمنّة جميلة ومحمودة ، ولو إقتصرت على اللفظ والكلام فهي سلبية ومذمومة.

إنّ الله سبحانه وتعالى أنعم على الأخوين موسى وهارون بنعمة عظيمة. أمّا الآيات التي تلتها فتشرح سبعة من هذه النعم ، وكل واحدة منها أفضل من اختها. ففي المرحلة الاولى ، يقول سبحانه وتعالى : (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

فهل هناك قلق أكثر من هذا ، وهو أنّ بني إسرائيل يعيشون في قبضة الفراعنة المتجبّرين

٢٠٩

الطغاة؟ يذبحون أولادهم ويسخّرون نساءهم في خدمتهم ، ويستعبدون رجالهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقّة.

وفي المرحلة الثانية ، قال الباريء عزوجل : (وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ).

ففي ذلك اليوم كان جيش الفراعنة ذا قوّة عظيمة ويتقدّمه الطاغية فرعون ، فيما كان بنو إسرائيل قوم ضعفاء وعاجزين يفتقدون لرجال الحرب وللسلاح أيضاً ، إلّاأنّ المدد الإلهي وصلهم في تلك اللحظات ، وأغرق فرعون وجيشه وسط أمواج البحر ، وأورث بني إسرائيل قصور وثروات وحدائق وكنوز الفراعنة.

وفي المرحلة الثالثة من مراحل إغداق النعم على بني إسرائيل وشمولهم بعنايته ، جاء في محكم كتابه العزيز : (وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ).

نعم (التوراة) هو كتاب مستبين ، أي يوضّح لهم المجهولات المبهمة ، ويجيبهم على كل ما يحتاجونه في دينهم ودنياهم ، كما أكّدت الآية (٤٤) من سورة المائدة ذلك : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَيةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ).

وفي المرحلة الرّابعة أشار القرآن الكريم إلى نعمة معنوية اخرى منّ بها جلّ شأنه على موسى وهارون ، وهي هدايتهما إلى الصراط المستقيم ، (وَهَدَيْنَاهُمَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).

أمّا (المرحلة الخامسة) فإنّها أكّدت على استمرار رسالتهما والثناء الجميل عليهما ، إذ تقول الآية : (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الْأَخِرِينَ).

والمرحلة السادسة تستعرض التحيّة الطيّبة المباركة التي وردت إلى كل من موسى وهارون من عند الله : (سَلمٌ عَلَى مُوسَى وَهرُونَ).

سلام من عند الله ، السلام الذي هو رمز لسلامة الدين والإيمان والرسالة والمذهب ، السلام الذي يوضّح النجاة والأمن من العقاب والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وفي المرحلة السابعة ـ الأخيرة ـ نصل إلى مرحلة الثواب والمكافأة الكبرى التي يقدّمها الباريء عزوجل إليهما : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ).

نعم إنّ حصولهما على كل هذه المفاخر لم يكن من دون دليل أو سبب ، إذ كانا من المحسنين والمؤمنين والمخلصين والطيّبين ، فمثل هؤلاء جديرون بالثواب والمكافأة.

الآية الأخيرة في بحثنا تشير إلى نفس الدليل الذي ورد في قصة نوح وإبراهيم من قبل : (إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

٢١٠

فالإيمان هو الذي ينير روح الإنسان ويعطيه القوّة ، ويدفعه إلى الطهارة والتقوى وعمل الإحسان والخير.

(وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٣٢)

النبي إلياس ومواجهته للمشركين : القصة الرابعة في هذه السورة إستعرضت بصورة مختصرة حياة نبي الله (إلياس). يقول تعالى : (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

ثم تبدأ الآيات بالتفصيل بعد الإجمال وتقول : واذكر عندما أنذر قومه (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ). أي : اتّقوا الله واجتنبوا الشرك وعبادة الأصنام وإرتكاب الذنوب والمظالم ، وكل ما يؤدّي بالإنسان إلى الباطل والفساد.

أمّا الآية التي تلتها فقد تحدّثت بصراحة أكثر : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ).

قيل : (بعل) إسم صنم وكان من ذهب وطوله عشرون ذراعاً وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن (١).

فقد عمد إلياس إلى توبيخ قومه بشدّة ، وقال لهم : (اللهُ رَبَّكُمْ وَرَبَّءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ).

وإستخدام كلمة (ربّ) هنا أفضل منبّه للعقل والفكر ، لأنّ أهمّ قضية في حياة الإنسان هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربّيه وولي نعمته اليوم؟

إلّا أنّ قومه اللجوجين والمتكبّرين لم يعطوا اذناً صاغية لنصائحه ومواعظه ، ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم ، وإنّما كذّبوه (فَكَذَّبُوهُ).

ومقابل تصرّفاتهم هذه توعّدهم الله سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء فيها : إنّنا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذّبهم في جهنم (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.

__________________

(١) روح المعاني ٢٣ / ١٣٩.

٢١١

ولكن يبدو أنّ هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما جاء به إلياس ، ولكي لا يضيع حق هؤلاء ، قال تعالى مباشرةً بعد تلك الآية : (إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

الآيات الأخيرة من بحثنا إستعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحقّ الأنبياء الماضين (نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وهارون) ولأهميّتها نستعرضها مرّة اخرى.

قوله تعالى : (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ). أي : إنّ الامم القادمة سوف لن تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خطّ التوحيد.

وفي المرحلة الثانية أثنى الله سبحانه وتعالى وبعث بتحيّاته إلى آل ياسين. قال تعالى : (سَلمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ).

وفي المرحلة الثالثة ، قال تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ).

أمّا المرحلة الرابعة فتطرح الإيمان كأمر أساسي يجب أن يتوفّر في الأنبياء الذين إستعرضتهم هذه السورة المباركة فتقول الآية هنا : (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

«الإيمان» و «العبودية» لله هما مصدر الإحسان ، والإحسان يؤدّي إلى إنضمام المحسن لصفوف المخلصين الذين يشملهم سلام الله.

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١٣٨)

تدمير قوم لوط : «لوط» هو خامس نبي يذكر اسمه في هذه السورة ضمن تسلسل الآيات التي تحدّثت بصورة مختصرة عن تأريخه لإستمداد العبر منه.

وطبقاً لما جاء في آيات القرآن بشأن لوط ، يتّضح أنّه كان معاصراً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأنّه من أنبياء الله العظام.

بحثنا يبدأ بقوله تعالى : (وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

ثم يبيّن جوانب من قصة لوط ، حيث قال : تذكر تلك الفترة الزمنية التي أنقذنا فيها لوطاً وأهله : (إِذْ نَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ).

عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب : (إِلَّا عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ).

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأَخَرِينَ).

الجمل القصيرة ـ التي وردت أعلاه ـ تشير إلى تأريخ قوم لوط المليء بالحوادث ، والتي

٢١٢

ورد شرحها في سور (هود) و (الشعراء) و (العنكبوت).

وباعتبار أنّ هذه الآيات كانت مقدّمة لإيقاظ الغافلين والمغرورين ، فقد أضاف القرآن الكريم : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ). أي : إنّكم تمرّون في كل صباح بجانب ديارهم الخربة من جرّاء العذاب.

كما تمرّون من هناك في الليل أفلا تعقلون؟ (وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

هذه الآيات تخاطب قوافل أهل الحجاز التي كانت تذهب ليلاً ونهاراً إلى بلاد الشام عبر مدن قوم لوط ، وتقول : لو كان لهم آذان حيّة لسمعوا الصراخ المذهل والعويل المفزع لهؤلاء القوم المعذّبين. نعم ، إنّه درس ما أكثر العبر فيه ، ولكن المعتبرين منه قليل.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (١٤٨)

يونس في بوتقة الإمتحان : الحديث هنا عن قصة نبي الله «يونس» عليه‌السلام وقومه التائبين ، والتي هي سادس وآخر قصة تتناول قصص الأنبياء والامم السابقة.

في البداية ، وكما تعوّدنا في القصص السابقة ، فإنّ الحديث يكون عن مقام رسالته ، إذ تقول الآية : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

نبي الله «يونس» عليه‌السلام كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد الله ومجاهدة عبدة الأصنام ، ومن ثم محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك ، إلّاأنّ قومه المتعصّبين الذين كانوا يقلّدون أجدادهم الأوائل رفضوا الإستجابة لدعوته ، عدا مجموعة قليلة منهم ، يحتمل أن لا تتعدّى الشخصين (أحدهما يسمّى بالعابد والثاني بالعالم) آمنت برسالته.

وبعد فترة طويلة من دعوته إيّاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام ، يئس يونس من هدايتهم.

٢١٣

وبالفعل فقد دعا عليهم ، فنزل عليه الوحي وحدّد له وقت حلول العذاب الإلهي بهم ، ومع حلول موعد نزول العذاب ، رحل يونس ـ بمعيّة الرجل العابد ـ عن قومه وهو غاضب عليهم ، ووصل إلى ساحل البحر ، وشاهد سفينة عند الساحل غاصّة بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود إليها.

وهذا ما أشارت إليه الآية التالية ، حيث قالت : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).

«أبق» : مشتقة من «إباق» والتي تعني فرار العبد من سيّده ، إنّها لعبارة عجيبة ، إذ تبيّن أنّ ترك العمل بالأولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند الله ، مهما كان بسيطاً فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباريء عزوجل موقفاً معاتباً ومؤنّباً للأنبياء ، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه.

ومن دون أي شك فإنّ نبي الله يونس عليه‌السلام ، معصوم عن الخطأ ، ولكن كان الأجدر به أن يتحمّل آلاماً اخرى من قومه ، وأن يبقى معه حتى اللحظات الأخيرة قبل نزول العذاب ، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى.

ووفق ما ورد في الروايات ، فقد صعد يونس عليه‌السلام إلى السفينة ، ثم إنّ حوتاً ضخماً وقف أمام السفينة ، فاتحاً فمه وكأنّه يطلب الطعام ، فقال ركّاب السفينة أنّ هناك شخصاً مذنباً معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت ، ولم يجدوا سبيلاً سوى الإقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت ، وعندما إقترعوا خرج اسم يونس.

وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة ، قال تعالى : (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).

«ساهم» : من مادة «سهم» وتعني إشتراكه في الإقتراع ، فالإقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي ، كتبوا اسم كل راكب على (سهم) ثم خلطوا الأسهم وسحبوا سهماً واحداً ، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونس عليه‌السلام.

«مدحض» : مشتقة من «دَحْض» وتعني إبطال مفعول الشيء أو إزالته أو التغلّب عليه ؛ والمراد هنا أنّ إسمه ظهر في عملية الإقتراع من بين بقية الأسماء.

وقال القرآن الكريم : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ). أي إنّ حوتاً عظيماً التقمه وهو مستحق للملامة.

«التقم» : مشتقة من «الإلتقام» وتعني (البلع).

٢١٤

«مليم» : من مادة «لوم» وتعني التوبيخ والعتب.

ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب إرتكابه ذنباً كبيراً أو صغيراً وإنّما بسبب تركه العمل بالأولى ، وإستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.

في تفسير الدرّ المنثور : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لما» أراد الله حبس يونس عليه‌السلام في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت : أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً.

يونس عليه‌السلام إنتبه بسرعة للحادث ، وتوجّه على الفور إلى الله سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفراً الله على تركه العمل بالأولى ، وطالباً العفو منه.

ونقلت الآية (٨٧) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونس عليه‌السلام بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية. قال تعالى : (فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَّاإِلهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

إعتراف يونس الخالص بالظلم ، وتسبيحه الله المرافق للندم أدّى مفعوله ، إذ إستجاب الله له وأنقذه من الغم ، كما جاء في الآية (٨٨) من سورة الأنبياء : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذلِكَ نُنْجِى الْمُؤْمِنِينَ).

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونس عليه‌السلام. قال تعالى : (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

أي لو لم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتى يوم القيامة ، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم ، ومن ثم تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.

ويضيف القرآن ، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتات ، وهو مريض : (فَنَبَذْنهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ).

فالحوت الضخم لفظ يونس ـ الذي لم يكن غذاءً صالحاً لذلك الحوت ـ على ساحل خالٍ من الزرع والنبات ، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثّر على سلامة وصحّة جسم يونس ، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

كانت حرارة الشمس تؤذيه ، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول ، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة : (وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ).

«اليقطين» : تعني كل نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة ، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار

٢١٥

وما يشابهها ؛ و «الشجرة» : تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان. وبعبارة اخرى : تشمل كل الأشجار والنباتات.

فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان ، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي ، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم ، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجوداً في المدينة ، واتّخاذه قائداً لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وجلسوا يبكون ، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس.

وهنا أزاح الله عنهم سُحُب العذاب وأنزلها على الجبال ، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله.

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ولكن ما إن عاد إلى قومه حتى فوجىء بأمر أثار عنده الدهشة والعجب ، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام ، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه.

القرآن يقول هنا : (وَأَرْسَلْنهُ إِلَى مِائَةِ الْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ). كانوا قد آمنوا بالله ، واغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة ، (فَامَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتعون بإيمان بسيط ، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم ، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس ، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

دروس كبيره في قصة يونس عليه‌السلام : من هذه القصة يمكن إستخلاص الدروس التربوية ومن جملتها :

أ) هذه القصة توضّح كيف أنّ قوماً مذنبين مستحقين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التاريخية ، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهية ، وإنقاذ أنفسهم من العذاب.

ب) هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية ، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في اختيار الإنسان ، وتوجد حالة من العمران والبناء ، وتطيل الأعمار.

ج) أخيراً فإنّ مجريات هذه القصة تستعرض قدرة الباريء عزوجل العظيمة التي لا

٢١٦

يقف أمامها شيء ولا يصعب عليها شيء ، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي ، وإخراجه سالماً من هناك.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (١٥٠) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٠)

التهم القبيحة : بعد إستعراض ستّ قصص من قصص الأنبياء السابقين ، يغيّر القرآن موضوع الحديث ، ويتناول موضوعاً آخر يرتبط بمشركي مكة آنذاك.

إنّ مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحية تفكيرهم كانوا يقيسون الله عزوجل بأنفسهم ، ويقولون : إنّ لله عزوجل أولاداً ، وأحياناً يقولون : إنّ له زوجة.

في البداية يقول : اسألهم هل أنّ الله تعالى خصّ نفسه بالبنات ، وخصّهم بالبنين ، (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ).

وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى الله ، حيث إنّهم طبق عقائدهم الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدة ويحبّون الأولاد كثيراً.

فإنّ الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية ، ومن حيث التقييم عند الله سبحانه وتعالى متساوون ، وميزان شخصيتهم هو التقوى والطهارة.

ثم ينتقل الحديث إلى عرض دليل حسّي على المسألة هذه ، وبشكل إستفهام إستنكاري ، قال تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ).

ومن دون أي شك فإنّ جوابهم في هذا المجال سلبي ، إذ لم يستطع أحداً منهم الإدّعاء بأنّه كان موجوداً أثناء خلق الملائكة.

مرّة اخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلّماتهم الذهنية ويقول : (أَلَا إِنَّهُم مّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ).

هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون : (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

٢١٧

ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟ (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

إذن أنّ هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أنّ أي إنسان له ذرّة من عقل ودراية ، ويتفكّر في الأمر جيّداً ، لأدرك بطلان هذه المزاعم.

بعد إثبات بطلان إدّعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي ، ننتقل إلى الدليل الثالث وهو الدليل النقلي ، حيث يقول القرآن الكريم مخاطباً إيّاهم : لو كان ما تزعمونه صحيحاً لذكرته الكتب السابقة ، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه ، (أَمْ لَكُمْ سُلْطنٌ مُّبِينٌ).

وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب : (فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

هذا القول يشبه بقيّة الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام : (وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْءَاتَيْنهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) (١).

الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اخرى من خرافات مشركي العرب ، والتي تزعم بوجود نسبة بين الله عزوجل والجن ، فالآية هنا تخاطبهم بضمير الغائب ، لأنّهم اناس تافهون ، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ نَسَبًا).

والمراد من كلمة (نسب) كل أشكال الرابطة والعلاقة ، حتى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها ، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنّها شركاء لله ، ولهذا كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين الله. فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدة ، ويقول : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ).

ونزّه الله تعالى نفسه عمّا قاله اولئك الضالون في صفاته تعالى ، قائلاً : (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ). وإستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدّسة. قال تعالى : (إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

العباد الخالصون من كل أشكال الشرك وهوى النفس والجهل والضلال ، والذين لا يصفون الباريء عزوجل إلّابما سمح لهم به.

__________________

(١) سورة الزّخرف / ١٩ ـ ٢١.

٢١٨

نعم ، ينبغي لنا مراجعة كلمات الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطب علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأدعية الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام في صحيفته ، كي نستنير بضياء وصفهم له جلّ وعلا.

فأمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في الخطبة ١٨٦ في نهج البلاغة ـ يصف الله عزوجل بالقول : «لا تناله» الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه ، ولا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل في الأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيّام ، ولا يغيّره الضياء والظّلام ، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيريّة والأبعاض ، ولا يقال : له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية.

أمّا الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، فقد قال في الدعاء الأوّل في الصحيفة السجّادية : «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين».

(فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٧٠)

الإدّعاءات الكاذبة : الآيات السابقة تحدثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها ، أمّا الآيات ـ مورد بحثنا الآن ـ فتتابع ذلك الموضوع ، حيث توضّح في كل بضع آيات موضوعاً يتعلق بهذا الأمر.

بداية البحث تؤكّد الآيات على أنّ وساوس عبدة الأصنام لا تؤثّر في الطاهرين والمحسنين ، وإنّما قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي تستسلم لتلك الوساوس. قال تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ).

نعم ، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن الطريق المؤدّي إلى الله (مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ). إلّااولئك الذين يريدون أن يحترقوا في نار جهنم (إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ).

بعد إنتهاء بحثنا حول الآيات الثلاث السابقة التي وضّحت مسألة إختيار الإنسان في مقابل فتن وإغراءات عبدة الأصنام ، نواصل بحثنا حول الآيات الثلاث التالية والتي تتناول

٢١٩

المرتبة العالية لملائكة الله ، وتقول مخاطبة عبدة الأصنام : إنّ الملائكة التي كنتم تزعمون أنّها بنات الله لها مقام معيّن ، والجميل في هذه العبارة أنّ الملائكة هي التي تتحدث عن نفسها (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ).

وتضيف ملائكة الرحمن : وإنّنا جميعاً مصطفون عند الله في إنتظار أوامره ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ).

وإنّنا جميعاً نسبّحه ، وننزّه عمّا لا يليق بساحة كبريائه : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ).

نعم ، نحن عباد الله ، وقد وضعنا أرواحنا على الأكف بإنتظار سماع أوامره ، إنّنا لسنا أبناء الله ، إنّنا ننزّه الباريء عزوجل من تلك المزاعم الكاذبة والقبيحة.

إنّ الآيات المذكورة أعلاه أشارت إلى ثلاث صفات من صفات الملائكة :

الاولى : أنّ لكل واحد منهم مقام معيّن ومشخص ليس له أن يتعدّاه.

والثانية : أنّهم مستعدّون دائماً لإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى وتنفيذها في عالم الوجود.

والثالثة : أنّهم يسبّحون الله دائماً وينزّهونه عمّا لا يليق بساحة كبريائه.

الآيات الأربع الأخيرة من هذا البحث تشير إلى أحد الأعذار الواهية التي تذرّع بها المشركون فيما يخصّ هذه القضية وعبادتهم للأصنام ، وتجيب عليهم قائلة : (وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ).

(لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مّنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

الآية التالية تقول : لقد تحقق ما كانوا يأملونه ، إذ أنزل عليهم القرآن المجيد الذي هو أكبر وأعظم الكتب السماوية ، إلّاأنّ هؤلاء الكاذبين في إدّعاءاتهم كفروا به ، ولم يفوا بما قالوا ، واتّخذوا موقفاً معادياً إزاءه ، فسيعلمون وبال كفرهم (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) (١٧٧)

حزب الله هو المنتصر : لا زلنا نتابع البحث في آيات هذه السورة المباركة ، والتي شارفت على الإنتهاء ، بعد أن إستعرضنا في الأبحاث السابقة جهاد الأنبياء العظام والمصاعب

٢٢٠