الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-05-8
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

مرجع الاجماع ، قطعيّا أو ظنيّا ، على الرجوع في المشكوكات الى الاصول هو الاجماع على وجود الحجّة الكافية في المسائل التي انسدّ فيها باب العلم حتى تكون المسائل الخالية عنها موارد للاصول.

ومرجع هذا إلى دعوى الاجماع على حجّية الظنّ بعد الانسداد.

______________________________________________________

الاجماع على حجّية الظّن في غير المشكوكات ، فان (مرجع الاجماع) سواء كان (قطعيّا أو ظنيّا على الرّجوع في المشكوكات الى الاصول : هو الاجماع على وجود الحجّة الكافية في المسائل التي انسدّ فيها باب العلم ، حتّى تكون المسائل الخالية عنها) أي : عن الحجّة الكافية (موارد للأصول) فانّ الاصول إنّما تجري فيما لا حجّة ، ولازمه : أن توجد الحجّة في بعض المسائل دون البعض الآخر.

(ومرجع هذا) أي : مرجع وجود الحجّة الكافية في غير المشكوكات والموهومات (إلى دعوى الاجماع على حجّية الظن بعد الانسداد) لا بسبب الانسداد.

والحاصل إنّ الظنّ يكون حجّة لكن لا بالاستناد الى الدّليل الانسدادي ، بل بالاستناد الى الاجماع المذكور ، ولهذا قال الآخوند رحمه‌الله في حاشيته على الرّسائل : «انّه إثبات حجّية الظّن بغير دليل الانسداد ، وهو ليس بالمراد ، وإن شئت قلت : ان حاصل كلام الشيخ في قوله «قلت» : إنّكم إذا ادّعيتم الاجماع على الرجوع الى الاصول في المشكوكات والموهومات كان إجماعكم هذا مبطلا لدليل الانسداد ، لأنّ الاجماع المذكور يدلّ على حجّية الظّن في المظنونات ، لا انّ الظّن يكون حجّة حينئذ بدليل الانسداد».

هذا ولا يخفى : انّ الكلام في المقام طويل ـ كما يظهر من حواشي الآخوند ، والآشتياني ، والأوثق ، وغيرهم ـ وانّما اكتفينا بهذا القدر لعدم التشويش

٤١

فان قلت : إذا لم يقم في موارد الشك ما ظنّ طريقيّته ، لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه أحد محتملات الواجبات أو المحرّمات الواقعية وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة اقتضاء القاعدة في نفس المسألة ؛ كما لو كان الشكّ فيه في المكلّف به.

______________________________________________________

على ذهن الطالب.

(فان قلت) في موارد الشكّ ـ بالمعنى المصطلح ـ بالحكم ، لا احتياط قطعا من جهة العلم الاجمالي العام ، وذلك للاجماع على عدم الاحتياط في موارد الشك ، فاذا ظنّ بعدم الحكم كان أولى بعدم الاحتياط ، لانّ الظنّ حجّة في حال الانسداد.

بالاضافة الى انّه لو كان شك اصطلاحي فلا حكم للمشكوك ، لاجل الاجماع ، فاذا ظنّ بعدم الحكم كان أولى بعدم لزوم الاحتياط ، فانّه (إذا لم يقم في موارد الشك) الاصطلاحي (ما ظنّ طريقيّته) الى الواقع (لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه : أحد محتملات الواجبات أو المحرمات الواقعية) فانّ الاحتياط إنّما يكون من جهة العلم الاجمالي العام ، وإنّما لا يجب الاحتياط للاجماع الذي سيأتي نقله.

وعليه : فالاحتياط لا يجب من تلك الجهة (وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة اقتضاء القاعدة في نفس المسألة ، كما لو كان الشّك فيه) أي : في ذلك المورد (في المكلّف به) فاذا شك في وجوب الجمعة ، لم يكن مقتضى العلم الاجمالي العام ـ بوجود أحكام في الفقه من أوله الى آخره ـ هو الاحتياط وإن لزم الاحتياط بالاتيان بالجمعة والظهر معا ، من جهة انّه يعلم وجوب صلاة عليه في يوم الجمعة ويشك في إنّ المكلّف به هل هو الظهر أو الجمعة؟.

٤٢

وهذا إجماع من العلماء ، حيث لم يحتط أحد منهم في مورد الشكّ من جهة احتمال كونه من الواجبات والمحرّمات الواقعيّة ، وإن احتاط الاخباريّون في الشبهة التحريميّة من جهة مجرّد احتمال التحريم ، فاذا كان عدم وجوب الاحتياط إجماعيّا مع عدم قيام ما يظنّ طريقيّته على عدم الوجوب ، فمع قيامه لا يجب الاحتياط بالأولويّة القطعيّة.

______________________________________________________

(وهذا) الذي ذكرناه : من انّه لا يجب الاحتياط في موارد الشك (إجماع من العلماء ، حيث لم يحتط أحد منهم في مورد الشّك) احتياطا (من جهة احتمال كونه من الواجبات والمحرّمات الواقعيّة) بل انّهم يجرون البراءة (وإن احتاط الاخباريون في الشّبهة التّحريميّة) لا في الشبهة الوجوبيّة.

مثلا : إذا شك في انّ التبغ حرام أم لا؟ الاخباريون يحتاطون بالترك ، أمّا إذا شك في انّ الدّعاء عند رؤية الهلال واجب أم لا؟ فالاخباريون لا يحتاطون بالاتيان.

وأما الاصوليون فمجمعون على انّه لا احتياط إطلاقا ، لا في الشبهة التحريمية ولا في الشبهة الوجوبيّة.

والحاصل : انّ الاخباريين يحتاطون في الشبهة التحريميّة (من جهة مجرّد احتمال التّحريم) وإن لم يكن علم إجمالي ، وإنّما يحتاطون بجهة بعض الأخبار التي ذكروا إنّهم استظهروا منها الاحتياط في الشبهات التحريمية.

وعليه : (فإذا كان عدم وجوب الاحتياط إجماعيّا مع عدم قيام ما يظنّ طريقيته على عدم الوجوب) أي : في مورد الشك الاصطلاحي (فمع قيامه) أي : قيام ما يظنّ طريقيته على عدم الوجوب (لا يجب الاحتياط بالأولويّة القطعيّة) فانّه إذا ظنّ بعدم الحكم ، فهو أولى بعدم الاحتياط ممّا إذا شك في الحكم.

٤٣

قلت : العلماء إنّما لم يذهبوا الى الاحتياط في موارد الشك ، لعدم العلم الاجماليّ لهم بالتكاليف ، بلّ الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلا أو مظنون لهم بالظنّ الخاصّ وبين مشكوك التكليف رأسا ؛ ولا يجب الاحتياط في ذلك عند المجتهدين بل عند غيرهم في الشبهة الوجوبيّة.

والحاصل : أنّ موضوع عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو الظنّ

______________________________________________________

(قلت :) الاجماع الذي ادعيتموه ، ليس مورده ما نحن فيه ـ وهو حال الانسداد ـ بل مورده حال الانفتاح ، فسحبه الى مورد الانسداد يكون بلا مجوّز ، فان (العلماء إنّما لم يذهبوا الى الاحتياط في موارد الشكّ ، لعدم العلم الاجمالي لهم بالتّكاليف) فانّ العلم الاجمالي العام منحل عندهم الى أطراف معلومة الحكم وأطراف مشكوكة ، ففي معلومة الحكم يعملون حسب ذلك الحكم ، وفي الأطراف المشكوكة يعملون بالبراءة ، كما قال : (بلّ الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلا أو مظنون لهم بالظّن الخاص) كالخبر الواحد ، والاجماع ، وما أشبه ذلك ممّا هو حجّة (وبين مشكوك التكليف رأسا) ومشكوك التكليف في هذه الحالة هو مجرى البراءة (ولا يجب الاحتياط في ذلك) أي : في مشكوك التكليف (عند المجتهدين) مطلقا ، لا في الشبهة التحريمية ولا في الشبهة الوجوبية.

(بل عند غيرهم) من الاخباريين أيضا (في الشّبهة الوجوبيّة) فانّ الاخباريين وإن قالوا بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، لكنّهم متفقون مع المجتهدين في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية.

(والحاصل : انّ موضوع عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو الظّن

٤٤

الخاصّ مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد ؛ وقد نبّهنا على ذلك غير مرّة في بطلان التمسّك على بطلان البراءة والاحتياط بمخالفتهما لعمل العلماء ، فراجع.

ويحصل ممّا ذكر إشكال آخر أيضا من جهة أنّ نفي الاحتياط بلزوم العسر لا يوجب كون الظنّ حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصّة

______________________________________________________

الخاص ، مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد) فلا يمكن سحب إجماعهم الذي هو في حال الانفتاح الى حال الانسداد (وقد نبّهنا على ذلك) التغاير وعدم الانسحاب (غير مرّة في بطلان التمسك على بطلان البراءة والاحتياط بمخالفتهما لعمل العلماء) وقلنا : بانّ عمل العلماء إنّما هو في حال الانفتاح ، فلا ينحسب الى حال الانسداد (فراجع) ما ذكرناه غير مرة مفصلا.

والحاصل من الاشكال بأن قلت : انّ الظّنّ حجّة ، كما انّ الخبر الواحد حجّة على مدعى الانسدادي ، وحاصل جواب الشيخ ب «قلت» : انّه لم يثبت بذلك كون الظّنّ حجّة.

(ويحصل ممّا ذكر) آنفا : من انّه لا دليل على كون الظّن حجّة شرعا حتى يكون كالخبر الواحد (إشكال آخر أيضا) وهو : انّ معنى حجّية الظّنّ الّذي يدّعيه الانسدادي : إنّ الظّن في حال الانسدادي يكون ـ كالخبر الواحد إذا قلنا بحجيته ـ مخصصا ومقيّدا ومبيّنا للعام والمطلق والمجمل وما أشبه ، والحال إن ذلك لا يثبت بدليل الانسداد.

وعليه : فهذا الاشكال هو (من جهة انّ نفي الاحتياط ب) سبب (لزوم العسر لا يوجب كون الظّنّ حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثّابتة بالظنون الخاصّة)

٤٥

ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها.

ودعوى : «أنّ باب العلم والظنّ الخاصّ إذا فرض انسداده سقط عمومات الكتاب والسنّة المتواترة وخبر الواحد الثابت حجّيّته بالخصوص عن الاعتبار للعلم الاجماليّ بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلم ، فلا يبقى ظاهر منها على حاله حتى يكون الظنّ الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد» ،

______________________________________________________

أي : الاصول اللفظية : كالعام والمطلق والمجمل ، وما أشبه (و) ل (مخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها) أي في الظّنون الخاصة.

مثلا : لا يكون الظّن سببا لحمل الأمر الظاهر في الوجوب على الاستحباب ، والنهي الظاهر في التحريم على الكراهة ، الى غير ذلك ممّا إذا كان الخبر حجّة عمل بكل ذلك.

(ودعوى) إنّا لا نحتاج الى جعل الظّن بمنزلة الخبر الواحد في الامور المذكورة ، لأنه إذا حصل الانسداد لم تكن هناك ظواهر حجّة حتى تحتاج الى التخصيص والتقليد والصرف عن الظاهر الى غير الظاهر ، وذلك كما قال : (انّ باب العلم والظّنّ الخاص إذا فرض انسداده ، سقط عمومات الكتاب ، والسّنة المتواترة ، وخبر الواحد الثابت حجّيته بالخصوص) سقوطا (عن الاعتبار).

وإنّما تسقط هذه الظواهر (للعلم الاجمالي بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلم) فانّ ذلك السقوط هو مقتضى العلم الاجمالي المخالف لهذه الظواهر (فلا يبقى ظاهر منها) أي : من عمومات الكتاب والسنّة وما أشبه (على حاله) في الظهور (حتى يكون الظّن الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد) ومن باب صرف الظاهر عن ظاهره الى غير ظاهر ، مثل : صرف الأمر الى

٤٦

مجازفة ، إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظاهر في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص. مثل : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، * وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ،) وشبههما.

______________________________________________________

الاستحباب والنهي الى الكراهة.

لكن هذه الدعوى (مجازفة) غير صحيحة ، اذ الخطابات الشرعيّة في الكتاب والسنّة على قسمين : الأول : ما صار مجملا بسبب وجود تخصيص أو تقييد ، أو خلاف ظاهر يرجع الى بعضها ولا نعلم الى أيّ منها؟ فيصير الجميع مجملا.

مثلا : إذا قال المولى : أكرم العلماء ، ثم قال : أكرم الزّهاد ، ثم قال : لا تكرم الفساق ، فاشتبه الأمر بانّه هل استثنى الفسّاق من العلماء ، أو من الزّهاد؟ فيكون وجوب الاكرام مجملا بالنسبة الى أفراد كل من العنوانين ، وفي هذا القسم يكون كلام المدعي تاما لانّه لا ظاهر حتى يستشكل الشيخ عليه : بأن الظن الانسدادي لا يتمكن من تخصيص أو تقييد أو صرف العمومات والمطلقات والظواهر عن ظواهرها.

القسم الثاني : ما لم يصر مجملا ، وهذا القسم لا يتمكن الظنّ الانسدادي من تقييده وتخصيصه ، وفي هذا القسم يرد إشكال الشيخ على القائل : بانّ الظّنّ الانسدادي يقوم مقام العلم والعلمي في حال الانسداد (إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظاهر في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص مثل : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (٢) وشبههما) فانّ مثل هاتين الآيتين قد علم إجمالهما ، لكثرة التخصيصات والتقييدات بالنسبة الى الصلاة والحجّ ونحوهما.

__________________

(١) ـ سورة النور : الآية ٥٦.

(٢) ـ سورة آل عمران : الآية ٩٧.

٤٧

وأمّا كثير من العمومات التي لا نعلم باجمال كلّ منها ، فلا يعلم ولا يظنّ بثبوت المجمل بينها ، لأجل طروّ التخصيص في بعضها. وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إنشاء الله تعالى ؛ هذا كلّه حال الاحتياط في جميع الوقائع.

وأمّا الرجوع في كل واقعة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة ، من غير التفات الى العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرمات بين الوقائع ، بأن يلاحظ

______________________________________________________

(وأمّا كثير من العمومات التي لا نعلم بإجمال كلّ منها ، فلا يعلم ولا يظنّ بثبوت المجمل بينها لأجل طروّ التخصيص في بعضها) وحيث لم تكن هذه العمومات مجملة فهي باقية على إطلاقاتها وعموماتها ، فلا يتمكن الظّن الانسدادي من تخصيصها أو تقييدها أو صرف ظواهرها ، مثل صرف ظواهر الأمر من الوجوب الى الاستحباب.

هذا ، وقد أشار المصنّف الى القسم الأوّل من القسمين بقوله : «في غير الخطابات التي علم إجمالها» ، وأشار الى القسم الثاني بقوله : «وأمّا كثير من العمومات».

(وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إنشاء الله تعالى ، هذا كله حال الاحتياط في جميع الوقائع) وقد عرفت : إنّه غير واجب ، أو غير جائز إذا استلزم اختلال النظام بعد أن سدّ باب العلم والعلمي بالأحكام.

(وأمّا الرّجوع في كل واقعة) واقعة (الى ما يقتضيه الأصل) العملي (في تلك الواقعة) من الاصول الأربعة (من غير التفات الى العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات بين الوقائع ، بأن) لا يلاحظ العلم الاجمالي العام ، وإنما (يلاحظ

٤٨

نفس الواقعة : فان كان فيها حكم سابق يحتمل بقاؤه استصحب ، كالماء المتغيّر بعد زوال التغيّر. وإلّا فان كان الشكّ في أصل التكليف ، كشرب التتن ، أجرى البراءة ، وإن كان الشك في تعيين المكلّف به ، مثل القصر والاتمام : فان أمكن الاحتياط وجب ، والّا تخيّر ، كما إذا كان الشكّ في تعيين التكليف الالزاميّ ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم.

______________________________________________________

نفس الواقعة) منفردة عن سائر الوقائع.

(فان كان فيها حكم سابق يحتمل بقاؤه) بأن كمّل أركان الاستصحاب (استصحب ، كالماء المتغيّر بعد زوال التغيّر) حيث نجري استصحاب النجاسة.

(وإلّا) يكن له حالة سابقة بأن لم تتم أركان الاستصحاب (فان كان الشّك في أصل التكليف كشرب التتن أجرى البراءة) وكذلك بالنسبة الى الشك في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فانّه يجري البراءة عن الوجوب أيضا.

(وإن كان الشّك في تعيين المكلّف به) بعد العلم بأصل التكليف (مثل القصر والاتمام) بأن شك المكلّف هل إنّ تكليفه القصر أو التمام؟ (فان أمكن الاحتياط ، وجب) مقدّمة لأداء التكليف المعلوم إجمالا.

(وإلّا) بأن لم يمكن الاحتياط (تخيّر ، كما إذا كان الشّك في تعيين التكليف الالزامي ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم) حيث لا يتمكن من الجمع بينهما ، فيتخير أحدهما من الاتيان وعدمه.

وكذا يتخيّر أحدهما إذا كان شكه بين أمرين ، من دون أن يكون أحدهما واجبا والآخر حراما ، بل كانا واجبين أو محرّمين ، لكنّه لا يتمكن من الجمع بينهما ، كما لو شك في وجوب كونه في كربلاء يوم عرفة أو كونه في عرفات؟.

٤٩

ويردّ هذا الوجه انّ العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات يمنع عن إجراء البراءة والاستصحاب المخالف للاحتياط ، بل وكذا العلم الاجماليّ بوجود غير الواجبات والمحرّمات في الاستصحابات المطابقة للاحتياط يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث إنّها استصحابات ، وإن كان لا يمنع من العمل بها من حيث الاحتياط ،

______________________________________________________

(ويردّ هذا الوجه : إنّ العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات ، يمنع عن اجراء البراءة ، والاستصحاب المخالف للاحتياط) إذ لا يجوز إجراء البراءة في أطراف العلم الاجمالي ، كما إنّه لا يجوز إجراء الاستصحاب المخالف للاحتياط في أطرافه ، لأنّ العلم الاجمالي يقتضي الاشتغال لا البراءة والاحتياط لا خلاف الاحتياط.

(بل وكذا العلم الاجمالي بوجود غير الواجبات والمحرّمات في الاستصحابات المطابقة للاحتياط ، يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث أنّها استصحابات وان كان لا يمنع من العمل بها من حيث الاحتياط) وانّما يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث إنّها استصحابات ، لأنّ اليقين الّذي ينقض به اليقين أعم من الاجمالي والتفصيلي ، كما قرر ذلك في باب الاستصحاب.

مثلا : إذا علم بعدم وجوب أحد أمرين : إمّا عدم وجوب صلاة الجمعة ، وإما عدم وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فكيف يتمكن من استصحاب وجوب هذه ووجوب هذا؟ فان الاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الاجمالي لا سلبا ولا إيجابا.

إن قلت : لا نقول : بالاستصحاب ، وإنّما نقول : بالاحتياط ، فيحتاط في إتيان صلاة الجمعة ، وفي إتيان الدّعاء عند رؤية الهلال ، وكذا في غير ذلك

٥٠

لكنّ الاحتياط في جميع ذلك يوجب العسر.

وبالجملة ، فالعمل بالاصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم للمخالفة القطعيّة الكثيرة ، وبالاصول المثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزم للحرج.

وهذا لكثرة المشتبهات في المقامين ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا رجوع هذا الجاهل الذي انسد عليه باب العلم في المسائل المشتبهة إلى فتوى

______________________________________________________

من الأحكام الكثيرة.

قلت : (لكن الاحتياط في جميع ذلك يوجب العسر) والحرج ـ كما قرّر سابقا ـ.

(وبالجملة : فالعمل بالاصول النافية للتكليف في مواردها) أي : في موارد الاصول مثل : البراءة واستصحاب العدم (مستلزم للمخالفة القطعيّة الكثيرة) وذلك ممّا لا يجوز.

(و) العمل (بالاصول المثبتة للتكليف : من الاحتياط والاستصحاب) المثبت للتكليف (مستلزم للحرج) والعسر ـ كما عرفت ـ.

(و) عليه : فان (هذا) الذي ذكرناه : من المخالفة القطعيّة والحرج ، إنّما هو (لكثرة المشتبهات في المقامين) في مقام الاصول النافية ومقام الاصول المثبتة (كما لا يخفى على المتأمّل) لسعة دائرة الابتلاء بالمسائل الفقهية من أوّل الفقه الى آخره.

(وأمّا رجوع هذا الجاهل) الذي هو عالم في الحقيقة ، وإنّما يجهل بالأحكام لأنّه (الّذي انسدّ عليه باب العلم في المسائل المشتبهة) بأن يرجع (إلى فتوى

٥١

العالم بها وتقليده فيها ، فهو باطل لوجهين : أحدهما الاجماع القطعيّ.

والثاني : أنّ الجاهل الذي وظيفته الرجوع إلى العالم هو الجاهل العاجز عن الفحص ، وأمّا الجاهل الذي يبذل الجهد وشاهد مستند العالم وغلّطه في استناده إليه واعتقاده عنه ، فلا دليل على حجّية فتواه بالنسبة إليه ، وليست فتواه من الطرق المقرّرة لهذا الجاهل.

فان من يخطئ القائل بحجيّة الخبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها ، كيف يجوز له متابعته؟ وأيّ مزيّة له عليه؟

______________________________________________________

العالم بها) أي : بتلك المسائل ، وهو المجتهد الانفتاحي (وتقليده : فيها ، فهو باطل لوجهين) كما يلي :

(أحدهما : الاجماع القطعيّ) فانّ أحد المجتهدين لا يجوز له الرجوع الى المجتهد الآخر قطعا.

(والثاني : انّ الجاهل الّذي وظيفته الرّجوع الى العالم ، هو الجاهل العاجز عن الفحص) عن الأدلة (وأمّا الجاهل الّذي يبذل الجهد ، وشاهد مستند العالم ، وغلّطه) أي : غلّط العالم في استناده الى هذا المستند ، فهو يغلّطه (في استناده إليه) أي : إلى هذا المستند (و) في (اعتقاده عنه) أي : عن هذا المستند (فلا دليل على حجّية فتواه بالنسبة اليه) أي : فتوى الانفتاحي بالنسبة الى الانسدادي (وليست فتواه من الطرق المقرّرة لهذا الجاهل) الذي هو انسدادي وإن كان عالما.

(فإنّ من يخطّئ القائل بحجّية الخبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها) ويقول بأنّ آية النبأ لا دلالة لها على حجّية خبر الثقة أو خبر العادل (كيف يجوز له) أي : لهذا المخطّئ (متابعته؟) أي : متابعة من يرى دلالة الآية؟.

ثم (وأي مزيّة له) أي : للانفتاحي (عليه؟) أي : على الانسدادي ، فان

٥٢

حتّى يجب رجوعه إليه ولا يجب العكس.

وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء ، من أنّ المجتهد إذا لم يجد دليلا في المسألة على التكليف كان حكمه الرّجوع إلى البراءة ، لا إلى من يعتقد وجود الدّليل على التكليف.

والحاصل : أنّ اعتقاد المجتهد ليس حجة على مجتهد آخر خال عن الاعتقاد ، وأدلّة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم يراد بها غير ذلك ،

______________________________________________________

كلّا منهما مجتهد كامل الاجتهاد ، فلا مزيّة للانفتاحي على الانسدادي (حتى يجب رجوعه) أي : الانسدادي (إليه) أي : الانفتاحي (ولا يجب العكس) بأن يقال : إنّه يلزم على الانفتاحي أن يرجع الى الانسدادي.

(وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء : من انّ المجتهد إذا لم يجد دليلا في المسألة على التكليف ، كان حكمه الرّجوع الى البراءة ، لا إلى من يعتقد وجود الدّليل على التكليف) في تلك المسألة.

مثلا : إذا فحص المجتهد ولم يجد دليلا على وجوب صلاة الجمعة ، وكان هناك مجتهد آخر يستفاد وجوب صلاة الجمعة من الآية والرواية ، فانّه يرجع إلى البراءة ، لا إلى هذا المجتهد الذي يرى الوجوب.

(والحاصل : إنّ اعتقاد المجتهد ليس حجّة على مجتهد آخر خال عن الاعتقاد) المذكور ، ولو كان هذا المجتهد المعتقد أعلم ، لأنّ غير الأعلم يرى خطأه فكيف يتبعه؟.

(و) أما (أدلة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم) فانّه (يراد بها) أي : بتلك الأدلة (غير ذلك). الذي نحن بصدده ، فان تلك الأدلّة لا تشمل رجوع المجتهد

٥٣

لا مجرّد غير المعتقد ولو كان أعلم بالحكم.

ولا فرق بين المجتهدين المختلفين في الاعتقاد وبين المجتهدين اللّذين أحدهما اعتقد الحكم عن دلالة والآخر اعتقد فساد الدّلالة ، فلا يحصل له اعتقاد.

وهذا شيء مطّرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، شاهدا كان أو مفتيا أو غيرهما.

______________________________________________________

الى المجتهد ، بلّ هي تخص الجاهل (لا مجرّد غير المعتقد) فانّ الأدلّة لا تدل على رجوع غير المعتقد إلى المعتقد (ولو كان) ذلك المعتقد (أعلم بالحكم) منه.

(ولا فرق بين المجتهدين المختلفين في الاعتقاد ، وبين المجتهدين اللّذين أحدهما ، اعتقد الحكم عن دلالة ، والآخر اعتقد فساد تلك الدّلالة) وخطأه فيها (فلا يحصل له اعتقاد) بها ، فانّه كما لا يجوز رجوع المجتهد الّذي يرى وجوب الجمعة ، الى المجتهد الذي يرى حرمة الجمعة ، كذلك لا يجوز رجوع المجتهد الذي يرى وجوب الجمعة لدلالة الآية المباركة عليها ، الى الآخر الذي يعتقد فساد تلك الدلالة.

وإن شئت قلت : إنّ المجتهد لا يرجع أحدهما إلى الآخر ، سواء تطابقا في الايجاب أو في السلب ، أو أحدهما موجب والآخر سالب ، لأنّ أدلّة رجوع الجاهل الى العالم لا تشمل أمثال ذلك ، لأنّه ليس أحدهما بجاهل ، وإن اختلفا في الرأي والاعتقاد.

(وهذا) الذي قلناه : من عدم الرجوع ، ليس خاصا بالمجتهدين ، بل هو (شيء مطّرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، شاهدا كان أو مفتيا ، أو غيرهما) كالمقوّم في باب التقويمات ، فانّه لا يرجع العالم إلى العالم على ما عرفت.

٥٤

المقدّمة الرابعة

في أنّه إذا وجب التعرض لامتثال الأحكام المشتبهة ولم يجز إهمالها بالمرّة كما هو مقتضي المقدّمة الثانية ، وثبت عدم وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط وعدم جواز الرجوع فيه الى الاصول الشرعيّة ، كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة : تعيّن بحكم العقل التعرّض لامتثالها على وجه الظنّ بالواقع فيها ، إذ ليس بعد الامتثال العلميّ والظنّي بالظنّ الخاصّ المعتبر في الشريعة امتثال مقدم على الامتثال الظنّي.

______________________________________________________

(المقدّمة الرّابعة : في انّه إذا وجب التعرّض لامتثال الأحكام المشتبهة ، ولم يجز إهمالها بالمرّة) لأنّه يوجب الخروج عن الدّين (كما هو مقتضى المقدّمة الثانية) وقد تقدّم بيانها.

(وثبت عدم وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط) لأنّه يوجب العسر والحرج ، أو اختلال النظام.

(و) ثبت أيضا (عدم جواز الرجوع فيه) أي : في الامتثال (إلى الاصول الشرعيّة) أو فتوى الفقيه الانفتاحي (كما هو مقتضى المقدمة الثالثة) على ما تقدّم.

إذن : (تعيّن بحكم العقل التّعرض لامتثالها على وجه الظّن بالواقع فيها) أي : في تلك الأحكام ، وسيأتي إنشاء الله الكلام فيما إذا كان الظنّ بالطريق لا ظنّا بالواقع (إذ ليس بعد الامتثال العلميّ والظّنّي بالظّن الخاص المعتبر في الشريعة) كالخبر الواحد إذا قلنا بحجيته (امتثال) وهو : اسم ليس (مقدم على الامتثال الظّني) كالقرعة ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، والقياس ، وما أشبه ذلك ، فلم يبق إلّا الامتثال الظّني.

٥٥

توضيح ذلك : أنّه إذا وجب عقلا أو شرعا التعرّض لامتثال الحكم الشرعي فله مراتب أربع.

الأولى : الامتثال العلميّ التفصيليّ ، وهو أنّ يأتي بما يعلم تفصيلا أنّه هو المكلّف به ، وفي معناه ما إذا ثبت كونه هو المكلّف به بالطريق الشرعيّ وإن لم يفد العلم ولا الظنّ ، كالأصول الجارية في مواردها وفتوى المجتهد بالنسبة إلى الجاهل العاجز عن الاجتهاد.

______________________________________________________

(توضيح ذلك : انّه إذا وجب عقلا أو شرعا التعرّض لامتثال الحكم الشرعيّ ، فله مراتب أربع) بحسب ما يراه العقل الحاكم في باب الاطاعة ؛ والشرع لو قال بذلك فانّما هو من باب الارشاد.

(الأولى : الامتثال العلميّ التفصيليّ) بأن يعلم انّه حكم المولى فيتبعه (وهو : أن يأتي بما يعلم تفصيلا انّه هو المكلّف به) فيأتي به عن علم ، (وفي معناه) أي : في معنى الامتثال العلميّ التفصيلي (ما إذا ثبت كونه هو المكلّف به بالطّريق الشرعيّ) الذي يعبّر عنه بالظنون الخاصّة ، كالظّنّ بحجّية خبر الواحد ، وما أشبه.

(وإن لم يفد العلم ولا الظّنّ) أي : ظنّا شخصيا (كالأصول الجارية في مواردها) فانّ الانسان المجتهد يجب عليه أن يتّبع الأخبار ، ويتّبع الاصول في الموارد التي ليست فيها خبر (و) كذلك يجب على الانسان الجاهل اتّباع (فتوى المجتهد بالنّسبة الى الجاهل العاجز عن الاجتهاد) فان العقلاء يلزمون الجاهل على أن يرجع إلى العالم ، والشارع لم يحدث طريقا جديدا ، بل قرّر الطريق العقلائي.

نعم ، أضاف شروطا الى شروط العقلاء كأن يكون العالم رجلا ، عادلا ، طاهر المولد ، إلى غير ذلك ممّا ذكروه في باب التقليد.

٥٦

الثانية : الامتثال العلميّ الاجماليّ ، وهو يحصل بالاحتياط.

الثالثة : الامتثال الظنيّ ، هو أن يأتي بما يظنّ أنّه المكلّف به.

الرابعة : الامتثال الاحتماليّ ، كالتعبّد بأحد طرفيّ المسألة من الوجوب والتحريم أو التعبّد ببعض محتملات المكلّف به عند عدم وجوب الاحتياط أو عدم إمكانه.

______________________________________________________

(الثانية : الامتثال العلميّ الاجمالي ، وهو يحصل بالاحتياط) لكن لا ينبغي الاشكال في انّه في غير العبادات يجوز الاحتياط إذا لم يكن محذور خارجي ، فإذا قال المولى : ائت بكتاب الكفاية وهو يتمكن من معرفته تفصيلا ، جاز له أن يأتي بكتابين يعلم بأنّ أحدهما كفاية.

نعم ، فيما إذا قال : أسق الحديقة ، لم يجز له أن يسقيها بماءين يعلم إنّ أحدهما حلو إذا كانت الحديقة تتضرّر بكثرة الماء ، أو بالماء المالح ، إلى غير ذلك من الأمثلة التي فيها محذور خارجي.

(الثالثة : الامتثال الظّني ، وهو أن يأتي بما يظنّ أنّه المكلّف به) أو بما يظنّ أنّه التكليف ، فإذا ظنّ بأنّ الجمعة واجبة أتى بها دون الظهر ، وإذا ظنّ بأنّ التكليف الحرمة والوجوب لم يأت بالشيء.

(الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كالتعبّد بأحد طرفيّ المسألة من الوجوب والتحريم) مع عدم كون أحد الطرفين مظنونا ـ كما هو المفروض ـ وعدم وجوب الاحتياط ، أو عدم جوازه (أو التعبّد ببعض محتملات المكلّف به عند عدم وجوب الاحتياط ، أو عدم إمكانه) أي : إمكان الاحتياط ، أو إيجابه اختلال النظام ونحوه.

ومثال التعبّد ببعض محتملات المكلّف به : هو كما إذا كان له خمسون ثوبا

٥٧

وهذه المراتب مترتّبة لا يجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها إلى لاحقتها إلّا مع تعذّرها ، على إشكال في الأوّلين تقدّم في أوّل الكتاب.

وحينئذ : فاذا تعذّرت المرتبة الأولى ولم تجب الثانية تعيّنت الثالثة ، ولا يجوز الاكتفاء بالرّابعة.

فاندفع بذلك : ما زعمه بعض من تصدّى لردّ دليل الانسداد بأنّه

______________________________________________________

أحدها طاهر فقط ، حيث لا يتمكن من الاتيان بخمسين صلاة ، فيأتي بالميسور من تلك الصلوات.

(وهذه المراتب) الأربع (مترتّبة) بمعنى : انّه (لا يجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها الى لاحقتها ، إلّا مع تعذرها) أي : مع تعذر السابقة ، وذلك (على إشكال في الأوّلين ، تقدّم في أوّل الكتاب) وقد ألمعنا إليه هاهنا : بأنّه يجوز الاتيان بالإجمالي مع الامكان من التفصيليّ في غير العبادات قطعا ، وفي العبادات أيضا على التفصيل المتقدّم.

(وحينئذ : فإذا تعذّرت المرتبة الأولى ولم تجب الثّانية تعيّنت الثالثة) وهي : الاتيان بالتكليف الظّني ، أو المكلّف به الظّنيّ (ولا يجوز الاكتفاء بالرّابعة) من الامتثال الاحتمالي مع وجود الظّنّ ، كما إنّه لا يجوز الاتيان بالموهوم مع وجود المظنون ، فإذا ظنّ بوجوب الجمعة لم يأت بالظهر وهو موهوم.

وكذا إذا كان المولى يريد اشتراء دار ، وهناك ثلاثة دور ، فالدّار الواسعة مظنون إرادة المولى لها ، والدار الضيّقة موهوم إرادة المولى لها ، أمّا الدار المتوسطة فمشكوك انّه يريدها أو لا يريدها ، فانّه لا يشتريها والحال إنّ الظّن موجود.

(فاندفع بذلك ما زعمه بعض من تصدّى لردّ دليل الانسداد) فردّه (: بأنّه

٥٨

لا يلزم من إبطال الرّجوع إلى البراءة ووجوب العمل بالاحتياط وجوب العمل بالظّن ، لجواز أن يكون المرجع شيئا آخر لا نعلمه ، مثل القرعة والتقليد أو غيرهما ممّا لا نعلمه.

فعلى المستدلّ سدّ هذه الاحتمالات ، والمانع يكفيه الاحتمال.

توضيح الاندفاع ـ بعد الاغماض عن الاجماع على عدم الرجوع إلى القرعة وما بعدها ـ أنّ مجرّد احتمال كون شيء غير الظّنّ طريقا شرعيّا لا يوجب العدول عن الظنّ إليه ، لأنّ الأخذ بمقابل المظنون قبيح في مقام

______________________________________________________

لا يلزم من إبطال الرّجوع إلى البراءة ، و) إبطال (وجوب العمل بالاحتياط) لا يلزم منه (وجوب العمل بالظّن ، لجواز أن يكون المرجع) في الاطاعة (شيئا آخر لا نعلمه) نحن بعينه ، وإن كنّا نحتمله احتمالا (مثل القرعة والتقليد أو غيرهما ممّا لا نعلمه) كالاستحسانات ، والمصالح المرسلة ، والقياس ، وما أشبه ذلك.

قال : (فعلى المستدلّ ، سدّ هذه الاحتمالات ، و) ذلك لأن (المانع يكفيه الاحتمال) فانّا نحتمل كون اللازم العمل بشيء آخر ، كالقرعة ونحوها ، لا العمل بالظّن ، فمن يريد إثبات العمل بالظّن فعليه الاثبات ، أما نحن المانعين ، فيكفينا الاحتمال.

(توضيح الاندفاع) ـ إنّا ـ نحن المدّعين للزوم الأخذ بالظّن ، لنا دليل وهو العقل بحسب المراتب التي ذكرناها ، فالمانع الذي يقول بغير الظّن عليه الاثبات ، فإنّه (بعد الإغماض عن الاجماع على عدم الرجوع الى القرعة وما بعدها) من التقليد ، والمصالح المرسلة ، ونحوها ، نقول : (إنّ مجرّد احتمال كون شيء غير الظّنّ طريقا شرعيا لا يوجب العدول عن الظّن اليه).

وإنّما لا يوجب العدول عن الظّنّ اليه (لأنّ الأخذ بمقابل المظنون قبيح في مقام

٥٩

امتثال الواقع وإن قام عليه ما يحتمل أن يكون طريقا شرعيّا ، إذ مجرّد الاحتمال لا يجدي في طرح الطّرف المظنون ، فانّ العدول عن الظنّ إلى الوهم والشكّ قبيح.

______________________________________________________

امتثال الواقع) حيث الأمر دائر بين الشّك والظّن والوهم ، والعقل والعقلاء يقدّمون الظنّ عليهما ـ كما عرفت ـ (وإن قام عليه) أي : على غير المظنون (ما يحتمل أن يكون طريقا شرعيّا) مثل : «القرعة لكلّ أمر مشكل» (١) وقوله سبحانه : (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) (٢) في مقام الاستحسان ، إلى غير ذلك من الأدلة التي ذكروها لغير الظّن (إذ مجرّد الاحتمال) غير المدعوم بالدّليل القطعي (لا يجدي في طرح الطّرف المظنون).

وإنّما لا يجدي لأنّه قال : (فانّ العدول عن الظّنّ الى الوهم والشّك قبيح) عقلا وعقلائيا.

والفرق بين العقليّ والعقلائي : إنّ ما يراه العقل لا يجوز خلافه ، أمّا ما يراه العقلاء فيجوز خلافه.

مثلا : العقل يرى استحالة اجتماع النقيضين أو عدم جواز كفران النعم ، والعقلاء يرون ـ مثلا ـ السير عن طرف اليمين في الشوارع ، فلهم أن يبدّلوا ذلك إلى السير من طرف اليسار ، فكلّ عقل عقلائيّ ، أمّا ليس كلّ عقلائي بعقليّ ، فانّ العقلاء لا يجوّزون خلاف العقل ، لكنّ العقل يجوّز خلاف العقلاء ، فبينهما عموم مطلق.

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٢٥٨ ب ٤ ح ١٣ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٩٢ ب ٢ ح ٣٣٨٩ ، بحار الأنوار : ج ٩١ ص ٢٣٤ ب ٢ ح ٧ ، فتح الابواب : ص ٢٩٢ ، غوالي اللئالي : ج ٢ ص ١١٢ وص ٢٨٥ وج ٣ ص ٥١٢.

(٢) ـ سورة الاعراف : الآية ١٤٥.

٦٠