الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-05-8
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

لعدم جريان المعمّم فيه بعد وجود الدّليل على حرمة العمل به فيكون التعميم بالنسبة إلى ما عداه ، كما لا يخفى على من راجع المعمّمات المتقدّمة.

وأمّا على تقرير الحكومة ، بأن تكون مقدّمات الدّليل موجبة لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ما عدا الظنّ وقبح اكتفاء المكلّف على ما دونه ، فيشكل توجيه خروج القياس ، وكيف يجامع حكم العقل بكون الظنّ كالعلم مناطا للاطاعة والمعصية ويقبح عن الآمر والمأمور التعدّي عنه.

______________________________________________________

وإنّما لا إشكال في ذلك (لعدم جريان المعمّم فيه) أي : في القياس (بعد وجود الدّليل على حرمة العمل به) أي : بالقياس ، لأنّ أدلة حرمة العمل بالقياس مطلقة تشمل حال الانفتاح والانسداد معا.

وعليه : (فيكون التعميم بالنسبة الى ما عداه) أي : الى ما عدا القياس ، فيكون كل ظنّ حجّة إلّا القياس ، الّذي خرج بالدّليل الخاص (كما لا يخفى على من راجع المعمّمات المتقدّمة) حيث إنها معمّمات تدلّ على حجّية كل ظنّ ، إلّا الظنّ الذي صرّح الشارع بخروجه.

(وأمّا على تقرير الحكومة ، بأن تكون مقدّمات الدليل موجبة لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ما عدا الظّنّ) أي : فوق الظّنّ (وقبح اكتفاء المكلّف على ما دونه) أي : ما دون الظنّ ، فلا يحق للمكلّف ان يعمل بما هو دون الظنّ ، من المشكوكات والموهومات ويترك المظنونات (فيشكل توجيه خروج القياس) عن الظّنّ على تقرير الحكومة.

ووجه الاشكال ما بيّنه بقوله : (وكيف يجامع حكم العقل بكون الظّنّ كالعلم ، مناطا للاطاعة والمعصية ، ويقبح عن الآمر والمأمور التعدّي عنه) أي : عن الظّنّ ،

٣٢١

ومع ذلك يحصل الظنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس ، ولا يجوّز الشارع العمل به فانّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظنّ أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا جرى في غير القياس ، فلا يكون العقل مستقلا ، إذ لعلّه نهى عن أمارة ، مثل ما نهى عن القياس بل وأزيد ، واختفى علينا.

______________________________________________________

وذلك بإرادة الشارع غير الظّنّ ممّا لا يصل اليه المكلّف ، وبعمل المكلّف بما هو دون الظنّ من الشّك والوهم.

(ومع ذلك) أي : مع حكم العقل بكون الظّن كالعلم (يحصل الظّنّ أو خصوص الاطمئنان) إذا قلنا بأنّ الظّنّ الاطمئناني حجّة يحصل (من القياس ، و) الحال انّه (لا يجوّز الشارع العمل به؟) أي : بالقياس.

وعليه : (فانّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظّنّ أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا) هذا المنع (جرى في غير القياس فلا يكون العقل مستقلا ، إذ لعلّه) أي : لعل الشّارع (نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس) بأن نهى عن الخبر الواحد ـ مثلا ـ أو الأولويّة ، أو الاجماع المنقول ، أو الاجماع المحصل ، أو غير ذلك.

(بل وأزيد) من أمارة ، بأن منع الشارع عن العمل بأمارتين ـ مثلا ـ أو ثلاث أمارات (واختفى) ذلك المنع من الشارع (علينا).

قال الأوثق : «لأنّ حكم العقل بشيء خصوصا أو عموما ، إنّما هو بعد ملاحظة جميع قيود موضوعه ، التي لها دخل في حكمه ، ولذا لا يمكن عروض التخصيص لعموم حكمه ، لأنه إذا لاحظ موضوعا عامّا ووجده جامعا لجميع القيود ، التي لها دخل في حكمه ، فحكم فيه بشيء ، فاستثناء بعض الأفراد

٣٢٢

ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك

______________________________________________________

من حكم هذا الموضوع شرعا أو عقلا إن كان ، مع كونه جامعا للقيود المذكورة ، فهو يستلزم : إما عدم حكم العقل بالحكم على الموضوع العام من أوّل الأمر ، أو التناقض في حكمه.

إذ الفرض : كون الفرد مشتركا مع كلّية في القيود المذكورة ، فان لم تكن القيود المذكورة علّة لحكم العقل ، يلزم عدم حكمه من ابتداء الأمر على الموضوع العام المذكور ، بما فرض حكمه به أوّلا ، وإن كانت علّة له ، لزم التناقض بين حكمه العام والخاص ، وان كان مع فرض كونه فاقدا لبعض القيود المذكورة ، فالاستثناء حينئذ وإن كان صحيحا إلّا إنّه حينئذ يكون من باب التخصّص بدون التّخصيص وهو خلاف الفرض من كون الظنّ القياسي جامعا لجهة اعتبار سائر الظنون : من قبح إرادة الآمر لما فوقه ، واكتفاء المأمور بما دونه في مقام الامتثال.

وممّا ذكرناه يظهر : الواجب في عدم كون حكم العقل قابلا للتخصيص» (١) ، انتهى.

(و) إن قلت : فرق بين حكم الشارع بأن القياس لا يجوز العمل به ، وبين احتمال انّ الشارع منع ـ مثلا ـ عن العمل بخبر الواحد فأي كلام منكم هذا الذي ذكرتم : بأنّه إذا منع الشارع عن القياس سقط عملنا بالخبر الواحد أيضا ، لاحتمالنا انّ الشارع منع عنه؟.

قلت : احتمال النهي في الخبر موجود ، و (لا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلك)

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٢٢٩ في استثناء القياس.

٣٢٣

على الشارع ، إذ احتمال صدور الممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلّا بقبحه.

وهذا من أفراد ما اشتهر من أنّ الدّليل العقليّ لا يقبل التخصيص ، ومنشؤه لزوم التناقض.

ولا يندفع إلّا بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجا عن الموضوع وهو التخصّص.

وعدم التناقض في تخصيص العمومات اللفظيّة إنّما هو

______________________________________________________

أي : النهي (على الشارع ، إذ احتمال صدور الممكن بالذّات عن الحكيم ، لا يرتفع إلّا بقبحه) ، لكن حيث لم يعلم قبحه ، فيبقى احتمال النهي في الخبر موجودا ومع هذا الاحتمال لا يستقل العقل بحجّية الظّنّ المستفاد من الخبر ، وسيأتي إنشاء الله تعالى في الوجه السادس من وجوه الجواب عن الاشكال المذكور ، اشارة الى ذلك.

(وهذا) الّذي ذكرناه : من انّ القياس لا يمكن إخراجه عن حكم العقل ، القائل بحجّية الظنّ على الحكومة ، هو (من أفراد ما اشتهر : من انّ الدّليل العقلي لا يقبل التخصيص) على ما بينّاه قبل أسطر.

(ومنشؤه) أي : منشأ هذا المشتهر هو : (لزوم التناقض) بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، لأنّ العام حكم عقلي ، والخاص حكم شرعي ، وهذا التناقض وإن كان من حاكمين ، إلّا أنّه بعد ملاحظة إمضاء الشرع أحكام العقل ، يرجع الى التناقض في حكم الشرع.

(ولا يندفع) هذا التناقض (إلّا بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجا عن الموضوع ، وهو التخصّص) فليس الحكم العقلي مخصصا ، بل متخصصا.

(و) أمّا (عدم التناقض في تخصيص العمومات اللّفظيّة) فذلك (إنّما هو

٣٢٤

لكون العموم صوريّا ، فلا يلزم إلّا التناقض الصوريّ.

ثمّ إنّ الإشكال هنا في مقامين :

أحدهما : في خروج مثل القياس وأمثاله ممّا نقطع بعدم اعتباره.

الثاني : في حكم الظنّ الذي قام على عدم اعتباره ظنّ آخر ، حيث إنّ الظنّ المانع والممنوع

______________________________________________________

لكون العموم صوريّا ، فلا يلزم إلّا التناقض الصّوري) وهذا جواب عن إشكال مقدّر ، وهو : انّه إذا لم يكن الحكم العقلي قابلا للتخصيص ، فكيف تكون العمومات اللّفظية قابلة للتخصيص؟.

والجواب : إنّه فرق بين الحكم العقلي والحكم اللّفظي ، فالحكم اللّفظي إذا خصص كان معناه انّ العموم كان ظاهرا مرادا للمتكلم لا واقعا ، والمخصص كشف عن ذلك ، لا انّه مراد تارة في العموم وغير مراد تارة في الخصوص ، حتى يلزم التناقض.

(ثمّ إنّ الاشكال هنا) في المقام الثالث (في مقامين) على ما يلي :

(أحدهما : في خروج مثل القياس وأمثاله) والمراد بمثل القياس : القياس ، فلا يقال : إنّه تكرار لكلمة مثل وأمثال ، لأنّه من المتعارف أن يعبّر عن الشيء بكلمة مثله (ممّا نقطع بعدم اعتباره) اذ هناك بعض الأمور مقطوع بعدم اعتباره : كالمصالح المرسلة ، والاستحسان ، وما أشبه ذلك ، فليس الاشكال خاصا بالقياس.

(الثاني : في حكم الظّنّ الّذي قام على عدم اعتباره ظنّ آخر) ممّا يعبّر عنه بالظنّ المانع والممنوع ، فانّه إذا كان نتيجة دليل الانسداد عموم الظنّ ، فكيف يكون ظنّا مانعا عن ظنّ آخر؟ كما قال : (حيث إنّ الظّنّ المانع والممنوع ،

٣٢٥

متساويان في الدخول تحت دليل الانسداد ولا يجوز العمل بهما ، فهل يطرحان أو يرجّح المانع أو الممنوع منه أو يرجع إلى الترجيح؟ وجوه بل أقوال.

أمّا المقام الأوّل :

فقد قيل في توجيهه أمور : الأوّل : ما مال إليه أو قال به بعض ، من منع حرمة العمل بالقياس في أمثال زماننا.

______________________________________________________

متساويان في الدّخول تحت دليل الانسداد) لفرض انّ كل واحد منهما ظنّ يدل على حجّيته مقدّمات دليل الانسداد ، وليس المراد بالظّنّ المانع والممنوع : الظّنّ الشخصي حتى يقال : انّه لا يمكن ظنّان متخالفان ، بل الظنّ النوعي : كالخبر حجّة ، والشهرة حجّة ، ثم قامت الشهرة على عدم حجّية الخبر.

(ولا يجوز) أي : لا يمكن (العمل بهما) أي : بالظنّ المانع والظنّ الممنوع معا (فهل يطرحان ، أو يرجّح المانع ، أو) يرجّح (الممنوع منه ، أو يرجع الى الترجيح؟) فربّما يرجّح المانع ، وربّما يرجّح الممنوع ، فيما إذا كان هناك رجحان لاحدهما على الآخر (وجوه) ، محتملة (بل أقوال) في المسألة.

(أمّا المقام الأوّل : فقد قيل في توجيهه) أي : توجيه خروج القياس عن حجّية مطلق الظنّ في حال الانسداد على الحكومة (أمور) على النحو التالي :

(الأول : ما مال إليه ، أو قال به بعض من منع حرمة العمل بالقياس في أمثال زماننا) وهو المحقّق القمي في القوانين ، حيث إنّه لا يرى حرمة القياس بعد الانسداد ، وإنّما يكون القياس ممنوعا عنده حين الانفتاح ، لأنّه يرى انّ الأدلة

٣٢٦

وتوجيهه ، بتوضيح منّا ، أنّ الدّليل على الحرمة إن كان هي الأخبار المتواترة معنى في الحرمة ، فلا ريب إنّ بعض تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمة عليهم‌السلام من العامّة التاركين للثقلين ، حيث تركوا الثقل الأصغر الذي عنده علم الثقل الأكبر ،

______________________________________________________

المحرمة لا تشمل حال الانسداد.

(وتوجيهه بتوضيح منّا) فانّ عبارته في بحث حجّية أخبار الآحاد في طيّ وجوه التقصّي عن إشكال خروج القياس ما هذا لفظه :

«ويمكن أن يقال : إن في مورد القياس لم يثبت انسداد باب العلم بالنسبة الى مقتضاه ، فإنا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل على مؤدّى القياس ، فيعلم إنّ حكم الله تعالى غيره وإن لم يعلم إنّه أي : شيء هو ، فنفي تعيينه يرجع الى سائر الأدلة وإن كان مؤداها عين مؤدّاه ، فليتأمّل ، فانّه يمكن منع دعوى بداهة حرمة القياس حتى في موضع لا سبيل له الى الحكم إلّا به» انتهى كلامه.

وتوضيحه : (انّ الدّليل على الحرمة) أي : حرمة العمل بالقياس (إن كان هي الأخبار المتواترة معنى في الحرمة) وقد تقدّم في بعض المباحث السابقة معى التواتر المعنوي (فلا ريب إنّ بعض تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمة عليهم‌السلام من العامة التاركين للثقلين ، حيث تركوا الثقل الأصغر) وهم الأئمة عليهم‌السلام (الّذي عنده علم الثقل الأكبر) وهو القرآن الحكيم ، لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبّر عنهما : بالثقل الأكبر والثقل الأصغر.

وإنّما كان القرآن الثقل الأكبر ، لأنّ القرآن يشمل حتى الأئمة عليهم‌السلام ، فهم ثقل أصغر بالنسبة الى القرآن ، فلا ينافي ذلك إنّهم هم القرآن الناطق ، وانّ القرآن هو القرآن الصامت.

٣٢٧

ورجعوا إلى اجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا واستحسنوا وضلّوا وأضلّوا.

وإليهم أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في بيان من يأتي من بعده من الأقوام ، فقال : «برهة يعملون بالقياس».

والأمير عليه‌السلام ، بما معناه : «إنّ قوما ثقلت عليهم الأحاديث أن يعوها فتمسّكوا بآرائهم» إلى آخر الرّواية.

وبعض منها إنّما تدلّ على الحرمة من حيث انّه ظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

______________________________________________________

وعلى أي حال : فان العامّة تركوا الأئمة عليهم‌السلام في الفقه ، وفي سائر شئون الدنيا والآخرة (ورجعوا الى اجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا واستحسنوا ، وضلّوا وأضلّوا) ، والفرق بين القياس والاستحسان : انّ القياس ، يقاس شيء على شيء ، بخلاف الاستحسان ، فانّه يستحسن المجتهد شيئا بدون أن يكون له شبه في الشريعة.

(وإليهم) أي : الى هؤلاء العامّة الذين تركوا الثقل الأصغر (أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان من يأتي من بعده من الأقوام ، فقال) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (برهة يعملون بالقياس) ومعنى البرهة : مدة من الزمن.

(و) أشار إليهم (الأمير عليه‌السلام بما معناه : إنّ قوما ثقلت عليهم الأحاديث أن يعوها ، فتمسكوا بآرائهم ، الى آخر الرّواية) إذ من الواضح : حفظ الحديث شيء مشكل ، أمّا القياس بما في أذهانهم فشيء سهل.

ثم إنّ بعضهم لم يتمكنوا أن يعوا النصوص ، حيث رأوها مخالفة لما في أذهانهم من الموازين المتعارفة عندهم ، فاعوزتهم أي : ضاق عليهم معرفتها ، فتركوها وأخذوا مكانها بالقياس.

(وبعض منها إنّما تدلّ على الحرمة من حيث انّه ظنّ لا يغني من الحق شيئا)

٣٢٨

وبعض منها انّما تدلّ على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدّين ومحق السنّة ، لاستلزامه الوقوع غالبا في خلاف الواقع.

وبعضها تدلّ على الحرمة ووجوب التوقف إذا لم يوجد ما عداه ، ولازمه الاختصاص بصورة التمكّن من إزالة التوقف ، لأجل العمل بالرجوع الى أئمة الهدى عليهم‌السلام ، أو بصورة ما إذا كانت المسألة من غير العمليّات

______________________________________________________

إذ القياس لا يوجب اليقين.

(وبعض منها انّما تدلّ على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدّين ومحق السّنة) والمحق بمعنى : الذهاب والزوال (لاستلزامه الوقوع غالبا في خلاف الواقع) والمراد بالسّنة : الطريقة التي قررها الله سبحانه وتعالى ، سواء في القرآن الحكيم ، أو في السنة المطهرة.

(وبعضها تدل على الحرمة ووجوب التوقّف إذا لم يوجد ما عداه) أي : ما عدا القياس ، فاذا وجد ما عدا القياس من أقوالهم عليهم‌السلام أجمعين لزم العمل بذلك ، وإلّا فالتوقف (ولازمه : الاختصاص بصورة التمكّن من إزالة التوقّف لأجل العمل ، بالرّجوع الى أئمة الهدى عليهم‌السلام) و «الى» متعلق «بالرجوع» ، فان مفهوم الحرمة إذا وجد ما عدا القياس : إنّ العمل بالقياس ليس بحرام إذا لم يوجد شيء من أخبارهم عليهم‌السلام.

(أو بصورة ما إذا كانت المسألة من غير العمليّات) أي : من الاعتقاديات ، حيث لا عمل حتى يحتاج الانسان الى شيء يدلّ على كيفية عمله.

ومن الواضح : إنّ الاعتقاديات لا توجب اضطرار الانسان الى شيء ، فانّه لا يجوز الاعتماد على الاجتهادات الظّنية في الاعتقاديات مثل : صفات الله سبحانه ، والنبي ، والأئمة عليهم‌السلام أجمعين ، وذلك يظهر من قوله عليه‌السلام في رواية

٣٢٩

أو نحو ذلك.

ولا يخفى أنّ شيئا من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه المتقدّمة ، لا يدلّ على حرمة العمل بالقياس الكاشف عن صدور الحكم عموما

______________________________________________________

زرارة : «لو إنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا» (١).

(أو نحو ذلك) كصورة التمكّن من الطرق الشرعية.

(ولا يخفى : انّ شيئا من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه المتقدّمة) المذكورة (لا يدلّ على حرمة العمل بالقياس) وذلك لأن القسم الأول من الأخبار يدل على حرمة القياس في قبال الأئمة عليهم‌السلام.

والقسم الثاني : يدلّ على المبالغة في المنع ، للدلالة على كثرة تخلّف القياس عن الواقع ، وهو نظير قوله سبحانه : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢) وذلك خاص بزمان الانفتاح.

والقسم الثالث : كذلك ، حيث إنّ كثرة المخالفة توجب إبطال الدّين ، الذي هو أمر حقيقي ، جعله الله سبحانه لوصول الناس الى الواقعيات ، ومن المعلوم : إنّه إذا تعذر الوصول الى الواقعيات كافة ، فالوصول الى بعض الواقعيات بسبب القياس أقرب الى العقل من الترك المطلق.

والقسم الرابع : الدال على التوقف ، فقد عرفت وجهه ممّا لا حاجة الى تكراره. وعليه : فلا دلالة في هذه الأخبار على حرمة العمل بالقياس (الكاشف عن صدور الحكم عموما) بأن بيّنوا عليهم‌السلام حكما عامّا مثل : «كل شيء

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٣٨٨ ح ١٩ ، المحاسن : ص ٢١٦ ح ١٠٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٥٨ ب ١٢ ح ٣٣٤٧٤.

(٢) ـ سورة يونس : الآية ٣٦.

٣٣٠

أو خصوصا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد أمنائه «صلوات الله عليهم أجمعين» ، مع عدم التمكن من تحصيل العلم به ولا الطريق الشرعيّ ، ودوران الأمر بين العمل بما يظنّ أنّه صدر منهم عليهم‌السلام ، والعمل بما يظنّ

______________________________________________________

لك حلال» (١) و «كل شيء طاهر» (٢) و «اذا شككت فابن على الأكثر» (٣) الى غير ذلك من الأحكام العامة (أو خصوصا) مثل : انّ الأنكحة حلال ، وإنّ ماء البحر طاهر ، وما أشبه ذلك ، من الأحكام الواصلة إلينا (عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أحد أمنائه صلوات الله عليهم أجمعين). حيث إنّهم عليهم‌السلام ذكروا كلّ الاحكام التي تحتاجها الأمة إما بالخصوص ، وإما بالعموم.

(مع عدم التمكن من تحصيل العلم به) أي : بذلك الحكم الصادر عنهم عموما أو خصوصا ، (ولا الطّريق الشرعي) كالظنّ الخاص فيما إذا قلنا : بأن الخبر حجّة ، فانّه وإن لم يحصل للانسان العلم بالواقع بسبب الخبر ، إلّا إنّه طريق شرعي.

والحاصل : انّه إذا لم نعلم بالأحكام الواقعيّة ، ولم يكن طريق خاص اليها ، بأن انسدّ باب العلم والعلمي ، كان القياس هنا كاشفا عن بعض تلك الأحكام.

(ودوران الأمر بين : العمل بما يظنّ انّه صدر منهم عليهم‌السلام ، والعمل بما يظنّ

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٢٨٥ ب ١٢ ح ١١٩ ، الوسيلة : ص ٧٦ ، مستدرك الوسائل : ج ١ ص ١٩٠ ب ٤ ح ٣١٨.

(٣) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣٤٠ ح ٩٩٢ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ٥ ص ٦٠١ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٢ ب ٨ ح ١٠٤٥١.

٣٣١

أنّ خلافه صدر منهم عليهم‌السلام ، لمقتضى الاصول المخالفة للقياس في موارده أو الأمارات المعارضة له. وما ذكرنا واضح على من راعى الانصاف وجانب الاعتساف.

وإن كان الدّليل هو الاجماع بل الضرورة عند علماء المذهب ، كما ادّعي ، فنقول : إنّه

______________________________________________________

انّ خلافه صدر منهم عليهم‌السلام) قوله : «ودوران» ، عطف على قوله : «مع عدم التمكن» ، أي : إذا دار الأمر بعد انسداد باب العلم والعلمي ، الى أن نعمل بما نظنّ كما هو مقتضى القياس ، أو أن نعمل بخلاف ظنّنا ، كان العمل طبق الظنّ القياسي أولى من العمل على خلاف الظنّ.

(لمقتضى الاصول المخالفة للقياس في موارده) أي في موارد القياس (أو) مقتضى (الأمارات المعارضة له) أي : للقياس.

مثلا : البراءة تقول : بعدم التكليف بالدّعاء عند رؤية الهلال ، والقياس يقول : بوجوب الدّعاء ، وخبر واحد غير حجّة يقول : بعدم وجوب الجمعة ، والقياس : يقول بوجوبها ، فهل نعمل بالأصل والامارة ونترك الدّعاء والصلاة ، أو نعمل بالقياس ونأتي بهما؟ لا شك انّ العقل يقول : اعمل بالقياس حين انسداد باب العلم والعلمي وأت بالدّعاء والصلاة.

(وما ذكرنا) : من العمل بالقياس في قبال الاصول والأمارات التي ليست بحجّة (واضح على من راعى الانصاف ، وجانب الاعتساف) أي : الجور.

(وإن كان الدّليل هو الاجماع) على حرمة العمل بالقياس ، وهذا عطف على قوله قبل أسطر : إن الدليل على الحرمة إن كان هي الأخبار المتواترة (بل الضرورة عند علماء المذهب ، كما ادّعي) بأنّه أمر ضروري عند علمائنا (فنقول : إنّه

٣٣٢

كذلك ، إلّا أنّ دعوى الاجماع والضرورة على الحرمة في كل زمان ممنوعة.

ألا ترى أنّه لو فرض «والعياذ بالله» انسداد باب الظنّ من الطرق السمعيّة لعامّة المكلّفين أو لمكلّف واحد باعتبار ما سنح له من البعد عن بلاد الاسلام ، فهل تقول : إنّه يحرم عليه العمل بما يظنّ بواسطة القياس أنّه الحكم الشرعيّ المتداول بين المتشرّعة وأنّه مخيّر بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم ، ثمّ تدّعي الضرورة على ما ادّعيته من الحرمة ، حاشاك.

______________________________________________________

كذلك) : أمر ضروري (إلّا انّ دعوى الاجماع والضّرورة على الحرمة في كلّ زمان) حتى زمان الانسداد الكامل للعلم والعلمي (ممنوعة) قطعا.

(ألا ترى انّه لو فرض والعياذ بالله انسداد باب الظّنّ من الطّرق السمعيّة) أي :

من الأمارات التي وضعت : كالخبر الواحد ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه (لعامّة المكلّفين ، أو لمكلّف واحد ، باعتبار ما سنح له من البعد عن بلاد الاسلام) كما إذا انكسرت سفينة في البحر ، فالتجأ أهلها الى جزيرة من الجزر وبقوا هناك مدة مديدة وهم لا يعلمون الأحكام الطارئة لهم.

(فهل تقول : انّه يحرم عليه) أو عليهم (العمل بما يظنّ بواسطة القياس : انّه الحكم الشّرعي المتداول بين المتشرّعة وانّه مخيّر بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم) فلا يلزم عليه العمل بظنّه (ثمّ تدّعي الضّرورة على ما ادّعيته من الحرمة) عن العمل بالقياس ، أو إنّك ترجح أن يعمل بالظّنّ القياسي على الوهم في المسألة؟.

(حاشاك) أن تقول : بأنه مخير بين العمل بالظنّ ، وبما يقابله.

٣٣٣

ودعوى : «الفرق بين زماننا هذا وزمان انطماس جميع الأمارات السمعيّة» ممنوعة ، لأنّ المفروض أنّ الأمارات السمعيّة الموجودة بأيدينا لم يثبت كونها متقدّمة في نظر الشارع على القياس ، لأنّ تقدّمها على القياس إن كان لخصوصية فيها ، فالمفروض بعد انسداد باب الظنّ الخاصّ عدم ثبوت خصوصيّة فيها واحتمالها ، بل ظنّها لا يجدي ،

______________________________________________________

(و) إنّ قلت : إن زماننا هذا يوجد فيه خبر الواحد وما أشبه ، فليس مثل الانسان الذي انكسرت به السفينة وبقي في جزيرة منعزلة.

قلت : (دعوى الفرق بين زماننا هذا وزمان انطماس جميع الأمارات السّمعيّة) كزمان التجاء جماعة من الناس ، أو واحد منهم الى الجزيرة (ممنوعة ، لأنّ المفروض : انّ الأمارات السّمعيّة الموجودة بأيدينا) الآن ، بعد الغيبة بأكثر من ألف سنة (لم يثبت كونها) أي : كون هذه الأمارات السمعيّة (متقدّمة في نظر الشارع على القياس).

وذلك (لأنّ تقدمها على القياس) أي : تقدّم تلك الأمارات السمعيّة (إن كان لخصوصيّة فيها) أي : في هذه الأمارات السمعية (فالمفروض بعد انسداد باب الظّنّ الخاص عدم ثبوت خصوصيّة فيها) حتى تكون الأمارات السمعية ظنونا خاصة يجب العمل بها.

(و) إنّ : الأمارات تحتمل الخصوصيّة ، بل نظنّ الخصوصية فيها ، ولذا تكون هذه الأمارات مقدّمة على الظنّ القياسي.

قلت : (احتمالها) اي : الخصوصيّة (بل ظنّها لا يجدي) ولا ينفع في تقدّم الأمارات على الظنّ القياسي ، لأنّ الاحتمال والظنّ لا يجعل شيئا حجّة.

٣٣٤

بل نفرض الكلام فيما اذا قطعنا بأن الشارع لم ينصب تلك الأمارات بالخصوص وان كان لخصوصيّة في القياس أوجبت كونه دونها في المرتبة فليس الكلام الّا في ذلك.

وكيف كان : فدعوى الاجماع والضرورة في ذلك في الجملة مسلّمة ، وأمّا كلّيته فلا ،

______________________________________________________

(بل نفرض الكلام فيما اذا قطعنا بأنّ الشارع لم ينصب تلك الأمارات بالخصوص) فما ذا تعملون حينئذ؟ هل تعملون بالظّن القياسي ، أو بخلاف الظنّ القياسي وهو الوهم؟.

(وإنّ كان لخصوصيّة في القياس أوجبت) أن (كونه دونها في المرتبة) أي :

كون القياس دون الأمارات السمعية في المرتبة ، (فليس الكلام الّا في ذلك) فقولكم : «ان القياس دون الأمارات السمعية في المرتبة» ، مصادرة.

وقوله : «وان كان لخصوصية في القياس» ، عطف على قوله : «إن كان لخصوصية فيها».

(وكيف كان : فدعوى الاجماع والضرورة في ذلك) اي : في حرمة العمل بالقياس (في الجملة مسلّمة) لأنّا ندّعي : انّ في زمان الانفتاح يحرم العمل بالقياس.

(وأما كلّيته) بأن يحرم العمل بالقياس كليّة ، حتى في زمان الانسداد الكامل للعلم والعلمي (فلا) اذ لا دليل على الحرمة الكليّة ، بل قد عرفت : انّ الرّوايات تدل على الحرمة في الجملة.

ويؤيد ذلك ما روي عن الصادق عليه‌السلام في رسالة طويلة الى أصحابه يقول :

«وكما إنّه لم يكن لاحد من الناس مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ بهواه ، ولا رأيه ،

٣٣٥

وهذه الدعوى ليست بأولى من دعوى السيّد ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد.

______________________________________________________

ولا مقاييسه ، خلافا لأمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لم يكن لأحد بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ يأخذ بهواه ، ولا رأيه ، ولا مقاييسه».

ثم قال : «واتّبعوا آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنته فخذوا بها ، ولا تتبعوا أهوائكم ورأيكم فتضلّوا ، فان أضل الناس عند الله من اتّبع هواه ورأيه ، بغير هدى من الله».

ثم قال : «أيّتها العصابة عليكم بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنته ، وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول الله من بعده وسنتهم فانّه من اخذ بذلك فقد اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ، لأنهم هم الذين أمر الله عزوجل باتباعهم وولايتهم ...» (١).

الى غير ذلك من الأحاديث الظاهرة في أنّه لا يجوز العمل بالقياس في قبال آثار الرسول والأئمة الهداة ، فاذا لم تكن آثار للرسول والائمة الهداة ـ ولو من جهة غيبة الامام المهدي عليه‌السلام ، وانطماس معالم الدين بسبب المنحرفين والمفسدين والعامة ومن اشبههم ـ فالظنّ القياسي أولى بالعمل من الوهم القياسي.

(وهذه الدعوى) أي : دعوى الاجماع والضرورة على حرمة العمل بالقياس كلّية حتى في زمان الانسداد (ليست بأولى من دعوى السيّد) المرتضى رحمه‌الله (ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد) فكلّما نجيب به عن دعوى السيد ، نجيب به أيضا عن هذه الدعوى ، فانّ كلتا الدعويين غير تامة.

__________________

(١) ـ الكافي (روضة) : ج ٨ ص ٨ ح ١.

٣٣٦

لكن الانصاف : انّ اطلاق بعض الأخبار وجميع معاقد الاجماعات يوجب الظنّ المتاخم للعلم ، بل العلم بانّه ليس ممّا يركن اليه في الدّين مع وجود الأمارات السمعية.

فهو حينئذ ممّا قام الدليل على عدم حجيته ، بل العمل بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح ، كما هو لازم القول بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجيته.

ضروري البطلان في المذهب.

______________________________________________________

ثم ان المصنّف أجاب عن كلام القوانين بقوله (لكن الانصاف ان اطلاق بعض الأخبار) الدالة على حرمة العمل بالقياس (وجميع معاقد الاجماعات) التي اقيمت على الحرمة (يوجب الظنّ المتاخم للعلم ، بل العلم) نفسه (بأنّه ليس) القياس (ممّا يركن اليه في الدين مع وجود الأمارات السمعيّة) والتي هي باقية الى يومنا هذا.

وعليه : (فهو) اي : القياس (حينئذ) اي : حين وجود الأمارات السمعية (ممّا قام الدليل) من الاطلاق المذكور في الرّوايات (على عدم حجّيته) رأسا.

(بل العمل بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح) يلزمه في زمان الانسداد ، فاذا كان هناك خبر صحيح وقياس على خلافه ، فانّه يعمل بالقياس ويترك الخبر الصحيح ، لأنّ من يقول بحجيّة الظنّ القياسي حين الانسداد ، يقول بحجيّته وان كان القياس في قبال الخبر الصحيح.

(كما هو لازم القول : بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجيّته) فان لازم القول بحجيّة القياس في زمان الانسداد : انّه حجّة ولو في قبال الخبر الصحيح وهو (ضروريّ البطلان في المذهب).

٣٣٧

الثاني : منع افادة القياس للظن ، خصوصا بعد ملاحظة أنّ الشارع جمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفة وفرق بين ما يتخيل متآلفة.

وكفاك في هذا عموم ما ورد من : «انّ دين الله لا يصاب بالعقول ، وأن السنّة اذا قيست محق الدين ، وانّه لا شيء أبعد عن عقول الرجال

______________________________________________________

اللهم الّا أن يقول القائل بحجيّة القياس : انه لا حجيّة للقياس اذا كان هناك خبر صحيح ، وعليه : فتحصّل من الوجه الاول : إنّ القياس حجّة في زمان الانسداد.

الوجه (الثاني : منع افادة القياس للظنّ) فالقياس ليس بحجّة ، لانّه لا يوجب الظنّ فهو سالبة بانتفاء الموضوع (خصوصا بعد ملاحظة : انّ الشارع جمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفة ، وفرّق بين ما يتخيل متآلفة).

مثلا : يتراءى أنّ صلاة الظهر متخالفة مع صلاة العشاء ، لأنّ إحداهما في النهار والاخرى في الليل بينما الشارع جعل فيهما اربع ركعات متوافقة ، ويتراءى ان صلاة المغرب متآلفة مع صلاة العشاء ، لانهما في وقت واحد بينما جعلهما الشارع مختلفة في الركعات ، ودم الحيض وغيره يرى مؤتلفا وقد جعل لهما الشارع حكما مختلفا ، ودم البكارة وسائر دماء الجسد يرى مختلفا بينما جعل الشارع لهما حكما واحدا.

(وكفاك في هذا عموم ما ورد : «من انّ دين الله لا يصاب بالعقول») (١) وانّ «السنة اذا قيست محق الدين» (٢) ، و «أنّه لا شيء أبعد عن عقول الرّجال

__________________

(١) ـ بحار الأنوار : ج ٢ ص ٣٠٣ ب ٣٤ ح ٤١ ، كمال الدين : ص ٣٢٤ ح ٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١٧ ص ٢٦٢ ب ٦ ح ٢١٢٨٩.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٧ ص ٢٩٩ ح ٦ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٤١ ب ٦ ح ٣٣١٦٠ وج ٢٩ ص ٣٥٢ ب ٤٤ ح ٣٥٧٦٢.

٣٣٨

من دين الله» ، وغيرها ، ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس ، وخصوص رواية أبان بن تغلب الواردة في دية اصابع الرجل والمرأة

______________________________________________________

من دين الله» (١) والمراد منه : جزئيات فروع الدّين ، لا كليات الفروع ، ولا اصول الدين ، مثلا : العقل يدرك لزوم الصلاة والصوم ، والحجّ ، والخمس ، والزّكاة وما أشبه ، لكن لا يدرك لما ذا الركعات الخاصة؟ ولما ذا الأذكار الخاصة؟

ولما ذا الترتيب الخاص؟ وكذلك لا يدرك العقل لما ذا المفطرات الخاصة ، والوقت الخاص للصوم؟ ولما ذا الأشواط الخاصة ، والأوقات الخاصة لمناسك الحجّ؟ ولما ذا النصاب الخاص ، والاصناف الخاصة في الخمس والزكاة.

وبهذا يجمع كون الاسلام دين العقل وان العقل حجّة باطنة (٢) ـ كما في الاحاديث ـ وبين «إنّ الدّين لا يصاب بالعقول» (٣).

كما ان اصول الدّين ايضا عقليّة ، ولذا اقام العلماء على كلّ أصل أصل جملة من الأدلة العقلية (وغيرها ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس) ولو كان القياس له مدخلية في الدين ، لزم أن يكون الدين يجمع بين المؤتلفات ويفرّق بين المختلفات ، لا أنّ يكون العكس ـ كما مرّ ـ.

(وخصوص رواية أبان بن تغلب الواردة في دية اصابع الرّجل والمرأة

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٩٢ ب ١٣ ح ٣٣٥٧٢ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ٩٢ ص ٩١ ب ٨ ح ٣٧ وص ٩٤ ح ٤٥ وص ٩٥ ب ٩ ح ٤٨ وص ١١٠ ب ١٠ ح ١٠ (بالمعنى).

(٢) ـ راجع الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦ ج ١٢ ، بحار الانوار : ج ١ ص ١٣٧ ب ٤ ح ٣.

(٣) ـ كمال الدين : ص ٣٢٤ ح ٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١٧ ص ٢٦٢ ب ٦ ح ٢١٢٨٩ ، بحار الأنوار : ج ٢ ص ٣٠٣ ب ٣٤ ح ٤١.

٣٣٩

الآتية.

وفيه : أنّ منع حصول الظنّ من قياس في بعض الأحيان مكابرة مع الوجدان.

وأمّا كثرة تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين المختلفات ، فلا يؤثر في منع الظنّ ، لأنّ هذه الموارد بالنسبة الى موارد الجمع بين المؤتلفات اقل قليل.

______________________________________________________

الآتية) (١) إن شاء الله تعالى.

(وفيه : إنّ منع حصول الظنّ من القياس من بعض الأحيان مكابرة مع الوجدان) فانّه لا شك في ان القياس كثيرا ما يوجب الظنّ ، كما إنّ العادة والعرف يقضيان بالقياس في الامور العرفية في الهندسة والحساب والطب ، وسائر الامور فيقول الزارع مثلا : سنحصل هذه السنة على الزرع الأفضل لأنها تشبه السنة الماضية في كثرة الامطار ، الى غير ذلك.

(وأمّا كثرة تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين المختلفات فلا يؤثر في منع الظنّ) اذا الظنّ أيضا كثير ، وذلك (لأنّ هذه الموارد) التي فرّق الشارع فيها بين المؤتلفات ، والف بين المختلفات (بالنسبة الى موارد الجمع بين المؤتلفات أقل قليل) لأنّ الغالب إنّ المؤتلفات متشابهة.

مثلا : الأحكام بالنسبة الى الناس كلهم ، في الدّيات والقصاص ، والحدود ، والقضاء ، وما أشبه ، حكم واحد ، وكذلك بالنسبة الى الحيوانات ، فالشياه كلّها لها

__________________

(١) ـ انظر الكافي (فروع) : ج ٧ ص ٢٩٩ ح ٦ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٤١ ب ٦ ح ٣٣١٦٠ وج ٢٩ ص ٣٥٢ ب ٤٤ ح ٣٥٧٦٢.

٣٤٠