الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-05-8
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ودعوى الاجماع لا يخفى ما فيها ، لأنّ الحكم بالحجيّة في القسم الاوّل لعلّة غير مطّردة في القسم الثاني حكم عقلي يعلم بعد تعرّض الامام عليه‌السلام له قولا أو فعلا ، إلّا من باب تقرير حكم العقل ، والمفروض عدم جريان حكم العقل في غير مورد العلّة ، وهي وجود العلم الاجماليّ ،

ومن ذلك : يعرف الكلام في دعوى الأولويّة ، فانّ المناط في العمل بالقسم الأوّل إذا كان هو العلم الاجماليّ ، فكيف يتعدّى

______________________________________________________

(ودعوى الاجماع) بالتعدي ، كما ادعاه القائل بالتعميم (لا يخفى ما فيها) أي في هذه الدعوى (لأنّ الحكم بالحجّية في القسم الأول) المزاحمة (لعلة) متعلق ب «الحجيّة» أي : ان الحجّية انّما هي العلة (غير مطّردة في القسم الثاني) أي : غير المزاحمة (حكم عقليّ) خبر قوله : «لأن الحكم».

وعليه : فالحكم بالحجّية حكم عقلي وهو (يعلم بعدم تعرّض الامام عليه‌السلام له قولا أو فعلا) فان الامام عليه‌السلام الذي تعرّض لهذا الحكم العقلي بقوله أو بفعله ، لم يتعرّض له (إلّا من باب تقرير حكم العقل ، والمفروض : عدم جريان حكم العقل في غير مورد العلّة ، وهي) أي : العلّة (: وجود العلم الاجمالي) فكيف يتعدى من مورد الحكم العلم الاجمالي الى غير مورد العلم الاجمالي؟.

(ومن ذلك) الذي ذكرناه : بأنّه لا يتعدى من مشكوك الاعتبار الكاشف الى مشكوك الاعتبار غير الكاشف (يعرف الكلام في دعوى الأولوية) حيث قال : ان الكاشف لو كان حجّة فغير الكاشف أولى بالحجّية ، مستدلا بأنّ غير المزاحم أولى بالحجّية من المزاحم.

وإنّما يعرف الكلام في ذلك ، لما أشار اليه بقوله : (فانّ المناط في العمل بالقسم الأوّل) أي : المزاحم (إذا كان هو العلم الاجمالي ، فكيف يتعدى

٢٦١

إلى ما لا يوجد فيه المناط فضلا عن كونه أولى.

وكأنّ متوهّم الاجماع رأى أنّ أحدا من العلماء لم يفرّق بين أفراد الخبر الحسن وأفراد الشهرة ، ولم يعلم أنّ الوجه عندهم ثبوت الدّليل عليهما مطلقا أو نفيه كذلك ، لأنهم أهل الظنون الخاصّة ، بل لو ادّعى الاجماع ـ على أن كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحسان أو الشهرات لأجل العلم الاجماليّ بمطابقة بعضها للواقع ، لم يعمل بالباقي الخالي عن هذا العلم الاجماليّ ـ كان في محلّه.

______________________________________________________

الى ما لا يوجد فيه المناط) وهو غير المزاحم (فضلا عن كونه) أي : ما لا يوجد فيه المناط ان يكون (أولى) ممّا فيه المناط؟.

(وكأن متوهّم الاجماع) الذي ادعى الاجماع على أن غير الكاشف مثل الكاشف (رأى أنّ أحدا من العلماء لم يفرّق بين أفراد الخبر الحسن ، وأفراد الشهرة) فكلّ خبر حسن جائز ، وكل شهرة يجوز العمل بها ، فلم يفرّق بين الخبر المزاحم والخبر غير المزاحم ، والشهرة المزاحمة والشهرة غير المزاحمة.

هذا (ولم يعلم أن الوجه عندهم) في عدم التفرقة (ثبوت الدّليل عليهما مطلقا) أي : على الخبر الحسن والشهرة (أو نفيه) أي : نفي الدليل عليهما (كذلك) أي : مطلقا ، فالخبر مطلقا حجّة أو ليست بحجّة والشهرة مطلقا حجّة أو ليست بحجّة ، وذلك (لأنهم أهل الظنون الخاصة) فسحب هذا المتوهم كلامهم إلى باب الانسداد في غير محله ، لأن باب الانسداد لا يقاس بباب الانفتاح.

(بل لو ادّعى الاجماع على أن كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحسان ، أو الشهرات ، لأجل العلم الاجمالي بمطابقة بعضها للواقع ، لم يعمل بالباقي الخالي عن هذا العلم الاجمالي ، كان) ادعاء هذا الاجماع (في محلّه) فاللازم العمل

٢٦٢

الثالث : من طرق التعميم ما ذكره بعض مشايخنا «طاب ثراه» ، من قاعدة الاشتغال بناء على أنّ الثابت من دليل

______________________________________________________

بالأخبار الحسان والشهرات بقدر العلم الاجمالي فقط ، لمطابقة بعضها للواقع دون سائر أخبار الحسان وبقية الشهرات ، بل وما كان خارجا عن المزاحم.

فهنا ثلاثة أقسام : الأوّل : جملة من الأخبار والشهرات بعضها مطابقة للواقع.

الثاني : الأعم من هذه الجملة ومن سائر المزاحمات التي لا علم إجمالي بمطابقة بعضها للواقع.

الثالث : الأعم من الأولين وما ليس بمزاحم.

هذا ، والدليل إنّما دلّ على حجّية الأوّل ، لا الثاني ، فكيف بالثالث؟.

وعليه : فالمتوهم عمّم العمل الى كل أخبار الحسان والشهرات ، والمصنّف يخصصه بما فيه علم الاجمالي ، ومطابقة الواقع ، ويقول لا يعم العمل بالخبر والشهرة حتى المعارض الذي لا علم إجمالي فيه ، فكيف بما هو خارج عن المعارضة إطلاقا؟.

(الثالث : من طرق التعميم) في نتيجة دليل الانسداد ، لو قلنا بأنّ النتيجة مهملة وليست مطلقة (ما ذكره بعض مشايخنا طاب ثراه) وهو المحقّق شريف العلماء (: من قاعدة الاشتغال) فانّه بعد أن علم إجمالا بوجوب طريق منصوب من قبل الشارع كاف لمعظم الفقه ، وهذا الطريق موجود فيما بأيدينا من الأمارات كالخبر ، والاجماع المنقول والاجماع المحصّل والشهرة والأولوية ، وما أشبه ذلك ، وجب بحكم العقل : الاحتياط في جميعها تحصيلا للجزم بسلوك الطريق المنصوب.

وإنّما نحتاج في هذا التعميم الى قاعدة الاشتغال (بناء على أن الثابت من دليل

٢٦٣

الانسداد وجوب العمل بالظنّ في الجملة.

فاذا لم يكن قدر متيقن كاف في الفقه وجب العمل بكلّ ظنّ.

ومنع جريان قاعدة الاشتغال هنا ـ لكون ما عدا واجب العمل من الظنون محرّم العمل ـ فقد عرفت الجواب عنه في بعض أجوبة الدّليل الأوّل من أدلّة اعتبار الظنّ بالطريق.

______________________________________________________

الانسداد : وجوب العمل بالظّن في الجملة) حيث أن نتيجة دليل الانسداد مهملة ، وليست بمطلقة ، فانّه إذا كانت مطلقة لم نحتج الى التعميم ، وانّما نحتاج الى التعميم إذا كانت النتيجة مهملة.

وعليه : (فاذا لم يكن قدر متيقن كاف في الفقه ، وجب العمل بكلّ ظنّ) سواء كان مظنون الاعتبار ، أو مشكوك الاعتبار ، أو موهوم الاعتبار ، وسواء كان في الاصول أو في الفروع حتى يكفي الظّن بمعظم الفقه الذي نحن مكلفون بالعمل به.

(و) ان قلت : الاشتغال لا يجري فيما إذا كان بعض الأطراف محرّم العمل ، فاذا علم الانسان بأنّه يحرم العمل ، بأحد الطرق ـ مثلا ـ الخبر الواحد ، أو القياس ، أو الاستحسان ، أو الأولوية ، أو ما أشبه ذلك ، لم يجز له أن يعمل بكلّ هذه الطرق ، لأنّه لا يجوز تحصيل الواقع بالطّريق المحرم.

وعليه : فاذا احتاط في كل هذه الطرق ، علم بأنّه عمل بطريق محرّم ، وذلك ل (منع جريان قاعدة الاشتغال هنا ، لكون ما عدا واجب العمل من الظنون ، محرّم العمل) حيث إن الأصل حرمة العمل بالظّن كما تقدّم في أوّل الكتاب.

قلت : (فقد عرفت الجواب عنه في بعض أجوبة الدليل الأوّل من أدلّة اعتبار الظنّ بالطريق) حيث قال المصنّف هناك : ودعوى ان الأمر دائر بين الواجب

٢٦٤

ولكنّ فيه : أنّ قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظنّ معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة. كما إذا اقتضى الاحتياط في الفروع وجوب السورة ، وكان ظن مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها ، فانّه يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة السورة لاحتمال وجوبها.

ولا ينافيه الاحتياط في المسألة الاصولية ،

______________________________________________________

والحرام لأن العمل بما ليس طريقا حرام ، مدفوعة : بأنّ العمل بما ليس طريقا إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم والعمل بكلّ ما يحتمل الطريقية رجاء ان يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع ، انتهى نصّ كلامه.

(ولكن فيه : انّ قاعدة الاشتغال) لا توجب تعميم الظن على ما يدعيه المعمّم ، فان قاعدة الاشتغال (في مسألة العمل بالظّن) وهي المسألة الاصولية (معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة) واذا تعارضتا تساقطتا.

(كما إذا اقتضى الاحتياط في الفروع وجوب السورة) في الصلاة (وكان ظنّ مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها) أي : وجوب السورة (فانّه) مقتضى هذا الظّن المشكوك أن لا يأتي بالسورة ، لكن (يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة السورة) ولا يعتنى بالظّن المشكوك الاعتبار القائل بعدم الوجوب وهو الظّن في المسألة الاصولية (لاحتمال وجوبها) أي : السورة.

إذن : فالقاعدة لا تقتضي حجّية الظنّ على الاطلاق (ولا ينافيه الاحتياط في المسألة الاصولية) أي : لا ينافي الاحتياط في الفروع بقراءة السورة ، الاحتياط في المسألة الاصولية بالعمل بالظّن المشكوك الاعتبار الذي يقول بعدم وجوبها.

٢٦٥

لأنّ الحكم الاصوليّ المعلوم بالاجمال ـ وهو وجوب العمل بالظنّ القائم على عدم الوجوب ـ معناه وجوب العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب ، ويكفي فيه أنّ يقع الفعل لا على وجه الوجوب.

ولا تنافي بين الاحتياط بفعل السورة لاحتمال الوجوب وكونه لا على وجه الوجوب الواقعيّ.

وتوضيح ذلك : أنّ معنى وجوب العمل بالظّنّ وجوب تطبيق عمله عليه.

فاذا فرضنا أنّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به

______________________________________________________

وذلك (لأن الحكم الاصولي المعلوم بالاجمال وهو : وجوب العمل بالظّن القائم على عدم الوجوب) للسورة (معناه : وجوب العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب) للسورة (ويكفي فيه) أي : في هذا الوجه المنطبق على عدم الوجوب (أن يقع الفعل) أي : فعل السورة (لا على وجه الوجوب) بأن لا يقصد حين إتيان السورة الوجوب.

(ولا تنافي بين الاحتياط بفعل السورة) حسب الاحتياط في الفروع (لاحتمال الوجوب و) بين (كونه لا على وجه الوجوب الواقعي) وهو مقتضى الاحتياط في المسألة الاصولية وفي إتيان السورة بهذا النحو جمع بين المسألة الاصولية والمسألة الفرعية.

(وتوضيح ذلك) أي : عدم المنافاة (ان معنى وجوب العمل بالظّن : وجوب تطبيق عمله عليه) أي : على طبق الظنّ.

(فاذا فرضنا انّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به)

٢٦٦

إلّا أنّه لا يتعيّن عليه ذلك الفعل.

فإذا اختار فعل ذلك فيجب أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذا الظنّ وكان غير واجب بمقتضى الأصل ، لا أنّه يجب أن يقع على وجه عدم الوجوب ، إذ لا يعتبر في الأفعال الغير الواجبة قصد عدم الوجوب.

نعم ، يجب التشرّع والتّدين بعدم الوجوب ، سواء فعله أو تركه

______________________________________________________

أي : بالظّن (إلّا انّه لا يتعيّن عليه ذلك الفعل) كفعل السورة في المقام.

(فاذا اختار) المكلّف (فعل ذلك) كالسورة (فيجب ان يقع الفعل لا على وجه الوجوب) فيأتي بالسورة لا بقصد الوجوب (كما لو لم يكن هذا الظّن) الانسدادي (وكان غير واجب بمقتضى الأصل) فاذا لم تكن السورة واجبة بمقتضى أصالة عدم الوجوب ، فانّ عدم وجوبها لا يتنافي مع الاتيان بها ، لأن غير الواجب يجوز الاتيان به.

وكذلك الحال إذا قام الظنّ الانسدادي على عدم وجوب السورة ، فانّه يجوز الاتيان بها لكن حين الاتيان بالسورة لا يقصد الوجوب.

(لا انّه يجب أن يقع على وجه عدم الوجوب) «هذا» عطف على قوله «فيجب أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب» ، ومعناه : انّه لا يقصد الوجوب ، لا أنّه يقصد عدم الوجوب (إذ لا يعتبر في الأفعال غير الواجبة قصد عدم الوجوب)

حتى يقال : بانّ يأتي بالسورة بقصد عدم الوجوب بل يكفي أن يأتي بها لا بقصد الوجوب.

(نعم ، يجب التشرّع والتّدين بعدم الوجوب) بمعنى : الالتزام القلبي بأنّ السورة ليست واجبة (سواء فعله أو تركه) أي : سواء أتى بالسورة أو ترك

٢٦٧

من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع.

وحينئذ : فاذا تردّد الظنّ الواجب العمل المذكور بين ظنون تعلّقت بعدم وجوب أمور ، فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظنّ المجمل المعلوم إجمالا وجوب أن لا يكون فعله لهذه الأمور على وجه الوجوب.

كما لو لم تكن هذه الظنون وكانت هذه الأمور مباحة بحكم الأصل ، ولذا

______________________________________________________

السورة ، فانّه يلتزم قلبا بأنّها ليست واجبة ، وذلك (من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع) ويقوم مقام العلم الظنّ في حال الانسداد.

(وحينئذ) أي : حين لم يقصد الوجوب بالسورة لا أنّه قصد عدم الوجوب (فاذا تردد الظّن الواجب العمل المذكور) أي : الظنّ في المسألة الاصولية (بين ظنون تعلقت بعدم وجوب امور) وتلك الظنون عبارة ، عن ظنون مظنونة الاعتبار ، ومشكوكة الاعتبار ، وموهومة الاعتبار (فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظّن المجمل المعلوم إجمالا : وجوب ان لا يكون فعله لهذه الامور على وجه الوجوب) وقوله : «وجوب» ، خبر قوله : ف «معنى».

والحاصل : ان الظّن لو تعلّق بعدم وجوب امور ، وكان يعارضه علم إجمالي بوجوب أحد هذه الأشياء فمعنى وجوب ملاحظة الظنّ الاصولي المتعلّق بأحد هذه الامور إجمالا : وجوب أن لا يكون فعله لهذه الامور على وجه الوجوب (كما لو لم تكن هذه الظنون ، وكانت هذه الامور مباحة بحكم الأصل).

والحاصل إنّه كما يقول اصل عدم الوجوب لا يجب عليك ولا يقول لا تأت به كذلك إذا كان علم إجمالي بعدم وجوب أحد امور كان معنى هذا العلم لا يجب عليك تلك الامور ولا يقول العلم الاجمالي : لا تأت بتلك الأمور.

(ولذا) أي : المعتبر : ان لا يأتي بالفعل على وجه الوجوب ، لا أنّ لا يأتي بالفعل

٢٦٨

يستحبّ الاحتياط وإتيان الفعل ، لاحتمال أنّه واجب.

ثمّ إذا فرض العلم الاجماليّ من الخارج بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجمع بين تلك الأمور. فيجب على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد منها لاحتمال أن يكون هو الواجب. وما اقتضاه الظنّ القائم على عدم وجوبه من وجوب أن يكون فعله لا على وجه الوجوب باق بحاله.

______________________________________________________

إطلاقا (يستحب) عقلا (الاحتياط وإتيان الفعل) كالسورة في المثال (لاحتمال انّه واجب) فقد جمع بين الظنّ في المسألة الاصولية والظّن في المسألة الفرعية.

(ثمّ) بعد الظّن الذي تعلّق بعدم وجوب امور ظنّا في المسألة الاصولية (إذا فرض العلم الاجماليّ من الخارج) أي : من دليل خارج (بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجمع بين تلك الامور) كالظّن بوجوب السورة في مثالنا (فيجب على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد منها).

ومعنى الالتزام : مجرد الاتيان الخارجي بالفعل (لاحتمال ان يكون هو الواجب) فيأتي بذلك احتياطا ، لكن لا يأتيه بقصد الوجوب لينافي الظنّ في المسألة الاصولية.

(وما اقتضاه الظّن القائم على عدم وجوبه) هذا مبتدأ خبره قوله : «باق بحاله» (من وجوب ان يكون فعله لا على وجه الوجوب) قوله : «من» بيان لقوله :

«ما اقتضاه» والمعنى : إذا الظنّ القائم على عدم الوجوب يقتضي أن يكون فعله لا على وجه الوجوب فالظنّ القائم على عدم وجوب السورة (باق بحاله).

والحاصل : ان الظّن الاصولي باق بحاله وإن أتى بالسورة خارجا لا بقصد الوجوب.

ثم ان المصنّف استدل على ما ذكره بقوله : ما اقتضاه الظنّ باق بحاله

٢٦٩

لأنّ الاحتياط في الجميع لا يقتضي إتيان كلّ منها بعنوان الوجوب الواقعي ، بل بعنوان أنّه محتمل الوجوب ، والظنّ القائم على عدم وجوبه لا يمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه.

كما أنّه لو فرضنا ظنّا معتبرا معلوما بالتفصيل ، كظاهر الكتاب ، دلّ على عدم وجوب شيء لم يناف مؤدّاه لاستحباب الاتيان بهذا الشيء لاحتمال الوجوب.

هذا ،

______________________________________________________

بقوله : (لأن الاحتياط في الجميع) بالاتيان بتلك الامور التي يعلم خارجا بوجوب أحدها (لا يقتضي إتيان كل منها) أي : من جميع الافراد الذي يعلم إجمالا بوجوب أحدها (بعنوان الوجوب الواقعي ، بل) يأتي بها (بعنوان انّه محتمل الوجوب).

هذا من جهة الاحتياط في المسألة الفرعية وأمّا الاحتياط في المسألة الاصولية فقد ذكره المصنّف بقوله : (والظن القائم على عدم وجوبه ، لا يمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه) أي : بعنوان انّه محتمل الوجوب ، فقد جمع بين الاحتياط في مسألة الاصولية ، والاحتياط في المسألة الفرعية.

(كما انّه لو فرضنا ظنّا معتبرا معلوما بالتفصيل كظاهر الكتاب ، دلّ على عدم وجوب شيء ، لم يناف مؤدّاه) أي : مؤدّى هذا الظنّ المعتبر (لاستحباب الاتيان بهذا الشيء لاحتمال الوجوب) فانّه قد ظهر ممّا ذكرناه : إمكان الجمع بين الظنّ في الاصول ، وبين الظنّ في الفروع ، وإن كان يتراءى ان الظّن في الفروع مناف للظنّ في الاصول.

لا يقال : (هذا) الذي ذكرتم : من الجمع بين المسألة الاصولية والمسألة الفرعية لا يقول به المشهور ، بل المشهور يقولون : بتقديم قاعدة الاحتياط في المسألة

٢٧٠

وأمّا ما قرع سمعك ـ من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصوليّة على الاحتياط في المسألة الفرعيّة أو تعارضهما ـ فليس في مثل المقام.

بل مثال الأوّل منهما ما إذا كان العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة مزيلا للشكّ الموجب للاحتياط في المسألة الفرعيّة.

______________________________________________________

الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعية ، أو يقولون : بأنّ الاحتياطين يتعارضان ويتساقطان ، لا انّه يجمع بين الاحتياطين كما ذكرتم أنتم.

لأنه يقال : (وأمّا ما قرع سمعك من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، أو تعارضهما) وتساقطهما (فليس في مثل المقام) الذي يمكن فيه الجمع بين القاعدتين ، فهناك موارد ثلاثة :

مورد تقديم المسألة الاصولية على الفرعية.

مورد التعارض بين المسألة الاصولية والمسألة الفرعية.

مورد الجمع.

وعلى أي حال : فما أراده المعمم لنتيجة دليل الانسداد من إطلاق التعميم لم يتم (بل) التعميم انّما هو في صورة عدم تعارض المسألة الاصولية بالمسألة الفرعية.

(مثال الأوّل) : وهو تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعية (منهما) أي : من التقديم والتعارض (ما إذا كان العمل بالاحتياط في المسألة الاصولية ، مزيلا للشك الموجب للاحتياط في المسألة الفرعية) فانّه انّما يحتاط في المسألة الفرعية لأجل الشك ، فاذا أزال الشّك الاحتياط في المسألة الاصولية ، لم يبق مورد للاحتياط في المسألة الفرعية.

٢٧١

كما إذا تردّد الواجب بين القصر والاتمام ودلّ على أحدهما أمارة من الأمارات التي يعلم إجمالا بوجوب العمل ببعضها ، فانّه إذا قلنا بوجوب العمل بهذه الأمارات يصير حجّة معيّنة لإحدى الصلاتين.

إلّا أن يقال : إن الاحتياط في المسألة الاصوليّة إنّما يقتضي إتيانها لا نفي غيرها ، فالصلاة الأخرى حكمها حكم السورة في عدم جواز اتيانها على وجه الوجوب ، فلا ينافي وجوب إتيانها لاحتمال الوجوب ، فيصير

______________________________________________________

(كما إذا تردد الواجب بين القصر والاتمام) وذلك في المسافر من محلّ الاقامة الى ما دون أربعة فراسخ ، فانّه يتردد بين أن يبقى على تمامه ، أو يقصر (ودلّ على أحدهما) من القصر أو التمام (أمارة من الامارات التي يعلم إجمالا بوجوب العمل ببعضها) بأن كانت هناك أمارات يعلم المكلّف بأنّه يجب العمل ببعض هذه الأمارات : كالاجماع المنقول ، والشهرة والأولوية ، وما أشبه ، وإحدى هذه الأمارات دلّت على القصر ـ مثلا ـ.

(فانّه إذا قلنا : بوجوب العمل بهذه الأمارات) من باب الاحتياط في المسألة الاصولية (يصير) هذا الواجب العمل به من الأمارة (حجّة معيّنة لإحدى الصلاتين) فلا مجال للاحتياط بإتيان الصلاتين حينئذ ، لأنّ الشك قد ارتفع بسبب الأمارة.

(إلّا أن يقال :) لبقاء الاحتياط في الفرع المذكور (ان الاحتياط في المسألة الاصولية ، إنّما يقتضي إتيانها) أي : إتيان الصلاة التي دلّت الامارة عليها (لا نفي غيرها) كصلاة التمام في الفرع المذكور (فالصلاة الاخرى) كالتمام في فرعنا (حكمها حكم السورة في عدم جواز إتيانها على وجه الوجوب) كما تقدّم (فلا ينافي وجوب إتيانها لاحتمال الوجوب ، فيصير

٢٧٢

نظير ما نحن فيه.

وأمّا الثاني : وهو مورد المعارضة ـ فهو كما إذا علمنا إجمالا بحرمة شيء من بين أشياء ، ودلّت على وجوب كلّ منها امارات نعلم إجمالا بحجّية إحداها ، فانّ مقتضى هذا وجوب الاتيان بالجميع ، ومقتضى ذلك ترك الجميع ، فافهم.

______________________________________________________

نظير ما نحن فيه) أي : تصير مسألة السورة فيما تقدّم ، نظير ما نحن فيه من مسألة القصر والتمام.

(وأمّا الثاني : وهو مورد المعارضة) بين المسألة الأصولية والمسألة الفرعية (فهو كما إذا علمنا إجمالا بحرمة شيء من بين أشياء ودلّت على وجوب كل منها امارات نعمل إجمالا بحجّية إحداها) مثلا : دلّ الاجماع على وجوب صلاة الجمعة ، والأولوية على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال والشهرة على وجوب جلسة الاستراحة ، لكن دلّ دليل على حرمة إحدى المذكورات (فان مقتضى هذا) العلم الاجمالي بالوجوب في المثال المذكور (وجوب الاتيان بالجميع ، ومقتضى ذلك) العلم بالحرمة (ترك الجميع) احتياطا.

(فافهم) لعله إشارة الى انّه لا فرق بين مسألتي السورة والقصر والتمام ، فمسألة القصر والتمام نظير مسألة السورة ، وعليه فكلتا المسألتين من واد واحد ، فان القائل بوجوب الاحتياط عند الشك في الأجزاء والشرائط إنّما يقول مع الشك في السورة.

مثلا : إنّ التكليف بالصلاة في الجملة ثابت والشك إنّما هو في المكلّف به وهو إن الصلاة هل هي مركبة من تسعة أجزاء أو من عشرة أجزاء؟ والقصر والتمام من هذا القبيل لأنّ التكليف ثابت ، وإنّما المكلّف به لا يعلم إنّه قصر أو تمام.

٢٧٣

وأمّا دعوى «أنّه إذا ثبت وجوب العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول وجب العمل به في مقابل الاحتياط للاجماع المركّب» ، فقد عرفت شناعته.

فان قلت :

______________________________________________________

وإن قلت : الظّن الاصولي يقدّم على المسألة الفرعية الاحتياطية ، لأنه كما يقدّم الظّن على البراءة والتخيير ، والاستصحاب ، كذلك يقدّم على الاحتياط ، وعليه فما تقدّم ممّا قرع سمعنا هو الصحيح ، وقول المصنّف : فليس في مثل المقام ، غير تام.

قلت : (وأمّا دعوى : انّه إذا ثبت وجوب العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول) العملية : كالبراءة ، والتخيير ، والاستصحاب (وجب العمل به) أي : بالظنّ (في مقابل الاحتياط) أيضا (للاجماع المركّب) بأنّه إما يجب الاحتياط مطلقا ، وإما لا يجب مطلقا.

(فقد عرفت شناعته) في آخر التنبيه السابق ، وكذا فيما أورده ثانيا على المعمم الثاني ، وذلك لعدم وجود علّة الحكم فسحبه في غير مورد العلّة غير صحيح ، لأنّه لا علّة للحكم بالتقديم في الاحتياط.

بل لو ادعى الاجماع : على أن كلّ من حكم بالتقديم في مقابل غير الاحتياط من الاصول ، لعلّه غير مطردة في مقابل الاحتياط ، لم يحكم بالتقديم في مقابله ، كان في محله كما نص على ذلك المصنّف السابق.

(فان قلت) مقتضى كلامكم : إنّا نعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية كالقصر والتمام حسب ما ذكرتم ، وأيضا نعمل بالاحتياط في الظّن في المسألة الاصولية حسب ما تقدّم ، وهذا جمع بين الاحتياطين وهو موجب للعسر.

٢٧٤

إذا عملنا في مقابل الاحتياط بكلّ ظنّ يقتضي التكليف وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط لزم العسر والحرج ، إذ يجمع حينئذ بين كلّ مظنون الوجوب وكلّ مشكوك الوجوب أو موهوم الوجوب مع كونه مطابقا للاحتياط اللازم. فاذا فرض لزوم العسر من مراعاة الاحتياطين معا في الفقه تعيّن رفعه بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظنّ.

فاذا فرضنا هذا الظنّ مجملا لزم العمل بكل ظنّ ممّا يقتضي الظنّ بالتكليف احتياطا ، وامّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم فيعمل بها فرارا عن لزوم العسر.

______________________________________________________

وذلك لأنّا (اذا عملنا في مقابل الاحتياط بكل ظنّ يقتضي التكليف) في المسألة الاصولية (وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط) في المسألة الفرعية (لزم العسر والحرج ، إذ يجمع حينئذ بين كلّ مظنون الوجوب ، وكلّ مشكوك الوجوب أو موهوم الوجوب ، مع كونه) أي : الوجوب (مطابقا للاحتياط اللازم) أي : مع كون الوجوب في كلّ من مشكوك الوجوب ، وموهوم الوجوب مطابقا للاحتياط اللازم.

(فاذا فرض لزوم العسر من مراعاة الاحتياطين) الاحتياط في الظنّ الموافق له ، والظنّ المخالف له (معا في الفقه) متعلق بالعسر بمعنى : لزوم العسر في الفقه (تعيّن رفعه) أي : رفع العسر (بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظّن) فارتفع الاحتياط في الظنّ المخالف له ، أي : موهوم الوجوب.

(فاذا فرضنا هذا الظنّ مجملا) لاقتضاء دليل الانسداد : الاهمال (لزم العمل بكلّ ظنّ ممّا يقتضي الظّن بالتكليف احتياطا ، وأمّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم ، فيعمل بها فرارا عن لزوم العسر).

٢٧٥

قلت : رفع العسر يمكن بالعمل ببعضها ، فما المعمّم؟ فيرجع الأمر إلى أنّ قاعدة الاشتغال لا ينفع ولا يتم في الظنون المخالفة للاحتياط ، لأنّك عرفت أنّه لا يثبت وجوب التسرّي إليها فضلا عن التعميم فيها ، لأنّ التسرّي إليها كان للزوم العسر ، فافهم.

______________________________________________________

والحاصل : ان المعمّم قال : بأن الظّن مطلقا حجّة في مظنون الاعتبار ومشكوكه ، وموهومه ، والشيخ أورد عليه : بأنّه ربّما يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية ، فلا تعميم في حجّة الظّن.

وفي «إن قلت» قال : بأنّه لا يمكن العمل بالاحتياط في المسألة الفرعية ، لأنّه يلزم العسر من الجمع بين الاحتياطين : الاحتياط في المسألة الاصولية ، والاحتياط في المسألة الفرعية فأجاب عنه بقوله :

(قلت : رفع العسر يمكن بالعمل ببعضها) أي : ببعض الظنون المخالفة للاحتياط اللازم (فما المعمّم) للظنّ؟.

إذن : (فيرجع الأمر الى أن قاعدة الاشتغال) أي : المعممة لكل الظنون (لا ينفع ولا يتمّ في الظّنون المخالفة للاحتياط) في المسألة الفرعية ، فان الاحتياط في المسألة الفرعية يمنع عن الاحتياط في المسألة الاصولية بتعميم قاعدة الاشتغال (لأنّك عرفت : إنّه لا يثبت وجوب التسرّي إليها) أي : الى الظنون المخالفة للاحتياط (فضلا عن التعميم فيها ، لأن التسرّي إليها كان للزوم العسر) لا لقاعدة الاشتغال.

(فافهم) لعلّه إشارة الى إنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعية ، لأن المسألة الاصولية رافعة للشكّ الذي هو موضوع للاحتياط في المسألة الفرعية ، وقد تقدّم ذلك من المصنّف.

٢٧٦

هذا كلّه على تقدير تقرير مقدّمات دليل الانسداد على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظّنّ في الجملة.

وقد عرفت أنّ التحقيق خلاف هذا التقرير ، وقد عرفت أيضا ما ينبغي سلوكه على تقدير تماميّته من وجوب اعتبار المتيقن حقيقة أو بالاضافة ، ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمّم الأوّل من المعمّمات الثلاثة.

وأمّا على تقدير تقريرها على وجه يوجب حكومة العقل ـ بوجوب الاطاعة الظنيّة والفرار عن المخالفة الظنيّة

______________________________________________________

(هذا كلّه على تقدير تقرير مقدّمات دليل الانسداد ، على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظّن في الجملة) ممّا تكون النتيجة مهملة ، فيحتاج الأمر الى التعميم ، وقد ذكرنا ثلاث معمّمات لتعميميّ النتيجة وتكلمنا حول كل واحد منها بإسهاب.

(وقد عرفت أن التحقيق خلاف هذا التقرير) أي : خلاف تقرير الكشف ، وإنّ الصحيح هو الحكومة.

(وقد عرفت أيضا : ما ينبغي سلوكه على تقدير تماميته) أي : تمامية هذا التقرير الكشفي : (من وجوب اعتبار المتيقن حقيقة ، أو بالاضافة) أي : المتيقن فالمتيقن (ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار ، بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمّم الأوّل من المعمّمات الثلاثة) وإنّه إن كفى مظنون الاعتبار فهو ، وإلّا أخذ من غيره.

(وأمّا على تقدير تقريرها) أي : تقرير مقدّمات الانسداد (على وجه يوجب حكومة العقل بوجوب الاطاعة الظنّية) الذي قويناه نحن ، فانّه يجب بحكم العقل : الاطاعة الظنيّة (والفرار عن المخالفة الظنية) بأن لا نخالف ما نظنه حكما

٢٧٧

وأنّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك ـ كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك ـ فالتعميم وعدمه لا يتصوّر بالنسبة إلى الأسباب ، لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الظنّي بين الأسباب المحصّلة له.

كما لا فرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الجزميّ بين أسبابه ، وإنّما يتصوّر من حيث مرتبة الظنّ

______________________________________________________

(وانّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك) أي : من الموافقة الظنية (كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك) بأن لا يعمل بالظنّ.

وعليه : (فالتعميم) في النتيجة لكل الظنون (وعدمه) أي : عدم التعميم (لا يتصور بالنسبة إلى الأسباب) أي : اسباب الظنون ، فان الظّن قد يحصل من الخبر ، أو من ظاهر الآية ، أو من الاجماع المنقول أو المحصل ، أو السيرة ، أو الأولوية ، أو غيرها ، فكل الأسباب المؤدية الى الظّن لا فرق فيها (لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الظنيّ بين الأسباب المحصّلة له) للانكشاف الظني.

وقوله : «بين الاسباب» متعلق : «بعدم الفرق» فان منظور العقل في حال الانسداد : الظّن ، فالظّن من أي سبب حصل يكون حجّة.

(كما لا فرق فيما إذا كان المقصود : الانكشاف الجزميّ) بالعلم (بين أسبابه) أي : بين أسباب الانكشاف في حال العلم ، فكما ان العلم إذا حصل للانسان في حال الانفتاح لا فرق عنده بين أسباب العلم ، كذلك إذا حصل له الظنّ في حال الانسداد لا فرق عنده بين أسباب الظنّ.

(وإنّما يتصور) التعميم وعدمه على الحكومة (من حيث مرتبة الظّن

٢٧٨

ووجوب الاقتصار على الظنّ القويّ الذي يرتفع معه التحيّر عرفا.

بيان ذلك : أنّ الثابت من مقدّمتي بقاء التكليف وعدم التمكّن من العلم التفصيليّ هو وجوب الامتثال الاجماليّ بالاحتياط في إتيان كلّ ما يحتمل الوجوب ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة.

لكنّ المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط إنّما أبطلت وجوبه على وجه الموجبة الكلّية بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط

______________________________________________________

ووجوب الاقتصار على الظّن القوي الذي يرتفع معه التحيّر عرفا) فمع كفاية الظّن القوي بمعظم الفقه ، يعمل بالظّن القوي ويترك الظّن الضعيف.

(بيان ذلك) أي : إن التعميم وعدمه يتصور بالنسبة الى مرتبة الظنّ على الحكومة (انّ الثابت من مقدمتي بقاء التكليف ، وعدم التمكّن من العلم التفصيلي) حيث هما مقدمتان للانسداد ، فمقدمة تقول : ان التكليف باق الى يومنا هذا ، ومقدمة تقول : إنّا لا نتمكن من العلم التفصيلي.

فالثابت من هاتين المقدمتين (هو : وجوب الامتثال الاجمالي بالاحتياط في إتيان كل ما يحتمل الوجوب ، وترك كل ما يحتمل الحرمة) فان العقل يوجب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي حتى يعلم الانسان ببراءة ذمته من التكليف الذي كلّفه به المولى.

هذا (لكن المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط) حيث إن الاحتياط يوجب العسر والحرج (إنّما أبطلت وجوبه) أي : وجوب الاحتياط (على وجه الموجبة الكلية).

ومعنى إبطاله على وجه الموجبة الكلية : (بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط) فانّه لما كان عسرة أو حرجا ، لم يلزم العمل بالاحتياط الى حدّ العسر

٢٧٩

أو يرجع إلى الأصل كذلك.

ومن المعلوم أنّ إبطال الموجبة الكلّية لا يستلزم صدق السالبة الكلّية.

وحينئذ : فلا يثبت من ذلك إلّا وجوب العمل بالظنّ على خلاف الاحتياط والاصول في الجملة.

______________________________________________________

والحرج ، أما العمل بالاحتياط في جملة من الأطراف بحيث لا يصل الى العسر والحرج ، فالمقدمة الثالثة لم تبطل مثل هذا الاحتياط.

(أو يرجع الى الأصل كذلك) أي : بأن يرجع الى الأصل في كل واقعة من الوقائع المحتملة ، فانّ ذلك أيضا باطل على وجه الموجبة الكلية ، لأنّ ذلك يوجب الخروج عن الدّين ، أما الرجوع الى الأصول بمقدار لا يستلزم الخروج عن الدّين فلم تدلّ المقدمة الثالثة على بطلان ذلك.

(ومن المعلوم : انّ إبطال الموجبة الكلية لا يستلزم صدق السالبة الكليّة) لأن إبطال الموجبة الكلّية قد يصدق مع السالبة الكلّية وقد يصدق مع السالبة الجزئية ، فاذا قلنا ـ مثلا ـ ليس كل انسان بعاقل ، لم يكن معناه : كلّ إنسان مجنون مطلقا ، بل معناه : بعض الانسان مجنون ، وقد يكون معناه كليا ، كقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١) أي : ان يحب كل واحد واحد منهم.

(وحينئذ) أي : حين لم يستلزم إبطال الموجبة الكلية صدق السالبة الكلية (فلا يثبت من ذلك) أي : من إبطال الموجبة الكلية (إلّا وجوب العمل بالظّن على خلاف الاحتياط و) على خلاف (الأصول في الجملة) أي : يعمل بالظّن على خلاف الاحتياط فيما يكون الاحتياط موجبا للعسر والحرج ، ويعمل بالظّن

__________________

(١) ـ سورة لقمان : الآية ١٨.

٢٨٠