الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-05-8
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

المخالفة القطعيّة الكثيرة ولزوم الحرج عن الاحتياط.

وهذا المقدار لا يثبت إلّا وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، من دون تعميم بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة الظنّ.

وحينئذ فنقول :

______________________________________________________

المخالفة القطعيّة الكثيرة) لأنّا اذا أجرينا البراءة في جميع مسائل الفقه ، من أول الطهارة الى الدّيات ، حصل لنا العلم بمخالفات كثيرة ، والأصل لا يجري مع العلم بمخالفات كثيرة.

(و) إنّما الممنوع من الاحتياط هو : (لزوم الحرج عن الاحتياط) فانّا اذا أردنا إجراء الاحتياط ، من أوّل الفقه الى آخره ، لزم الحرج الأكيد والعسر الشديد.

(وهذا المقدار) الذي يوجب جريان البراءة فيما لا يستلزم الخروج عن الدّين ويوجب جريان الاحتياط ، لأنّه لا يستلزم العسر ، (لا يثبت الّا وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، من دون تعميم) لما لا يستلزم ذلك ، فنعمل بالظنّ فقط في القدر الذي يوجب الخروج عن الدّين في البراءة ويوجب العسر والحرج في الاحتياط.

والحاصل : انّ القدر الموجب للخروج عن الدّين أو العسر ، يعمل فيه بالظنّ ، أما في غير هذا القدر فيعمل بالبراءة اذا كان الشّك في التكليف ، وبالاحتياط اذا كان الشّك في المكلّف ، فلا يكون الظنّ حجّة مطلقا بحيث يكون عاما (بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ، ولا بحسب مرتبة الظنّ) واشخاصه ـ كما مرّ سابقا ـ

(وحينئذ) حيث لا يتم دليل القوانين ، ولا دليل صاحبي المعالم والزبدة (فنقول :) بعد أنّ لم يثبت حجّية الظنّ مطلقا من كلام الأعلام الثلاثة : هل نحن نرى الاطلاق أو الاهمال في نتيجة دليل الانسداد؟.

١٦١

إنّه إمّا أن يقرّر دليل الانسداد على وجه يكون كاشفا عن حكم الشارع بلزوم العمل بالظنّ ، بانّ يقال : إنّ بقاء التكليف ـ مع العلم بأنّ الشارع لم يعذرنا في ترك التعرّض لها وإهمالها ، مع عدم ايجاب الاحتياط علينا وعدم بيان طريق مجعول فيها ـ يكشف عن أنّ الظنّ جائز العمل وانّ العمل به ماض ، عند الشارع وانّه لا يعاقبنا على ترك واجب اذا ظنّ بعدم وجوبه ولا بفعل محرّم اذا ظنّ بعدم تحريمه.

______________________________________________________

وذلك (انّه إمّا أن يقرر دليل الانسداد على وجه يكون كاشفا عن حكم الشّارع بلزوم العمل بالظنّ) وهذا ما يسمى بالكشف (بأنّ يقال : إنّ بقاء التّكليف مع العلم بأنّ الشارع لم يعذرنا في ترك التعرّض لها وإهمالها) ولا يخفى : إنّ قوله : «مع العلم» عطف بيان لقوله : «بقاء التكليف» ، وحيث قصد من التكليف : الأحكام الشرعيّة ، جاء بالضمير المؤنث في قوله : «لها وإهمالها».

(مع عدم إيجاب الاحتياط علينا) حيث إنّ الشارع لم يوجب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي من أول الفقه الى آخره لما عرفت : من أنّه يوجب اختلال النظّام ، أو العسر الاكيد والحرج الشّديد.

(وعدم بيان طريق مجعول فيها) أي : في أحكامه بأن يقول مثلا : اعملوا بالاولويات ، أو بالقياسات ، أو بالشهرات ، أو بما اشبه ذلك.

فانّه (يكشف) أي : بقاء التكليف (عن انّ الظنّ جائز العمل) في حال الانسداد (وانّ العمل به) أي : بالظنّ (ماض عند الشارع ، وانّه لا يعاقبنا على ترك واجب اذا ظنّ بعدم وجوبه) فتركناه (ولا بفعل محرّم اذا ظنّ بعدم تحريمه) فعملنا بذلك المحرم الواقعي الذي ادى الظنّ على خلافه.

١٦٢

فحجّية الظنّ على هذا التقرير تعبّد شرعيّ كشف عنه العقل من جهة دوران الأمر بين امور كلّها باطلة سواه ، فالاستدلال عليه من باب الاستدلال على تعيين احد طرفيّ المنفصلة أو اطرافها بنفي الباقي ، فيقال : أنّ الشارع إمّا أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالا ، أو أراد الامتثال بها على العلم ، أو اراد الامتثال المعلوم إجمالا ، أو أراد امتثالها

______________________________________________________

وعليه : (فحجيّة الظنّ على هذا التقرير) أي : تقرير الكشف. (تعبّد شرعي كشف عنه العقل) فانّ العقل كاشف بسبب هذه المقدّمات التي ذكرناها عن أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة (من جهة دوران الأمر بين امور كلّها باطلة سواه) أي : سوى الظن.

والامور الباطلة المذكورة عبارة عن : عدم التكليف ، أو وجوب الاحتياط ، أو نصب طريق مجعول.

إذن : (فالاستدلال عليه) أي : على الظنّ في حال الانسداد (من باب الاستدلال على تعيين احد طرفي المنفصلة ، أو أطرافها بنفي الباقي) مثل أنّ يقال : العدد إمّا زوج ، وإمّا فرد ، لكن العدد في هذا المكان ليس بزوج فهو فرد.

هذا بالنسبة الى احد الطرفين ، وأمّا بالنسبة الى احد الاطراف فيقال : كان في الدار اما زيد أو عمرو أو بكر ، لكن زيدا وعمرا ليسا في الدار قطعا ، فلا يبقى إلّا أنّ يكون في الدار بكر.

وتقريب المنفصلة في المقام ، وهو ما ذكره المصنّف بقوله : (فيقال : انّ الشّارع اما أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالا) رأسا.

(أو أراد الامتثال بها) أي : بهذه التكاليف (على العلم) بانّ نعلم بتلك التكاليف فنؤدّيها ، (أو أراد الامتثال المعلوم اجمالا) بالاحتياط ؛ (أو أراد امتثالها

١٦٣

من طريق خاص تعبّدي ، أو أراد امتثالها الظني ، وما عدا الأخير باطل ، فتعيّن هو.

وإمّا أن يقرّر على وجه يكون العقل منشأ للحكم بوجوب الامتثال الظنّي ، بمعنى حسن المعاقبة على تركه وقبح المطالبة بأزيد منه ، كما يحكم بوجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظنّ عند التمكّن من تحصيل العلم.

______________________________________________________

من طريق خاصّ تعبّدي) جعله الشارع ، (أو أراد امتثالها الظنّي) فقط.

(و) معلوم انّ (ما عدا الأخير) من الاحتمالات الأربعة المتقدمة (باطل) لأنه لا اعراض للشّارع عن أحكامه قطعا ، واطاعة التكاليف بالعلم الوجداني في كلّ تكليف تكليف غير حاصل لنا ، والامتثال الاجمالي بالاحتياط موجب لاختلال النظام والعسر والحرج ، والشارع لم يجعل طريقا خاصا ، إذن (فتعين هو) أي : العمل بالظنّ.

وعليه : فان مقتضى هذا الاستدلال الكشفي هو : حجّية الظنّ مطلقا من حيث الأسباب والموارد والمراتب ـ كما سيأتي الالماع اليه إنشاء الله تعالى ـ.

(وأمّا أن يقرّر على وجه يكون العقل منشأ للحكم بوجوب الامتثال الظني) وهذا ما يصطلح عليه : بانّ نتيجة دليل الانسداد الحكومة (بمعنى : حسن المعاقبة) من المولى (على تركه) أي : على ترك العبد العمل بالظنّ (وقبح المطالبة) من المولى عن العبد (بأزيد منه) أي : بأزيد من الظنّ ، كأن يطالبه بالاحتياط ، أو نحو ذلك.

(كما يحكم) العقل (بوجوب تحصيل العلم ، وعدم كفاية الظنّ عند التّمكن من تحصيل العلم) ففي حال الانفتاح يطلب العقل العلم ، وفي حال الانسداد الظنّ.

١٦٤

فهذا الحكم العقليّ ليس من مجعولات الشارع ، إذ كما أنّ نفس وجوب الاطاعة وحرمة المعصية بعد تحقق الأمر والنهي من الشارع ليس من الأحكام المجعولة من الشارع ، بل شيء يستقلّ به العقل لا على وجه الكشف ، فكذلك كيفيّة الاطاعة وأنّه يكفي فيها الظنّ بتحصيل مراد الشارع في مقام ويعتبر فيها العلم بتحصيل المراد في مقام آخر امّا تفصيلا أو إجمالا.

وتوهّم : «انّه يلزم على هذا انفكاك حكم العقل عن حكم الشرع» ،

______________________________________________________

وعليه : (فهذا الحكم العقلي ليس من مجعولات الشّارع) لأنّ العقل يرى انّ هذا طريق الاطاعة ، لا انّ الشّارع جعل الظّنّ طريق الاطاعة.

(إذ كما انّ نفس وجوب الاطاعة وحرمة المعصية بعد تحقّق الأمر والنهي من الشّارع ، ليس) ذلك الوجوب وتلك الحرمة (من الأحكام المجعولة من الشارع ، بل شيء يستقلّ به العقل لا على وجه الكشف) فانّ الشّارع بعد أن أمر ونهى ، قال العقل : أطع أمره واترك نهيه (فكذلك كيفيّة الاطاعة وانّه يكفي فيها) أي : في الاطاعة. (الظّنّ بتحصيل مراد الشارع في مقام) وهو : مقام الانسداد.

كما (ويعتبر فيها العلم بتحصيل المراد في مقام آخر) أي : في صورة التمكن من العلم ، وذلك (إمّا تفصيلا) كما إذا تمكّن العبد من العلم التفصيلي ولم يكن فيه عسر ولا حرج (أو إجمالا) كما إذا لم يتمكن العبد من العلم التفصيلي وكان له علم إجمالي ، ولم يستلزم الاطاعة في أطراف العلم الاجمالي عسرا وحرجا.

(وتوهّم : انّه يلزم على هذا) أي : على كون نتيجة دليل الانسداد الحكومة ، لا الكشف. (انفكاك حكم العقل عن حكم الشّرع) مع انّه كل ما حكم به العقل حكم به الشّرع ، فكيف تقولون : بانّ نتيجة الانسداد حجّية الظّنّ مطلقا

١٦٥

مدفوع بما قرّرنا في محلّه ، من أنّ التلازم بين الحكمين إنّما هو مع قابليّة المورد لهما.

أمّا لو كان قابلا لحكم العقل دون الشرع فلا ، كما في الاطاعة والمعصية ، فانّهما لا يقبلان لورود حكم الشرع عليهما بالوجوب والتحريم الشرعيّين بأن يريد فعل الأولى وترك الثانية بارادة مستقلّة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه

______________________________________________________

على الحكومة ، لا على الكشف؟.

هذا التوهم (مدفوع بما قرّرنا في محلّه : من انّ التلازم بين الحكمين) العقل والشّرع (إنّما هو مع قابليّة المورد لهما) بأن يكون حكما شرعيا وحكما عقليا.

(أمّا لو كان قابلا لحكم العقل دون الشّرع فلا ، كما في الاطاعة والمعصية) إذ في باب الاطاعة والمعصية ، الحاكم الوحيد هو العقل ، ولا مدخلية للشرع فيهما ، ولهذا (فانّهما) أي : باب الاطاعة والمعصية (لا يقبلان لورود حكم الشرع عليهما بالوجوب والتّحريم الشّرعيّين ، بأن يريد) المولى (فعل الأولى) أي :

الطاعة (وترك الثّانية) أي المعصية ، (بارادة مستقلّة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه).

مثلا إذا قال المولى : صلّ ، وقال : لا تشرب الخمر ، ثم قال بعد ذلك : أطعني ، فان قوله : أطعني ، إرشاد الى حكم العقل ، وليس فيه ثواب ولا عقاب ، مع قطع النظر عن ثواب الصّلاة وعقاب شرب الخمر ، لا انّه تكليف جديد.

وإلّا فلو كان قوله : «أطعني» تكليفا جديدا ، لزم أن يكون للمصلي ثوابان : ثواب أصل الصلاة ، وثواب الاطاعة ، ولشارب الخمر عقابان : عقاب شرب الخمر ، وعقاب المعصية.

١٦٦

الحاصلة ، بالأمر والنهي ، حتى انّه لو صرّح بوجوب الاطاعة وتحريم المعصية ، كان الأمر والنهي للارشاد لا للتكليف ، اذ لا يترتّب على مخالفة هذا الأمر والنهي الّا ما يترتّب على ذات المأمور به ، والمنهي عنه ، أعني نفس الاطاعة والمعصية.

وهذا نفس دليل الارشاد ، كما في أوامر الطبيب.

______________________________________________________

ومن البديهي : انّه ليس للطاعة الواحدة ثوابان ، ولا للعقوبة الواحدة عقابان ، فللمولى ارادة واحدة بفعل المأمور به ، وترك المنهي عنه (الحاصلة بالأمر والنهي) لا أنّ له إرادتين : إرادة بالنسبة الى فعل المأمور به وترك المنهي عنه ، وإرادة بالنسبة الى الطاعة.

هذا (حتى انه لو صرّح بوجوب الاطاعة) كما قال سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١) (وتحريم المعصية) كما قال سبحانه :

(وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢) (كان الأمر والنّهي) في أطيعوا وانتهوا (للارشاد ، لا للتكليف) فأمره ونهيه ارشاد الى حكم العقل ، لا انّه تكليف جديد.

ويدلّ على انّه ليس بتكليف جديد ما ذكره بقوله (اذ لا يترتّب على مخالفة هذا الأمر والنّهي إلّا ما يترتّب على ذات المأمور به والمنهي عنه ، أعني : نفس الاطاعة والمعصية) للصلاة وشرب الخمر ، فليس هناك طاعتان ومعصيتان.

(وهذا نفس دليل الارشاد) فانّ الأوامر الارشادية لا طاعة ولا معصية في فعلها أو تركها ، وانّما تكون النتيجة لنفس الفعل والترك (كما في أوامر الطّبيب) فانّ الطبيب ، اذا قال : اشرب هذا الدواء ، فان اطاعه لم يكن لطاعة أمر الطبيب ثواب ،

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٥٩.

(٢) ـ سورة الحشر : الآية ٧.

١٦٧

ولذا لا يحسن من الحكيم عقاب آخر او ثواب آخر غير ما يترتب على نفس المأمور به والمنهيّ عنه فعلا أو تركا من الثواب والعقاب.

ثمّ إنّ هذين التقريرين مشتركان في الدلالة على التعميم من حيث الموارد يعني المسائل ، اذ على الأوّل يدّعى الاجماع القطعيّ على أنّ العمل بالظنّ لا يفرّق فيه بين أبواب الفقه ،

______________________________________________________

وإنّما تكون النتيجة الحسنة لفعل شرب الدواء ، واذا عصاه لم يكن لعصيان أمر الطبيب عقاب ، وإنّما تكون النتيجة السيئة لنفس ترك شرب الدواء.

(ولذا) أي : لأجل انّه ليس الأمر الاطاعة والمعصية ثواب وعقاب (لا يحسن) بل يقبح (من الحكيم عقاب آخر ، أو ثواب آخر ، غير ما يترتب على نفس المأمور به والمنهيّ عنه فعلا أو تركا من الثواب والعقاب) وإنّما لا يحسن ثواب آخر ، أو يقبح الثواب الآخر ، لأنّه خلاف الحكمة.

نعم ، يصح أنّ يتفضل المولى بثواب آخر ، الّا أن يكون على نحو الأجر ، فاذا استأجر أجيرا بدرهم ، ثم اعطاه درهمين وقال : إنّ كلا الدرهمين أجرة كان عملا قبيحا ، لأنّ الدرهم الثاني يكون من وضع الشيء في غير موضعه ، وأمّا اذا أعطاه درهما اجرا ودرهما تفضلا لم يكن قبيحا.

(ثمّ إنّ هذين التقريرين) الكشف والحكومة (مشتركان في الدّلالة على التعميم) في النتيجة (من حيث الموارد يعني المسائل) فان نتيجة دليل الانسداد ـ سواء قلنا : بانّه يفيد الكشف ، أو يفيد الحكومة ـ العمل بالظنّ في كل المسائل من أول الفقه الى آخره اذا ظنّ بها.

(اذ على الاوّل :) وهو الكشف (يدّعى الاجماع القطعي على انّ العمل بالظنّ لا يفرّق فيه بين أبواب الفقه) اذ لا وجه للفرق بعد عموم الدّليل لكلّ الابواب.

١٦٨

وعلى الثاني يقال إنّ العقل مستقل بعدم الفرق في باب الاطاعة والمعصية بين واجبات الفروع من أوّل الفقه الى آخره ولا بين محرّماتها كذلك فيبقى التعميم من جهتيّ الاسباب ومرتبة الظنّ ، فنقول : أمّا التقرير الثاني ، فهو يقتضي التعميم والكلّية من حيث الأسباب ، اذ العقل لا يفرّق في باب الاطاعة الظنيّة بين أسباب الظنّ ، بل هو من هذه الجهة نظير العلم لا يقصد منه الّا الانكشاف.

______________________________________________________

(وعلى الثاني :) وهو الحكومة (يقال : انّ العقل مستقل بعدم الفرق في باب الاطاعة والمعصية بين واجبات الفروع) أي : الفروع الواجبة (من أول الفقه الى آخره ، ولا بين محرّماتها) أي : الفروع المحرمة (كذلك) أي : من أول الفقه الى آخره.

(فيبقى التعميم من جهتيّ : الأسباب ، ومرتبة الظنّ) فهل أنّ الظنّ من كل الأسباب حجّة ، أو من أسباب خاصة؟ وهل أن الظنّ بكل مراتبه القوية والضعيفة والمتوسطة حجّة ، أو بعض مراتبه؟.

(فنقول : اما التقرير الثاني) الذي هو الحكومة : (فهو يقتضي التّعميم والكلّية من حيث الأسباب ، اذ العقل لا يفرّق في باب الاطاعة الظنيّة بين أسباب الظنّ) فحيثما حصل الظنّ كان حجّة ، سواء حصل من الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو العقل ، أو الاولوية ، أو ما أشبه ذلك.

(بل هو) أي الظنّ (من هذه الجهة) أي : من جهة الاسباب ، (نظير العلم ، لا يقصد منه الّا الانكشاف) فكما أنّ العلم حجّة ، لأنّه كاشف عن الواقع كشفا قطعيا من غير نظر الى اسباب العلم ، كذلك الظنّ في حال الانسداد حجّة من غير نظر الى أسباب الظنّ ، لأن له كشفا ناقصا في زمان عدم وجود الكشف التام

١٦٩

وأمّا من جهة مرتبة الانكشاف قوة وضعفا فلا تعميم في النتيجة ، إذ لا يلزم من بطلان كلّيّة العمل بالاصول التي هي طرق شرعيّة الخروج عنها بالكليّة ، بل يمكن الفرق في مواردها بين الظنّ القويّ البالغ حدّ سكون النفس في مقابلها فيؤخذ به وبين ما دونه فيؤخذ بها.

______________________________________________________

يقوم مقامه.

(وأمّا من جهة مرتبة الانكشاف قوّة وضعفا ، فلا تعميم في النتيجة) حتى يكون الظنّ مطلقا قويّا كان أو ضعيفا حجّة ، (إذ لا يلزم من بطلان كليّة العمل بالأصول) ، بطلان الجزئية أيضا ، فانّ السلب الكلّي لا يلازم السلب الجزئي.

فاذا قلنا : ليس كلّ النّاس في البلد ، لم يكن معناه ليس بعض الناس في البلد.

وعليه : فبطلان كليّة العمل بالاصول (التي هي) أي : تلك الاصول (طرق شرعيّة) لا يلزم من بطلان هذه الكلّية (الخروج عنها) أي : عن الاصول (بالكلّيّة) فانّا وان قلنا في مقدمات الانسداد : بانّ العمل بالبراءة يوجب الخروج عن الدّين ، والعمل بالاحتياط يوجب العسر والحرج ، لكن ذاك فيما إذا عملنا بالبراءة والاحتياط كلية ، أما إذا عملنا بهما في موارد الظّنّ الضعيف ، وعملنا بالظّنّ القوي في موارد وجود الظّن القويّ ، فلا يلزم خروجا عن الدّين ولا عسرا ولا حرجا.

وعليه : فلا يلزم العمل بكل مراتب الظّنّ قوة وضعفا (بل يمكن الفرق في مواردها بين الظّنّ القوي البالغ حدّ سكون النّفس في مقابلها) أي : في مقابل هذه الموارد ، فيسكن النفس وفق هذا الظّنّ ، في مقابل الوهم الّذي لا يسكن النفس فيه (فيؤخذ به) أي : بهذا الظّنّ القوي (وبين ما دونه) أي : ما دون الظّنّ القوي كالظّنّ الضّعيف (فيؤخذ بها) أي : بالاصول.

١٧٠

وأمّا التقرير الأوّل فالإهمال فيه ثابت من جهة الأسباب ومن جهة المرتبة.

وإذا عرفت ذلك ، فنقول : الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني ،

______________________________________________________

(وأمّا التقرير الأوّل) الّذي هو الكشف : (فالاهمال فيه ثابت من جهة الأسباب ، ومن جهة المرتبة) وذلك بعد ثبوت الانسداد في أغلب الأحكام ، وبقاء التكليف ، وبطلان وجوب الاحتياط كليّة ، وبطلان جواز العمل بالاصول وسائر الطرق التعبدية ، كالقرعة ، والاولوية ، وما أشبه ، فانّه ليس للعقل أن يستكشف بملاحظة هذه المقدمات : انّ كون الظّنّ حجّة عند الشّارع مطلقا من غير فرق بين أسبابه ومراتبه.

فانّه بعد عزل العقل عن الحكومة ، يكشف العقل عن انّ الشّارع جعل الظنّ في الجملة حجّة ، أمّا انّ كل مراتب الظّنّ وكل أسباب الظّنّ يكون حجّة ، فليس للعقل كشف ذلك عن الشّرع.

ومن الواضح : انّ هذا مبنيّ على انّ القدر الثابت من مقدمات دليل الانسداد هو بطلان كلّي وجوب العمل بالاحتياط ، وكذا كلي جواز العمل بالاصول ، والّا فعلى فرض ثبوت بطلانهما إطلاقا ، فلا ريب انّ المنكشف عند العقل حينئذ حجيّة الظنّ مطلقا من دون فرق بين اسبابه ومراتبه ، إذ لا مناص من العمل بالظّنّ حينئذ في موارد وجود الظّنّ مطلقا ، ولا يكون فرق بين الأسباب والموارد والمراتب.

(وإذا عرفت ذلك) من ان النتيجة اما كشف ، أو حكومة ، وانّه على الكشف تكون النتيجة امّا كليّة أو جزئية ، وعلى الحكومة تكون النتيجة أيضا امّا كليّة أو جزئية (فنقول : الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثّاني) أي : الحكومة

١٧١

وأنّ التقرير على وجه الكشف فاسد.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقدّمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع للظنّ مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصّة حجّة ، لجواز أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذّر العلم أصلا.

بل عرفت في الوجه الاوّل من الايراد على القول باعتبار الظنّ في الطريق أنّ ذلك غير بعيد.

وهو أيضا طريق العقلاء في التكاليف العرفيّة ، حيث يعملون بالظّنّ في تكاليفهم العرفيّة مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالي ، ولا يجب على الموالي نصب

______________________________________________________

(وانّ التقرير على وجه الكشف فاسد) من وجوه :

(أمّا أوّلا : فلأنّ المقدّمات المذكورة لا تستلزم جعل الشّارع للظّنّ مطلقا) من أيّ سبب (أو بشرط حصوله من أسباب خاصّة حجّة ، لجواز أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذر العلم أصلا) بل يكل الأمر الى العرف ، كما إنّ الموالي لا يجعلون الطرق غالبا لأوامرهم ، بل يكلون ذلك الى العقلاء والعرف.

(بل عرفت في الوجه الأوّل من الايراد على القول باعتبار الظّنّ في الطريق) أي : قول القائل : بانّ الظّنّ بالطريق حجّة ، لا الظنّ بالأحكام (انّ ذلك) أي : عدم جعل الشّارع طريقا للامتثال (غير بعيد) منه.

(وهو) أي : عدم الجعل (أيضا طريق العقلاء في التكاليف العرفيّة) من الموالي الى العبيد (حيث يعملون بالظّنّ في تكاليفهم العرفيّة ، مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالي) فانّ العبيد يعملون بأوامر الموالي حسب العلم ، فاذا لم يكن لهم علم عملوا حسب الظنّ (ولا يجب على الموالي نصب

١٧٢

الطريق عند تعذّر العلم.

نعم ، يجب عليهم الرضا بحكم العقل ويقبح عليهم المؤاخذة على مخالفة الواقع الذي يؤدّي إليه الامتثال الظنّيّ ، إلّا أن يقال : إنّ مجرّد إمكان ذلك ما لم يحصل العلم به لا يقدح في إهمال النتيجة وإجمالها ، فتأمّل.

______________________________________________________

الطريق عند تعذر العلم) من العبيد بأوامر مواليهم.

(نعم ، يجب عليهم) أي : على الموالي (الرّضا بحكم العقل ، ويقبح عليهم المؤاخذة على مخالفة الواقع ، الّذي يؤدي اليه) أي : يؤدّي الى ذلك الخلاف للواقع (الامتثال الظّنّي) من العبيد.

فإذا كان الواقع ـ مثلا ـ وجوب مجيئهم في هذا اليوم الى دار المولى ، ولكن ظنوا عدم لزوم المجيء فلم يأتوا ، فانّه لا يعاقبهم المولى ، لأنه يقبح عند العقلاء مؤاخذتهم على عملهم بالظّنّ ـ حين تعذّر العلم عليهم ـ وإن كان الظّنّ على خلاف الواقع.

(إلّا أن يقال : انّ مجرّد إمكان ذلك) أي : عدم الجعل (ما لم يحصل العلم به) أي : بعدم الجعل (لا يقدح في إهمال النّتيجة وإجمالها) وعدم كليّتها.

فانّ مجرد احتمال عدم جعل الشارع الطريق بعد الانسداد إذا لم يحصل العلم بعدم الجعل ، لا يقدح في إهمال النتيجة ، ولا يضر بإجمالها ، وما ذكرناه سابقا : من انّه على الحكومة تكون النتيجة عامّة من حيث الأسباب غير صحيح ، إذ إمكان عدم الجعل لا يدل على أنّ الظّنّ من كل سبب حجّة ، فانّ العقل يحتمل انّ الشّارع جعل بعض الأسباب حجّة دون بعض.

نعم ، لو علم بانّ الشّارع لم يجعل طريقا إطلاقا ، كشف العقل ان الظّنّ من كل سبب حجّة (فتأمل).

١٧٣

وإمّا ثانيا : فلأنّه إذا بني على كشف المقدّمات المذكورة عن جعل الظنّ على وجه الاهمال والاجمال صحّ المنع الذي أورده بعض المتعرّضين لردّ هذا الدليل ،

______________________________________________________

قال الأوثق : «ضعف «إلّا أن يقال» ظاهر ، إذ الفرض انّ إهمال النتيجة مبنيّ على الكشف ، ولا ريب انّ كشف العقل وإدراكه لجعل الشّارع الظّنّ حجّة ، لا يمكن إلّا بعد انتفاء احتمال إحالة الشّارع المكلّفين الى طريقة العقلاء ، ومجرد احتماله كاف في منع كشف العقل وإدراكه» (١).

(وأمّا ثانيا :) فانّه إذا لم نقل بالحكومة وقلنا بانّ مقدمات الانسداد تكشف عن حجّية الظّنّ ، كان لقائل أن يقول : يحتمل أن يكون الشّارع جعل غير الظّنّ حجّة ، مثل استحسان أكثرية العلماء لحكم ما ، كما نجد ذلك في مجالس الأمم غير الاسلامية ، حيث انّهم يعملون بأكثرية الآراء في أحكامهم ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا يحتمل أن يجعله الشّارع حجّة فيما لم يجعل الظّنّ حجّة ، وإذا جاء هذا الاحتمال بطل كون الظّنّ حجّة.

(فلأنّه إذا بني على كشف المقدّمات المذكورة عن جعل الظنّ على وجه الاهمال والاجمال) حجّة ، لا على الحكومة (صحّ المنع الّذي أورده بعض المعترضين لردّ هذا الدّليل) أي : دليل الانسداد ، فان الفاضل النراقي أشكل على دليل الانسداد : بانّه من أين القطع بانّ الشّارع جعل الظنّ حجّة ، بل يحتمل أن يكون الشّارع جعل غير الظّنّ حجّة.

وعليه : فإذا قلنا بالحكومة ، لا يأتي إيراد النراقي ، أمّا إذا قلنا بالكشف ، جاء

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٢٢١ فساد دليل الانسداد على وجه الكشف.

١٧٤

وقد أشرنا إليه سابقا.

وحاصله : أنّه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظنّ أو الظنّ في الجملة المتردّد بين الكلّ والبعض المردّد بين الابعاض ، كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجّة من دون اعتبار إفادته الظنّ ،

______________________________________________________

إيراده ، وهو : انّه يحتمل أن يكون الشّارع جعل شيئا آخر غير الظّن حجّة ، لا أنّه جعل الظّنّ حجّة ، (وقد أشرنا اليه سابقا) أي : الى ما لا يقدر الكشفي على جوابه ، وإنّما يقدر الحكومي على جوابه.

(وحاصله :) أي : حاصل إشكال النراقي على الانسداد هو : (انّه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظّن) أي : الظّنّ مطلقا (أو الظّنّ في الجملة) أي : على وجه الاهمال والاجمال (المتردّد) صفة لقوله : في الجملة (بين الكلّ والبعض) لأنّا نحتمل إنّ الشّارع جعل كلّ الظّنون حجّة ، ونحتمل انّه جعل بعض الظّنون حجّة (المردّد) ذلك البعض أيضا (بين الابعاض) هناك ثلاثة احتمالات :

الأول : إنّه جعل الظنون كلها حجّة.

الثاني : إنّه جعل بعض الظّنون حجّة ، وذلك البعض يحتمل أن يكون هو الظّنّ القويّ فقط.

الثالث : ان يكون ذلك البعض هو الظنّ القوي والمتوسط فقط دون الظنّ الضعيف.

وعليه : فكما يحتمل جعل ذلك (كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجّة ، من دون اعتبار إفادته الظّنّ) كما مثّلنا له بجعل رأي أكثرية العلماء حجّة في الأحكام.

١٧٥

لأنّه أمر ممكن غير مستحيل.

والمفروض عدم استقلال العقل بحكم في هذا المقام ، فمن أين يثبت جعل الظنّ في الجملة دون شيء آخر ، ولم يكن لهذا المنع دفع أصلا ، إلّا أن يدّعى الاجماع على عدم نصب شيء آخر غير الظنّ في الجملة ، فتأمّل.

______________________________________________________

وانّما قلنا باحتمال ذلك (لأنّه أمر ممكن غير مستحيل) إذ لا دليل على استحالته.

هذا (والمفروض : عدم استقلال العقل بحكم في هذا المقام) لأنّ الكلام هنا على الكشف لا على الحكومة.

وعليه : (فمن أين يثبت جعل الظّنّ في الجملة دون شيء آخر) يجعله حجّة في حال الانسداد؟.

وإذ أشكل النراقي بهذا الاشكال ، لم نتمكن من رده على الكشف (ولم يكن لهذا المنع) من الفاضل النراقي (دفع أصلا ، إلّا أن يدّعى الاجماع على عدم نصب شيء آخر غير الظّنّ في الجملة) ومعنى في الجملة هنا : إمّا مطلقا ، وإمّا بعضا.

(فتأمل) ولعله إشارة الى ما سيأتي إنشاء الله تعالى من الاشكال على قوله وثالثا : بانّه لو تمسك بالاجماع ، لم يمكن تسمية هذا الدليل الانسدادي عقليا لأنّ الاجماع شرعي لا عقلي ، والدليل المستند الى الاجماع يكون دليلا شرعيا ، والمفروض : انّ دليل الانسداد من لأدلة العقلية ، وربّما يقال في وجه فتأمل شيء آخر لا يهم التعرّض له.

١٧٦

وأمّا ثالثا : فلأنّه لو صحّ كون النتيجة مهملة مجملة لم ينفع أصلا إن بقيت على إجمالها ، وإن عيّنت فامّا أن تعيّن في ضمن كلّ الأسباب وإمّا أن تعيّن في ضمن بعضها المعيّن ، وسيجيء عدم تماميّة شيء من هذين إلّا بضميمة الاجماع ، فيرجع الأمر بالأخرة الى دعوى الاجماع على حجيّة مطلق الظنّ بعد الانسداد ،

______________________________________________________

(وأمّا ثالثا : فلأنه لو) كانت نتيجة الانسداد الكشف ، كان دليل الانسداد شرعيا لا عقليا ، فلما ذا يسمونه عقليا؟ وذلك لأنّه على تقدير الكشف ، لا تكون النتيجة إلا مهملة ، فيحتاج في تعميمها الى الاجماع ، والاجماع ، دليل شرعي ، وما يستند الى الدليل الشرعي يكون شرعيا لا عقليا.

وعليه : فان (صح كون النتيجة مهملة مجملة ، لم ينفع أصلا إن بقيت على إجمالها) لأنّ الاجمال لا يدل على إن أي الظنون حجّة حتى يتمسك به.

(وان عيّنت) النتيجة بعد الاهمال (فامّا ان تعيّن في ضمن كلّ الأسباب) بأن يكون حاصل الانسداد والدليل المعيّن هو : ان كل أسباب الظنون حجّة.

(وامّا أن تعيّن) النتيجة (في ضمن بعضها المعيّن) أي : بعض الظنون المعيّنة الحاصلة من أسباب خاصة : كالكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل فقط ، لا سائر الظنون.

(وسيجيء عدم تماميّة شيء من هذين) أي : من أن تعيّن في ضمن كل الأسباب ، أو ان تعيّن في ضمن بعضها المعيّن (إلّا بضميمة الاجماع) فان اللازم تدخيل الاجماع في تحصيل النتيجة (فيرجع الأمر بالأخرة الى دعوى الاجماع على حجّية مطلق الظنّ بعد الانسداد) لأنّا احتجنا في المعيّن الى الاجماع.

١٧٧

فتسميته دليلا عقليّا لا يظهر له وجه عدا كون الملازمة بين تلك المقدّمات الشرعيّة ونتيجتها عقلية ، وهذا جار في جميع الأدلّة السمعيّة ، كما لا يخفى.

المقام الثاني :

في أنه على أحد التقريرين السابقين هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الأسباب والمرتبة ، أم لا؟.

فنقول : أمّا على تقدير كون العقل كاشفا عن حكم الشارع بحجّية الظنّ

______________________________________________________

إذن : (فتسميته دليلا عقليّا ، لا يظهر له وجه) تام (عدا كون الملازمة بين تلك المقدّمات الشّرعيّة ونتيجتها عقلية) بمعنى : إن تلك المقدمات الشّرعية تعطي نتيجة عقلية (وهذا جار في جميع الأدلّة السّمعيّة كما لا يخفى) فانّ نتائج الأدلة السّمعيّة تكون عقلية ، لأنّ إنتاج الكبرى والصغرى للنتيجة عقلي قطعا.

لكنّه كما ترى ، فان لازمة ان نسمّي الادلة من أوّل الفقه الى آخر الفقه بانّها عقلية ، وذلك واضح البطلان ، وانّما يلزم ذلك لأن إنتاج الأشكال الأربعة لنتائجها عقلي ، وإن كانت المقدمتان : الصغرى والكبرى غير عقلية ، ولا يخفى : انّ هذا الاشكال أشبه بالاشكال اللّفظي من الاشكال العمقي.

ولما تمّ المقام الاوّل وهو : هل ان دليل الانسداد يعطي الكشف أو الحكومة؟ نقول :

(المقام الثّاني : في انّه على أحد التقريرين السّابقين) وهما : الكشف والحكومة (هل يحكم بتعميم الظّنّ من حيث الأسباب والمرتبة ، أم لا؟) بل تكون النتيجة مهملة من حيث الأسباب والمرتبة.

(فنقول : امّا على تقدير كون العقل كاشفا عن حكم الشّارع بحجّية الظّنّ

١٧٨

في الجملة ، فقد عرفت انّ الاهمال بحسب الأسباب وبحسب المرتبة ، ويذكر للتعميم من جهتهما وجوه.

الأوّل : عدم المرجّح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم ، لبطلان الترجيح بلا مرجّح ، والاجماع على بطلان التخيير.

والتعميم بهذا الوجه يحتاج الى ذكر ما يصلح أن يكون مرجحا وإبطاله ،

______________________________________________________

في الجملة) أي : انّ بعض الظّنّون حجّة (فقد عرفت : انّ الاهمال بحسب الأسباب ، وبحسب المرتبة) كليهما (ويذكر للتعميم من جهتهما) اي : من جهة الأسباب والمرتبة (وجوه) على النحو التالي :

(الأوّل : عدم المرجّح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم ، لبطلان الترجيح بلا مرجّح ، والاجماع على بطلان التخيير) بين أفراد الظنون عند العمل.

قال في الأوثق في وجه التعميم : «لأنّه مع إهمال النتيجة وعدم المرجّح ، أمّا أن يبنى على التخيير بين أفراد الظنون في مقام العمل ، فهو خلاف الاجماع ، وأمّا أن يبنى على التعيين ، وحينئذ : امّا أن يقال : انّ الحجّة منها ما هو معيّن عند الله مبهم عندنا ، فهو مستلزم للتكليف بالمجهول ، وهو قبيح من الشارع الحكيم ، وإمّا أن يقال : انّ الحجّة منها ما نختاره للعمل ، وهو مستلزم للترجيح بلا مرجح ، فلا بدّ حينئذ من الحكم بحجّية جميعها بفقد المرجح لبعضها» (١).

ولا يخفى عليك ضعف هذا الدليل ممّا لا يسع المجال لذكره.

هذا (و) لكن (التعميم بهذا الوجه ، يحتاج الى ذكر ما يصلح أنّ يكون مرجحا وإبطاله) أي : إبطال المرجح ، لأنّه اذا كان هناك مرجّح ، لم تصل النوبة الى التعميم.

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٢٢١ فساد دليل الانسداد على وجه الكشف.

١٧٩

وليعلم أنّه لا بدّ أن يكون المعيّن والمرجّح معيّنا لبعض كاف بحيث لا يلزم من الرجوع بعد الالتزام به الى الاصول محذور ، والّا فوجوده لا يجدي.

إذا تمهّد هذا فنقول : ما يصلح أنّ يكون معيّنا أو مرجّحا أحد امور ثلاثة :

الأوّل : من هذا الامور كون بعض الظنون متيقنا بالنسبة الى الباقي ، بمعنى كونه واجب العمل قطعا على كلّ تقدير ،

______________________________________________________

(وليعلم : أنّه لا بدّ أن يكون المعين) ـ بالكسر ـ (والمرجّح) والفرق بينهما : أنّ المعيّن يعين ، والمرجح يقول : هذا ارجح من غيره (معيّنا لبعض كاف بحيث لا يلزم من الرّجوع بعد الالتزام به) أي : بهذا البعض المعيّن (الى الاصول محذور) مثل الخروج عن الدّين أو ما اشبه ذلك.

(وإلّا فوجوده) أي : هذا البعض المعيّن أو المرجّح (لا يجدي) لأنّه بعد معرفة البعض المعيّن أو المرجّح ـ بالفتح ـ يكون العلم الاجمالي باقيا ممّا نحتاج معه الى الانسداد ، لانّ العلم الاجمالي هو الذي سبب احتياجنا الى الانسداد وهذا الاحتياج باق.

(إذا تمهّد هذا فنقول : ما يصلح أن يكون معيّنا أو مرجحا) لبعض الظنون ممّا يكفي بالنسبة الى علمنا الاجمالي ، هو (أحد امور ثلاثة) كما يلي :

(الأوّل : من هذه الامور : كون بعض الظنون متيقّنا بالنسبة الى الباقي ، بمعنى :

كونه واجب العمل قطعا على كل تقدير) أي : تقدير وجوب العمل بجميع الظنون ، وتقدير وجوب العمل ببعض الظنون.

مثلا : اذا قال المولى : أكرم العلماء فانّه يحتمل إرادة كل عالم حتى عالم الهندسة ، والطب ، والفلك ، وما اشبه ، ويحتمل إرادة خصوص علماء الفقه ، فعلماء الفقه متيقنون على كل تقدير ، لأنّه سواء كان العالم عاما او خاصا ، فالفقهاء

١٨٠