الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-05-8
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

فيؤخذ به ويطرح الباقي ، للشكّ في حجّيته.

وبعبارة اخرى : يقتصر في القضيّة المهملة المخالفة للأصل على المتيقن ، وإهمال النتيجة حينئذ من حيث الكم فقط ، لتردّده بين الأقلّ المعيّن والأكثر.

ولا يتوهّم : «أنّ هذا المقدار المتيقن حينئذ من الظّنون الخاصّة ، للقطع التفصيلي بحجّيّته» ،

______________________________________________________

مقصودون للمولى في وجوب الاكرام (فيؤخذ به) أي : بالمتيقن (ويطرح الباقي) ، الذي ليس بمتيقن (للشّك في حجيّته) أي : في حجّية الباقي ومشكوك الحجّية يجري فيه أصالة عدم الحجّية.

(وبعبارة اخرى : يقتصر في القضية المهملة المخالفة للأصل) اي : حجّية الظنّ في الجملة ، فان الحجّية مخالفة للأصل (على المتيقّن) من أنّه حجّة ، حتى يخرج بسبب اليقين عن أصالة عدم الحجّية.

(وإهمال النتيجة حينئذ) أي : حين وجود القدر المتيقن ، (من حيث الكم فقط) لوضوح : انّه مع وجود القدر المتيقن ، يكون الاهمال بالنسبة الى ذلك الزائد على المتيقن لا محالة ، اذ القدر المتيقن متيقن ، فلا إهمال بالنسبة اليه ، وذلك (لتردده) أي : تردد الظنّ الذي هو حجّة (بين الأقل المعيّن ، والأكثر) المشكوك فيه.

(ولا يتوهم : انّ هذا المقدار المتيقن حينئذ) أي : بعد الانسداد ، ودوران الأمر بين الأقل المتيقن ، وبين الاكثر غير المتيقن (من الظّنون الخاصة ، للقطع التفصيليّ بحجّيته) على كل تقدير سواء تقدير كون جميع الظّنون حجّة ، أم تقدير كون هذا الظنّ الخاص الذي هو المتيقن حجّة.

١٨١

لاندفاعه : بانّ المراد بالظنّ الخاصّ ما علم حجيّته بغير دليل الانسداد ، فتأمل.

الثاني : كون بعض الظنون أقوى من بعض فيتعيّن العمل عليه ، للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم في كلّ واحد من محتملات التكاليف الواقعيّة من الواجبات والمحرّمات على القدر المتيقن ، وهو ما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه في غاية البعد ،

______________________________________________________

وإنّما لا يتوهم (لاندفاعه : بانّ المراد بالظّن الخاص : ما علم حجيّته بغير دليل الانسداد) ومن المعلوم : انّ القدر المتيقن في المقام إنّما علم حجّيته بسبب دليل الانسداد ، فلا يكون المتيقن من باب الظنون الخاصّة.

(فتأمل) ولعلّه اشارة الى انّ القدر المتيقن لم يثبت بدليل الانسداد ، بل هو معلوم ، سواء قلنا بالانسداد أم لا.

(الثاني :) من الوجوه الثلاثة مما يصلح أن يكون معيّنا أو مرجحا : (كون بعض الظّنون أقوى من بعض) وإنّ لم يكن متيقنا بالنسبة الى الباقي ، لأنّ القدر المتيقن غير القدر المرجّح (فيتعيّن العمل عليه) اي : على هذا الأقوى.

وذلك (للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم في كلّ واحد من محتملات التكاليف الواقعيّة ، من الواجبات والمحرّمات) لأنّ هناك علما إجماليا كبيرا من أوّل الفقه الى آخر وهذا العلم الاجمالي يقتضي الاتيان بكل محتمل الوجوب وترك كل محتمل التحريم ، فيلزم الاقتصار في مخالفته. (على القدر المتيقّن) منه (وهو : ما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه) ضمير «فيه» عائد الى : «ما» في قوله : ما كان الاحتمال (في غاية البعد).

فانّه كلّما كان الظنّ قويّا عمل على الظنّ ، وكلّما كان الظنّ ضعيفا لا يعمل

١٨٢

فانّه كلما ضعف الاحتمال الموافق للاحتياط كان ارتكابه أهون.

الثالث : كون بعض الظّنون مظنون الحجيّة ، فانّه في مقام دوران الأمر بينه وبين غيره يكون أولى من غيره ،

______________________________________________________

على ذلك الظنّ.

مثلا : اذا كان ظنّان : ظنّ قوي بوجوب صلاة الجمعة ، وظنّ ضعيف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وكان الاحتياط بالجمع بينهما عسرا على المكلّف ، فاذا دار الأمر بين العمل بأحد الظنّين ، عمل بظنّ وجوب الصّلاة لا بظنّ وجوب الدعاء ، لأنّ احتمال وجوب الدعاء الموافق للاحتياط في غاية البعد بينما احتمال وجوب الصلاة في غاية القرب.

(فانّه كلّما ضعف الاحتمال الموافق للاحتياط كان ارتكابه أهون) ومعنى الارتكاب في مثالنا : إن يترك الدعاء فلا يوافق فيه الاحتياط ، فانّ الاحتياط يقول باتيان الدعاء.

(الثالث :) ممّا يصلح أن يكون معيّنا أو مرجّحا لبعض الظّنون على بعض :

(كون بعض الظنون مظنون الحجّية) بينما بعض الظنون الآخر ليس كذلك (فانّه في مقام دوران الأمر بينه وبين غيره) ممّا لا يكون مظنون الحجّية (يكون أولى من غيره).

مثلا : هناك ظنّان : ظنّ بوجوب صلاة الجمعة ، وهذا الظنّ يظنّ المكلّف بانّه حجّة ، لانّه مستند الى خبر العادل ، وخبر العادل يظنّ بانّ الشارع قرره في حال الانسداد ، وظنّ آخر بوجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، وهذا الظنّ لا يظن المكلّف إنّه حجّة ، لأنّه مستند الى الشهرة ، والشهرة لا يظنّ المكلّف بانّ الشارع جعلها طريقا ، فانّه عند تعسر الاحتياط باتيان الصلاة والدعاء معا ، يقدّم الصلاة

١٨٣

إما لكونه اقرب الى الحجّية ، من غيره ، ومعلوم أنّ القضية المهملة المجملة تحمل ، بعد صرفها الى البعض بحكم العقل على ما هو أقرب محتملاتها الى الواقع ، وإمّا لانّه أقرب الى احراز مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض رجحان مطابقته للواقع ، لانّ المفروض كونه من الامارات المفيدة للظنّ بالواقع ورجحان كونه بدلا عن الواقع ،

______________________________________________________

للظنّ بالصلاة ، ولكون هذا الظنّ مظنون الحجّية ، فقد اجتمع في الصلاة ظنّان بالنتيجة ، بينما الدعاء ليس فيه إلّا ظن واحد.

وإنّما يقدّم مظنون الحجّية على غيره (إمّا لكونه) أي : كون مظنون الحجّية (أقرب الى الحجيّة من غيره) ولم يقل أقرب الى الواقع لعدم لزوم أن يكون أقرب لاحتمال كون الظّن الذي لم يظنّ حجّية أقوى ، فيكون ذلك الظنّ الأقوى أقرب الى الواقع.

(ومعلوم : أنّ القضية المهملة المجملة) أي : حجّية الظنّ (تحمل بعد صرفها) أي : صرف تلك القضية المهملة (الى البعض) صرفا (بحكم العقل ، على ما هو أقرب محتملاتها الى الواقع) فانّ البعض الذي هو أقرب الى الحجيّة ، هو أقرب محتملات القضية الى الواقع.

(وامّا لأنّه اقرب الى إحراز مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض رجحان مطابقته للواقع) لكونه مظنون الحجّية (لأنّ المفروض : كونه من الأمارات المفيدة للظنّ بالواقع) فانّ الخبر الذي دل على وجوب صلاة الجمعة أمارة تفيد الظّن بالواقع.

(ورجحان كونه بدلا عن الواقع) لا يخفى : إنّ هذه جملة مستأنفة وليست عطفا على سابقها ، ومعناها : أنّ الخبر الواحد يرجح أن يكون بدلا عن الواقع لو لم يصادف الواقع ، لأنّ الشارع جعل الخبر واقعا تنزيليا.

١٨٤

لأنّ المفروض الظنّ بكونه طريقا قائما مقام الواقع ، بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له ، فاحتمال مخالفة هذه الأمارات للواقع ، ولبدله موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع ، لأنّها على تقدير مخالفتها للواقع ، لا يظنّ كونها بدلا عن الواقع.

______________________________________________________

وإنّما يرجح كونه بدلا عن الواقع (لأنّ المفروض : الظنّ بكونه طريقا قائما مقام الواقع ، بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له) اي للواقع ، وذلك على ما سبق في أوّل الكتاب من المصلحة السلوكية.

(فاحتمال مخالفة هذه الأمارات للواقع ولبدله ، موهوم في موهوم) بينما الظنّ الذي لا يظن بحجيّته يكون في احتمال مخالفته موهوم واحد.

والى هذا أشار بقوله : (بخلاف احتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع) أي : الأمارات التي لا يظن بحجيتها (لأنّها) اي : تلك الأمارات (على تقدير مخالفتها للواقع ، لا يظنّ كونها بدلا عن الواقع) فاذا كان في الظنّ بصلاة الجمعة ظنّان : ظنّ بأنه واقع وظنّ بانّه على تقدير أنّه لم يكن واقعا كان واقعا تنزيليا ، وكان في الظنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ظن واحد فقط ، وهو : الظنّ بأنّه واقع ، لكن اذا لم يكن واقعا لم يكن ظنّ بانّه بدل من الواقع ، قدّم العقل الظنين على الظنّ الواحد.

وعليه : فيقدّم صلاة الجمعة على الدّعاء عند رؤية الهلال ، كلما دار الأمر بينهما ولم يتمكن من الجمع بينهما لتعسر أو تعذر.

هذا ، ولا يخفى : انّ المصنّف قد كرّر جملة : «لأنّ المفروض» ثلاث مرات :

الأولى : علّة لاقرب.

الثانية : علّة لرجحان المطابقة للواقع.

الثالثة : علّة لرجحان كونه بدلا.

١٨٥

ونظير ذلك : ما لو تعلّق غرض المريض بدواء تعذّر الاطلاع العلميّ عليه ، فدار الأمر بين دواءين : احدهما يظنّ انّه ذلك الدّواء ، وعلى تقدير كونه غيره يظنّ كونه بدلا عنه في جميع الخواصّ.

والآخر يظنّ أنّه ذلك الدواء ، لكن لا يظنّ أنّه على تقدير المخالفة بدل عنه ، ومعلوم بالضرورة انّ العمل بالأوّل أولى.

ثمّ

______________________________________________________

ثم إنّ المصنّف مثّل للظنّين والظنّ الواحد ، وإنّ الظنّين مقدّم على الظنّ الواحد بقوله : (ونظير ذلك ما لو تعلق غرض المريض بدواء تعذر الاطّلاع العلمي عليه ، فدار الأمر بين دواءين احدهما يظن أنّه ذلك الدواء) الذي هو شفاء لمرضه (وعلى تقدير كونه غيره ، يظن كونه بدلا عنه في جميع الخواص).

كما يقال : إنّ الترنجبين بدل عن الشيرخشت ، فأحد الدواءين يظن أنّه الشيرخشت ، ويظنّ أنّه على تقدير أنّه لم يكن الشيرخشت كان الترنجبين.

(والآخر يظنّ انه ذلك الدّواء لكن لا يظنّ انّه على تقدير المخالفة بدل عنه) كما اذا كان الدواء الآخر يظنّ انّه الشيرخشت ، أما اذا لم يكن هو الشيرخشت فانّه يكون شيئا تافها لا يرتبط بمرضه.

(ومعلوم بالضرورة : أنّ العمل بالأول أولى) عند العقل والعقلاء ، لأنّ الأول فيه ظنّان ، بينما في الثاني ظنّ واحد.

(ثمّ) إنّ ذا الظنّين قد يكون معلوما ، كما اذا كان الخبر ذا ظنين ، فهو أرجح من الشهرة ذات الظنّ الواحد ، وقد يكون ذو الظنين دائرا بين امور ، فيأتي المكلّف بأحد هذه الامور ، لا بالأمر الواحد ذي الظنّ الواحد ، اذ الإتيان بأحد تلك الامور أقرب الى الواقع ، لأنّه إمّا ظنّ واحد ، أو ظنان ، أما الاتيان بذي الواحد لا يحتمل

١٨٦

انّ البعض المظنون الحجّية قد يعلم بالتفصيل ، كما اذا ظنّ حجّية الخبر المزكّى رواته بعد واحد أو حجّية الاجماع المنقول ، وقد يعلم اجمالا وجوده بين أمارات ، فالعمل بهذه الأمارات أرجح من غيرها الخارج من محتملات ذلك المظنون الاعتبار. وهذا كما لو ظنّ عدم حجّية بعض الأمارات ، كالأولويّة ، والشهرة والاستقراء وفتوى الجماعة الموجبة للظنّ ، فإنّا اذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملة مردّدة بين هذه الامور وغيرها

______________________________________________________

فيه أن يكون ذا ظنّين.

وذلك (انّ البعض المظنون الحجّية) وهو ذو الظنين ـ على ما ذكرناه ـ (قد يعلم بالتفصيل ، كما اذا ظنّ حجّية الخبر المزكى رواته بعدل واحد ، أو حجّية الاجماع المنقول) فانّه مقدّم على الظنّ بالواقع فيما اذا كان ذا ظنّ واحد ، فلم يكن مظنون الحجّية.

(وقد يعلم اجمالا) أي : المظنون الحجّية يعلم إجمالا (وجوده بين أمارات) متعددة (فالعمل بهذه الأمارات أرجح من غيرها) ذلك الغير (الخارج عن محتملات ذلك المظنون الاعتبار) بأن يكون ذا ظنّ واحد.

(وهذا كما لو ظنّ عدم حجّية بعض الأمارات : كالأولويّة والشهرة والاستقراء وفتوى الجماعة الموجبة للظنّ) الواحد ، بينما هناك الخبر ، والاجماع المنقول ، وأحدهما يحتمل أن يكون ذا ظنين ، فانّه يعمل بالخبر أو بالاجماع ، ويترك الأولويّة ، والشهرة ، والاستقراء ، وفتوى الجماعة.

وإنّما يقدّم أحد الاثنين على أحد الأربعة لما ذكره المصنّف بقوله : (فانّا إذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملة مردّدة بين هذه الامور) الأربعة (وغيرها)

١٨٧

وفرضنا الظنّ بعدم حجّية هذه ، لزم من ذلك الظنّ بأنّ الحجّة في غيرها وإن كان مرددا بين ابعاض ذلك الغير ، فكان الاخذ بالغير أولى من الأخذ بها ، لعين ما تقدّم وإن لم يكن بين أبعاض ذلك الغير مرجّح ، فافهم.

______________________________________________________

كالاثنين في مثالنا ، أي : الخبر والاجماع المنقول : (وفرضنا الظنّ بعدم حجّية هذه) الأربعة (لزم من ذلك ، الظنّ بأنّ الحجّة في غيرها) أي : في غير الأربعة.

هذا (وإنّ كان) ذلك الغير الذي قال المصنّف : غيرها (مردّدا بين أبعاض ذلك الغير) اي : بين الخبر والاجماع المنقول في مثالنا (فكان الأخذ بالغير) من الخبر والاجماع (أولى من الأخذ بها) اي : بهذه الأربعة : من الأولويّة ، والشهرة والاستقراء ، وفتوى الجماعة.

وإنّما كان أولى (لعين ما تقدّم) من قولنا : إنّ بعض المظنون الحجّية قد يعلم بالتفصيل ، وقد يعلم اجمالا ، وإنّ الاجمال مقدّم على ما لا يظن حجّيته (وإنّ لم يكن بين ابعاض ذلك الغير مرجّح) بانّ لم يكن ترجيح للخبر على الاجماع ، ولا للاجماع على الخبر.

لكن يلزم علينا أن نأخذ بما يسنده الخبر ، أو يسنده الاجماع ، لا أنّ نأخذ بما يسنده الاولويّة ، أو الشهرة ، أو الاستقراء ، أو فتوى الجماعة.

(فافهم) ولعله إشارة الى انّه لا إطلاق في تقديم أحد المحتملين من ذي الظنّين على ذي الظنّ الواحد ، فانّه ربما يقدم العقلاء ذا الظنّ الواحد ، كما اذا كان له رجحان لا يوجد لأحد محتملي ذي الظنّين ، فانّه اذا عمل بذي الظنّ الواحد ، أحرز المكلّف ذلك الرجحان ، بينما إذا عمل بأحد محتملي ذي الظنين فاته ذلك الرجحان.

مثلا : الدّعاء عند رؤية الهلال ذو ظنّ واحد ، لكنّه أرجح بسبب السيرة

١٨٨

هذه غاية ما يمكن أن يقال في ترجيح بعض الظنون على بعض.

لكن نقول : إنّ المسلّم من هذه في الترجيح لا ينفع ، والذي ينفع غير مسلّم كونه مرجّحا.

توضيح ذلك : هو أنّ «المرجّح الأوّل» ـ وهو تيقّن البعض بالنسبة الى الباقي ـ وإنّ كان من المرجّحات ، بل لا يقال له المرجّح ، لكونه معلوم الحجّية تفصيلا وغيره مشكوك الحجّية فيبقى تحت الأصل ؛ لكنّه لا ينفع ، لقلّته وعدم كفايته ، لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هو الخبر الذي

______________________________________________________

أما الظهر والجمعة فانّه وان كان احدهما ذا ظنين ، لكنّه اذا أتى بأحدهما احتمل أنه حصل على ظنّ واحد ، بدون الرجحان الذي كان في الدعاء.

(هذه غاية ما يمكن أن يقال في ترجيح بعض الظّنون على بعض) فيما كانت النتيجة مهملة.

(لكن نقول : إنّ المسلّم من هذه) الترجيحات الثلاثة (في الترجيح ، لا ينفع) أي : لا ينفع في ترجيح بعض الظنون على بعض (والذي ينفع) في الترجيح (غير مسلّم كونه مرجّحا) حتى يمكن الاعتماد عليه.

و (توضيح ذلك : هو إنّ المرجّح الأوّل ، وهو : تيقّن البعض بالنسبة الى الباقي) بان يكون ظنّ متيقنا وظنّ مشكوكا (وان كان من المرجّحات ، بل لا يقال له المرجّح ، لكونه معلوم الحجيّة تفصيلا) فان المتيقن معناه : إنّه حجّة قطعا (وغيره) أي : غير المتيقن (مشكوك الحجّية فيبقى تحت الأصل) لأنّ الأصل في مشكوك الحجّية عدم الحجّية.

(لكنه لا ينفع) هذا المتيقن وذلك (لقلّته وعدم كفايته) بمعظم الأحكام التي هي محل ابتلاء المكلّف (لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هو الخبر الذي)

١٨٩

زكّي جميع رواته بعدلين ، ولم يعمل في تصحيح رجاله ولا في تمييز مشتركاته بظنّ اضعف نوعا من سائر الأمارات الأخر ولم يوهن لمعارضة شيء منها ،

______________________________________________________

جمع خمسة شرائط :

الأوّل : (زكيّ جميع رواته بعدلين) من باب الشهادة ، لأنّه يعتبر في الشهادة على الموضوعات نفران.

الثاني : (ولم يعمل في تصحيح رجاله ، ولا في تمييز مشتركاته) كأبي بصير ـ مثلا ـ فانّه مشترك بين القوي والضعيف ، أو الصحيح والفاسد المذهب.

فيجب ان لا يعمل في التصحيح والتمييز (بظنّ أضعف نوعا) أي : ضعفا نوعيا (من سائر الأمارات الأخر) المعارضة لهذا الحكم الّذي قام عليه هذا الخبر المزكى المصحح ، لأنّه إذا صححت رجاله وميزت مشتركاته بظنّ أضعف ، صار هذا الخبر أضعف من تلك الأمارات الأخر ، فانّ النتيجة تابعة لأخس المقدمتين.

مثلا : هنا خبر يدلّ على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة وزكّيت رجاله بعدلين ، لكن في رجاله رجل اسمه سالم وسالم مشترك بين القوي والضعيف ، وهناك إنسان ضعيف يقول : إنّ سالم هذا هو القوي لا الضعيف.

وفي قبال هذا الخبر أمارة اخرى تدل على وجوب الظهر يوم الجمعة ، لكن في طريق تلك الأمارة ليس مثل هذا الانسان الضعيف ، فان تلك الأمارة تكون أقوى من هذا الخبر بالنتيجة.

الثالث : (ولم يوهن) هذا الخبر القوي (لمعارضة شيء منها) أي من الأمارات فانّه ربّما يوهن الخبر بالمعارضة كمعارضة الشهرة مثلا.

١٩٠

وكان معمولا به عند الأصحاب كلا أو جلا ، ومفيدا للظنّ الاطمئناني بالصّدور ، إذ لا ريب أنّه كلّما انتفى أحد هذه الأمور الخمسة في خبر ، احتمل كون غيره حجّة دونه ، فلا يكون متيقّن الحجّية على كلّ تقدير.

وأمّا عدم كفايته لندرته فهو واضح ، مع أنّه لو كان بنفسه كثيرا كافيا ، لكن يعلم إجمالا بوجود مخصّصات كثيرة ومقيّدات له في الأمارات الأخر ، فيكون نظير ظواهر الكتاب في

______________________________________________________

الرابع : (وكان معمولا به عند الأصحاب كلا أو جلا) لأنّ الخبر المعرض عنه غير حجّة على ما قرره جماعة من الفقهاء والاصوليين ـ.

الخامس : (ومفيدا للظنّ الاطمئناني بالصدور) اذ بعض العلماء اشترطوا وجود الظن في حجّية الظواهر.

(إذ لا ريب انّه كلّما انتفى أحد هذه الأمور الخمسة في خبر ، احتمل كون غيره حجّة دونه) أي دون هذا الخبر الّذي انتفى أحد هذه الأمور الخمسة فيه (فلا يكون) هذا الخبر المنتفي فيه بعض هذه الامور الخمسة (متيقن الحجّية على كلّ تقدير) أي : على تقدير حجّية الكلّ وحجية البعض ، لأن البعض إذا كان حجّة دون البعض الآخر ، احتمل أن يكون الحجّة غيره.

(وأمّا عدم كفايته) أي : عدم كفاية المتيقن الحجّية (لندرته ، فهو واضح) لأنّ مثل هذا الخبر الجامع لهذه الشروط الخمسة قليل جدا (مع انّه لو كان بنفسه كثيرا كافيا) باعتبار عموماتها وإطلاقاتها (لكن يعلم إجمالا بوجود مخصّصات كثيرة ومقيّدات له) أي : لمثل هذا الخبر (في الأمارات الأخر).

وعليه : (فيكون) هذا الخبر الكافي بنفسه والكثير (نظير ظواهر الكتاب في

١٩١

عدم جواز التمسك بها مع قطع النظر عن غيرها ، إلّا أن يؤخذ بعد الحاجة إلى التعدّي منها بما هو متيقن بالاضافة إلى ما بقي ، فتأمّل.

وإمّا «المرجّح الثاني» ، وهو كون بعضها أقوى ظنا من الباقي ، ففيه : أنّ ضبط مرتبة خاصّة له متعسّر أو متعذّر ، لأنّ القوّة والضعف اضافيّان ،

______________________________________________________

عدم جواز التمسّك بها مع قطع النظر عن غيرها) أي عن غير تلك الظواهر ، إذ ظواهر الكتاب إنّما تكون حجّة إذا لم تكن مخصصة أو مقيدة أو ما أشبه ذلك.

(إلا أن يؤخذ بعد الحاجة الى التعدي منها بما هو متيقّن بالاضافة الى ما بقي) فاذا كنّا نحتاج ـ مثلا ـ الى ألف حكم وتيقّنا بسبعمائة منها. فالثلاثمائة الباقية قد نتيقّن بمائتين منها ، لكن لا يقينا مطلقا بل بالنسبة الى المائة الباقية! وهكذا ، فيكون المتيقن المطلق هو الأوّل ، والمتيقن بالنسبة هو الثاني ، وهكذا.

(فتأمّل) لعل وجهه : انّ المتيقن الاضافي لا ينفع فيما نحن فيه ، إذ غاية الأمر انّه أرجح من غيره بمعنى ان الجامع لكل القيود متيقن مطلق! امّا الجامع لبعض القيود فهو أرجح من فاقد هذه القيود.

مثلا : ذو القيود الأربعة أرجح من ذي القيود الثلاثة ، وذو القيود الثلاثة أرجح من ذي القيود الأقل لكنّه في حدّ ذاته مشكوك الاعتبار نظرا الى فقدانه لبعض القيود ، فالمفيد انّما هو المتيقن المطلق ، لا المتيقن النسبي المسمّى بالمتيقن الاضافي.

(وأما المرجّح الثاني : وهو كون بعضها) أي : بعض الظنون (أقوى ظنّا من الباقي ، ففيه) : أولا :

(ان ضبط مرتبة خاصّة له) أي : للأقوى (متعسّر أو متعذر ، لأنّ القوة والضعف إضافيّان) ولا ميزان لضبطهما.

١٩٢

وليس تعارض القويّ مع الضعيف هنا في متعلّق واحد حتى يذهب الظنّ من الأضعف ويبقى في الأمارة الأخرى. نعم يوجد مرتبة خاصّة ، وهو الظنّ الاطمئناني الملحق بالعلم حكما ،

______________________________________________________

مثلا : من يتمكن من حمل مائة منّ قوي بالنسبة الى من يتمكن من حمل خمسين! بينما نفس من يتمكن من حمل المائة ضعيف بالنسبة الى من يتمكن من حمل مائة وخمسين ، وهكذا من يتمكن من حمل خمسين قوي بالنسبة الى من يتمكن من حمل عشرة.

وفيه ثانيا : ما أشار اليه بقوله : (وليس تعارض القوي مع الضعيف هنا في متعلّق واحد! حتى يذهب الظّنّ من الأضعف ويبقى في الأمارة الاخرى) القوية ، فانّه لا يمكن حصول الظنّين في متعلق واحد حتى يذهب الظنّ من الاضعف ويبقى في الأقوى.

مثلا : إذا كان ظنّ قوي بوجوب صلاة الجمعة وعلم ضعيف بوجوب صلاة الظهر ، فالقوي يجعل الظنّ الضعيف وهما ، لعدم إمكان اجتماع ظنّ وشك ، فكيف بظنّ وظن؟.

أمّا في المقام فليس ظنّان في مورد واحد ، حتى يجعل القوي منهما الضعيف وهما ، بل ظنّ بوجوب صلاة الجمعة ، وظنّ آخر بحرمة شرب التبغ ـ مثلا ـ ، ونحن حيث لا نتمكن من الاحتياط ـ فرضا ـ يلزم علينا أن نأخذ بأحد الظنين.

(نعم) استثناء من قوله : انّ ضبط مرتبة خاصة له متعسر أو متعذر (يوجد مرتبة خاصّة) من الظّنون ليس فيها تعذر أو تعسر (وهو : الظّنّ الاطمئناني الملحق بالعلم حكما) فانّه كما يجب على الانسان اتّباع العلم ، كذلك يجب عليه اتّباع الظّن الاطمئناني.

١٩٣

بل موضوعا ، لكنّه نادر التحقّق.

مع أنّ كون القوّة معيّنة للقضيّة المجملة محلّ منع ، إذ لا يستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنّا يكون أضعف من غيره ، كما هو المشاهد في الظنون الخاصّة ، فانّها ليست على الاطلاق أقوى من غيرها بالبديهة.

وما تقدّم في تقريب مرجّحيّة القوة إنّما هو مع كون إيجاب العمل بالظنّ

______________________________________________________

(بل) هو ملحق بالعلم ـ (موضوعا) لأنّ الظنّ الاطمئناني يطلق عليه العلم ، فان العلم في لسان العرف أعمّ من القاطع للنقيض والاطمئناني (لكنّه نادر التحقق).

وفيه ثالثا : ما أشار اليه بقوله : (مع انّ كون القوّة معيّنة للقضيّة المجملة) حيث انّ نتيجة الانسداد حجّية الظنّ في الجملة (محلّ منع).

وانّما كان محل منع (إذ لا يستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنّا يكون أضعف من غيره) بأن يترك الشارع الظّنّ الأقوى ويأخذ بالظّنّ الأضعف (كما هو المشاهد في الظنون الخاصّة فانّها ليست على الاطلاق أقوى من غيرها بالبديهة).

مثلا : الظّنّ عن الخبر ليس أقوى من الظنّ عن الشهرة ، مع انّ الأول حجّة دون الثاني ، بل كثيرا ما يكون الظّنّ القياسي أقوى في نظر الانسان من الظّنّ الخبري ، كما في قصة أبان بالنسبة الى دية الأصابع في المرأة والرجل ، وغير ذلك.

(و) ان قلت تقدّم منكم عند نفي تعميم النتيجة ـ من جهة مرتبة الانكشاف قوة وضعفا ـ على تقدير حكومة العقل : أن حكمتم بإمكان الفرق بين الظّنّ القوي والضعيف ، فلما ذا تركتم ذلك هنا؟.

قلت : (ما تقدّم في تقريب مرجحيّة القوّة إنّما هو مع كون إيجاب العمل بالظّنّ

١٩٤

عند انسداد باب العلم من منشئات العقل وأحكامه.

وأمّا على تقدير كشف مقدّمات الانسداد ـ عن أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة في الجملة وتردّد أمره في أنظارنا بين الكلّ والأبعاض ـ فلا يلزم من كون بعضها أقوى كونه هو المجعول حجّة ، لأنّا قد وجدنا تعبّد الشارع بالظنّ الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة.

______________________________________________________

عند انسداد باب العلم ، من منشئات العقل وأحكامه) أي : كون دليل الانسداد مفيدا للحكومة ، فانّ العقل يقدم الظّنّ القوي على الظنّ الضعيف مطلقا.

(وأمّا على تقدير كشف مقدّمات الانسداد عن انّ الشارع جعل الظنّ حجّة في الجملة) أي : لم يجعله حجّة مطلقا (وتردّد أمره في أنظارنا بين الكل والابعاض) بأن يكون كل الظّنون حجّة أو بعض الظّنون حجّة بفرض النتيجة على الاهمال والاجمال (فلا يلزم من كون بعضها أقوى ، كونه هو المجعول حجّة) فقياس الكشف على الحكومة قياس مع الفارق.

(لأنّا قد وجدنا تعبّد الشارع بالظّنّ الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة).

مثلا : قال الشارع : «كل شيء حلال» (١) وقال : «كلّ شيء طاهر» (٢) وقال : «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» (٣) وقال : «كذّب سمعك

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ج ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٢٨٥ ب ١٢ ح ١١٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١ ص ١٩٠ ب ٤ ح ٣١٨.

(٣) ـ فقه القرآن : ج ٢ ص ١٢ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٢٤٤ ح ١٧٢ وج ٢ ص ٢٥٨ ح ١٠ ، الوسيلة : ص ٢١٨ ، الصوارم المهرقة : ص ١٥٠ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٣٣ ب ٢ ح ٣٣٦٦٥.

١٩٥

وأمّا «المرجّح الثالث» ـ وهو الظنّ باعتبار بعض فيؤخذ به لأحد الوجهين المتقدّمين ـ ففيه ، مع أنّ الوجه الثاني لا يفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته : أنّ الترجيح على هذا الوجه

______________________________________________________

وبصرك عن أخيك» (١) وقال : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (٢) وهكذا ، مع إنّه كثيرا ما نظنّ بخلاف هذه الأمور ظنّا قويا ، فانّه قد نظنّ بحرمة الشيء ونجاسته ، وإنّ البينة مشتبهة في الشهادة ، وانّ الحالف يكذب أو يشتبه ، وإنّ ما رآه بصرنا وسمعه سمعنا أقوى ممّا يدّعيه الأخ ، وانّ المقر كاذب لجهة من الجهات ، والى غير ذلك.

(وأمّا المرجح الثالث : وهو الظنّ باعتبار بعض) دون بعض فاذا كان هناك ظنّ واحد ، وهناك ظنّان فذو الظنّين مقدّم على ذي الظّنّ الواحد (فيؤخذ به) أي : بمظنون الاعتبار (لأحد الوجهين المتقدّمين) ممّا ذكرناه في أوّل الثالث بقولنا : امّا لكونه أقرب الى الحجية من غيره ، وإمّا لأنّه أقرب لمصلحة الواقع.

(ففيه مع انّ الوجه الثاني) وهو : كونه أقرب الى إحراز مصلحة الواقع (ـ لا يفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته ـ) وفرق بين اللزوم والأولويّة ، فان اللزوم لازم بينما الأولويّة راجحة ، فانّ العقل لا يحكم بأزيد من انّ الذي له أولوية أرجح ، لا إنّه لازم إلّا إذا كانت أولوية واصلة الى حدّ المنع من النقيض ، والمفروض انّه لا تصل الى ذلك.

ففيه : (ان الترجيح على هذا الوجه) أي : الوجه الثاني وهو : كونه أقرب إلى

__________________

(١) ـ الكافي (روضة) : ج ٨ ص ١٤٧ ح ١٢٥ ، ثواب الأعمال : ص ٢٩٥ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٢٩٥ ب ١٥٧ ح ١٦٣٤٣ ، بحار الأنوار : ج ٧٥ ص ٢١٤ ب ٦٥ ح ١١ وص ٢٥٥ ب ٦٦ ح ٤٠.

(٢) ـ غوالي اللئالي : ج ١ ص ٢٢٣ ح ١٠٤ وج ٢ ص ٢٥٧ ح ٥ وج ٣ ص ٤٤٢ ح ٥ ، وسائل الشيعة : ج ٢٣ ص ١٨٤ ب ٣ ح ٢٩٣٤٢.

١٩٦

يشبه الترجيح بالقوّة والضعف ، في أنّ مداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذ إذا فرضنا كون الظنّ الذي لم يظنّ بحجّيّته أقوى ظنّا بمراتب من الظنّ الذي ظنّ حجّيّته ، فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني ، فيرجع الأمر الى لزوم ملاحظة الموارد الخاصّة وعدم وجود ضابطة كليّة بحيث يؤخذ بها في ترجيح الظنّ المظنون الاعتبار.

نعم ، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائما من حيث القوة والضعف ،

______________________________________________________

إحراز مصلحة الواقع (يشبه الترجيح بالقوّة والضعف ، في انّ مداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذ) إذا صار المناط هو الأقرب الى الواقع فانّه (إذا فرضنا كون الظّن الذي لم يظنّ بحجّيته) أي : ذو الظنّ الواحد (أقوى ظنّا بمراتب ، من الظّنّ الذي ظنّ حجّيته) أي : من ذي الظّنين (فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني) وإنّما بنائهم على ترجيح الأقوى منهما إذا كان هناك أقوى ، وإلّا فالتساوي والتخيير بينهما ، مثلا : صلاة الجمعة ذات الظنّ الواحد! لكن في الدرجة التسعين من الظنّ ، ودعاء رؤية الهلال ذو الظنين ، لكن كلّ ظنّ منهم في الدرجة الأربعين ، فيكون الأوّل أقوى ، لأنّه بتسعين في مقابل ما بثمانين.

وعليه : (فيرجع الأمر إلى لزوم ملاحظة الموارد الخاصة وعدم وجود ضابطة كليّة بحيث يؤخذ بها) أي : بتلك الضابطة (في ترجيح الظّنّ المظنون الاعتبار) على الظنّ الّذي لم يظنّ باعتباره.

(نعم ، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائما من حيث القوة والضعف) بأن كان ظنّ صلاة الجمعة وظنّ الدعاء متساويين وفي رتبة واحدة قوة وضعفا ، لكن أضيف على ظنّ صلاة الجمعة : كونه مظنون الحجّية ، دون الدعاء فليس الظنّ به

١٩٧

كان ذلك المرجّح بنفسه منضبطا ، ولكنّ الفرض مستبعد بل مستحيل ، مع أنّ اللازم على هذا أن لا يعمل بكلّ مظنون الحجّية ، بل بما ظنّ حجّيته بظنّ قد ظنّ حجّيته ، لأنّه أبعد من مخالفة الواقع وبدله بناء على التقرير المتقدّم.

______________________________________________________

مظنون الحجّية (كان ذلك المرجّح) وهو الظّنّ المظنون الاعتبار (بنفسه منضبطا).

هذا (ولكن) فيه أوّلا : ان (الفرض مستبعد) لأنّه يستبعد التساوي من حيث القوة والضعف في كل الظنون المتعارضة (بل مستحيل) عادة.

وفيه ثانيا : (مع انّ اللازم على هذا) أي : على ترجيح الظّنّ المظنون الاعتبار على الظّن الّذي ليس بمظنون الاعتبار (أن لا يعمل بكلّ مظنون الحجّية ، بل بما ظنّ حجيته بظنّ قد ظنّ حجيته).

مثلا : ظنّ بصلاة الجمعة ، عن الخبر المظنون حجّية ذلك الخبر ، وانّما ظنّ حجّية الخبر ، لأنّ الاجماع ـ مثلا ـ قام على حجّية الخبر ، فهناك ثلاثة ظنون ، فيكون ما له ثلاث ظنون أقوى ممّا له ظنّان ، كما إنّ ما له ظنّان أقوى ممّا له ظنّ واحد.

وإنّما يقدّم ذو الثلاثة ظنون (لأنّه أبعد من مخالفة الواقع ، وبدله) أي : من مخالفة بدل الواقع ، على ما تقدّم : من انّ ما يحتمل أن يكون واقعا ، وإذا لم يكن واقع كان بدل الواقع ، أقرب ممّا يكون واقعا ، وإذا لم يكن واقع كان مخالفا للواقع ، وذلك (بناء على التقرير المتقدّم) من ان مظنون الحجّية أولى من غيره.

والحاصل : انّه أوّلا : قد يكون ذو الظنّ الواحد أقوى ، فليس الاعتبار بذي الظنين مطلقا.

وثانيا : انّ اللازم من المرجح الثالث أن يؤخذ بذي الثلاثة ظنون في قبال ذي الظنين ، لا أن يؤخذ بذي الظنين إطلاقا حتى يتساوى ذو الظنين وذو الثلاثة ظنون.

١٩٨

وإمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على غيره.

ففيه :

أوّلا : أنّه لا أمارة تفيد الظنّ بحجّية أمارة على الاطلاق ، فان أكثر ما أقيم على حجّيته الأدلة من الأمارات الظنّية المبحوث عنها الخبر الصحيح ، ومعلوم عند المصنّف أنّ شيئا ممّا ذكروه لحجّيته لا يوجب الظنّ بها على الاطلاق.

______________________________________________________

(وأمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على غيره ، ففيه :) إنّه مركب من صغرى هي : «وجود أمارة توجب الظن بأمارة اخرى» وكبرى هي : «انّه كلّما ظنّ بأمارة أخرى كانت تلك الأمارة حجّة».

ولكن يرد على الصغرى : انّه لا أمارة تفيد الظنّ بأمارة اخرى ، وعلى الكبرى :

انّه على فرض إفادة أمارة الظّنّ بأمارة اخرى لا دليل على حجّية مثل هذا الظنّ ، وقد أشار المصنّف الى منع الصغرى بقول :

(أوّلا : انّه لا أمارة تفيد الظّنّ بحجّية أمارة على الاطلاق) أي : انّه مطلقا ليس لنا هكذا أمارة تفيد الظّنّ بحجيّة أمارة أخرى ، (فان أكثر ما أقيم على حجّيته) الضمير في حجّيته راجع الى «ما» (الأدلة من الأمارات الظّنية المبحوث عنها الخبر الصحيح) أي : انّ الخبر الصحيح هو أكثر ما أقيم على حجّيته الأدلة.

(ومعلوم عند المصنف : إنّ شيئا ممّا ذكروه لحجيته) أي : الأدلة الّتي أقاموها على حجّية الخبر الصحيح (لا يوجب الظّنّ بها على الاطلاق) أي : لا توجب تلك الأمارات الظنّ بالأخبار الصحيحة مطلقا ، بل الأمارات القائمة على حجّية الخبر الصحيح ، توجب الظن بحجّية قسم خاص من الخبر ، وهو : الخبر الجامع للقيود الخمسة المذكورة قبل صفحة تقريبا.

١٩٩

وثانيا : إنّه لا دليل على اعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ المجمل.

وقد توهّم غير واحد أنّه ليس المراد اعتبار مطلق الظنّ وحجّيته في مسألة تعيين القضيّة المهملة ، وإنّما المقصود ترجيح بعضها على بعض.

فقال بعضهم في توضيح لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار ، بعد الاعتراف بأنّه ليس المقصود هنا إثبات حجّية الظنون المظنونة الاعتبار بالأمارات الظنيّة

______________________________________________________

(وثانيا :) نمنع الكبرى ، وذلك (انّه لا دليل على اعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ) أي : أيّ دليل على اعتبار مطلق الظّن في ترجيح ظنّ انسدادي على ظنّ آخر ، فإن الظنّ (المجمل) الّذي هو نتيجة الانسداد أفراده متساوية من حيث انّه لا دليل على تقديم ظنّ على ظنّ ، فيبقى على إجماله.

(وقد توهّم غير واحد : انّه ليس المراد اعتبار مطلق الظّنّ) أي : لا نقول : انّ الظّنّ بالظّنّ معتبر ، بل نقول : انّه مرجّح على الظنّ الذي لا يظنّ باعتباره ، فليس المراد اعتبار مطلق الظّنّ (وحجّيته في مسألة تعيين القضيّة المهملة) حتى يلزم إثبات حجّية الظّنّ المطلق به.

(وإنّما المقصود ترجيح بعضها) أي : بعض الظنون (على بعض) وهو ترجيح الظنون المرجّحة ، على الظنون التي ليست مرجّحة ، ويكون الترجيح أي : بالظنّ بأنّ هذا الظنّ حجّة.

(فقال بعضهم) وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية رحمه‌الله (في توضيح لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار بعد الاعتراف : بانّه ليس المقصود هنا إثبات حجّية الظّنون المظنونة الاعتبار بالأمارات الظنية) «بالأمارات» متعلق بقوله : «إثبات»

٢٠٠