الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-05-8
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

الانسداد على تقدير إفادته اعتبار الظنّ بنفس الحكم كلّية بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون ، ثمّ التعميم مع فقد المرجّح؟.

والاستدلال المذكور مبنيّ على إنكار ذلك كلّه ، وأنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطّريق وهي المسألة الأصوليّة ، لا في نفس الأحكام الواقعيّة الفرعيّة ، بناء منه على أنّ الأحكام الواقعيّة بعد نصب الطّريق ليست مكلّفا بها تكليفا فعليا إلّا بشرط قيام الطرق عليها ،

______________________________________________________

الانسداد على تقدير إفادته اعتبار الظّنّ بنفس الحكم ، كليّة ، بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض) وإنّما الاعتبار بما أدّى اليه الظنّ قويّا كان أو ضعيفا (أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون) إذا كان هناك مرجّح (ثم التعميم) لكل الظّنّون (مع فقد المرجّح)؟.

فانّه سيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ بعد أربع صفحات تقريبا ، قول المصنّف : فهنا مقامات.

الأوّل : في كون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معينة ، ومراده بالمعينة : الكليّة ، كما سيظهر إنشاء الله تعالى.

(والاستدلال المذكور) لصاحب الفصول (مبنيّ على إنكار ذلك كلّه) أي : كون النتيجة مهملة أو مطلقة (وأنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطريق ، وهي المسألة الاصولية ، لا في نفس الأحكام الواقعية الفرعيّة).

هذا هو كلام الفصول (بناء منه على إنّ الأحكام الواقعيّة بعد نصب الطّريق ليست مكلّفا بها تكليفا فعليّا إلّا بشرط قيام الطّرق عليها) كما إذا قال المولى لعبده : إني أريد منك أمورا ، لكن أريدها منك عن طريق خادمي هذا ، حيث قيّد

١٢١

فالمكلّف به في الحقيقة مؤدّيات تلك الطرق ، لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي.

وقد عرفت ممّا ذكرناه أنّ نصب هذه الطرق ليست إلّا لأجل كشفها الغالبيّ عن الواقع ومطابقتها له : فاذا دار الأمر بين إعمال الظنّ في تعيينها أو في تعيين الواقع ولم يكن رجحان للأول.

ثمّ إذا فرضنا أنّ نصبها ليس لمجرّد الكشف ، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ،

______________________________________________________

أحكامه بالطريق الذي هو خادمه ، فلا يريد أحكامه عن غير هذا الطريق.

وعليه : (فالمكلّف به في الحقيقة) ـ على قول الفصول ـ هو (مؤدّيات تلك الطرق ، لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي) أحكام واقعية.

هذا (وقد عرفت ممّا ذكرناه) قبل صفحة تقريبا : عدم تماميّة كلام الفصول ، وذلك (انّ نصب هذه الطّرق ليست إلّا لأجل كشفها الغلبيّ عن الواقع ، ومطابقتها له) لا إنّ الطرق تقيد الأحكام الواقعيّة ، (فاذا دار الأمر بين إعمال الظنّ في تعيينها) أي : في تعيين الطرق (أو في تعيين الواقع ، ولم يكن رجحان للأوّل) أي : الظّنّ في تعيين الطرق ، على الثاني ، أي الظّنّ في تعيين الواقع.

ولهذا نرى : إنّه لا فرق بين الظّنّ بالطّرق أو الظّنّ بالواقع ، وإن أشرنا قبل نصف صفحة تقريبا الى انّ الظّاهر : انّ إعمالها في نفس الواقع أولى ، لاحراز المصلحة الأوليّة الّتي هي أحق بالمراعاة من مصلحة نصب الطّريق.

وعلى أي : حال : فان نصب الطرق إنّما هو لأجل الكشف الغالبي عن الواقع.

(ثم إذا فرضنا : إنّ نصبها ليس لمجرّد الكشف) عن الواقع (بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع) كالتسهيل في أصالة الطّهارة ، وما أشبه ذلك

١٢٢

لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها جعلها عين الواقع ولو بحكم الشارع ، لا قيدا له.

والحاصل : أنّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق إلى قول الشارع : «لا أريد من الواقع إلّا ما ساعد عليه ذلك الطريق» ،

______________________________________________________

(لكن ليس مفاد نصبها) أي : نصب الطرق (تقييد الواقع بها) أي : بهذه الطرق (واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع).

وقوله : «واعتبار» عطف على قوله «تقييد» أي : ليس مفاد نصبها : ان الشارع اعتبر مساعدة الطرق في إرادة الواقع ، بحيث إذا لم تكن تلك الطرق لا يريد الشارع الواقع (بل مؤدّى وجوب العمل بها) أي : بالطرق (جعلها عين الواقع ولو بحكم الشارع ، لا قيدا له) أي : لا قيدا للواقع.

وذلك لأن مجرّد ملاحظة الشّارع المصلحة في أمره بسلوك الأمر الكاشفة عن الواقع ـ مضافا إلى كشفها ـ لا يقتضي رفع اليد عن الواقع ، بلّ غاية ما يلزمه :

تدارك ما فات من مصلحة الواقع من جهة سلوكها ، فانّه ربّما كان العبد يدرك الواقع إذا لم ينصب الشارع هذا الطريق ، فنصب الطريق فوّت عليه الواقع ، فيلزم على الشارع أن يتدارك مصلحة الواقع ، وذلك في كلام طويل ذكرناه في أوّل الكتاب في باب المصلحة السلوكية.

وعلى أي حال : فأين هذا من إعراض الشارع عن الواقع رأسا ، وإرادته الطريق فقط.

(والحاصل : انّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطّرق) من قبل الشارع (الى قول الشارع : لا أريد من الواقع إلّا ما ساعد عليه ذلك الطريق) فيكون

١٢٣

فينحصر التكليف الفعليّ حينئذ في مؤدّيات الطريق ، ولازمه إهمال ما لم يؤدّ اليه الطريق من الواقع ، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسدّ ، وبين أن يكون التكليف الفعليّ بالواقع باقيا على حاله ، إلّا أنّ الشارع حكم بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع فمؤدّى هذه الطرق واقع جعليّ ؛ فاذا انسدّ طريق العلم إليه ودار الأمر بين الظنّ بالواقع الحقيقيّ وبين الظنّ بما جعله الشارع واقعا ، فلا ترجيح ، إذ الترجيح

______________________________________________________

الطريق مقيّدا بالواقع ، والواقع مقيّدا بالطريق (فينحصر التكليف الفعلي) للمكلّف (حينئذ) أي : حين قول الشارع ذلك (في مؤدّيات الطريق) فقط.

(ولازمه) أي : لازم هذا القول من الشارع : (إهمال ما لم يؤدّ اليه الطريق من الواقع ، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسدّ) فاذا قال الشّارع : أريد أحكامي من طريق الخبر الواحد فقط ، كان معناه : انّه لا يريد حكما لم يأت من طريق الخبر الواحد ، سواء كان في حال الانفتاح أو حال الانسداد.

(وبين أن يكون التكليف الفعلي) على المكلّف (بالواقع باقيا على حاله) وأنّ الشّارع يريد الواقع (إلّا انّ الشّارع حكم : بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع) بأن كان الشارع يريد الواقع ، ومع ذلك ويريد انّه إذا أدّى الخبر الى خلاف الواقع أن يكون ذلك واقعا تنزيليا.

وعليه : (فمؤدى هذه الطرق واقع جعلي) تنزيلي (فاذا انسدّ طريق العلم اليه) أي : الى الواقعي (ودار الأمر بين الظّن بالواقع الحقيقي ، وبين الظّنّ بما جعله الشّارع واقعا ، فلا ترجيح) بين الواقع الحقيقي وبين الواقع التنزيلي لأن المفروض : انّ الشارع جعل الواقع التنزيلي ، نازلا منزلة الواقع الحقيقي.

وإنّما لا يكون ترجيح (إذ الترجيح) الذي قال به صاحب الفصول

١٢٤

مبنيّ على إغماض الشارع عن الواقع ، وبذلك ظهر ما في قول هذا المستدلّ : من «أنّ التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق إنّما يحسن لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطريق المقرّر مستقلا ، لقيام الظّن في كلّ من التكليفين حينئذ مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر.

وأما لو كان أحد التكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له ، فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما دون حصول الظنّ بالآخر المقيّد له

______________________________________________________

(مبنيّ على إغماض الشّارع عن الواقع ، وبذلك) الذي قلنا : من عدم تقييد الواقع بالطريق وعدم الاغماض عن الواقع المجرد عن الطريق (ظهر ما في قول هذا المستدلّ) وهو صاحب الفصول (من) نظر ، وهو :

(انّ التسوية بين الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطّريق) بأن يكون كل واحد منهما كافيا في أداء التكليف (انّما يحسن لو كان ، أداء التكليف المتعلق بكلّ من الفعل) يعني : الواقع (والطريق المقرّر) الى الواقع (مستقلا) بأن لا يفرّق عند الشّارع ظنّ المكلّف بالواقع ، أو الظنّ بالطّريق (لقيام الظّن في كلّ من التكليفين حينئذ) أي حين استقلال كل واحد من الظّنّ بالطريق ، أو الظنّ بالواقع (مقام العلم به ، مع قطع النّظر عن الآخر) فاذا ظنّ بالطريق كفى ، وإذا ظنّ بالواقع كفى.

(وأمّا لو كان أحد التكليفين) من الواقع والطريق (منوطا بالآخر) كما يرى صاحب الفصول الواقع منوطا بالطريق ، والطريق (مقيّدا له) أي : للواقع ، فان بنظر صاحب الفصول : انّ الشّارع لا يريد الواقع بما هو واقع ، وإنّما يريد الواقع الذي هو مؤدّى الطريق.

وعليه : (فمجرد حصول الظّنّ بأحدهما) وهو الواقع (دون حصول الظنّ بالآخر) وهو الطريق (المقيّد له) أي : الطريق الذي هو مقيد للواقع ، فانّه

١٢٥

لا يقتضي الحكم بالبراءة. وحصول البراءة في حصول العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به ، نظرا إلى أداء الواقع وكونه من الوجه المقرر لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع ؛ فلو كالظنّ بالواقع ظنّا بالطريق جرى ذلك فيه أيضا ، لكنّه ليس كذلك ، ولذا لا يحكم بالبراءة معه» ،

______________________________________________________

(لا يقتضي الحكم بالبراءة) إذا جاء به المكلّف ، لأنه ظنّ بالواقع من دون أنّ يقوم عليه طريق ، بينما كان يلزم عليه أن يأتي بالواقع الذي قام الطريق عليه.

(و) إن قلت : كما انّ الواقع إذا حصل العلم به كفى في البراءة بلا احتياج الى العلم بالطريق كذلك الظنّ فانّه إذا حصل الظّنّ بالواقع ، كفى في البراءة بلا احتياج الى الظّنّ بالطريق أيضا.

قلت : (حصول البراءة في حصول العلم بأداء الواقع ، إنّما هو لحصول الأمرين) من الواقع والطريق (به) أي : بسبب العلم بالواقع.

وإنّما يحصل الامران بسبب العلم بالواقع (نظرا الى أداء الواقع ، وكونه) أي : أداء الواقع (من الوجه المقرر).

وإنّما كان بالوجه المقرر (لكون العلم طريقا الى الواقع في العقل والشرع) فانّ العلم طريق عقلي وطريق شرعي.

وعليه : (فلو كان الظّنّ بالواقع ، ظنّا بالطريق) أيضا (جرى ذلك) أي : حصول البراءة (فيه) أي : في الظّنّ بالواقع (أيضا) أي : كالعلم.

(لكنه ليس كذلك) فان الظّنّ بالواقع ليس ظنّا بالطريق (ولذا لا يحكم بالبراءة معه) (١) أي : مع الظّنّ بالواقع.

__________________

(١) ـ هداية المسترشدين : ص ٣٩٣.

١٢٦

انتهى.

الوجه الثاني :

ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين مع الوجه الأوّل وبعض الوجوه الأخر ،

______________________________________________________

والحاصل : إنّ العلم بالواقع علم بالطريق ، لفرض إنّ الشارع جعله طريقا الى الواقع ، بينما ليس الظّنّ بالواقع ظنّا بالطريق ، فاذا ظنّ بالواقع وعمل به لم يكن هناك ظنّ بالطريق ، بخلاف الظنّ بالطريق ، فانّه ظنّ بالواقع.

هذا ، وقد عرفت الاشكال فيما ذكره صاحب الفصول وانّه يتساوى الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطريق ، بل الظّنّ بالواقع أولى من الظّنّ بالطريق (انتهى) كلام الفصول.

(الوجه الثاني) من وجهي لزوم الظّنّ بالطريق وانّه لا يكفي الظّنّ بالواقع : (ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين) وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية ، فانّه ذكر هذا الوجه الثاني (مع الوجه الأول) الذي استفاده منه صاحب الفصول ونقلناه نحن عن الفصول (وبعض الوجوه الأخر).

ويمكن أن يلخّص هذا الوجه : بانّا نحتاج الى الظّنّ ببراءة الذمة ، لا الظّنّ بأداء الواقع ، لأنّ المطلوب منّا : براءة الذمة ، أمّا الظّنّ بأداء الواقع فلا يكفي ، إذ من الممكن أن يأتي الانسان بما يظنّ إنّه واقع ولا يظنّ ببراءة ذمته ، لاحتمال انّ الشّارع يريد منه شيئا فوق أداء الواقع.

ويمكن تأييده بما ورد في باب القضاء : من «رجل قضى بالحق وهو لا يعلم» (١) حيث إنّ القاضي أدّى الواقع ، لكن الشارع لا يكتفي بذلك الواقع

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٧ ص ٤٠٧ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٢ ب ٤ ح ٣٣١٠٥.

١٢٧

قال : «لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعية ، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة في الجملة ، وأنّ الواجب علينا أوّلا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلفنا به وسقوط التكليف عنّا سواء حصل العلم منه بأداء الواقع

______________________________________________________

في براءة ذمته ، كما يمكن تأييد ذلك أيضا بما ورد : من إنّ «من فسّر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (١).

وحيث إنّ المطلوب : براءة الذّمة ، فان تمكن من البراءة بالعلم فهو ، والّا بأن انسدّ باب العلم ، فاللازم الظّنّ ببراءة الذّمة ، فاذا سلك الطريق المظنون اكتفى العقل بالبراءة ، أمّا اذا ظنّ بالواقع فلا يكتفي العقل ببراءته عن التكليف.

ولهذا (قال) صاحب الحاشية أوّلا : (لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة في الجملة) والمراد من قوله : «في الجملة» انّه يجب علينا : إما الواقع وإمّا مؤديات الطرق بحسب القدرة.

(و) ثانيا : (إنّ الواجب علينا أوّلا : هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف) ـ بالكسر ـ أي : المولى ، فإنّه يجب على المكلّف ـ بالفتح ـ العلم بأنّ ذمته فرغت من حكم الشّارع ، وذلك (بأن يقطع معه) أي : مع العلم (بحكمه) أي : بحكم المولى قطعا (بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به) من الأحكام.

(و) ثالثا : (سقوط التكليف عنّا) مع القطع بتفريغ الذمة مسلّم (سواء حصل العلم منه) أي : من القطع بتفريغ الذمة (بأداء الواقع) أي : نعلم بأداء الواقع

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٠٥ ب ١٣ ح ٣٣٦١٠ وفيه «فاصاب الحق» ، تفسير الصافي : ج ١ ص ٢١.

١٢٨

أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

وحينئذ ، فنقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا اشكال في وجوبه وحصول البراءة ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ؛ إذ هو الأقرب إلى العلم به فتعين الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم به والقطع ببقاء التكليف ،

______________________________________________________

(أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه) وسيأتي من المصنّف ـ إنشاء الله ـ بيانه مجددا.

(وحينئذ) أي : حين تمت الأمور الثلاثة المذكورة (فنقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذّمّة في حكم الشّارع) «في» : متعلق بقوله : «تحصيل» وذلك بأن نحصّل العلم بحكم الشّارع فنعمل به ، فنقطع بفراغ ذمتنا.

وإنّما نحصّل العلم إذا كانت الطرق المقررة معلومة لنا (فلا إشكال في وجوبه) أي : وجوب تحصيل العلم بتفريغ الذّمة (وحصول البراءة) أي : وجوب تحصيل البراءة.

(وإن انسدّ علينا سبيل العلم به) أي : بتفريغ الذّمة (كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه) أي : في حكم المكلّف ـ بالكسر ـ وهو الشارع (إذ) الظّنّ (هو الأقرب الى العلم به) أي : بتفريغ الذمة.

إذن : (فتعيّن الأخذ به) أي : بالظّنّ (عند التنزّل من العلم في حكم العقل) وقوله : «في حكم العقل» ، متعلق بقوله : «فتعين» ، أي : تعين بحكم العقل الأخذ بالظنّ إذا لم يكن لنا علم ، وذلك (بعد انسداد سبيل العلم به ، والقطع ببقاء التكليف) فانّه إذا انسدّ باب العلم أوّلا ، وعلمنا ببقاء التكليف ثانيا ، وجب علينا

١٢٩

دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع ، كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ.

وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجة بقيام دليل ظنّيّ على حجّيته ، سواء حصل منه الظنّ بالواقع أو لا.

وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم الشارع ، إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع الظنّ باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد النهي عن اتّباع الظنّ.

______________________________________________________

تحصيل الظّنّ بفراغ الذمة.

(دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع) يعني : لا يكتفي أن نظنّ بأداء الواقع (كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظّنّ) من مشهور الانسداديين الذين يقولون بأنّه يكفي الظّنّ بأداء الواقع.

(وبينهما) أي : بين تحصيل الظّنّ بأداء الواقع وتحصيل الظّنّ ببراءة الذّمة (بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل) وهو الظّنّ بالبراءة (هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة بقيام دليل ظنّي على حجّيته) كالأخذ ـ مثلا ـ بالخبر الّذي يظنّ كونه حجّة ، لأنّه قام الدّليل الظني ـ كالشهرة مثلا ـ على حجّيته فان الأخذ به ، مظنّة للبراءة (سواء حصل منه الظّنّ بالواقع أو لا) لأنّا مكلّفون أوّلا بالعلم ببراءة الذّمة ، فاذا لم يكن علم ، فإنّا مكلّفون بالظنّ ببراءة الذمة.

(وفي الوجه الثاني :) وهو ما ذكره بقوله : دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع (لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم الشّارع) لأنّ الظّنّ بالواقع لا يلازم الظنّ بالبراءة (إذ لا يستلزم مجرّد الظّنّ بالواقع الظّنّ باكتفاء المكلّف) ـ بالكسر ـ أي : المولى (بذلك الظّنّ) بالواقع (في العمل ، سيّما بعد النّهي عن اتّباع الظّنّ)

١٣٠

فاذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى العقل ، يلزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه رضى المكلف بالعمل به. وليس ذلك إلّا الدّليل الظنّي الدال على حجّيته ؛ فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيته عند الشارع ، يكون حجّة دون ما لم يقم عليه ذلك انتهى بألفاظه.

وأشار بقوله : «حسب ما مرّ تفصيل القول فيه» إلى ما ذكره سابقا في مقدّمات هذا المطلب ، حيث قال ـ في المقدّمة الرابعة من تلك

______________________________________________________

وقد سبق منّا مثالين ، لأنّ الظّنّ بالواقع لا يكفي ، بل يلزم الظّنّ بالطريق.

(فاذا تعيّن تحصيل ذلك) أي : الطريق المجعول (بمقتضى العقل ، يلزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه رضى المكلّف بالعمل به) وهو الظّنّ بالطّريق إذا لا يكفي الشك والوهم (وليس ذلك) أي : الأمر الآخر ، الذي يظنّ معه رضى المكلّف بالعمل به (إلا الدّليل الظّنّي الدّال على حجّيته) كما مثّلنا له بالشّهرة التي هي دليل ظنّي تقوم على حجّية خبر الواحد.

وعلى هذا : (فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيته عند الشّارع ، يكون حجّة) ويلزم علينا العمل به (دون ما لم يقم عليه ذلك) (١) ظنّ بالحجّية (انتهى) كلام صاحب الحاشية (بألفاظه) ممّا حصله : إنّه لدى الانسداد يجب الظّنّ بالطريق ، ولا يكفي الظّنّ بالواقع.

هذا (وأشار بقوله : حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، الى ما ذكره سابقا في مقدّمات هذا المطلب) ببيان ما ذكرناه نحن بقولنا : وثالثا : سقوط التكليف عنّا سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أم لا (حيث قال في المقدّمة الرابعة من تلك

__________________

(١) ـ هداية المسترشدين : ص ٣٩١.

١٣١

المقدّمات ـ :

«انّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدّليل : هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوليّة إلّا أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره؟.

أو أنّ الواجب أوّلا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع في الظاهر ، وحكم معه قطعا بتفريغ ذمّتنا ، بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها بما جعلها وسيلة للوصول إليها ، سواء علم بمطابقة الواقع أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل شيء منهما؟

______________________________________________________

المقدّمات) الانسدادية (: انّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدّليل ، هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوليّة؟) بأن يكون الواجب علينا العلم بالأحكام (إلّا أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره) فيكون قيام الدليل على الاكتفاء بغيره استثناء عن الواجب الأوّلي.

(أو أنّ الواجب ، أوّلا : هو : تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام ، وأداء الأعمال على وجه إرادة الشّارع في الظاهر؟) من دون أن نكون نحن مكلّفين بالواقع ، وإنّما نكون مكلّفين بمؤديات الطرق ، (و) تحصيل (حكم) الشارع (معه) أي : مع هذا اليقين (قطعا بتفريغ ذمّتنا) وذلك العلم والحكم انّما يحصل لنا (بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها) أي : لمعرفة الأحكام (بما جعلها) اي : جعل الشّارع الطرق وسيلة للوصول الى أحكامه ، فالطرق هي (وسيلة للوصول اليها) أي : الى تلك الأحكام.

وحينئذ : فاللازم عليه سلوك الطريق (سواء علم بمطابقة الواقع أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل شيء منهما) أي : شيء من العلم والظّنّ ، حيث إنّا مكلّفون بسلوك

١٣٢

وجهان.

الذي يقتضيه التحقيق الثاني ، فانّه القدر الذي يحكم العقل بوجوبه ودلّت الأدلّة المتقدّمة على اعتباره.

ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور ، لم يحكم العقل بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ، ولم يقض شيء من الأدلة الشرعيّة بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بل الادلّة الشرعيّة قائمة على

______________________________________________________

الطريق ولا شأن لنا بالواقع.

(وجهان) جواب قوله : هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الى آخره؟.

أما (الذي يقتضيه التحقيق) عند صاحب الحاشية ، فهو (الثاني :) أي : انّا مكلفون بسلوك الطريق ، سواء طابق الواقع أم لم يطابق ، ولسنا مكلفين بالعلم بتحصيل الواقع ، وإذا انسدّ العلم فلسنا مكلّفين بتحصيل الظّنّ بالواقع (فانّه القدر الّذي يحكم العقل بوجوبه ، ودلّت الأدلّة المتقدّمة) من العقل والشرع (على اعتباره) أي : اعتبار الطريق دون الواقع.

(ولو حصل العلم بها) أي : ببراءة الذمة (على الوجه المذكور) أي : بسلوك الطريق (لم يحكم العقل) بعد ذلك (بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع) لأنّ الواقع ليس مكلّفا به (ولم يقض شيء من الأدلة الشّرعية بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك) أي : وراء سلوك الطريق.

أقول : وهنا سؤال عن المصنّف وهو : انّه إن أراد نفي الدلالة على الوجوب التعييني فهو مسلم ، أما إذا أراد نفي الوجوب التخييري ، فقد عرفت : انّه كما يصح العلم بالطريق أو بالواقع كذلك يصح الظّنّ بالطريق أو بالواقع.

وعلى أي حال : فقد قال صاحب الحاشية : (بل الأدلة الشّرعية قائمة على

١٣٣

خلاف ذلك إذ لم يبين الشريعة من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع.

وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام كفاية في ذلك ، اذ لم يوجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جميع من في بلده من الرّجال والنسوان السماع منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد

______________________________________________________

خلاف ذلك) أي : الأدلة ليست ساكتة ، وانّما هي قائمة على عدم وجوب تحصيل شيء آخر وراء تحصيل البراءة (إذ لم يبين الشّريعة من أوّل الأمر) منذ زمان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين) وإنّما أراد الشّارع : العلم بفراغ الذّمة.

(ولم يقع التّكليف به) أي : بالأحكام الواقعية من الشارع (حين انفتاح سبيل العلم بالواقع) فكيف عند الانسداد؟ فانّه مع انفتاح سبيل العلم ـ كما في زمان المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ـ لم يرد الشّارع من المكلفين العلم بالواقع ، وإنّما أراد العلم بفراغ الذّمة فقط.

هذا (وفي ملاحظة طريق السلف) من المسلمين (من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام كفاية في ذلك) وتأييد لما ذكرناه : من انّه لم يقع التكليف حال انفتاح سبيل العلم بالواقع.

وانّما يدّل طريقة السّلف على الاكتفاء بالطريق لا بالواقع (إذ لم يوجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جميع من في بلده من الرّجال والنسوان السّماع منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم) أي : لآحاد المسلمين (بالنسبة إلى آحاد

١٣٤

الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب أو الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به» ، انتهى.

ثم شرع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثّقة مطلقا ـ إلى أن قال : «فتحصّل

______________________________________________________

الأحكام) بأن يلزم النبي عليهم أن يسمعوا منه ، أو أن يحصلوا على التواتر.

(أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب ، أو الغلط في الفهم) من السائل (أو في سماع اللّفظ) من الناقل ، وذلك بأن يقطعوا أنّهم سمعوا اللّفظ صحيحا ويقطعوا بأنّهم فهموا من اللّفظ معناه الّذي أراده الرسول والأئمة عليهم‌السلام (بل لو سمعوه من الثقة ، اكتفوا به) (١) وهذا يدلّ على جواز الاعتماد على الطّريق دون الواقع.

لكن فيه ما ذكرناه سابقا : من ان هذا يدل على الجواز ، لا على انّ الامر منحصر بالطريق حتّى إذا حصل العلم بالواقع لم يكتف به ، وإذا سقط العلم بالواقع قام الظّنّ مقامه ، فكما انّه كان يصح لهم أن يعتمدوا على العلم بالطريق أو العلم بالواقع ، كذلك يصح للانسداديين أن يظنّوا بالطريق ، أو يظنوا بالواقع ـ كما ـ سيأتي الاشارة اليه من المصنّف إنشاء الله تعالى ـ (انتهى) كلام صاحب الحاشية.

(ثمّ شرع) صاحب الحاشية (في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقا) أي : ولو بدون القرينة ، لوضوح انّ الانسان لا يحصل له العلم بقول الثقة ، وإنّما يحصل له الحجّة من قول الثقة (الى ان قال) صاحب الحاشية : (فتحصل

__________________

(١) ـ هداية المسترشدين : ص ٣٨٤.

١٣٥

ممّا قرّرناه أنّ العلم الذي هو مناط التكليف أوّلا هو العلم بالأحكام من الوجه المقرّر لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو أدائه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمّة في حكم الشرع ، سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشارع ، وإن لم يعلم أو لم يظنّ بمطابقتها للواقع.

وبعبارة اخرى ، لا بدّ من معرفة أداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجه منته إلى اليقين ،

______________________________________________________

ممّا قررناه : انّ العلم الذي هو مناط) تحصيل (التكليف أوّلا هو : العلم بالأحكام من الوجه المقرر لمعرفتها) اي : معرفة تلك الأحكام (والوصول اليها) من ذلك الوجه المقرر.

(و) أيضا (الواجب بالنسبة الى العمل هو : أدائه) أي : أداء العمل (على وجه يقطع معه بتفريغ الذّمة في حكم الشرع) بأن يعلم الحكم ، ثم يعلم بتفريغ ذمته (سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع ، أو على طبق الطريق المقرّر من الشّارع وإن لم يعلم أو لم يظنّ بمطابقتها) أي : الأعمال الّتي جاء بها على طبق المقرر ، بانّها مطابقة (للواقع) فانّه ليس مكلّفا بالواقع ، وانّما هو مكلّف على أن يأتي بالأعمال على طبق الطريق.

(وبعبارة أخرى : لا بدّ من معرفة) المكلّف (أداء المكلّف به) أي : الحكم (على وجه اليقين) بأن يتيقن بأنّه أتى بالمكلّف به (أو على وجه منته الى اليقين) كأن يأتي به حسب خبر زرارة وهو متيقن إنّ خبر زرارة حجّة.

وبعبارة أخرى : إن الانسان يجب عليه الاتيان بما يبرئ ذمته علما أو علميّا

١٣٦

من غير فرق بين الوجهين ولا ترتيب بينهما ، ولو لم يظهر طريق مقرر من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع على حسب إمكانه ، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقف لإيصاله إلى الواقع الى بيان الشرع ، بخلاف غيره من الطّرق المقرّرة» ، انتهى كلامه ، رفع مقامه.

أقول : ما ذكره في مقدّمات مطلبه من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء

______________________________________________________

(من غير فرق بين الوجهين ، ولا ترتيب بينهما) أي : بين العلم والعلمي ـ على ما ذكرناه ـ (ولو لم يظهر طريق مقرّر من الشّارع لمعرفتها) أي : لمعرفة الأحكام (تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع على حسب إمكانه ، إذ هو) اي : العلم (طريق الى الواقع بحكم العقل).

والحاصل : إن ظهر من الشّارع انّه جعل طريقا ، سلك المكلّف ذلك الطريق ، وان لم يظهر من الشّارع جعل طريق ، لزم على المكلّف الأخذ بالعلم بالحكم حسب ما يقرره العقل ، فانّ العقل يرى إنّ العلم طريق الى الواقع (من غير توقف لإيصاله) أي : إيصال العلم (الى الواقع الى بيان الشّرع) لأنّ العلم طريق ذاتي لا يحتاج الى جعل من الشّارع (بخلاف غيره) أي : غير العلم (من الطرق المقرّرة) (١) فان تلك الطرق المقرّرة تحتاج الى جعل الشّارع ، سواء تأسيسا أو إمضاء للطّرق العقلائية.

(انتهى كلامه رفع مقامه) ممّا حاصله : إنّ الظّنّ الانسدادي إنما كان حجّة إذا كان ظنّا بالطريق ، وليس بحجّة إذا كان ظنّا بالواقع.

(أقول : ما ذكره في مقدّمات مطلبه : من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء

__________________

(١) ـ هداية المسترشدين : ص ٣٨٤.

١٣٧

الواقع على ما هو عليه وبين العلم بأدائه من الطريق المقرّر ممّا لا اشكال فيه.

نعم ، ما جزم به ـ من أنّ المناط في تحصيل العلم أوّلا هو العلم بتفريغ الذمّة دون أداء الواقع على ما هو عليه ـ فيه : انّ تفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة وإمّا بفعل ما حكم حكما جعليّا بأنّه نفس المراد ، وهو مضمون الطرق المجعولة ،

______________________________________________________

الواقع على ما هو عليه ، وبين العلم بأدائه من الطريق المقرّر) شرعا (ممّا لا اشكال فيه) فانّ الانسان سواء سأل الامام الصّادق عليه‌السلام ، العالم بالحكم الواقعي ، أو سأل زرارة الذي جعله الشّارع طريقا الى احكامه ، يكون قد حصل على براءة الذمة.

(نعم ، ما جزم به) صاحب الحاشية (من انّ المناط في تحصيل العلم أوّلا هو : العلم بتفريغ الذّمة ، دون أداء الواقع على ما هو عليه) أي : ما هو عليه الواقع.

ف (فيه :) انّه غير تام ، إذ اللّازم أن يأتي الانسان بالواقع المعلوم علما وجدانيا ، أو بالواقع المعلوم علما تنزيليّا جعليّا ، وذلك لأنّ الشّارع جعل مفاد كلام زرارة واقعا جعليّا تنزيليا ، فالمكلّف مخير بين أن يعمل بهذا أو بذاك ، ف (انّ تفريغ الذمة عمّا اشتغلت به) من الاحكام ، يمكن على وجهين :

الأول : (إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة) بأن يعلم بالحكم الواقعي فيعمل به ، فتفرغ ذمته.

الثاني : (وامّا بفعل ما حكم حكما جعليا : بانّه نفس المراد وهو :) أي : ما حكم حكما جعليا (مضمون الطرق المجعولة).

١٣٨

فتفريغ الذمّة بهذا على مذهب المخطئة من حيث إنّه نفس المراد الواقعيّ بجعل الشارع ، لا من حيث انّه شيء مستقلّ في مقابل المراد الواقعيّ ، فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين.

والحاصل : أنّ مضمون الأوامر الواقعيّة المتعلقة بأفعال المكلّفين مراد واقعيّ حقيقي.

ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطرق المقرّرة ذلك

______________________________________________________

وعليه : (فتفريغ الذّمة بهذا) النحو الثاني (على مذهب المخطّئة) ومذهب من لا يرى التصويب ، انّما هو (من حيث انّه) أي : مضمون الطرق ، هو (نفس المراد الواقعي) لكن تنزيلا ، و (بجعل الشارع) فانّ الشّارع قد نزّل مضمون الطرق منزلة الواقع جعلا.

(لا من حيث انّه شيء مستقل في مقابل المراد الواقعي) حتى يكون الأمر واقعا مخيرا بين الواقع ومضمون الطرق ، بل إنّ مضمون الطرق عبارة أخرى عن الواقع التنزيلي (فضلا عن أن يكون هو) أي : مضمون الطرق (المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين) فانّ مضمون الطرق ليس في عرض الواقع ، فضلا عن أن يكون أفضل من الواقع.

(والحاصل : انّ مضمون الأوامر الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلفين ، مراد واقعي حقيقي) للمولى ، لأنّ مضمون الأوامر هي التي فيها المصالح ، ومضمون النواهي هي التي فيها المفاسد ، والمولى إنّما يريد الاتيان بالمصالح والترك للمفاسد.

هذا (ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطرق المقررة) هو (ذلك

١٣٩

المراد الواقعيّ ، لكن على سبيل الجعل ، لا الحقيقة.

وقد اعترف المحقق المذكور ، حيث عبّر عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول ، فأداء كلّ من الواقع الحقيقيّ والواقع الجعليّ ، لا يكون بنفسه امتثالا وإطاعة للأمر المتعلّق به ما لم يحصل العلم به.

نعم ، لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالأداءين ممّا لا يعتبر في سقوطه قصد الاطاعة والامتثال ، كان مجرّد كلّ منهما مسقطا للأمرين من دون امتثال.

______________________________________________________

المراد الواقعي ، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة) فان المولى أوّلا وبالذات يريد الواقع ، كصلاة الجمعة ، فلما وصل الطريق الى وجوب الظهر ، نزّل المولى الظهر منزلة الجمعة ، لا انّ الظّهر حينئذ يكون في عرض الجمعة ، فضلا عن أن يكون الظهر هو المراد دون الجمعة.

(وقد اعترف المحقّق المذكور) وهو صاحب الحاشية (حيث عبّر عنه) أي :

عن مضمون الطرق (بأداء الواقع من الطريق المجعول) وانّ المولى يريد أداء العبد الواقع الذي هو متعلق إرادة المولى (فأداء كلّ من الواقع الحقيقي والواقع الجعلي ، لا يكون بنفسه امتثالا وإطاعة للأمر المتعلّق به) أي : بذلك الواقع (ما لم يحصل العلم به) أي : بذلك الواقع ، فانّ العبد إذا لم يقصد الاطاعة لم يكن ممتثلا لأمر المولى ، سواء أدّى الواقع الحقيقي أو أدّى الواقع الجعلي التنزيلي.

(نعم ، لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالأداءين) حيث قال المولى : أدّوا الواقع الحقيقي ، وقال : أدّوا الواقع الجعلي (ممّا لا يعتبر في سقوطه قصد الاطاعة والامتثال) بل كان من التوصليّات الذي يراد وقوعه في الخارج فقط (كان مجرّد كلّ منهما مسقطا للأمرين من دون امتثال).

١٤٠